-2-
قال ( مازن ) :
بالطبع ارتجف (عادل ) لهذه الكلمات الغريبة .. وعاد يستوثق من المعلومة ..
قال البروفسور وهو يتأمل الدمية الخزفية :
ـ" زعم العراف أن جثة ( راسبوتين Rasputin ) لم تدفن بعينيها .. لكن هناك من انتزعهما ، ووضعهما في سائل حافظ ثم حشا المحجرين بالصلصال .. من يومها يتوارث العرافون هذه التحفة العتيقة .. قال لي ان لهاتين العينين قوة مغناطيسية لا يمكن وصفها ، وإنه من الخير لي ألا اطيل النظر فيهما .. قال كذلك إنني لو زرعتهما لأي شخص لاكتسب قوة ( راسبوتين ).. دعني أقل لك إنه لو كانت هاتان عيني ( راسبوتين ) لوجدت منظمة ( اليونسكو ) كلها تقف خارج باب هذه الغرفة ، ولربما ارسلوني الى ( سيبيريا ) بتهمة اختلاس أملاك الدولة .. طبعا انبهرت بهذا الشيء وقتها وابتعت هذه العينة المقززة ، وحرصت على ألا انظر إليها أبدا .. ومن حينها هي عندي في هذه الخزانة لا أجد الشجاعة كي أتخلص منها .."
قال ( عادل ) باسما :
ـ" هذا العراف كان يفترض أنهم يزرعون العين كاملة في محجر العين .."
ـ" طبعا .. هذا ما يعتقده العامة .. لا يعرفون أننا نأخذ القرنية فقط بالــ ( كيراتوم Keratome ) .. وحتى على هذا الصعيد لا يمكن ان تزرع قرنية تعود لعام 1916 .. الخلاصة أن مالي ضاع هباءا .."
وقف ( عادل ) يرمق الإناء في نهم .. الحقيقة أن العينين فتنتاه ولا يعرف لهذا سببا ..
ـ" بروفسور .. هل تهديني هاتين العينين ؟"
مضغ البروفسور سيجارة ونظر لـ ( عادل ) كأنما يرى مجنونا .. نفث سحابة كثيفة وقال :
ـ" هل جننت ؟ هل هذه هدية ؟"
ـ" قلت إنك راغب في الخلاص منها .."
ـ" نعم .. لكني لا أحب إهداءها لأصدقائي .."
ـ" إن هذه ما أتمناه فعلا .."
نظر له البروفسور طويلا ، ثم مد يده في الخزانة وأخرج الإناء الزجاجي ..
***
كلما ذكرت كلمة ( كاريزما ) تداعت إلى الذهن صورة الروسي ( جريجوري يفيموفتش راسبوتين ) .. الرجل الذي كان راهبا جوالا ثم مرق واتجه الى حياة الرذيلة .. إن صوره ما زالت حية بعينيه القويتين الثاقبتين ولحيته السوداء الكثيفة وثيابه السوداء التي تجعله ينضم بجداره إلى عالم المسوخ .. الفارق هنا أنه كان شخصا من لحم ودم يمشي على الأرض ..
كان يقدم نفسه للناس على أنه معالج روحاني ..
كانت له سطوة نفسية لا يمكن وصفها ، وكانت عيناه قادرتين على جعل أقوى الرجال يرتجف خوفا .. أما النساء فكن يسقطن صرعى هواه بلا تحفظ ، ويقال إنه نموذج للرجل الذي تعلن النساء أنهن يكرهنه ويشمأززن منه فقط لأنهن يعرفن كم هن ضعيفات أمامه ..
يجب أن نضيف هنا انه كان في غاية الفجور ، وكان يتحدث دوما عن ان الأرض السوداء تنتج اشهى الثمار .. لهذا كان يبحث عن الرذائل بالمجهر ليرتكبها ..
بشكل ما وصل صيته الى البلاط القيصري ، حيث كان ابن القيصر يعاني مرضا نزيفا متكررا هو ( الهيموفيليا Hemophilia ) .. وكان هناك من نصح القيصرة بأن تجرب قدرات هذا الرجل العجيب ..
هكذا بدأ الطفل يتحسن ، وسرعان ما تنامي نفوذ ( راسبوتين ) في البلاط الى حد أنه كان يالفعل يحكم روسيا كلها من خلال القيصر وزوجته .. فقد كانت الزوجة تثق به ثقة عمياء وتعتقد أنه اطهر رجل عرفته ..
وفي العام 1916 قررت مجموعة من نبلاء البلاط أن يتخلصوا من هذه الكارثة .. هكذا دسوا له السم في شرابه .. فقط ليعرفوا ان السم لا يؤثر فيه .. وقد كاد يفتك بهم بجسده العملاق المخيف ، هكذا أطلقوا عليه الرصاص ..
ويقال إن ( راسبوتين ) كان هو المسمار الأخير في قبر آل ( رومانوف Romanov ) الذين لاقوا نهاية مفجعة في ثورة 1917 التي جاءت بالشيوعيين إلى الحكم وأطاحت بالنظام القيصري ..
أين دفن ( راسبوتين ) ؟ لست متأكدا من هذه النقطة .. لكن السؤال الأهم هو :هل دفن وعيناه في محجريهما ؟
هكذا عادل ( عادل ) إلى مصر وهو يحمل في متاعه إناء زجاجيا حرص على تبطينه وتغليفه بعناية كل لا يتهشم ، ولحسن حظه لم يفتح أحد حقائبه لأنه كان سيجد عسرا في تفسير حمله لعينين آدميتين معه ..
التذكار الوحيد الذي يحمله من ( موسكو ) هو هاتان العينان وبعض الصور مع ( اولجا ) وخطابات منها ..
لم يكن ( عادل ) متزوجا كما قلنا ، ولم يكن له بيت في المدينة .. كان حتى هذه اللحظة يقيم في بيت أسرته بقريته وهي قرية تتبع محافظة ( ...) لديهم هناك بيت من الطوب من طابقين .. فهي أسرة على قدر من اليسر .. لكنه كان يخطط للحياة في المدينة فقط ما إن يستقر ويجد زوجة المستقبل .. وقد حرص على أن يعد غرفته هناك بعناية ، ووارى الإناء في خزانته التي احتفظ بمفتاحها منعا للحوادث المؤسفة ..
فلما جاء الليل وانتهى مسلسل استقبال الأقارب والأصدقاء ، صعد إلى غرفته وارتدى جلبابا للنوم ..
لا يعرف اسبب .. لكن لهفة غير عادية كانت تغمره ، مع رغبة عارمة في أن يتأمل هاتين العينين ..
فتح الخزانة وأخرج الإناء ووضعه على منضدة صغيرة هناك .. ثم جذب مقعدا خشبيا عتيقا وجلس عليه ينظر إلى هاتين الكرتين ترمقانه من خلال الزجاج عبر السائل الشفاف ..
من الخطأ أن يتكلم المرء عن عينين قويتين .. إن ما يعطي الانطباع بالنظرة هو أشياء أخرى .. شكل الأهداب .. شكل الحاجبين .. اتساع فتحة العين .. كل هذه أشياء لا بد منها لتعرف إن كانت النظرة قوية أم لا ..أما ان تضع كرتين في حوض زجاجي فهما ذات الكرتين لدى أي شخص آخر .. كأنك تتأمل إطار سيارة منزوعا ثم تحاول الكلام عن فخامة السيارة ذاتها وانسيابيتها..
لكن هاتين العينين كانت تملكان قوة جذب لا يعرف سببها .
ولوقت لا باس به ظل يتأملهما في ضوء الغرفة الشاحب الخافت الذي يبعثه مصباح وحيد يتدلى من السقف ..
كان تنقلانه إلى عوالم غريبة لم يرها من قبل .. إنه يرى ( الكرملين ) والثلج يتساقط من حوله .. هناك عربة تجرها الخيول .. أميرة روسية تغمض عينيها في افتتان ..حفلات راقصة صاخبة .. الضباط بثيابهم الأنيقة المزركشة يرفعون سيوفهم في رشاقة .. وجوه تضحك .. وجوه تبكي .. خيول .. ذئاب بيضاء ..
كل هذا وهو ينظر الى العينين الثابتتين ..
فجأة نظر الى ساعته ففطن لحقيقة مروعة .. إنه هنا ينظر لهاتين العينين طيلة ساعتين كاملتين ! هكذا اعادهما الى الخزانة .. وأطفأ النور ..
كانت هذه أول ليلة له في مصر منذ اعوام ، وقد نام نوما عميقا بلا
احلام ..
***
قال الأستاذ المصري وهو يقلب صفحات الرسالة السميكة :
ـ" ليس بوسعنا الانتهاء من هذه سريعا .. أعتقد انك ستتأخر خمسة اشهر على الأقل .."
قال (عادل ) في ضيق وهو ينهض من مقعده :
ـ" سيدي ..أنا في وضع معلق بين مصر و ( الإتحاد السوفييتي ).. اريد الانتهاء سريعا كي اعرف موضع قدمي .. هم قد فرغوا مني هناك ولم تبدءوا معي هنا .. لا يمكنني العودة لهم .. ولا يمكنني معاودة حياتي هنا .."
قال أستاذه وهو ينزع عويناته :
ـ" أفهم كل هذا لكني لا اعرف كيف افيدك .. هل أجيز بحثا لم أقرأه ؟"
ـ" إذن لماذا لا تفعل ؟"
لاحظ دون قصد أنه يتكلم في حدة .. الاستاذ نفسه لاحظ هذا فرفع عينه متسائلا ..
فجأة اتسعت عيناه .. نبتت قطرات عرق على جبينه ، فأخرج منديله بيد مرتجفة . وقال :
ـ" نعم .. نعم .. أعدك ان انتهي من ذلك في اسرع وقت .."
بنفس اللهجة الحازمة التي لم يتعمدها قال ( عادل ):
ـ" أسبوعا واحدا على الأكثر ؟"
ـ" شكرا يا سيدي .."
قالها بذات الطريقة الحازمة الآمرة .. ودون ان تفارق عيناه عيني الرجل ، ثم غادر المكتب ..
حينما اختلى بنفسه لم يصدق أنه فعلها .. قال لنفسه : لا بد أنني املك تأثيرا نفسيا هائلا لا أستخدمه .. كل هذا الحزم وكل هذا الإصرار .. والغريب أنه لم يتعمد ذلك قط ..
من الغريب ان تكتشف في سن الثلاثين أنك قوي الشخصية .. يحس بالمرء أنه عرف كل شيء عن نفسه متى بلغ العشرين .. لكن النفس البشرية تشبه البصلة .. كلما زالت المزيد من الأغشية عنها بدت لك طبقات أخرى لامعة نظيفة لم ترها من قبل ..
لا بد أن تجربة الغربة قد أفادته وصقلته .. هو يكره ان يخاطب أستاذه بهذه الطريقة ، لكنه إلى حد ما كان يرغب في ذلك .. إن حياته متوقفة على رأي هذا الأستاذ ..
***
ـ" السينما هذه الليلة ؟ مستحيل !!"
قالتها ( تغريد ) وهي تتراجع الى الوراء في غضب ..
كانت ( تغريد ) هي مشروع زواجه قبل أن يسافر إلى الاتحاد السوفييتي ، وهي فتاة لا بأس بها لكنها لا تقارن بـ ( أولجا ) من ناحية الجمال طبعا .. لا يزعم أبدا أنه أحبها لأنه كما قلنا رجل عملي جدا .. كان يريد زوجة وكانت هي تصلح ، وقد راق له أنه الم تكن قد ارتبطت بأحد لدى عودته من البعثة ..
قال لها بلهجة حازمة :
ـ" لا ارى ما يضير في دخول السينما معي .. لست مراهقا سخيفا .."
ـ" هذا هو بيت القصيد .. لست مراهقا سخيفا ولا أنا مراهقة سخيفة .. لهذا لا ارى داعيا على الإطلاق لهذه الدعوة .. ان توعدت بأن تطلب يدي هذا الأسبوع .. فلنفترض أن أبي رفض ؟ لماذا اختلى برجل لن يكون لي ؟"
ـ" لن يرفض .."
ـ" وقد يفعل .. لهذا ارى ان الانتظار قد .."
نظر لها بحدة وقال وهو يضغط على كلماته :
ـ" ( تغريد ) .. ستذهبين معي الى السينما لأنني اريد ذلك .. موعدنا في السادسة مساء .. يجب أن أنتهي مبكرا كي اعود الى قريتي .."
كانت تنظر له وقد اتسعت عيناها .. متى رأى هذه النظرة من قبل ؟ .. شفتاها منفرجتان ترتجف السفلى منهما .. ثم قالت بصوت مبحوح :
ـ" ليكن .. أمرك .. أمرك .."
سر من نفسه .. لم يكن يريد شيئا من هذه الدعوة إلا ان تقبلها .. فقط يريد أن تحقق إرادته انتصارا ما .. وقد حققه .. حياته كلها تتحول الى انتصارات متلاحقة..
وقال لنفسه وهو ينتظر أمام باب السينما :
ـ إن شخصيتي تزداد قوة .. إنني أتمتع بكاريزما لا شك فيه !!"