مقدمة المقدمة
لمن لم يلحظوا ان هذه حلقة رعب .. أقولها بصراحة .. ووضوح وصدق : هذه حلقة رعب ..
ولمن يتساءلون عن معنى ( المتحف الأسود ) أقول بصراحة ووضوح وصدق : هناك متحف في هذه القصة .. ويبدو أنه أسود ..
ولمن لا يعرفون أنني ( رفعت إسماعيل ) أستاذ أمراض الدم السمن .. أؤكد هذا بلا تردد ..
قدمت لكم عددا من حلقات الرعب من قبل .. ذات مرة جلسنا في الإسكندرية عاجزين عن العودة الى القاهرة ، وراح كل منا يحكي عن خبراته مع طراز معين من الرعب .. في مرة جربنا طالعنا مع أوراق التاروت ، وكانت نبوءاته كلها مما تتقلص له الأحشاء .. في حلقة رعب أخرى قمت بإذاعة بضع حلقات من برنامج ( بعد منتصف الليل ) الذي يحكي فيه المستمعون عن خبراتهم المخيفة .. ثمة حلقة تحدث فيها كل منا عن خبرته مع باب مغلق يكمن وراءه ما يخيف .. وآخر حلقاتنا كانت مع جانب النجوم ، حيث تنتظر المسوخ كي تحكم علينا .. اينا الاكثر شرا ..
إنه ذلك الأسلوب الذي أحكي فيه قصصا قصير كحبات في عقد قصة اكبر تربط بينها جميعا .. ولعل اقدم المحاولات في هذا الصدد كانت ( الف ليلة وليلة ) وقصص ( الديكاميرون Decamerone ) للإيطالي ( بوكاتشيو Boccaccio ) .. وفيما بعد اكتسب هذا النوع من القصص ـ كالعادة ـ مصطلحا مرعبا هو ( بورتامنتو Portamento ) ، وهو مصطلح موسيقي أصلا .. هناك شركة بريطانية اسمها ( اميكوس ) تخصصت في هذا الطراز في افلام الرعب .. و ....
لماذا اقول هذا الكلام الفارغ ؟
لا ادري .. يبدو أنني لن أتخلص من هذه العادة الذميمة ، ان اذكر ما اعرفه حين توجد مناسبة لذلك ..
على كل حال هذه هي حلقة ( البورتامنتو ) الــ .. معذرة .. حلقة الرعب السادسة ..
ماذا جرى فيها ؟ من كان ضيوفها ؟
احسب ان الامر صار واضحا الآن .. فما دام هناك متحف اسود لا تحتاج الى شرح أكثر ..
هل جاء الجميع ؟
جميل .. جميل .. لقد ازداد عددكم ثلاثة أو اربعة ، لكن هناك وجها افتقده .. اين هو ؟ ها هو ذا .. افسحوا له من فضلكم .. إنه صغير الحجم ولن يسمع او يرى شيئا وسط هؤلاء العمالقة الجالسين في الصف الأول ..
وانت كم سنك يا بني ؟ عشرة اعوام ؟ لا اعرف إن كان ما سأقصه الآن مما يناسبك .. ستقول لي إنه كذلك ، ولسوف تضحك ملء شدقيك .. وبعد انتهاء القصة ستعلن في فخر انها غير قادرة على إخافة قط صغير .. اعرف هذا ..أصدقه .. لكنك ستعود لدارك وتخلو بنفسك .. عندها تفكر : مضحك هذا العجوز .. ولكن .. كم يكون مخيفا لو حدث بالفعل أن ..
ثم تفكر قليلا .. تقرر ان تبقى إضاءة الغرفة فترة أطول قبل النوم .. إن القط الصغير لا يملك خيالا .. اما انت فتملك .. انا لا أتحدث عنك بالذات .. لم اقصد أن أهينك .. فقط قلت إنني افترض ..
حسن ؟ تريد البقاء ؟ ليكن ..
والآن نبدأ حلقة الرعب السادسة ، فأصغوا إلي ..
المقدمة
إنه الخريف أخيرا ..
انا اعشق هذا الفصل بحق ، واعتبره أجمل فصول السنة في مصر .. لو أنصف ( فريد الأطرش ) لغنى : " وآدي الخريف عاد من تاني " .. احتفظ أنت بربيعك بعواصف خماسينه ، والرمد الحبيبي الذي يحرق عينيك ، وجو الامتحانات المخيف الذي لا يعنيني في شيء . لكنه يسمم الجو بما يكفي بحيث تتقلص أمعاؤك كلما فتحت الشرفة ، لترى ذلك الطالب يقف بالفانلة الداخلية في الشرفة ،، ممسكا بكتاب عملاق وهو يحك رأسه محاولا إيصال بعض الدم الى مخ المكدود .. انظر لليمين لترى جارتك الشابة تجلس على الارض في الشرفة ، منكوشة الشعر مثل ( ميدوسا ) وهي لا تنفك تحملق في الأفق محاولة تذكر مساحة ( كورستاريكا ) .. اضف لهذا اغنية ( شادية ) " الشمس بانت من بعيد " .. خارجة من المذياع ليكتمل الجو الجدير بأفلام الرعب ..
لا من فضلك .. إن عندي الف سبب لأكره الربيع .. اما عن الصيف فلا تعليق . .الشتاء يمكن ان يكون محببا لو لم تكن تمطر طينا في كثير من الأحيان ، ولو كانت عظامي تتحمله ..
إنه الخريف .. الفصل العذب الراقي الذي لا يلبس ( المايوه ) ولا يعطس في وجهك ن ولا يتنهد وهو يقطف الورد من المرج ..
كنت جالسا في الشرفة بعد الفجر بقليل أتحسس لذعة برد محببة ، وارشف الشاي ، وأتسلى بقراءة خطاباتي ..
تلك المجموعة المعتادة من الخطابات التي تهددني بخراب بيتي ، او تلومني على شيء لا اذكر انني فعلته .. او تطلب أشياء يستحيل ان أفي بها .. ثمة خطاب من ( ماجي ) أبقيته الى النهاية طبعا .. ثمة خطاب من ابن خالي في ( المنصورة ) .. خطاب من شخص يهددني بأن يفضحني لان عنده الوثائق كلها .. طبعا لا اعرف حرفا عن الموضوع ، ومن حقه ان يفضحني لكنني ارجو اولا ان يشبع فضولي ..
ثم كان الخطاب ..
كان مقتضبا الى حد كبير ، لكنه اثار اهتمامي .. وكان مكتوبا بالعربية بخط أنيق نضيد يذكرك بالأسنان في إعلانات معجون الأسنان .. يقول :
عزيزي د. إسماعيل :
" اعرف انك رأيت الكثير .. وما زال أمامك الكثير لتراه . يقولون إن المال يجلب المال .. وانا اعتقد ان الرعب يجلب الرعب كذلك .. ما اطلبه هو زيارة منك لداري المتواضعة للقاء .. ولسوف تشرح الأمور نفسها ، لأني امقت المقدمات .."
وفي نهاية الخطاب كان هناك اسم ( مازن ابو يوسف ) مطبوعا وليس بخط اليد وتحته توقيع انيق يصلح شعارا لأسرة من نبلاء القرون الوسطى .. وكان هناك رقم هاتف يبدو انه من الإسكندرية ..
طبعا لا يحمل الخطاب أي وعد ولا يقول اية تفاصيل ..هذا بالضبط هو المثير فيه .. أذكر منذ سنوات ان امريكيا نشر في الصحف كلها يقول : " إنها فرصتك الأخيرة .. أرسل دولارا الى العنوان التالي .."
هذا الاعلان لم يتضمن أي وعد من أي نوع ، لهذا أرسل كل الناس تقريبا دولاراتهم الى العنوان المذكور ، فلا بد ان هذا العبقري الخبير بعلم النفس قد صار مليونيرا !
هكذا وضعت الخطابات جانبا .. وانتظرت حتى يأتي وقت مناسب للاتصال .. اعتقد أنه العاشرة صباحا .. وطلبت الرقم المذكور ..
جاءني صوت ( مازن ) وقورا هادئا يتساءل عمن هنالك ، فأخبرته .. قال في سرور حقيقي :
ـ " سعيد باستجابتك هذه ...
ـ " انا احب الاشخاص الذي لا يعدون بشيء .."
ـ " وانا احب الأشخاص الذين لا ينتظرون وعدا .."
ـ " فقط اطلب وعدا بان الموضوع ليس تافها .. انت تفهم هذه الامور .."
ـ " اعدك بان الموضوع ليس تافها .."
ـ " هناك من يطلبون مني ان اذهب اليهم للاهمية ، ثم يتضح انهم يريدون معرفة رأيي في دواء الإمساك الذي يأخذونه على الريق، او حيرتهم في الاختيار ما بين ابنة خالتهم الجميلة لكنها بلهاء قليلا .. وزميلة الدارسة المتزنة لكنها قبيحة كالأبالسة .."
ضحك طويلا ثم قال :
ـ " لا شيء من هذا القبيل .. اطمئن .. انا لا أعاني الإمساك واكبر سنا من العواصف .."
كان التفاهم ممتازا كما ترى ، وهكذا حصلت منه على عنوان داره .. إنها في الإسكندرية كما قلت لك ، لكني لن اذكر تفاصيل اكثر من فضلك.. لا داعي لان اقول كذلك إن اسم الرجل وهمي ..
اتفقنا على يوم الخميس في السادسة مساءا ، وهكذا عادت حياتي لانتظامها ..
لماذا قبلت ؟ لا اعرف كالعادة .. هناك هذا الخليط من الفضول والشعور بالوحدة والرغبة في جمع الخبرات الجديدة كدأبي .. دعك من حدسي الخاص الذي قال لي إن هذا الرجل ليس احمق .
أما السبب الأكبر والأهم فهو أنني لم أر الإسكندرية منذ فترة ، وانا مغرم بالإسكندرية في الخريف والشتاء كما تعرفون ..
***
في السادسة مساءا دققت الجرس ..
هل وصفت لكم المكان ؟ لا ؟ حسن .. الأمر هو البساطة ذاتها .. فيلا انيقة من طابقين .. لها طابع فيلات الستينات الذي لا تخطئة العين ، ومن الواضح انها حديثة البناء .. ذوقها راق بلا شك .. وذلك احرص الموسوس على استخدام اللون الابيض في كل شيء .. إنها تذكرني بفيلا الدكتور ( سامي ) إلى حد ما مع فارق هائل في الثراء طبعا .. إن د . ( سامي ) يربح الكثير كما هو واضح ..
يجب ان اكرر هنا انه لا يوجد بواب ولا حراسة .. انت تدخل بحريتك كأي لص عبر البوابة المفتوحة، لانه لا احد يجيب على الجرس .. تمشي في ممر طويل مرصوف بحجر الإسكافي بين انواع من الأزهار يؤسفني انني لا اعرف ما هي .. إن الأزهار بالنسبة لي حمراء وصفراء وبيضاء .. برائحة او بلا رائحة .. لا بد ان لها اسمها مثل ( الدالكونيا ) او شيء من هذا القبيل ..
وفجأة رأيته أمامي ..
اسود اللون .. يتطاير الشرر من عينيه .. يكشر عن انيابه بينما انتصب شعيراته كلها .. وهو يقف تلك الوقفة التي تباعد بين السيقان قليلا ليكسب مساحة إرتكاز أكبر ، كما يفعل أي لاعب ( جيدو ) محترف قبل المواجهة ..
لا يهز ذيلة القصير .. ذيله ؟ طبعا .. إنني اتكلم عن ************ طبعا .. حسبت هذا واضحا ..
************ ( دوبرمان ) شرس المظهر يذكرك برجال العصابات .. يقف في الممر منذرا بالويل .. عندما تكف الكلاب عن هز ذيولها وتصدر ذلك الزئير المكتوم ، تكون لحظة المواجهة قريبة جدا ..
تصلبت حيث انا وقلت له وانا اتراجع خطوة للوراء حتى انغرست قدمي في حوض ( الدالكونيا ) :
ـ " اهدأ يا احمق .. انا لست عدوا .. اهدأ .."
ـ " ونظرت للارض كي لا أستفزه .. لكنه واصل التحرش .. لا مفر من هنا وعلي ان أتصرف .."
دنا مني قليلا ، فتذكرت القاعدة القديمة : من يستطع مداعبة ما تحت ذهن ال************ يكسب وده . لكن لا تربت على رأسه ابدا لانه يفترض أنك ستضربه .
هكذا مددت كفي كأنني متسول نحو رأسه محاولا ان انزل بها تحت ذلك الفم المخيف ..
ـ " صبرا .. صبرا .. ************ لطيف .."
اين هب هؤلاء الحمقى ؟
كنت اقترب اكثر حين دوى الصوت من مكان ما :
ـ " لا تحاول .. لا تصدق كلام الكتب !"
نظرت الى مصدر الصوت فرايته .. وكان قادما بسرعة وحزم نحو ال************ .. وهو يقول :
ـ " دعه يا ( نوسفيراتو ) .. إنه صديق .."
( نوسفيراتو Nosferatu ) ما شاء الله ! إنه اسم مناسب جدا ، لكنه يحمل نذيرا ما .. لا احد يسمي ************ه ( نوسفيراتو ) ما لم يكن هو الكونت ( دراكيولا ) نفسه ..
تصلب الاخ ( نوسفيراتو ) وهو ينظر لصاحبه مترددا بنظرة البلطجي الذي يقول : دعني التهم حنجرته هذه المرة فحسب .. ساكون ************ا مطيعا في المرة القادمة ..
ثم قرر ان يستسلم وبدأ يهز ذيله ، على حين تقدم السيد ( مازن ) ليربت عل ىعنقه ، وأطبق أصابعه على الطوق ، على حين رحت أحرر قدمي من حوض أزهار ( الدالكونيا ) .. وقال لي وهو يحك عنق ال************ بعنف :
ـ " معذرة لها الاستقبال البارد .. لكن لا تثق كثيرا بموضوع التربيت تحت الذقن مع كلاب الدوبرمان .. احيانا تدعى هذه الكلاب انك لم تفعل .."
قلت في ضيق :
ـ " كان عليك ان تربطه بعناية.. إن مواعيدي دقيقة .. ولو لم تشعر بنا لوجدت بضع عظام و************ا مصابا بعسر الهضم .."
ـ " فلننس ما فات .. ما دام لم يؤذك .."
ـ " بالمناسبة .. انت تجيد زراعة ( الدالكونيا ) .."
ـ " زارعة ماذا ؟"
ـ " لا عليك .. لا عليك .."
واشار لي في تهذيب ، فتقدمت عبر الممر الى باب الدار نفسها ..
***
طبعا كنت مشغولا بال************ فلم أصفه لك ـ الرجل لا ال************ طبعا ـ وهذه مهمة سهلة .. كان ضئيل الحجم دقيقا الى حد لن تصدقه ما لم تره .. وهو من الطراز الذي تندهش كيف يصدر منه هذا الصوت العميق الضخم .. له شعر ابيضا تماما مما يوحي بان هذا ليس شيبا عاديا إنما هو امر يتعلق بالجينات .. له شيء مبهم ابيض على شفته العليا ، فلا تستطيع ان تتذكر إن كان بشارب ام لا .. عوينات ؟ لا .. إنه ينزعها ويضعها عشر مرات في الدقيقة فلا يمكن ان تصفه بامتلاكها .. أما عن السن فهو من الطراز مشدود الجلد الذي لا يشيخ بسهولة لذا يصعب التكهن بسنه ، لكن لو تذكرنا كلامه عن العواطف فلا استبعد انه تجاوز الخمسين .. أضف لهذا عشر سنوات لأنني أحمق كالعادة ، فلا بد انه في الستين إذن ..
كان يلبس الروب القصير اللامع وتحته ربطة العنق ، حتى ليذكرك بالأوغاد في السينما المصرية .. اعني من يمثلون ادوار الأوغاد طبعا .. الذين يقشرون التفاح ويصبون الشامبانيا ويخدعون الفتيات البريئات طيلة اليوم ..
البيت راق جدا وجدير بمظهره الخارجي .. لا اعرف كيف أصفه لك لأنه من الطراز المبهر الذي ينسيك التفاصيل .. على كل حال نحن لم نأت لشرائه .. لا داعي لإطالة الوصف ..
فتح جهاز تسجيل ما لتنبعث أوبرا ( مدام باترفلاي ) ..
ثم استرخى على أركية مريحة واضعا ساقا على ساق ، ومد يده الى علبة السيجار فقضم طرف واحد ، وعرض علي واحدا .. لكن صحتي لم تعد تتحمل هذه الطوربيدات ..
قال وهو ينفث السحابة كثيفة في الغرفة :
ـ " خذ راحتك .. انا وحدي هنا .."
ـ " هل توفيت زوجتك ؟"
ضحك حتى غلبه السعال .. وقال :
ـ " ليس بالضرورة .. ثمة احتمال ان أكون مطلقا .. ثمة احتمال ثالث ان اكون عزبا .. هل لك في بعض المياه الغازية ؟"
ـ " سيكون هذا محببا .."
لكنه لم ينهض .. هذا رجل يتقيد بحرفية الكلمات .. كأنه كان يسأل للعلم فقط وليس للاقتراح .. دار بعدها الحديث في كلام فارغ ، وما أكثر الكلام الفارغ في هذا العالم .. ربما نصف ساعة أو أكثر ..
ثم إنه استرخى في مقعده أكثر ، وقال لي وهو يعيد إشعال السيجار :
ـ " على انني لم أطلبك لأجل ذلك .. القصة يطول شرحها .. أنت طبعا واسع العلم بعالم ما وراء الطبيعة يا دكتور ( رفعت ).."
قلت باسما :
ـ" سأكون صريحا معك يا سيدي .. لا احد يستطيع ان يزعم ذلك .. واعتقد انني ازداد جهلا بهذه الامور يوما بعد يوم .. لقد فقدت غرور الشباب التقليدي ، واكتسبت كآبة الشيوخ وعلمهم بحدود إمكانياتهم .."
ـ " إذن لنقل إنك شديد الاهتمام بذلك العالم .."
ـ " ولا حتى هذه النقطة.. فقط تصادف أنني دائما الشخص الخطأ في المكان الخطأ في الوقت الخطأ .. وكنت دائما أنجو لان اجلي لم يحن بعد وليس لبراعة خاصة مني .."
كنت اعرف خيبة الأمل التي تسببها كلماتي هذه لمن يسمعها .. لكن الرجل لم يبد متأثرا بما سمع .. إما انه يعتبرني كاذبا او ان هذا لا يحدث فارقا ..
قلت له :
ـ" كنت اتمنى لو بدأنا الكلام فورا .. انا لم آت الى الإسكندرية لأشرح وجهة نظري في الحكاية .. كما انني اخترت السادسة كي لا اعود في ساعة متأخرة .. إن القيادة مرهقة فعلا .."
ـ " معك حق .."
كانت مدام ( باترفلاي ) لا تكف عن الصراخ ، حين راح يتأمل طرف السيجار المشتعل ، ثم قال بتؤدة :
ـ " قضيت حياتي أطارد اسرار ما وراء الطبيعة .. انت تورطت فيها بالصدفة او بحكم الشهرة ، اما انا فكنت ابحث عنها بحثا .. جربت كل شيء .. والسبب هو أني كنت اقوم بتدريس الفلسفة فيما سبق .."
قلت بلهجة من وجد الخلاص :
ـ " فهمت .. ياااااه ! علاقة قوية فعلا .."
ابتسم .. هذا الرجل يفهم الدعابة فعلا .. وقال :
ـ " انت تسخر مني ، لكني بالفعل حسبت ان السبيل الأمثل لفهم الكون هو فهم ما وراء الكون .. من نحن وماذا نفعل هنا ؟ إن الفلسفة تحاول فهم الجدار .. وانا حاولت ان انظر الى ما وراء الجدار .. يجب ان اقول هنا إنني لم افهم الكثير ، فالإجابات عملة نادرة ، لكن اكثر ما اصطدمت به هو الرعب .. إن الأشياء الغامضة مخيفة يا د. ( رفعت ) .. مخيفة ولا افهم لذلك سببا .."
في هذا كان أحمق .. نحن نخاف ما لا نعرفه .. كل حمار جر يعرف هذا .. انظر الى عيني طفل في الخامسة تطلب منه ان يصافح ( عمو ) .. ( عمو ) الذي يراه الآن للمرة الاولى .. انظر الى بدائي من صحاري استراليا يرى التلفزيون لأول مرة .. راقب عيني طالبة يستوقفها غريب في الشارع ليسألها عن شيء ما .. سوف ترى دوما تلك النظرة .. نظرة الأرنب الخائف الذي يفر ليختبئ منك وقد رآك قادما ..
قلت له بنفس التهكم السابق :
ـ" هكذا رحت تبحث عن عملتك النادرة بين تراب الرعب .."
ـ " حاولت واتسخت أناملي كثيرا .. لكني لم افهم افضل .. وسؤالي لك بعد كل خبراتك هذه .. هل فهمت أفضل ؟"
قلت له في غيظ :
ـ " الم أنذرك من ان تاتي بي الى الإسكندرية للكلام عن خواطرك الخاصة ؟"
لم يول كلامي اهتماما وقال في جدية :
ـ " انا لم افهم الكثير عن عالم ما وراء الطبيعة .. لكني فهمت الكثير عن فلسفة الرعب .. ولو قررت ان اكتب في الرعب لصرت ابرع من ( بو Poe) ذاته .. إن الرعب ست تيمات أساسية في رأيي المتواضع .. يمكن القول إن لحصن أمنك النفسي ستة ابواب .. يمكن ان تداهم من احدها في أية لحظة .. ولو اتخذت عدتك لهذا الاقتحام لصرت في امان .."
ـ " سيكون أمني النفسي في خير حال لو تكرمت بالدخول في الموضوع .."
ضحك من جديد .. هذا الرجل يضحك بلا انقطاع كالضباع .. وقال وهو ينهض :
ـ " إنني اكتب كتابا عن ( سيكولوجية الرعب ) .. وهذا الكتاب ليس بالكتاب الهين .. إنه كتاب عمر كامل .. لسوف يتخذ مكانه على رفوف اية مكتبة محترمة مثله مثل ( الوجود والعدم ) و ( تفسير الاحلام ) و ( عن حركة القلب ) .. إلخ .. لاحظ انني لا اتحدث عن الكتب الدينية هنا طبعا .. لكني لن اعتبر انني بلغت الكمال إلا لو اخذت راي خبير رعب مثلك .."
ثم اشار لي باتجاه الدرج وأردف :
ـ " لو تكرمت معي بالذهاب الى الطابق الثاني لفهمت بعض ما اريد منك .."
نهضت بصعوبة ومشيت معه ..
إنه يتجه الى درج خشبي انيق يصعد فيه .. ومن موضعي العالي هذا اختلست نظرة فهمت بها جغرافية المكان وإحداثياته .. هذه فيلا كأية فيلا أخرى ، وإن لم يكن صاحبها ثريا جدا .. ذوقه راق بحق ، لكنه ليس مفرطا في البذخ ..
هناك ممر .. والممر يقود الى قاعة واسعة في نهايته ..
ابتسم وقال لي وهو يعالج الباب :
ـ " هذا مكتبي .. سوف تحب المكان .."
بالفعل كان في الداخل مكتبة .. لكني لم احب المكان .. غرفة مكتبة واسعة هي ، تزدان جدرانها بالكتب من الارض الى السقف .. كل الكتب مجلدة بعناية دون كتابة على كعوبها .. لكنها مراجع ثقيلة .. يمكن ان تكون عن القانون المدني او الفقه الإسلامي او الفلسفة الإغريقية او تشريح الرقبة او حتى مجلات ( ميكي ) منذ صدورها حتى اليوم ..
يوجد مكتب مهندم عليه بعض الاوراق .. وثمة إضاءة خافتة جدا .. لقد اعد هذا الضوء بعناية كي يسقط على وجه الجالس امام المكتب ، بينما يظل من خلفه في الظل .. كما يفعل رؤساء منظمات التجسس في القصص الرديئة ..
طبعا مع غرفة مكتب مثل هذه أتوقع أن ..
بالفعل .. إن الرجل يتجه الى مكتبة جدارية عملاقة ، فيلفها .. إنها تتحرك حول محور راسي لتنفتح كالباب .. لقد صار هذا المشهد مملا .. خلفها توجد قاعة لا اعرف ما فيها ..
وقف على باب القاعة وقال بطريقة مسرحية :
ـ " إن هذا هو مقري الخاص يا دكتور ( رفعت ) .. وإنني لأقضي فيه من الوقت أضعاف ما اقضيه في المكتب نفسه .."
دخلت القاعة في حذر ..
يمكن ان اقول تقريبا ان طولها ستة امتار وعرضها اربعة .. تذكرني الى حد ما بمتحف علم الأمراض في كليتي او أي متحف عموما .. والسبب هو تلك الواجهات الزجاجية المتراصة بطول الجدارين .. ثمة رائحة عضوية قوية وانا اكره تلك الروائح التي يكون مصدرها حيوانا او آدميا .. إنها تثير تقززي نوعا .. اما سبب الجو الخانق فهو انه لا توجد نوافذ هنا .. هناك جهاز تكييف لكنه يعمل باقل طاقة لديه ..
ـ " لا بد من التكييف حتى لا تفسد العينات .. برغم ان الطقس معتدل .. انت تفهم هذا .."
الإضاءة خافتة تنبعث من مصابيح جدارية مركبة بحيث ينبعث الضوء منها لأعلى .. راسمة مثلثات مخيفة من النور على مسافات منتظمة .. لكنها تنعطف بعض الشيء على الواجهات فتلقي عليها ضوءا بخيلا لا يزيل الغموض ..
هناك لوحات على الجدار .. لوحات تذكرك برسوم ( دالي Dali ) السيريالية العجيبة ، التي تمزج المقاييس التشريحية الصارمة بتشوه الهلاوس ..
لم استوعب ما أراه .. فوقفت هنيهة صامتا ثم قلت :
ـ " لا اعرف كنه هذا المكان .. لكنه اقرب الى متحف .."
ـ " بل هو متحف .. لكنه اغرب متحف في العالم .."
ثم نظر لي ليرى وقع الكلمات علي وقال :
ـ " إنه المتحف الأسود .."
لم يكن الاسم غريبا علي .. هناك متحف أسود في ( اسكوتلانديارد ) يضم آثار الجرائم التي حيرت رجال الشرطة في الماضي .. لكن من الواضح ان الامر يتعلق بتشابه أسماء لا اكثر ..
دنوت من الواجهات الزجاجية متوجسا .. فأدركت ان محتواها يناسب هذا التوجس ..
في الواجهة الأولى ثمة يد بشرية .. يد مبتورة عند المعصم محفوظة في سائل ( الفورمالين ) .. هذا جميل وربما هو من المناظر المبهجة بالنسبة لطبيب مثلي .. لكن ما يثير الحيرة ـ وربما الرعب ـ هو تلك الأظفار الطويلة الشبيهة بالمخالب التي تخرج منها .. وعلى الزجاج كانت صورة رجل وقور يبتسم .. هل هذه يده ؟ إذن لماذا يبتسم ؟
في الواجهة الثانية لا يوجد شيء مخيف ـ باستثناء هيكل عظمي كامل .. هيكل متآكل يبدو عليه القدم .. لكن .. لحظة من فضلك .. ثمة خطأ هنا .. إن له أنيابا حادة قاطعة بدلا من الأسنان ..
هناك قفازان من الجلد الاسود في واجهة ثالثة .. هناك مادة هلامية متجمدة كأنها شمعة عملاقة ذابت كلها .. هناك قطع من مادة حمراء كأنها مشعة او كأنها حجر كريم .. ثمة عباءة في واجهة ، ومجموعة من أوعية حفظ العينات كما في متاحف علم الأمراض ..
هناك ************ محنط يقف متحفزا في إحدى الواجهات .. لا شيء يميزه غير ان لونه أحمر بالكامل كأنه الدم .. هل تم طلاؤه ؟ الخلاصة إنني لا أستطيع استيعاب كل شيء بهذه السرعة ..
في انبهار التفت الى الرجل الذي كان يرمق دهشتي ، وقلت :
ـ" هذه مجموعة مثيرة للاهتمام .. لكنك لم تتقاض مني رسم الزيارة .."
قال في مرح أخافني :
ـ " فيما بعد .. فيما بعد .. هذه امور يمكن ان تنتظر .."
قلت له وانا آخذ نفسا عميقا :
ـ " حسن .. القصة واضحة .. انت قضيت حياتك تجمع آثار عالم الرعب الذي نجهله .."
ـ " هو ما تقول .. ولكل واجهة من هذه الواجهات قصة مثيرة أتمنى لو سمعتها ..وأتمنى لو حاولت الفهم معي .. من اين يأتي الرعب ؟ ما سره ؟ "
عقدت ذراعي على صدري وانتظرت ما سيقول ..
لم لا ؟ انا متأكد من ان هذا الرجل ليس د .( لوسيفر ) وليس خصما قديما لي .. لقد صرت ذا خبرة في هذه الامور .. إن ما سيقصه علي قد يكون مهما لأقصى حد ، وقد يكون مجرد تفاهات ..
هكذا بدأت حلقة الرعب السادسة ..
وكان مقدرا لي الا اعود الى داري في تلك الليلة كما توقعتم ..