- كشف الأوراق ....
أما عن وفاة السيد ( مليجان ) فالأمر يحتاج الى وقفة ما ..
كنت قد انتهيت من التحقيقات الطويلة التي لا تقضي الى شيء والتي يسكبها رجل الشرطة ( بيرك ) على راسي ورأس ( ماجي ) .. كلها اسئلة غبية كان يرى رجال الشرطة يسألونها في الأفلام لو كان يرى بعضها .. اين كنت عندما قتل ( كيليبارون )؟ ومتى قتل ( كيليبارون ) يا سيد ؟ ماذا ؟ لا اعرف .. ظننتك انت تعرف ..
وهكذا .. الكثير من الهراء ، حتى إنني شعرت بحاجة ماسة الى استنشاق الهواء النقي ..
غادرت و ( ماجي ) الخان والطفلة تمسك بيدي . الحقيقة المخجلة هنا هي اننا صرنا صديقين .. الحقيقة الأكثر إثارة للخجل أنني صرت مرتبطا بها بشدة .. إنها طفل مسالم لطيف أقرب الى دمية جميلة ..
مشيت و (ماجي ) في الممر الذي يقود الى الشاعر الرئيسي ، وكنا صامتين .. لكنني كنت املك الف تعليق على ما يحدث .. لكن السؤال الاهم هو ( لماذا الآن بالذات )؟
قالت ( ماجي ) وهي تعقد ذراعيها على صدرها في أثناء المشي :
ـ " لا أعرف .. انا لا اثق كثيرا بموضوع النحس هذا .. لقد بدأ الشيء مع قدوم الغرباء .. انا اعرفك واعرف نفسي وأعرف اننا لسنا من الطراز الذي يلوي عنق الشيوخ للخف .. هنا يبرز بقوة اسم ( لورين بالك ) هذه . هذه الفتاة لا تريحني على الإطلاق .. ربما لا ترى الرأي ذاته ، لكنه حاسة الأنثى لا تخطئ .."
قتل في ضيق :
ـ " انا ارى الشيء ذاته .. هناك إشاعة مغرضة تملأ البلدة أنها فاتنة ..حسن .. انا لا ارى هذا .."
ـ " لكنك لا تنكر انها ساحرة ؟"
ـ " ساحرة .. نعم .. بالمفهوم المجازي .. و.. "
ثم تلاقت عينانا .. لماذا ن فكر في الشيء ذاته في نفس اللحظة؟
كانت هناك سيارة واقفة الى جانب الطريق في هذا الموضع المهجور نسبيا .. سيارة صغيرة بريطانية جدا .. ولسبب ما لم تبد لنا وقفتها مريحة هنالك في الظلام الذي ملأ المكان ..
قالت لي وهي مستمرة في المشي :
ـ " لو فرضنا جدلا انها هي .. هل تتوقع انها تجيد لي اعناق الناس ؟"
قلت في شرود:
ـ " القصة غير واضحة .. لا استطيع ان اراها قاتلة .. ولاي غرض ؟"
هنا كنا قد وصلنا قرب السيارة ..
ألقيت نظرة عابرة الى داخلها ، وفي اللحظة التالية وجدت أنني على الأرض والم حاد يمزق خصري ..
وامامنا وقف السير ( ميليجان )..
كان هو ولم يكن هو ..
إنه ينزف من عشرة مواضع على الأقل ، وقد جعلته لحظة اقتراب الموت متوحشا .. لا اعرف كيف استطاع فتح السيارة لكنه فعل وبقوة كاسحة .. ربما عالج المقض بقدمه . لا ادري بالضبط ..
وهنا فهمت.. و قف الشعر أعلى جانبي رأسي حين فهمت ..
لقد كان مكمم الفم ، مقيد اليدين الى ظهره ، ومن كل أوردته العملاقة كانت هناك خراطيم تتدلى .. خراطيم تتصل بإبر كأنما كان يتلقى الحقن الوريدية من خلالها ، لكن هذه الخراطيم كانت تنزف .. ومن الجلي أنه نزف كثيرا جدا .. انا اعرف ان من يقطعون شرايين معصمهم يصابون بحالة جنون هياجي قرب النهاية ، وكان السير ( مليجان ) قد دنا من النهاية ..
مشى جوارنا .. وهوي صدر خوارا كالثيران ..
ثم رأى ( ماجي ) فاتسعت عيناه وراح يترنح وهو يركض نحوها .. الطفلة لا تكف عن العواء ..
صرخت ( ماجي ) وبدأت تجري .. لكني صرخت فيها بدوري :
ـ " لا تهي منه ! ساعديه !!"
وهرعت لألحق بالبائس .. فلقط ليوجه لي ركلة في اسفل بطني جعلت الهواء يخرج من أذني .. لم يرفسني حصان من قبل لكن لا بد ان الامر أفضل من هذا ..
اسندت الى الجدار بينما صرخات الطفلة تجعل الأمر أقرب الى الجحيم .. اخرسي قليلا بالله عليك !! إن الدم .. يعود .. إلى .. راسي .. من ..جديد .. أنا .. قوي . .التحمل . .بغرم .. ضعف .. صحتي . لن .. أموت .. بقدم رجل قتيل أصلا ..
في هذه اللحظة سقط الرجل على الأرض بينما الطفلة لا تكف عن إطلاق سرينتها ..
وأدركت من ثبات وضعه ان الأمر قد انتهى ..
سألتني ( ماجي ) باكية وهي تعتصر الطفلة :
ـ " هل انت بخير ؟"
ـ " سأعيش .. والآن هلا عدنا الى الخان ؟ لا بد .. من .. غوث .."
***
جاء الدكتور ( ك . أوجليفي ) بعد ربع ساعة .. وكان الامر قد انتهى .. كانوا قد أحضروا الجثة مغطاة بالملاءات ، وساد صمت رهيب .. الموت بحضوره المقبض .. من المجاملة أكثر من اللازم ان نقول إنه ضيف ثقيل لا تجد راحتك في حضوره . بل لا تستطيع الكلام بحرية ..
كان الطبيب أصلع الرأس قصير القامة متأنقا جدا ، وقد راح يجفف العرق المتراكم على جبينه برغم الطقس البارد ، وقال لنا :
ـ " أفهم من هذا ان دماء هذا الرجل استنزفت حتى الموت ؟"
قلت له في نفاد صبر :
ـ " تشخيصك دقيق ايها الزميل .."
ـ " ومن الذي يفعل شيئا كهذا ؟"
مططت شفتي السفلي في غباء .. إنه الشيطان ذاته لو كان يجيد تركيب الإبر الوريدية ..
هذه المرة بدا ان البدلة كلها احتشدت في الخان ، وهو ما كان ليسعد فؤاد مس ( بانكرروفت ) لو لم تكن فعلا سيدة طيبة القلب لا تحب موت زبائنها ..
شعرت بالحضور إياه فنظرت وراء كتفي .. كانت الكاتبة السوداء عائدة من الخارج مع الأخ ( اونيل ) الذي للم يعد يفارقها في الآونة الأخيرة ، ومعهما سيدة أخرى في الخمسين لم ارها من قبل .. لو كنا في مصر لقلت إنه امه تتعرف عروسته المقبلة .. كانت ( لورين ) تضع نظارة سوداء فلما شعرت بان هناك تجمعا مريبا نزعت نظارتها ، وهزت رأسها ثم ودعت الفتى واتجهت الى غرفتها ..
كانت ( ماجي ) تنظر الى المشهد وكذا انا .. فتحت شفتيها ومطت عنقها نحوي في إيماءة اعرفها جيدا ، فملت عليها بأذني لأسمع ،وقبل ان تتكلم قلت أنا :
ـ " نعم .. نعم . .المرأة التي مع ( اونيل ) .."
ـ " تعرفها .. اليس كذلك ؟"
ـ " بلى .. لكني عاجز عن تذكر متى وأين .."
مع ( ماجي ) تخطر الفكرة في ذهني فترد هي عليها من دنو كلام .. بل إن بوسعي ان ألومها على فكرة سخيفة لم تصرح بها .. وارد خواطر قاتل نعرفه من ايام بعثتي القديمة هنا ..
قالت في خبث :
ـ " الصور ! هذه إحدى النساء اللاتي كن يرقصن في المقبرة !"
ـ " هل .. تعتقدين هذا؟!
ونظرت للمرأة .. لست متأكدا لأنني لم ار الصور بما يكفي .. لكن وجهها بالتأكيد مألوف ، وفي الغالب انطبع في ذهن يمن وقتها .. ما معنى هذا ؟
سرى الإشعاع السايكوفيزيائي بين الجالسين ، وتقدم رجل متأنق بدين معتد بنفسه إلى سوط الدائرة ، وقال في تؤدة :
ـ " يجب ان نتحدث بصراحة يا رفاق .. هذا الذي يحدث في بلدتنا الهادئة لا يصدق .. ويوحي بلعنة ما تتجاوز فهمنا .. هل هناك من يربط ملي بين هذه الاحداث وقدوم غرباء إلى البلدة ؟"
تعالت الهمهمة فصاح آمرا :
ـ " من ير هذا فليرفع يده .."
ارتفعت عشرات الأيدي .. ما كنت احسبه ان كل واحد من هؤلاء القوم له ست اذرع إلا بعدما رايت هذا بنفسي ..
قالت ( ماجي ) في تحد :
ـ " حسن .. ومن ير اننا قتلنا هؤلاء الثلاثة فليقل هذا صراحة .."
لم يتكلم احد .. فقالت في هدوء :
ـ " انا ومرافقي سنرحل غدا صباحا .. لو كنا نجلب الشيطان معنا فنحن سنريحكم .."
هنا هتف رجل الشرطة ( بيرك ) في رعب :
ـ " هذا لن يكون .. لن يفارق احد البلدة قبل قدوم رجال التحريات الجنائية .. سأطلق الرصاص على اول من يفكر في الخروج .."
على الاقل هو يتصرف بشكل صحيح من حين لآخر ، لكن ها نحن أولاء قد صرنا محاصرين ..
هنا هتف رجل من الجالسين :
ـ " لحظة .. من يشعر بارتياب في تلك الفتاة من ( شيفيلد ) فيرفع ذراعه .."
هذه ا لمرة ارتفعت مائة ذراع .. هؤلاء ليسوا بشرا .. إنهم عشيرة من الأخطبوط ..
ـ " هي لا تكتب شيئا وتكاد لا تمضي وقتا في حجرتها .. إنها تجوب البلدة طيلة اليوم .. كلنا رآها في المقابر .. ماذا تفعل هناك ؟ من هي حقا ؟"
هنا قرر الفتى ( اونيل ) ان يقوم بواجبه ،فهب يمسك بقائل هذا من ياقة سترته ، وكور قبضته العملاقة وشده االى الوراء في وضع مألوف . إنه بالفعل يتصرف كأنه زميل ( جاري كوبر ):
ـ " من يقل حرفا واحدا يسيء لها سأهضم وجهه !"
قال الرجل الأول المعتد بنفسه :
ـ " الحقيقة يا بني انك صرت في قبضتها .. إنك مفتون بها .."
ـ " بل انتم مرضى النفوس .. الحقيقة إنها بهرتكم جميعا .. وحين لا ينال الرجل فرصته فإنه يختلق الأكاذيب ويتحول إعجابه إلى حقد .. ( لورين ) اختارت رجلا واحدا في هذه البلدة التعسة وانتم لا تطيقون هذه الفكرة .."
كلامه صحيح حتى إن كان لا ينطبق على هذه الحالة .. إن من قرأ او شاهد رواية ( زوربا اليوناني ) للعظيم ( كازندزاكيس ) يذكر جيدا مشهد قتل الأرملة الجميلة على يد رجال القرية بدعوى الحفاظ على الأخلاق . والحقيقة أنهم قتلوها لأنها لم تختر واحدا منهم ..
المهم ان الموقف تحول الى نار متأججة وكادت اللكمات تتطاير ، لولا ان الرجل المعتد بنفسه وقف وصاح :
ـ " يا رجال .. انا اقترح ان نحبس الغرباء في غرفهم الى ان يأتي رجال التحريات .. لا نريد مشاكل جديدة .. انا اعتذر لهم بشدة على هذا لكنهم يفهمون دوافعنا .."
صاحت ( ماجي) في عصبية :
ـ " يحبسوننا ؟ بأي حق !!"
لكني ضغطت على معصمها وهمست :
ـ " لا مشكلة في إجراء كهذا .. إنها ليلة واحدة بعدها نترك هذه البلدة بمشاكلها .. لا داعي لتصل الرأي .."
وهكذا بدأ الحشد يتفرق من حولنا ليفسح لنا الطريق ..
هن توقفت وقلت بصوت عال :
ـ " بالمناسبة .. اين مستر ( بارنيل ؟ ( باتريك بارنيل )؟"
لم يكن هنا .. ونظر لي القوم في دهشة ، فقلت بنفس الصوت العالي :
ـ " أقترح ان تحرسوه جيدا .. لو حدث له شيء فنحن ابرياء من دمه !"
سالني رجل الشرطة في دهشة :
ـ " ماذا تقول بالضبط ؟ "
ـ " اعتقد ان كثيرين منكم خمنوا ما اعنيه .. كل هؤلاء الذين ماتوا كانت لهم علاقة ما بموت ( رونيل السوداء ) .. انتم تعرفون القصة وتذكرون التفاصيل .. لا اعرف كل من تورط في هذه القصة ، لكن المرشح رقم واحد للموت الآن هو ( باتريك بارنيل ) .. حفيد قاضي الساحرات الرهيب !"