4- فيم تفكر يا بروفسور؟
من البداية كانت الرحلة غير موفقة ..
هذا طبعا برغم جو الربيع الذي ينعش النفس والذي اعلن سلطانه على كل شيء .. لم احتج الى خيال كبير كي اراه بعباءته الأنيقة التي ازدانت بالورود واليعاسيب والفراش يمشي عازفا على ناي بين المروج .. الربيع هنا يختلف بالتأكيد عن ربيع مصر حيث الرمد الصديدي وعواصف الخماسين .. من العجيب ان اجمل فصول مصر هو الشتاء ..
ما إن نزلت من سيارة الأجرة ، ووقفت امام الباب بحقائبي ، حتى شعرت بأن المكان لا يرحب بي كما اعتدت .. تذكرت ايام الشباب في هذا البيت الشامخ .. والاستاذ العظيم ( جيمس ماكيلوب ) الذي حلمت ان اكون مثله يوما ما ، والذي على قدر ما اعلم هو آخر طبيب ينتمي لجيل ( ليبمان Libman ) و ( اوسلر Osler ) و هالستد Halsted ) .. وكل اولئك العظام الذين تراهم في بداية أي مرجع طبي كبير .. هؤلاء السادة بحق .. تصور أن ( هالستد ) الذي كان يعيش في ( نيويورك ) كان يكوي قمصانه في فرنسا ! فهو لم يكن بحاجة الى الطب كي يكسب عيشه ، وإنما اهتم به كفن راق نبيل ..
لكم حلمت بان ارى رأسي الاصلع القبيح بين تلك الصور .. حسن .. لم يتحقق هذا ولن يتحقق ، وإن كنت ازعم انني حصلت على مكانة بين بين .. لا هي بالرفيعة ولا هي بالوضيعة ..
وفي الوقت ذاته كان السير ( ماكيلوب ) يعني لي اشياء اخرى .. يعني ابنته الرقيقة الدقيقة الأنيقة ( ماجي ) التي تمشي على العشب دون ان تثني منه عودا واحدا ، والتي قال الجميع إن القصة محتومة .. هذان سيتزوجان يوما ما .. طبعا لم يحدث هذا ومن الواضح انه لن يحدث ابدا .. لكني لا اعرف مخلوقين متباعدين على وجه الارض ، يحملان لبعضهما من الحب والتقدير قدر ما نحمله لبعضنا .. وكما تقول ( ماجي ) : لعل السبب الاهم في هذا اننا متباعدان !
فتح لي الباب رئيس الخدم الراقي جدا الذي كان يثير هلعي ( جراهام ) .. والذي يتكلم الانجليزية الاوكسفوردية بتلك الطريقة الملتفة الجديرة بالخواجة ( تشرشل ) :
ـ " لو سمح لي سيدي ، فإنني سأسمح لنفسي بالقول : إن جه سيدي ينم عن أن هواء المرتفعات الاسكتلندية يناسب صحة سيدي لو كان لي ان اقول هذا .."
هكذا وكان بوسعه ان يقول : تبدو لي بصحة طيبة .. وانتهى الامر ..
المهم انه تفح الباب لي ، ولم يبدو مسرورا كثيرا بقدومي .. صحيح أنني ابرقت لهم بموعد وصولي ،، ولم اتوقع طبعا ان تنتظرني فرقة موسيقا القرب عند مدخل البلدة ، لكني توقعت ان يكون اكثر ترحابا ..
قلت له وانا ادخل الرواق الكبير :
ـ " أين ما .. اين الآنسة ( ماكيلوب ) ؟"
قال وهو يغلق الباب :
ـ " إن الآنسة ليست هنا .. لقد ارتحلت الى ( ألمانيا ) من اسبوع يا سيدي .. وحسبت انها أبلغتك بذلك .."
هوى علي هاذ الخبر كأنه لسان من البرق .. السؤال هنا هو ..
***
ماذا يحدث هنا ؟ في كل لحظة ادرك ان هناك خطأ ما وان الامور لا تسير على ما يرام ..
إن نوافذ القصر كلها موصدة ، وقد اسدلت الستائر وتم تثبيتها بشريط لاصق كي لا تفارق النوافذ ابدا .. كأن النور هو ضيف غير مرغوب فيه هنا ..
دعك بالطبع من رائحة المكان الغريبة .. عطنة قليلا توحي بالقدم وليس القذارة ..
لقد شممت هذه الرائحة من قبل ، ولكن اين ؟ اين ؟
***
ـ " ما الذي تفعله في المانيا ؟ هي لا تعرف احدا هناك .."
هز رأسه بمعنى انه لا يجد ما يقول ، لكني فطنت الى هزال منطقي .. هل انا اعرف كل من تعرفه ( ماجي )؟
من حقها تماما ان تذهب الى ( تمبكتو ) لو ارادت فأنا لست وصيا عليها ، ولكن هذا الرحيل دون مبرر واضح يثير ريبتي .. خاصة في الظروف التي ذكرتها ..
لا يحتاج بالامر الى ان تكون ( شيرلوك هولمز ) كي تعرف ان هذا الرحيل له علاقة بقصة ( رونيل ) ..
لو كنت اثق بـ ( جراهام ) اقل لقلت إنه يكذب وإنه تخلص من ( ماجي ) .. لكن هذا طبعا كلام فارغ ، لو تذكرنا ان الرجل هو الاخير من سلالة ظلت تعني بهذا القصر العتيق عبد اجيال عدة ..
في النهاية عدت الى وعيي بطء ، فسألته :
ـ" والطفلة ؟"
ـ " الآنسة الصغيرة مع الآنسة ( ماكيلوب ) في المانيا .."
الآن اسقط في يدي .. ماذا بوسعي ان افعل ؟ اين اقضي زيارتي ؟ اين ؟
***
في دارنا بـ ( كفر بدر ) .. كانت هناك حظيرة صغيرة خلف الدار .. وكانت كأية حظيرة مخصصة للمواشي ، لكننا كنا افقر من الفقر في تلك الفترة ، لهذا ظلت حظيرتنا خالية مغلقة تؤمها الفئران .. هذه الرائحة هي رائحة الفئران في مكان مغلق ..
ولكن كيف تنبعث رائحة الفران في هذا القصر المعتنى به جيدا ؟ دعك من ان ( ماجي ) قالت إنها لم تجد فئران بشهادة الأخ ( طارد الفئران ) نفسه ..
هذا البيت تسيطر عليه لعنة مقبضة كئيبة ، ومن حسن الحظ ان ( إليانور ) ليست هنا .. ربما تخلت قبضتها قليلا عن هذا البيت الذي احبه .. ولكن معنى هذا انها الآن تتسلى بــ ( ماجي ) ..
ترى ماذا يحدث في المانيا الآن ؟ هذا بالطبع لو افترضنا انها في ألمانيا فعلا .. اعتقد انني ساجد مذكرة تشرح كل شيء في ..
***
ـ " في الغرفة التي أعدتها لك الآنسة .."
قالها الرجل في حيادية كأنما سمع ما يدور بذهني .. انا لم آت كل هذه المسافة من مصر كي يقال لي إنه لا حد في الدار من ثم احمل حقائبي واعود ..
على الاقل رتبت ( ماجي ) لإقامتي هنا .. من يدري ؟ ربما وجدت مذكرة ما تشرح كل شيء .. ربما هي عائدة سريعا ..
وهكذا تم تريب إقامتي .. عرفت انه هنا مع مسز ( أوركهارت ) ليس هناك سواهما الآن وربما طاهية شابة ، بعد ما كان البيت يعج بالخدم .. ليس الأمر عن فاقة لان ( ماجي ) وارثة لثروة لا بأس بها ، ولكن لأنها لا تستقبل احدا ، ولم تعد بحاجة الى كل هذا العدد من الخدم .. هذا البيت قد شهد اياما يستقبل فيها عشرين استاذا مرموقا او فنانا شهيرا او سياسيا ناجحا .. ابوها كان يحب ثاني اوكسيد الكربون ... بينما ( ماجي ) مثلي تعشق الأكسجين ومساحات الفراغ الهائلة ..
اقتادني الرجل بذات الكبرياء عبر رواق طويل تقف الدروع إياها على جانبية .. كلها تقول لي : انتظر حى المساء .. سوف نمرح كثيرا جدا ..
كأن هذه الدروع الكاملة ذات المنظر البشري خلقت كي تمشي في الرواق ليلا .. بعضها يحمل سيفا وبعضها يطوح تلك الكرة المعدنية المعلقة من سلسلة .. انا لم امر في حياتي بموقف مماثل ، لكن الفولكلور الاسكتلندي قد جعل هذا شيئا روتينيا الى حد ان المرء سيشعر بخيبة امل لو لم يحدث ..
أخيرا يفتح لي باب الحجرة .. كنت اود ان اقول لك انها حجرة ذات طابع قوطي مفزع ، لكنها غرفة عصرية جدا ورحبة .. جدران وردية حالمة وزهور وملاءات تناسب خدر عذراء وليس ( رفعت إسماعيل ) ..
يجب ان اقول إنها كانت تطل على بحيرة بعيدة وسط المرتفعات .. لن انسى هذه البحيرة ما حييت .. ( لوخ نس Loch Ness ) .. ربما كان الأخ ( نيسي ) ـ صديقي القديم ـ يسبح الآن تحت المياه باحثا عن شخص يثير رعبه .. لكن الحقيقة أن البشر يثيرون رعبه اكثر مما يثير هو رعبهم .. هل تذكرتني ( ماجي ) حين اختارت هذه الغرفة بالذات ؟ يدهشني كم ان الحاضر الاليم يتحول الى ذكرى ذات شجون بمجرد ان نبتعد عنه ..
كان اول ما بحثت عنه حين دخلت هو تلك الرسالة .. المظروف المغلق على الوسادة او على كومود .. لا شيء .. هي لم تترك لي أي تفسير من أي نوع ..
وشعرت بخيبة أمل . .هناك فصل كامل من الفيلم لم يعرضه عامل العرض النصاب .. لكني سأحاول استنتاج ما حدث .. لقد جربت هذا الموقف مرارا في سينما ( ... ) التي تعرض ثلاثة أفلام معا .. لهذا كان عامل العرض يحذف فصلين او ثلاثة من كل فيلم تاركا الامر لذكائك الخاص .. لقد اختفى البطل الفلاني .. البطلة تحمل كدمة على وجهها فلا بد ان احدا ضربها .. إذن البطل الفلاني ضربها واختفى ..
ساعرف كل شيء .. ولكن بعدما اظفر ببعض النوم ووجبة ساخنة .. إن حبيبات ( نيسل ) في خلايا مخي قد نضبت ، واحتاج الى وقت اكثر كي تعيد تجميع نفسها من جديد ..
- " العشاء في التاسعة يا سيدي .."
سرني هذا .. الرجل يعرف ما افكر فيه بشكل يثير دهشتي ..
ـ " ستكون السيدة موجودة !"
سيدة ؟ هل هناك سيدات ؟
رسمت علامتي استفهام بحاجبي المرفوعين ، فقال :
ـ " السيدة ( جيلبرت ) .. إنها ضيف فوق العادة مثلك . واعتقد ان سيدي سيجد في صحبتها متعة لانها شديدة الذكاء .."
ثم اصرف بينما جلست انا افكر في معنى هذا .. من هي ؟ لا اعرف احدا بهذا الاسم بين صديقات ( ماجي ) .. لكن يمكن بسهولة ان اعرف انها مرتبطة بالقصة .. رحلة مفاجئة الى المانيا .. سيدة ( جيلبرت ) .. كل هذه حبات في مسبحة واحدة .. ولكن ماذا ؟
ساعرف . .ساعرف ..
***
اخيرا اتجهت الى مائدة العشاء ..
هذا المشهد الرهيب الذي كان يثير رعبي .. فقط في الافلام السينمائية يمكن ان تجلس في قاعة طعام مثل هذه .. لكن الجو كان باردا ثقيلا .. لا دعابات وما من حديث دافئ حار ..
ظهرت فتاة نحيلة ترتدي المريولة ، وصبت في طبقي بعض الحساء على حين وقف ( جراهام ) يراقب المشهد .. اكره هذا لانني اشعر بان الاكل يهبط في احشائي بالسم ..
هنا شعرت بوجود غريب ..
رفعت راسي فرأيت امرأة بارعة الحسن .. بارعة الحسن في مفهوم البشر الآخرين .. لكنك لن تستطيع ان تبيعها إياي مقابل حزمة الكرفس .. إنه جمال بارد ثقيل سمج .. لا تحب ان تراه ولا تشعر براحة لدنوك منه ..
كانت ترتدي ثياب السهرة وقد تحلت بمجوهرات لا افهم فيها ،، لكن سعرها بالتأكيد لن يقل عن اربعين جنيها ونصف .. نعم .. يبدو لي هذا الرقم معقولا ..
( اين رايت هذا الوجه من قبل ؟ هذا الشعور يضايقني )
ضحكت كاشفة عن اسنان بيضاء هي نوع من الاحجار الثمينة بدورها ، وقالت وهي تمد يدها برشاقة :
ـ " البروفسور ( إسماعيل )؟"
لست بهذه الثقافة لكني ازعم انني اعرف اللهجة الأيرلندية حين اسمعها .. إن من يعرف الإنجليزية جيدا ويعجز عن تبين اللهجة الايرلندية لهو في مشكلة .. كل الحروف المتحركة تنطلق خطأ وبطلاقة وحماسة مشتعلتين ..
بفم مليء قلت :
ـ " هم م م !"
مددت يدي وانا اتأهب للنهوض ولمست كفها باصبع واحد ، ثم عدت التهم طعامي ..
ـ " انا ( جلوريا جيلبرت ) حدثتني ( ماجي ) كثيرا عنك .."
ابتلعت ما في فمي بسرعة وسالتها :
ـ " إذن انت تعرفين اين ذهبت .. لا اعني اين ذهبت بالضبط .. بل أعني لماذا ذهبت ؟"
ابتسمت بغموض وقالت :
ـ " أوه .. انت تسال اسئلة كثيرة يا بروفسور ( إسماعيل ) .."
هنا قام ( جراهام ) بما كان يجب ان اقوم به ، فاتجه في رشاقة الى مقعد مجاور لي وجذبه ليساعدها على الجلوس .. فقالت وهي تجلس برشاقة :
ـ " شكرا ايها العزيز ( جراهام ) .. انت لطيف جدا .."
وصبت لها الفتاة بعض الحساء ، فراحت تشرب برشاقة من دون الـ ( سليرب سليرب ) التي اقوم بها .. لقد قمت بتصنيفها على الفور .. إنها ( دليلة ) أخرى أو ( جامعة رجال ) .. مهمتها ان يسقط في حبالها كل من تلقاه .. بعد هذا يتم التصنيف ، كما يفعل الاخ ( كالوس لينيوس Linnaeus ) بمجموعة من الخنافس .. هذا لا لزوم له .. هذا يصلح نوعا.. هذا احمق ويمكن خداعه بسهولة . هذا رائع ويجب ابقاءه بلا فكاك ..
كنت انا خارج القوائم كلها .. وحرصت على ان اترك في نفسها انطباعا واحدا : هي لم تترك لدي أي انطباع برغم هذا لاداء المسرحي الذي تقوم به ..
( ما سر حرف الـ R المعلق في تلك القلادة ؟ الم تقل إن اسمها جلوريا ؟؟)
سالتها وانا اقضم بعض الخبز :
ـ " من انت ؟ ( ماجي ) لم تحدثني عنك قط .."
ـ " نحن صديقتان حميمتان .. وقد تواريت من عالمها من زمن .. كنت في الولايات المتحدة .. لكني عدت مؤخرا .. لم استطع الذهاب معها ، لذا عرضت على ان اقيم هنا حتى تعود .. واخبرتني ان على ان اعني بك .. كما .."
واتسعت ابتسامتها اكثر ولمست عقدها بيدها واردفت :
ـ " كما تعني هي بك .."
سرت قشعريرة في ظهري لهذا التلميح .. هل و إغراء ؟ لا ادري .. لقد وصل الى اجهزة التحليل المعقدة في رأسي على صورة تهديد .. تهديد بماذا ؟ لا اعرف .. لكنه أثار ذعري .. لو ان قاتلا من مطاريد الجبل قال لي وهو يخرج بندقيته ( المقروطة ) من جيبه : سنعني بك .. لما اصابني كل هذا الذعر الي اصابني من كلامها ..
رحت اقطع اللحم بالسكين ، بينما انا ارتب افكاري ..
كنت قد رايت الكثير في حياتي لهذا صرت اعرف هذه القصص حين اراها ..
ساختصر الوقت والجهد : هذه هي ( رونيل ) السوداء على الارجح .. نعم .. لا داعي لإضاعة الوقت في الاستنتاجات .. ( ماجي ) تختفي هذه الظروف والقصر خال .. بينما تظهر امرأة اقل ما نقول عنها إنها خطرة .. امرأة يبدو انها تعتبر الدار دارها وتسيطر على كل شيء .. المنطقي هنا ان هذه ( رونيل ) السوداء أو ـ لنقل ـ إمرأة على علاقة وثيقة بها .. دعك من انني سمعت هذا الصوت الناضج الخشن من قبل .. ودعك من ان هذا تفسير مريح لحرف R المعلق في عنقها .. هذا تلميح ( شبحي ) خفيف اعتدته من قبل ..
لقد شعرت معها بنفس ما شعرت به حين كنت اكلم تلك الكاتبة ( لورين ) جوار المقبرة .. الفارق الوحيد هو ان ( لورين ) كانت بريئة تفتعل الغموض .. فماذا عنك يا اختاه ؟
ولكن اين ( ماجي ) والطفلة من هذا كله ؟
يبدو انها تقرأ افكاري بشكل ما لأنها قالت في ثبات وهي تنظر لوجهي :
ـ " فيم تفكر يا بروفسور ؟"