9- أين هم ..
كان الفريق الذي ضمني الرجل إليه مكلفا بتفقد كهف عتيق على حدود البلدة ..
وقررت في هذه المرة أن آخذ ( ماجي ) معي في كل خطوة .. لن أمارس من جديد سيناريو ( لقد ـ نسينا ـ الآخرين ـ وانشغلنا ـ بوهم ..
عند الظهيرة وصلنا هناك .. ظهيرة ( ايرلندا ) الباردة الشبيهة بالغروب عندنا .. وكان الكهف يقع فيما بعد جغرافيا جزءا من مرتفعات ( إريجال ) .. يرتفع عن الارض حوالي سبعة امتار ، وهو ما يجعله من الكهوف المرعبة بالنسبة لي .. كانوا قد وضعوا حبالا تغلق مدخله كي لا يدخله الاطفال ، وبدا لنا ان هذه الحبال لم تمس ..
في الداخل على ضوء الكشافات كان المشهد مروعا .. الرائحة عطنة اقرب الى الماء الآسن .. وكان الماء بالفعل يتساقط من هوابط السقف ..
هناك وطاويط انتظرت لحظة ثم هرعت تفر من المكان وقد تضايقت من هذا الإزعاج ..
شعرت بيد ( ماجي ) النحيلة تضغط على يدي فضغطت أكثر ، وإن كنت اعرف جيدا انه لا يوجد شيء مقلق هنا .. ليس الأمر بهذه السهولة .. ولو قابلن السحرة فلن يكون هذا وسط كل هؤلاء الرجال الأشداء .. حين تقابل السحرة سيكون هذا بشروطهم في أسوأ ظروف ممكنة .. وأنت وحدك تماما اعزل كطفل رضيع ..
يجب ان أقول هنا إن ( ماجي ) _ وهذا من حقها _ تغيرت تماما .. لم تعد تملك أي روح دعابة .. صارت عصبية متوترة مكتئبة كالبومة .. إنها تحب الطفلة حقا ..
رحنا نفتش في الكهف الذي كان عميقا .. لكن لم يكن هناك شيء .. وضايقني أنهم يضيعون وقتا أكثر من اللازم في إثبات حقيقة واضحة من اللحظة الأولى ..
في النهاية قال قائدنا لاهثا :
ـ " لا احتمالات للخطأ .. هؤلاء القوم ليسوا هنا .."
ـ " أخيرا !"
وقالت ( ماجي ) وهي تحكم إغلاق سترتها على رأسه ا:
ـ " لنعد إلى الخان .. فلعل الآخرين ظفروا بحظ أفضل .."
***
يمكن دون جهد كبير ان تصف اجتماعنا في الخان مرهقين ، تجمدت عروقنا ، بردا ، بأنه ( مجمع الخائبين ) .. وكان الخان قد تحول الى غرفة عمليات بالفعل ، والنسوة رحن يعددن القهوة الساخنة للرجال العائدين الذين لم يجدوا شيئا .. كما شممت رائحة تدل على ان هناك حساء يتم إعداده .. لو ان المسز ( بانكروفت ) ما زالت حية فلا بد انها كانت ستموت لو رأت ما حل بالخان الأنيق الجميل ..
لقد بدا الأمر كأن عشيرة من ثيران المسك اتخذت سكناها هنا .. الأحذية على المناضد والدخان في الهواء .. رماد التبغ على البساط والعلب الفارغة في كل مكان .. هناك من يبصقون على الأرض لكنهم قلة لحسن الحظ ..
لكنني كنت سعيدا .. برغم كل شيء .. كنت سعيدا ..
انا وانت هنا .. في هذا الموضع الدافئ بينما العاصفة تزأر بالخارج ..انا وانت هنا نواجه نفس الخطر ونفكر في الأشياء ذاتها .. ما يهددك يهددني وما يطمئنك يطمئنني .. فلتزأر العاصفة .. فلتزأر العاصفة ..
إن الليل يقترب بسرعة دون نتائج ..
لم نجد أثرا للطفلة ولا الفتى ( أونيل ) ولا العجوز ( بانكروفت ) ولا الفتاة ( لورين ) ..
قال الرجل الذي يعرف ما يجب عمله :
ـ " لماذا لم يصل رجال البحث الجنائي هؤلاء ؟ إنهم اقدر على حل كل هذه الالغاز .. "
ثم نظر حوله وهتف :
ـ " هل الجميع هنا ؟؟؟ لا نريد ان نترك خلفنا أحدا .."
تقريبا كانت البلدة كلها هنا .. لا تنس ان هذه البلدان قد يكون تعداد سكانها مائتين او ثلاثمائة .. لسنا في مصر هنا حيث يبلغ تعداد مدينة واحدة دولة أوروبية بأكلمها .. لكن بالتأكيد هناك مواطن واحد قد نسيناه ، وهذا الواحد ميت الآن بطريقة بشعة ..
ساد الصمت ورحنا نصغي لصوت الريح بالخارج .. والنار في المدفأة التي اشعلتها النسوة .. وجاءت فتاة شقراء متجهمة الوجه كبيرة اليدين تحمل دلوا فيه مغرفة .. وصبت لي بعض الحساء الساخن في طبق ووضعته امامي ، ثم تركتني لتفعل الشيء ذاته مع ( ماجي ) .. ذكرني مظهرها بساعة توزيع ( اليمك ) في السجون .. نفس الدلو واقسم على هذا .. صرنا كأننا في معسكرات الإيواء بعد الكوارث .. اما عن الحساء نفسه فقد اعتدت على حساء اليورانيوم في كل اوروبا فلم يعد يثير اشمئزازي .. لكن ماذا عن حساء الأحذية ؟
راحت ( ماجي ) ترشف الحساء شاردة الذهن .. فجأة هتفت وقد تذكرت شيئا :
ـ " لحظة .. هناك كهف في المقابر .. قربها لا ادري الكهف الذي وجدوا فيه حاجيات تلك الفتاة ( لورين السوداء ) كما حكى لنا السيد ( بارنيل ) هل رايتهم هذا الكهف ؟"
قال الرجل الذي يعرف ما ينبغي عمله :
ـ " لا احد يذكر مكان هذا الكهف .. على قدر علمي اندثر منذ زمن .."
ـ " وعلى قدر علمي الكهوف لا تندثر بل تتوارى فتحاتها .. البلدة لم تشهد زلازل قط .."
تبادل رجلان النظرات ، ثم قال احدهما وهو يضع طبق الحساء جانبا :
ـ " ربما يعرف ( إدوود ) شيئا عن هذا ؟"
قال الرجل الذي يعرف ما يجب عمله :
ـ " ليكن .. ( أونولان ) و ( رايان ) و ( أوليفر ) .. إذهبوا لتروا ( إدوود ) لو كان ما زال حيا .. خذ معك ما يلزم يا ( رايان ) .."
هنا وضعت حسائي بدوري .. واشرت لـ ( ماجي ) ان تنهض معي .. هذه المرة سيكون هذا الكهف مهما بحق .. لو كان له وجود ..
ـ " خذوا المشاعل .. ولا بأس من السلاح .."
وارتدينا السترات الثقيلة والقفازات .. هذه المرة لم يعد من مجال للخجل ، لذا وضعت على رأسي القلنسوة الصوفية التي كانت عندي ولم أجسر على ارتدائها قط .. القلنسوة ذات أذني الحمار التي تذكرك بالشيالين في شونة غلال ( أبو كبير ) .. إنها تجلب الكثير من الدفء ، لكنها لا تترك لك شيئا من الوقار او عزة النفس .. رأتها ( ماجي ) فلم تملك برغم اكتئابها إلا ان تقول :
ـ " باتمــان !"
كان متاع الرجل حقيبة حملها ( رايان ) على ظهره ، وغادرنا الخان ، وكانت الساعة الثامنة مساء ، لكن كل شيء يوحي بأنها الساعة الخمسون مساء ..
وركبنا سيارة عتيقة اتجهت بنا الى المقابر عبر شوارع باردة لكنها جافة لحسن الحظ ..
المقابر جاثمة في الظلام كالكابوس ، ومن بعيد شبح الكنيسة .. لا يوجد قمر هذه المرة .. لكن الأفق يتألق بضوء غريب كأنه النذير .. اعتقد انها ظاهرة فيزيائية في شمال أوروبا كثيرة كالذباب .. ليس الشفق القطبي أغربها ..
هناك اتجه احدنا الى الغرفة التي يقم فيها حارس المقابر وقرع الباب ..كنت اعرف يقينا اننا سنجده قد مات .. لماذا ؟؟ لأنني اعرف ما يكفي من هذه القصص ..
لكن ـ وهذا غريب ـ الرجل فتح الباب .. يبدو أنني صرت اثق بنفسي اكثر من اللازم هذه الايام .. هل تذكرون مراحل قيادة السيارات الأربع ؟ المرحلة الأولى انت اخرق ترتكب الكثير من الاخطاء .. المرحلة الثانية لا ترتكب اخطاء لكنك لا تستطيع تلافي اخطاء الغير .. ثم تتعلم كيف تتلافى اخطاء الغير كذلك .. المرحلة الرابعة انت واثق بنفسك تعتقد انك افضل من يقود سيارة على وجه الارض .. عندئذ .. طاخ !! أي .. إن اكثر الاخطاء ـ في كل شيء ـ تحدث من معدومي الخبرة ومن الواثقين بأنفسهم اكثر من اللازم !
كان ( إدوود ) يترنح .. ليس هذا جديدا ..وقد اصغى الى سؤالنا لبرهة ثم قال :
ـ " كهف ( رونيل السوداء ) ؟ هناك شيء كهذا لكن المكان خطر .. لا أنصحكم بان .."
ـ " دع نصائحك وقدنا اليه .."
هكذا مشى الرجل ونحن خلفه بين شواهد المقبرة .. مكان رهيب فعلا ويثير الخيال .. تعرفون الملصق الشهير ليد تخرج من القبر لتمسك بساق المار فوقها ؟ حسن .. لم تبد هذه الفكرة بذات الغرابة وقتها ..
اخيرا وصلنا الى أطراف المقبرة حيث السهل الخالي المقفر ..
كان هناك تل صغير ارتفاعه خمسة امتار .. وكانت هناك شجيرات تكسو اسفله ..
ـ " هنا بالضبط .."
ـ " كيف ؟"
ـ " ليس هذ امن اختراعي .. كنت منذ طفولتي اعرف انه هنا ، لكنني لم اضطر لاستكشافه قط .. إنه مجرد تجويف في مرتفع لا شيء فيه يثير .."
ومد يده وبدأ يزيح الشجيرات ـ التي لم تكن كلها ذات جذور في الارض ـ على ضوء الكشاف .. بالفعل كانت هناك فتحة في الصخر .. هنا هتفت انا غير فاهم :
ـ " هذا يعني ان هذا الكهف خال .. ما كان احدهم ليغطيه بالشجيرات بعد ان يدخل .."
قالت ( ماجي ) وهي تسلط الكشاف على الأرض :
ـ " لا يا ( رفعت ) واضح انهم كثير .. هناك من دخل ، ومن بقي بالخارج ليغطي المدخل بالشجيرات المتشابكة .."
كانت آثار الاقدام على الأرض تحكي قصة واضحة ..
ـ " هل ندخل ؟"
هتفت ( ماجي ) في عصبية :
ـ " هل تمزح ؟ لو كان هناك احتمال واحد في المائة أن ( اليانور ) هنا فلسوف ندخل .."
كان معنا ثلاثة رجال أشداء .. اعتقد ان الواحد منهم يستطيع تهشيم اعناق اربع ساحرات .. وكان احدهم مسلحا ببندقية .. ثم إنني لست عاجزا .. احيانا استطيع توجيه ركلات قوية إلى قصبات الأرجل ، بشرط ان تعطيني المساحة الزمنية والمكانية .. لا ارى ما يمنع من ان نجرب الآن ..
صاح حارس المقابر وهو يتراجع للوراء :
ـ " اما بعد هذا فلا اعرف .. انا لم اعد ذا نفع لكم اسمحوا لي بالانصراف .."
ثم انطلق يركض بين الشواهد .. رحنا نرمقه ونتمنى أن يسقط فيدق عنقه ..
وعلى ضوء كشاف وكلوب ، رحنا نعالج الشجيرات حتى كشفناها كلها .. بالفعل كان أكثرها مجرد تعمية ( كاموفلاج ) كالتي يستعملونها في الجيش ..
اخيرا بدا لنا مدخل الكهف .. كأنما هو فم الموت الفاغر ..
واخذنا شهيقا عميقا ثم دخلنا ..