الواجهــة الثالثة
جــارنـــا
-1-
ـ فيما بعد بعد عرفت الزوجة القصة كاملة .. في الحقيقة لم يكن المشي في الظلام موهبة ما .. هناك اشخاص يرون افضل من سواهم في الظلام .. بعد موضوع حريق الحمام وشجاعة الزوج الحقيقية النادرة خطر لـ ( هيلدا ) ان تبدأ نسج هذه الدعابة التي راقت للزوج .. كان يجب أن يتندر على سذاجة ( هالة ) واستعدادها لتصديق كل شيء .. وببطء راحت ( هيلدا ) و ( إنريكة ) تسممان حياة الزوجة بأكاذيب عن الزوج .. لم يكن هناك زوار يأتون ليلا بل ( هيلدا ) وزوجها طرقا الباب ذات مرة ليكلمهما الزوج ويغرسا قصة ملفقة عن الزوار الليليين .. لم تكن هناك أقراص منومة ليلا لكنهما أقنعا ( هالة ) بذلك .. في النهاية عرف الجميع أن ( هالة ) لن تتناول العصير وستبقى متيقظة ، ولسوف تفتش مكتب زوجها .. طبعا كان كل شيء معدا كي تجد ما وجدته .. هنا تتم الزيارة المرهوبة .. لكنهم لم يقدروا ان الدعابة قد تتحول الى مأساة ، وان الشخص الرقيق كالزوجية يمكن ان يتوحش عندما يقتله الرعب .."
قلت له وانا ابتلع ريقي الذي جف :
ـ" دعابة ثقيلة جدا ، وأشعر ان الزوج استحق الذبح فعلا .. كما ارى ان ( هيلدا ) و ( إنريكة ) كانتا بالفعل تحقدان بشدة على الزوجة المصرية الهائلة .."
هز رأسها موافق .. ثم اضاف :
ـ" لكن الامور ليست بهذا الوضوح دوما .. هنا يبرز سؤال مهم عن كيف فتح ( كمال ) مقبض الحمام ؟ لم تكن الدعابة واردة في ذلك الوقت .. ولم تكن الزوجة لتترك زوجها يحترق لمجرد ان تكون الدعابة محكمة .. هذه نقطة .."
ثم مد يده الى الوعاء الذي حفظ فيه الجنين وهو يقول :
ـ" لم تحتفظ ( هالة ) بوليدها في المصحة التي نقلت إليها .. لقد أجهضت .. وقد احتفظ أحد الأطباء بالجنين إلى ان حصلت عليه انا .. والسبب هو هذا .."
وأدار الوعاء .. فرأيت بوضوح تام ان الفقرات العصعصية للجنين كانت متحورة على شكل ذيل كامل .. ذيل كامل مشقوق ..
هتفت في رعب :
ـ" هل تعني أن ؟"
قال وهو يبتسم :
ـ" ثمة رواية شهيرة اسمها( 36 ساعة ) للأديب ( كارل هيتلمان Carl Hittleman) تحكي عن ذلك الضابط الأمريكي الذي كان يعرف كل كلمات الشفرة وموعد هجوم الحلفاء على ألمانيا .. كان من المستحيل ان يتكلم مهما عذبوه وقد عرف الألمان هذا ، لذا خدروه واخطفوه وأجروا جراحه جعلته يتقدم في العمر شكليا . .نقلوه إلى مكان أعدوه سلفا يبدو في كل شيء كأنه قاعدة أمريكية .. الأطباء الذين يحيطون به يبدون أمريكيين ويتكلمون الأمريكية بطلاقة .. حين أفاق أفهموه أنه في قاعدة أمريكية ، وأن الحرب انتهت منذ أعوام ، وانه فقد وعيه وذاكرته ، لكنه الآن بخير .. عليه ان يأخذ راحته ..
ـ" ثم بدأ العلاج النفسي ـ مطلوب منه ـ على سبيل تنشيط الذاكرة ـ ان يذكر كل شفرات القوات الامريكية في الحرب .. متى كان الهجوم .. أين ؟ الخ .. بالطبع تكلم الرجل .. لكنه فيما بعد اكتشف الحقيقة لأن جرحا كان في إصبعه منذ أيام ، ومن المستحيل ان تنتهي الحرب ولما يشف هذا الجرح بعد . .هكذا صار عليه ان يبرهن على أنه اكتشف الخدعة مبكرا وأنه كان يخدع النازيين من البداية .. ويبدو أنه نجح في ذلك .."
كنت اعرف القصة جيدا بل رأيت الفيلم عدة مرات ، فقلت له في عصبية :
ـ" ما دور هذه القصة هنا؟"
ابتسم في غموض وقال :
ـ" لعب أتباع ( أبراكساس ) نفس الدور تقريبا .. لقد خدعت الزوجة مرتين .. فكر في الامر جيدا ولسوف تجد أنني على حق .. إن الشبه بين القصتين شديد .."
ثم تنهد واتجه إلى الواجهة الثالثة ووقف يتأملها بعض الوقت ، حيث كانت تلك المادة الهلامية المتحجرة .. كأنها شمعة عملاقة ذابت تماما ..
كنت الآن قد وصلت إلى حقيقة مفروغ منها : هذا الرجل ليس رجلا .. سوف تشرق الشمس لأجد أنه لا وجود له .. لقد عشت هذا الموقف مرارا .. لكني على الأقل أعرف ان قصصه حقيقية .. ثم كيف أتأكد من نظريتي هذه ؟ لا سبيل إلا ان انتظر ..
قال لي بصوته الغليظ :
ـ" القصة الثالثة تتحدث عن نوع ثالث من الرعب .. ( ماذا يجري في ذلك البيت ؟ ) إنه شعور بدائي مخيف .. لكنه موضوع قصتنا التالية .."
قال ( مازن ):
في العام 1965 كان هناك مختبر قرب ( كييف Kiev ) في الاتحاد السوفييتي ..
كان هذا المختبر يمارس بعض التجارب الغامضة التي لم تتضح طبيعتها .. كنا في ذلك الوقت في ذروة عصر الحرب الباردة .. والعلاقة بين القوتين العظيمتين علاقة من الشك المتبادل والمقت .. وكانت امريكا لا تعرف بالضبط مدى ما بلغه السوفييت من تقدم علمي ، مما أدى الى المبالغة في أحيان كثيرة .. إلى حد أنهم سألوا احد علماء الفضاء الأمريكيين عما يتوقع ان يجدوه لو وصلوا الى القمر ، فقال بثقة : السوفييت طبعا !
لهذا لنا ان نتوقع أحدا على وجه البسيطة لم يعرف بكنه التجارب التي تدور في ذلك الحزب ولا طبيعتها .. باستثناء أفراد محدودين جدا ي الحزب وفي الجامعة .. ولما كان هذا المختبر قد تلاشى تماما الآن فإنني اعتقد ـ بلا فخر ـ أنني وأنت الوحيدان اللذان يعرفان يقينا ما كان يحدث هناك ..
كان المشرف على المختبر أستاذا سوفيتيا يدعى ( أندريه أنسيمفتش خارين ) ـ يمكننا ان نكتفي باسم ( خارين ) فهو يبدو محببا للسمع ـ وكان طبيبا بشريا قبل ان يهتم بالظواهر الخارقة للطبيعة والسوفييت كما تعلم هم اول من اهتم بهذه الاشياء بشكل علمي وحاولوا ان يقتلوها ..
وكان ( خارين ) كثير السفر واسع العلم ، وقد ارتحل مرارا الى افريقيا وامريكا الجنوبية .. راى الكثير جدا وشاهد ما هو أكثر .. وفي النهاية عاد الى مختبره ليطبق ما وجده ..
لكن الحكومة وجدت بعد أعوام ان هذه التجارب لم تقدم شيئا .. إنها تستهلك الكثير من الإنفاق الحكومي ولا تبدو لها نتيجة ملموسة ،لهذا قررت ان تغلق هذا المختبر وان توقف التجارب ..
كانت الصدمة عنيفة على (خارين ) ، لهذا اعتكف في داره لفترة ، ثم طلب إذنا لحضور احد المؤتمرات في ( بلجيكا ) .. وذهب هناك مع مساعده .. ثم ذاب تماما .. لم يعد احد يعرف اين هو ولا ماذا فعل .. هؤلاء القوم حمقى ، فلو سألوني لقلت لهم إن هذا هو ما سيحدث بالضبط ..
لم تكن هذه حادثة غير مسبوقة على كل حال .. كثيرون حاولوا الفرار من وراء الستار الحديدي .. بعضهم نجح وحصل على حق اللجوء السياسي واستغله الأمريكان كبوق دعاية ضد الشيوعية ، وبعضهم فشل .. عندها لا نسمع عنهم ثانية .. ربما تعامل معهم الــ KGB بشكل ينهي أوهامهم .. هذا هو الأرجح على كل حال ..
حسن .. لا أحد شيئا على الدكتور (خارين ) منذ العام 1968 .. وبمرور الوقت لم يعد هناك مختبر قرب ( كييف ).. ولكن القصة لم تنته ..
بالواقع كانت قد بدأت ..
***
كان ( جان بيير ) الصغير يقول : جارنا غريب الأطوار ..
كان ( جان بيير ) الصغير يقول : جارنا لا يتكلم كثيرا ..
كان ( جان بيير ) الصغير يقول : جارنا لا يحب الأطفال .
كان ( جان بيير ) الصغير يقول : جارنا يبدو ككائن من كوكب ( يوريك ) ينتظر لحظة الغزو ..
وكان الأب يقول :اخرس يا ( جان بيير )..
هذه طريقة تربوية أثبتت فعاليتها منذ الأزل .. وقلما تفشل ..
لكن الأطفال في السابعة لا يستجيبون للطرق التربوية الناجحة .. لقد راح الصبي يأخذ حوض السمك الكروي الفارغ ويثبته على رأسه ، ثم يخرج فاردا ذراعيه في الصالة وهو يردد بلا توقف :
ـ" يا اهل الارض . استسلموا لجيش ( يوريك ) العظيم قبل أن تحرقكم بالأشعة الكونية .."
ويطارد اخته الصغرى عبر الحجرات وهي تصرخ .. فلا ينقذها إلا ان تركض الى غرفة المكتب حيث الأب يراجع أوراقه .. هنا يدخل الصغير فيثب الأب مذعورا ويصرخ :
ـ" ستختنق يا أحمق "
وينزع الحوض على رأسه ثم يأتي بفرشاة الشعر ، ويرقد ( جان بيير ) على ركبتيه كي يوسع مؤخرته ضربا ..
هذه طريقة تربوية ناجحة أخرى .. والحقيقة ان الصغير لن يفكر بعد اليوم في ارتداء الحوض على رأسه من دون ان تؤلمه مؤخرته ..
***
إنه ( إبريل ) حيث كل شيء جميل براق .. نظيف ..
في الصباح كان الأب يذهب الى العمل .. يقبل زوجته ويعبر الحديقة الى حيث تنتظر سيارته الصغيرة الحمراء .. فكان لحيانا يلقى جارهم وهو يأخذ بريده فيحييه بهزة رأس ..
بالفعل لا يعد السيد ( روسكوف ) ودودا على الإطلاق .. إنه عجوز أصلع الرأس لكن ما بقي منه على جانبي رأسه يوشك ان يبدو كقطع قطن لصقها هنالك على عجل .. وله وجه قاتم مكفهر يجعلك تتوقع أن تبدأ يومك بنيزك يهوي فوق رأسك ..
يبدو أنه مهاجر من شرق أوروبا .. للغته الفرنسية طابع شرق أوروبي لا يمكن أن تخطئه .. وقد جاء إلى المنطقة منذ أشهر ، وهو لا يتكلم كثيرا .. لا يتكلم على الإطلاق ، ولا يخرج تقريبا .. واضح أنه يحصل على كل حاجياته من السوبر ماركت هاتفيا .. وحتى هذه اللحظة لا يبدو أنه كان يمارس عملا معروفا ..
في هذه المرة بدا أن الرجل راغب في بعض الكلام.. لقد هز رأسه مرة أخرى ..
سأله الأب :
ـ" يوم جميل ..هه ؟ "
فهز الرجل رأسه من جديد بمعنى أن هذا يوم جميل ..
كانت هذه أطول محادثة ممكنة مع الرجل ، وبدا للأب ان هذا يوم خارق للعادة .. هكذا انتهى من هذه الثرثرة وأدار محرك سيارته مبتعدا .. إنه ( إبريل ) حيث كل شيء جميل براق .. نظيف ..
وقف الضيف يرمق السيارة حتى ابتعدت تماما ثم عاد إلى داره ..
***
ـ" أؤكد لكما أنه غريب .. قادم من الفضاء .."
ـ" لماذا ؟ الغرباء لا يبدون كذلك .. دائما هم يبدون مثلي ومثلك ، لكن حين يجرحون يسيل منهم دم أخضر .."
ـ" من الممكن ان يأتي غريب يبدو غريبا .."
كان هذا طبعا هو ( جان بيير ) مع صديقيه ( سيمون ) و ( كلود) .. إنهم ثلاثة شياطين فقط لو فهمت كيف يمكن لطفل في السابعة أن يكون شيطانا .. وكل منهم لديه أخت صغيرة مزعجة لا تكف عن الشكوى ، وأم تصدق الأخت دوما ، واب يصدق الأم طبعا لانه لا يستطيع ان يفعل غير هذا ..
كانوا يتحدثون عن المسكين المسيو ( روسكوف ) طبعا ..
وهكذا قضى الصبية الوقت يلعبون أمام باب الرجل محاولين ان يروه في لمحة ما .. ولما لم يخرج كما هي العادة تمددوا على بطونهم عبر الطريق من الجهة الاخرى ، كما يفعل رجال العمليات الخاصة إذا يراقبون معسكرا ..
كان البيت من طابقين ، صغيرا جدا ، وله حديقة غير منسقة .. لكن حرص الرجل على أن يغلق كل الستائر بدا لهم مرضيا .. أحيانا كان يفتح نافذة ما ، بحيث لا يبدو منها ثم يغلقها ثانية ..
ثم قرروا ان يبدءوا تقنية أخرى هي لعب الكرة .. لعبها بحيث تضرب باب الرجل من آن لآخر .. إن الصبية يجيدون هذه الأعمال المزعجة .. وفي مصر هناك مثل شعبي معناه ( إن اردت ان تطرد أحدهم من القرية ، فأطلق عليه الأطفال )..
بوم ؟
هكذا ارتطمت الكرة بالباب .. فارتج ..
انفتح الباب وبرز الجار العجوز وقد ازداد وجهه كآبة .. ونظر عبر الطريق فرأى الصبية واقفين في نوع من التحدي له .. كان قد اعتاد هذه الأمر كما هو واضح .. لا بد ان كثيرين تحرشوا به من قبل .. والسبب هو الاستفزاز الذي يسببه الرجل المنغلق الغامض .. كأنه يهين الآخرين .. أو كأن في انغلاقه درجة ما من التعالي .. لو كان ثرثارا يقف في وسط الطريق ولا يكف عن السباب لتركه الناس وشأنه ..
لكن الرجل كان عمليا .. نظر الى الأرض فوجد الكرة .. انحنى وحملها تحت إبطه كما تحمل أنت بطيخة وعاد إلى الداخل وأوصد الباب خلفه ..
ـ" كرتي !!"
كذا صاح ( كلود ) وهو يركل الأرض في عصبية ..
ثم إنه استدار إلى ( جان بيير ) وصاح مغضبا :
ـ" أنت صاحب الفكرة .. هذه الكرة غالية الثمن ومفضلة لدي .."
قالت ( جان بيير ) في برود :
ـ" ان الم آخذها .. هو فعل .. لو كنت تريدها بهذا القدر فلماذا لا تطلبها منه ؟"
ـ" أنت صاحب الفكرة .."
ـ" وأنت صاحب الكرة .."
هكذا دار الجدل المحتدم العصبي .. وبدا أنه ما من واحد من هؤلاء الشجعان يرغب في الدنو من الرجل أكثر من اللازم .. لماذا ؟ ألم نتفق على أنه غريب من كوكب ( يوريك ) جاء ليعد للغزو ؟
في النهاية قال ( جان بيير ) وهو بالمناسبة أكبر الثلاثة سنا .. صحيح ان الفارق بضعة اشهر ، لكن هذه الفوارق تغدو قرونا في عالم الأطفال :
ـ" سأدق بابه أنا واستعيد الكرة .."
***