الخاتمة ..
كم من الوقت فقدت رشدي ؟
لا احد يستطيع الحكم على هذه الاشياء ..
فقط فتحت عيني لارى ظلام الكهف من حولي .. لقد ماتت المشاعل جميعا ..
ظلام دامس يجثم على روحي ,.. وصمت مطبق رهيب ..
ـ " ( سمير ) .. هل انت بخير ؟ "
لا رد ..
ـ " ( سمير ) .. هل انت بخير ؟
لا رد ..
كنت اعرف الاجابة . هذه الهوابط المدببة التي سقطت من اعلى لعبت دور الف مدية تسقط فوقك في آن واحد .. انا نجوت ببساطة لأنني انجو دائما من هذه الاشياء .. لطالما تصورت نفسي وقد كونت اسرة اقود سيارتي على الطريق السريع .. ينفجر الاطار الامامي .. تنقلب في الترعة .. عندها من ينجو ؟ من يخرج من الماء بلا خدش ؟ إنه انا طبعا .. بينما لا يبقى احد حيا من اعزائي .. كان هذا الكابوس يؤرقني .. مشكلتي انني اظل حيا بعد من احب ..
فقدت ( سمير ) ولا ادري من افقد بعد هذا ..
ورحت انشج بصوت عال في الظلام ..
انشج وانا ما زلت في وضع النسر المحلق .. لا سبيل للخلاص لان هؤلاء القوم يستعملون السلاسل ..
ساكون اسطورة اخرى يتناقلها البحارة وهم يدخنون غلايينهم ليلا حول النار . العجوز الذي يبكي ليلا في كهف في ( الجزيرة ) .. لقد سمعه كثيرون .. وصوت بكائه يجمد الدم في العروق .. لا تقربوا الجزيرة ففيها ساحر حبيس وعجوز يبكي وساحرة متفحمة .. و ..
من اين ياتي هذا الضوء ؟
هذا كشاف واقسم على هذا ..
صوت انثى . انثى .. و ..
إنني اعرفه .. واعرفها ..
( ماجي ) !!
نهضت مترنحا والغبار يتساقط من جسدي .. ورفعت راسي لاجد انني احدق في ابشع وجه صارخ رايته في حياتي .. جثة محترقة مربوطة بالسلاسل ولم يبق منها شيء تقريبا ..
قلت بصوت كالفحيح وانا اتراجع للوراء :
ـ " هذه ( إليانور ) .. او ما تبقى منها .."
قالت ( ماجي ) بلهجة ذات معنى :
ـ " فهمت هذا على الفور .. إنها ( رونيل ) السوداء الآن .."
ـ " ولكن اين ( سمير ) اين ابني ؟ "
وضعت ( ماجي ) يدها على يدي وقالت مواسية :
ـ " لن تجده يا ( رفعت .. لقد اخذوه معهم .. على الاقل لم يقتلوه امامك وانت مكبل بالأصفاد .. تذكر .. انت لا تعرف كيف جاء للعالم .. إنه ابنها .. فه منها اكثر مما فيه منك ، وقد انجبته لغرض واحد .. يجب ان تنساه .."
ونظر ( فريزر ) الى الباب الموارب في ركن المكان ، وقال وهو يلوك لفافة تبغه :
ـ " ارى ان نرحل الآن قبل ان يجد جديد .. هذا الكهف يشبه بيت الاشباح في الملاهي .. ويعج بالمفاجآت .."
***
ـ " داسيوس ريانوس هلكعال جيلبرت !!"
***
كنا جالسين في تلك الكافتيريا في مدينة ( روشتوك ) نرمق بحر البلطيق الذي لم يهدأ ساعة واحدة منذ البارحة .. امامي ( ماجي ) قدحا قهوة ، بينما ( فريزر ) يشرب ( الشنابس ) ليبرهن على انه فظ خشن ..
قالت لي ( ماجي ) مواصلة القصة التي بدأتها من ساعة :
ـ" .. وعرفت ان الفئران ليست بفئران بل هي تلقنها دروسها الاولى في عالم السحر .. إنها ( رونيل ) لكنها لا تملك ذاكرة ( رونيل ) .. هناك اشياء لا تعرفها او تحتاج لاسترجاعها .. هكذا عكفت على دراسة الاوراق التي كانت في حوذة الكاتبة وعرفت منها الكثير عن الساحر ( جيلبرت ) .. عن هذه الجزيرة .. عن التعويذة التي ستحرره ..
" في هذا الوقت كنت ارى ( إلياانور ) الصغيرة وهي تكبر بطريقة اثارت هلعي .. لاحظت ان الملاءة لم تعد تغطي جسدها .. احذيتها تضيق بسرعة .. وبدأت ادرك ان الامر لا يتعلق بالفصام .. بل هو اخطر من هذا .. إن الوقت يضيق ..
- " هكذا اتخذت قراري بالذهاب الى المانيا .. وحدي .. ما كنت لأصطحب الفتاة معي في رحلة كهذه .. لم يعرف بالقرار قبلها إلا ( جراهام ) .. ( جراهام ) الوفي الذي اوصيته بألا يندهش ولا ينفعل ولا يتكر القصر مهما حدث ومهما رأى .. كما اوصيته بأن يتجاهل الهاتف تماما حتى لا يسأله احد عن سبب رحيلي .. إن الطفلة مسئوليته بالكامل .. واخذت معي نسخة من الأوراق .. لكني اولا وقبل ان ارحل قمت بعملين كما تعرف :
اولا قمت بعمل تزوير دقيق لتلك التعاويذ القديمة .. بدلت كلمة من هنا وهناك وغيرت فقرات .. كل هذا بدقة متناهية مستعينة بالمجهر احيانا .. وكان تقديري ان هذا احتياط مهم لو صح توقعي .. ولم تكن ( رونيل ) تحفظ التعاويذ كما يجب .. سوف تفتش عن الاوراق في مكتبي وسوف تجدها ."
قلت لها وانا ارشف القهوة :
- " هذا اقسى مقلب شربته في حياتها .."
اردفت ( ماجي ) دون ان تبتسم :
ـ " العمل الثاني هو اني شرحت تزويري للاوراق في تلك الرسالة التي تركتها لك خلف إطار الصورة على مكتبي .. كان تقديري انك اذكى من ان تعتبر الصورة مجرد لمسة
رومانسية بلهاء .."
قلت مرددا كلمات رسالتها ولاتي لم انسها قط :
ـ " الاعز ( رفعت ) .. لو حدث وجئت هنا فاحرص على لا تمس الاوراق على المكتب .. لقد قمت بتزير الوثائق القوطية القديمة .. واريد ان تجدها ( رونيل ) كن حذرا ( ماجي ).."
ـ " وبعد هذا طلبت عون ( إيوان فريزر ) ..
ابتسم الرجل في ثقة وبصق على الارض ليبين كم هو محترف .. فأردفت :
ـ " لم اكن لأستطيع الوصول الى هذه الجيرة وحدي .. ما كنت لأقدر عل عمل اي شيء من دونه وهو الرجل الشديد المراس الذي يعرف كيف يحقق ما يريده .. وكانت فكرتي هي ان نتمكن من تدمير الساحر قبل ان تحاول ( رونيل ) تحريره .. وطبعا كنا على الجزيرة في تلك الليلة حين راينا حشدا من ثلاثة انت منهم ، ينزلون على الشاطئ .. قررنا ان ننتظر ونرى .. عرفنا ان هناك عددا من الرجال لا يعلم إلا الله كيف جاءوا .. ما كنا لنقدر على مواجهة هؤلاء جميعا .."
قال ( فريزر ) كاشفا عن اسنانه الملوثة بالطباق :
ـ" اللعبة الطريفة هنا هي ان ( ماجي ) قد بدلت التعويذة بما يناسب الغرض الجديد .. إن ما قالته ( رونيل ) .. دون ان تدري ما تقول ـ كان استدعاء لقوة ( كاتيوم ) .. لقبضته التي بدأت تتراخى . إنها تنذره من محاولة ( جيلبرت ) الهرب .. وهكذا تحرر ( جيلبرت ) جزئيا فقط ليعود الى سجنه من جديد .."
ثم فتش في علبة التبغ التي يحملها فوجدها فارغة :
ـ " اللعنة ! إن علب التبغ هنا من اردأ الأنواع .. لن تجد اسوأ من هذا في أقذر جحر في ( غينيا ) .. لكني مضطر .."
ونهض مبتعدا .
قلت لـ ( ماجي ) وانا اراقبه وهو يمشي مشيته المعتادة ، في تحد وعدوانية كأنه خرتيت يطلب القتال :
ـ " الم تجدي خيرا من هذا الحيوان ليساعدك ؟"
قالت في خبث :
ـ " نعم .. لم اجد .. هناك رجال يصلحون للحوار الهادئ حول كتاب ، ورجال يصلحون لاقتحام الكهوف التي يمارس فيها السحرة طقوسهم .. إن ( إيوان ) كريم النفس إذ قبل ان يساعدني في عمل كهذا بداعي الصداقة .. بداعي قصة مشتركة لم يعد لها وجود الآن .. ثم إنك لا تملك ترف الغيرة .. لقد تزوجت وانجبت خلال شهرين من غيابي .."
قلت وانا اتامل القدح فارغا :
ـ " وصرت ارمل وفقدت ابني .. كل هذا في شهرين .."
ربتت على يدي وقالت :
ـ " وانا فقدت الطفلة التي كنت اهيم بها حبا . هي لم تتزوجك لجمال منظرك .. كانت تريد احمق يعطيها طفلا .. والهدف هو ان يسيل دم الاب والابن على المذبح ..وابنك لم يكن ابنك لكنه ابنها لو كنت تفهم ما اعنيه .. انت كنت في غيبوبة غارقا في رحيق الحب ، ولست مسئولا عن اي من قراراتك .. ولو كنت مكانك لحذفت هذا الجزء نهائيا من سجل ذكرياتي . . انت لم تتزوج ولم ترزق بطفل .."
قلت في شرود :
ـ ترى اين هو الآن وماذا يفعل ؟ "
ـ " لن تجد إجابة .. ربما رحل مع هؤلاء القوم الفئران وربما هو سجين مع ( جيلبرت ) . لن تعرف ابدا .. فقط تذكر .. هو ليس ابنك لمجرد انه يحمل نصف عدد كروموزوماتك .. إنه ابنها هي . بالكامل .."
ـ " وهل يتحرر ( جيلبرت ) يوما ما ؟ "
ـ " لا اعرف .. لكن هذا لن يحدث في حياتنا على الارجح .. "
ـ " وهل تعود ( رونيل ) ؟"
ـ " لا اعرف .. لكنها للمرة الاولى قد خدعت بحق .. ولم تكن لها الضحكة الاخيرة .. اعتقد انها لن تعود ابدا .."
وساد صمت طويل ن وتمنينا معا الا نراها مرة اخرى في اية صورة كانت ...
***
الآن اعود الى مصر ..
تفهمون الآن انني اكذب عليكم حين قلت أنني لم اتزوج ولم انجب . لا اعتبر نفسي قد فعلت .. ( رونيل ) .. هي التي فعلت ..
هذه الايام العابرة القاسية قد انقضت سريعا ، ولم تترك أثرا في حياتي .. ولا اعقد انه سيكون لها اثر ..
إلا ان حياتي ذاتها لم تتبدل كثيرا .
كان المتحف الاسود ينتظرني .. وتذكرة زيارته باهظة الثمن قد تعني الحياة نفسها ..
ولكن هذه قصة أخرى ..
(
تمت )