-3-
قال ( مازن ) :
كان الأمر أقرب إلى مختبر ..
الآن يفهم ( جان بيير ) سر الشيء الذي خمش يده ..
هذه الأقفاص تحوي تلك القردة الصغيرة الصلعاء التي يعرفها لكنه لا يعرف اسمها .. وهي ترمقه بعيون متسعة خائفة تلتمع في وهج الكشاف ..
( تبا ! هل القردة تنقل السعار ؟ )
إذن هذا الرجل يربي القردة سرا .. لا بد أن سيارة جاءته منذ ايام في الليل ونقلت له حمولتها .. إن القبو يجعل سرها مكتوما لا يعرفه أحد .. لن يسمع أحد صراخها ..
كانت هناك أنابيب اختبار .. أجهزة علمية لا يفهم ما هي ..
وكان هناك ( مرطبان ) كبير انلصقت عليه بطاقة مكتوبة بحروف لا يمكن قراءتها .. ( المرطبان ) يحوي مسحوقا ابيض غامضا أقرب الى السكر .. وقد دون تحته تاريخ أمس بالذات .. هناك لوح كتابة دونت عليه كتابة غريبة .. ثمة صور فوتوغرافية معلقة على الجدار .. صور بالأبيض والاسود مع لمسة البني المميزة لصور الماضي .. هذا هو ( روسكوف ) إنه شاب لكنه اصلع الراس كما هو ، يقف باحترام جوار رجل عسكري كث الشارب .. ثمة صور له في مختبر .. صورة له يقف مع رجل عسكريين ويشير الى شيء ما على الارض في حقل ..
كانت فكرة الانتقام قد خطرت له الآن ..
اتجه إلى ( المرطبان ) وفتحه .. بحث حوله فوجد كيسا صغيرا من البلاستيك ، فتحه وافرغ فيه ملء قبضة اليد من محتوى ( المرطبان ) .. ثم غادر القبو ..
لسبب ما بدأ يشعر بالذعر الآن .. لسبب ما قرر جهاز الهلع النائم في عقله ان يعمل ..
لكنه لن يخرج من هنا قبل ان ينهي مهمته ..
اتجه الى الثلاجة ففتحها .. امسك بأول زجاجة فأزال غطاءها .. كانت لحسن حظه من الطراز غير ( المبرشم ) .. هكذا افرغ بعض المسحوق الكريه فيها وأغلقها بإحكام .. مهما كان مضمون هذا المسحوق فالرجل سيتلقاه في أحشائه ..وكرر الشيء ذاته مع باقي الزجاجات التي كانت على السطح ..
( الباب ينفتح !)
وفي اللحظة ذاتها سمع صراخ ( سيمون ) .. صراخا سخيفا يحاول التظاهر بأنه بومة او وحش ليلي ..
وثب قلبه في فمه .. ركض إلى .. لا .. ليس القبو ..
( هل انتهت المأدبة ؟ كيف عاد بهذه السرعة ؟)
ركض الى حجرة الجلوس .. المشكلة أنه نسي أين كانت الفتحة التي دخل منها .. هل كانت في الصالة ؟؟
في النهاية قرر ان يتوارى خلف مقعد عملاق من الطراز الذي يسمونه Arm Chair .. وحبس أنفاسه وهو يسمع الرجل يتكلم .. كان يسب لكن بلغة غريبة .. لا يصعب ان تعرف السباب حي تسمعه .. اغلق الباب .. الضوء يغمر المكان ..
سمع الرجل يمشي الى الصالة .. صوت الثلاجة يفتح .. ثم .. الرجل يدخل الغرفة التي هو فيها .. يسترخي على المقعد الذي يتوارى وراءه .. رائحة أنفاسه كريهة لا تطاق .. إنها بالفعل تلوث المكان الذي يجلس فيه ..
كان يغني في إنهاك وبلا اتساق او تناغم كما يفعل السكارى : كالينكا .. كالينكا !
صوت ( لق لق لق ) .. الرجل يجرع من زجاجة ما بنهم شديد .. ابهذه السرعة ؟ لقد فرغت .. يلقيها أرضا لتقع جوار ( جان بيير ) .. ثم يبدو أنه يشرب زجاجة أخرى بذات النهم ..
فجأة دوت صرخة مريعة ..
لم يدر الصغير المذعور ما حدث .. فقط شعر بأن الرجل يسقط من على المقعد .. يصدر صوتا مخيفا كأنما شخص يذبح حيا .. الحشرجة من حلقه وصوت الرغاوي المقزز ..
الرجل يصيح كمن لا يصدق بشيء ما .. إنه مذهول لكن لماذا ؟
هنا فقط كان الذعر قد بلغ نهاية الفتيل .. فخرج( جان بيير ) من تحت المقعد ..
الرجل العجوز ممدد على الأرض وقد بدا فاقد الوعي .. كرشه في الهواء يعلو ويهبط .. جواره زجاجتان فارغتان من ذلك المشروب الي كان يملأ الثلاجة .. لا يمكن المرور من هنا إلا من فوق ذراعه .. ترى هل يشعر ؟
قرر ان يجازف .. رفع ساقه بحر وعبر فوق الذراع ..
وفي اللحظة التالية هب الرجل من رقدته ..
شعر ( جان بيي ) بيد كالمزلقة تطبق على كاحله فصرخ ، وسقط على الأرض ..
على حين جثم العجوز فوقه كالجاثوم .. بدا أكبر من الواقع .. اكبر من الحياة ذاتها ..
ـ" انت ايها الفأر الصغير ! انت من فعل هذا !!"
أطلق الصبي انينا وحاول التملص بلا جدوى ..
قال الرجل وهوي قرب وجهه من ( جان بيير ):
ـ" ما دامت هذه لحظة الحقيقة فلتعلمن أنني البروفسور ( أندريه انسيمفتش خارين ) من كبار علماء الاتحاد السوفييتي .. حاليا انا هارب من هناك .. متخف كي لا يجدني رجال ( كي جي بي ) .. انت نزلت الى القبو أيها الفأر .. لا تنكر ذلك ! لقد رأيت صورتي مع ( ستالين ) الحديدي ومع المارشال ( زوكوف ) .. لقد كنت رجلا شديد الأهمية وفي لحظة قرروا ان أبحاثي هراء .. والسبب أنني لم اكن اعرف ما اعرفه .. حتى العام 1968 لم اكن اعرف ما اعرفه .."
فتح الصبي فمه وأطلق صرخة كفيلة بشفاء الصم .. لكن الرجل كوم منديلا قذرا ودسه في فمه بحنكة وبراعة لا تصدقان .. هنا فقط ادرك ( جان بيير ) ان مصيره أسود ..بالتأكيد يختلف عن شد أذنيه .. لماذا لا يريد الرجل ان يسمع صرخاته أحد ؟ لماذا لم يجره من أذنه الى داره كي يطلب ان يعاقبه أبواه ؟
قال الرجل بلهجته الغريبة ذات الطابع الروسي :
ـ" أنت دسست لي المسحوق في زجاجة ( الفودكا ) .. لقد شعرت بالشيء .. لا تكذب .. وانت لا تعرف بالضبط ما دسسته لي ولا خطره .. كان هذا خطأ لكنك ستشرب زجاجة كاملة منه معي !!"
ان الصبي في وهن .. وانتفض جسده لكن لا مجال لمقارنة الوزنين ..
اردف ( خارين ) وهو يحك ذقنه :
ـ " كان هذا نيزكا سقط في أمريكا الجنوبية .. وقد حصلنا عليه قبل أي واحد آخر عن طريق أجهزة استخباراتنا .. يقولون إن فرصة أول لقاء مع كائنات حية من الفضاء الخارجي لن تكون مع أشخاص خضر اللون لهم هوائيات على الرءوس .. إن فرصة اللقاء ـ حسب القوانين الإحصائية ـ ستكون مع بكتيريا أو فيروس او كائن وحيد الخلية .. هذا هو نوع اللقاءات الممكنة .. وقد حدث هذا بالفعل .. إن ما يحتويه النيزك كان نوعا معقدا من الحياة أقرب إلى فطر .. نعم فطر كامل .. لم تقض عليه رحلته .. وقد حاولت كثيرا ان اعيد له الحياة بلا جدوى .. وحينما فررت من الاتحاد السوفييتي كنت احمله معي .."
ثم صمت وراح يلعق شفته بلسانه كأنما يستوثق من تغيرات جديدة هناك .. وأردف :
ـ" عدت امارس تجاربي بدقة .. وفي النهاية عرفت مكمن الخطأ .. لقد عادت الحياة إلى هذا الفطر بعد أعوام من السكون .. وقد جربته على القردة والقطط .. هذا الفطر هو اعتى سلاح بيولوجي عرفه الإنسان على الإطلاق .. إنه يحيل قردا كامل النمو إلى كتلة هلامية من العجين خلال دقائق .. يكفي أن يأكله او يحقن في دمه ولسوف ترى القرد يذوب أمامك .. تصور هذا !"
ثم اتسعت عيناه ونظر في وجه الصبي :
ـ" وأنت دسسته لي في شرابي ؟! لقد شربت زجاجتين منه .. لقد عرفت هذا على الفور .. هل تعرف لماذا ؟"
وفي اللحظة التالية كانت كفه في وجه الصبي .. لكن لم تكن هناك أصابع .. لقد تحولت اليد الآن الى عجين هلامي اقرب الى شمعة ذائبة ..
قال الرجل وهو يمد يده إلى زجاجة على الأرض :
ـ" لقد انتهى أمري .. لكني لن اموت قبل أن اراك تشرب زجاجة كاملة منه !"
وانتزع المنديل من فم ( جان بيير ) فراح هذا يصرخ ويركل .. الزجاجة تقترب من فمه .. الــ..
فجأة بدأ وجه الرجل يذوب بالفعل كانه تمثال من الشمع وضعت تحته شمعة .. ثمة نوع من العفن الاخضر كعفن الخبز ينتشر فوق ملامحه بسرعة . أحيانا يزحف على السطح واحيانا يتوارى .. لكنك تراه طيلة الوقت .. لو أنك أحرقت منديلا ورقيا مكوما لرأيت شعلات النار تفعل الشيء ذاته ..
إنه يتهاوى .. بصعوبة سحب الصبي نفسه من تحت الشيء الشبع الجاثم فوقه ..
ـ" ستشــ ... بو .. بلو .. بلو !!!"
صدر هذا الصوت من كتلة الهلام الذائبة التي ما زالت تحتفظ بحقد غريب ..
إنه يتحرر .. يركض نحو الباب .. ينظر للوراء فيرى الكتلة تتهاوى والسائل الهلامي يخرج من كل فتحات ثيابها الباب .. أدار المقبض فانفتح .. الحديقة والليل .. حمدا لله !
راح يركض عابرا الطريق وهو يولول .. لا يصدق أنه نجا ..
وهناك كان ( سيمون ) ينتظره ممتقع الوجه .. وفتح فمه ليتكلم لكن الصبي أخرسه صائحا :
ـ" اجر معي !! إنه قادم !"
وظل الصبيان يجريان .. ويجريان .. ويجريان ..
***
عاد الى البيت فلم يقل لأبويه شيئا ..
كان اول ما يريد هو ان يغسل وجهه ويبدل ثيابه كي لا تكون هناك أسئلة مريبة ..
وقف أمام المرآة وبدأ يغسل أذنيه فوجهه .. تمضمض بالماء عدة مرات .. إن ملامح وجهه تكشف عن كارثة .. لا بد من أن يبقى في غرفته لفترة ما ..
كل عضلة في جسده ترتجف .. لقد ذاب الرجل في دقائق .. ذاب في دقائق .. وكان سيرغمني على شرب ذلك الــ .. كان سيرغمني على شرب .. كان سيرغمني على شرب .. كان سيرغمني على شرب .. ذاب في دقائق ..لقد ذاب الرجل في دقائق ..
ثم تصلب ..
لقد لاحظ للمرة الأولى منذ يوم ذلك الخدش في يده اليمنى .. الخدش الذي أصابه من القرد في الصندوق ..
( يكفي ان يأكله او يحقن في دمه ، ولسوف ترى القرد يذوب أمامك . تصور هذا !"
هو امسك بالمادة التي تشبه السكر بقبضته .. هو قد ..
وهنا لاحظ للمرة الأولى شيئا لم يلحظه من قبل .. منذ متى كان إصبعه الأوسط ملتحما بالسبابة بهذا الشكل ؟
وكلما أطال النظر أدرك أنهما يذوبان ليلتحما معا .. على حين راح خنصره يلتوي كأنما هو شمعة تذوب ..
هرع الى باب الحمام وجثا على ركبتيه صارخا بصوت مبحوح :
ـ" ماما !! ماما !!"