كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
الارشيف
-6-
أنا ايضا جربت صوت جرس الباب بعد منتصف الليل ...
خبرتي وخبرة أي انسان مع هذه الأجراس سوداء غالبا .. لهذا يجب ان اقول إنني جريت الى الباب وقلبي يتواثب في ضلوعي .. لم اكن نائما لحسن الحظ .. مستحيل ان اكون نائما في الثانية صباحا .. هذا شيء لا افهمه مع الناس .. إنهم ينامون ليلا ويستيقظون صباحا .. انا اسهر ليلا واعمل نهارا وانام عصرا ..
أضأت النور على المدخل ، وقدرت انني سافتح الباب لأحد ثلاثة من رجال الأمن ينظرون لي نظرة بوليسية خالصة ، ثم يقول لي احدهم انه العقيد ( ايمن حمدي ) وان معهم إذنا بالتفتيش .. ثم يدخل احدهم الى غرفة مكتبي ليخرج الميكروفيلم او المنشورات التي لا اعرف انها عندي ، ثم ينظر لي في حزم ويقول : نريدك عندنا يا دكتور بعض الوقت ..
فتحت الباب وانا ارتجف لهذا الخاطر .. فوجدت ثلاثة من رجال الأمن ينظرون لي نظرة بوليسية خالصة ، ثم قال لي احدهم انه العقيد ( ايمن حمدي ) وأضاف :
-" نريدك عندنا يا دكتور بعض الوقت !!"
جف حلقي وتراجعت خطوة .. إنها النهاية إذن .. سأدفع ثمن كل جرائمي .. لكن ما الذي فعلته بالضبط ؟
قال احدهم باسما :
-" لا داعي للقلق .. إنها استشارة لا أكثر .."
استشارة في هذه الساعة ؟
قال آخر وهو يخرج لفافة تبغ من علبتها :
-" الامر جد مهم .. وقد اتصل العميد ( عادل ) من الإسكندرية واصر على ان تكون معنا .. "
هكذا فهمت .. إن ( عادل ) مصر على توريطي .. لكن في أي شيء بالضبط ؟ لا بد ان الامر يتعلق بهذه القضية .. قصة الحروف التي تكتب جوار جثث الموتى ، والتي أرجح ان القاتل هو كاتبها ..
هكذا تأهبت للذهاب معهم ثم تذكرت انني عاري القدمين وما زلت بمنامتي .. هكذا طلبت منهم ان يتفضلوا الى ان ابدل ثيابي ..
وارتديت ثيابي كما اتفق وانا افكر في مبرر هذه الاستشارة الليلية .. كل شيء يمكن ان يتم في الصباح ..
دعك من ان تكون هذه وسيلة لاعتقالي فعلا .. وهذا يعيدني الى حالة البارانويا البوليسية السابقة .. سوف يقبضون علي لأنني طفل شقي أضع إصبعي في انفي واجذب ذيل القط ..
خرجت معهم الى هواء الليل البارد .. الحي النائم الغافل فلا شيء يجذب الانتباه الا تلك السيارة المدنية السوداء الواقفة امام باب البناية .. فتح لي احدهم الباب الخلفي فجلست .. وسرعان ما انطلقت السيارة .. ذلك الطريق الذي عرفته مرارا من قبل .. إنهم متجهون الى مديرية الأمن ..
***
كان دخان التبغ يعمي الأبصار في غرفة اللواء ( طلعت ).. وهناك عدة أقداح من القهوة وجو عام من الانفلات يوحي بان جلسة طويلة تمت في هذا المكان ..
قال لي اللواء وهو يتثاءب :
-" إذن ليس لديك ما تضيفه يا دكتور "
قلت في خجل :
-" إذا كان العميد ( عادل ) يعتقد ان لدي ما أضيفه فهذا شانه .. لكني لم ازعم ذات يوم انني خبير جريمة .. وفيما ارى فإن هذه الجرائم مجرد جرائم .. أي انها لا تندرج تحت اية خانة هوارقية .. لكن لو اردت رايي فهذا قتل طقسي Ritual يوحي بالانتماء لجماعة دينية ما .. إن انتزاع القلب بالتأكيد نوع من الطقوس .. "
قال وهو يطفئ لفافة تبغه ويسعل :
-" دخنت كثيرا جدا .. كح كح .. ! جماعة دينية ما ؟ ليست مصر خليطا من الأديان يا دكتور .. ليس لدينا الا المسلمون والمسيحيون وجماعات نادرة مسالمة كالبهائيين .. لم يعد هناك يهود .. ليس لدينا يزيديون او قراءون او عبدة شمس او عبدة ( آمون ) .. "
-" لا أتكلم عن جماعة دينية معينة .. أتكلم عن جماعة تعتقد انها تخدم الدين بذلك .. باختصار اتحدث عن مخابيل "
فكر قليلا ثم نهض الى مجموعة الصور المعلقة على الجدار .. صور التقطها خبراء الطب الشرعي وتظهر تلك المجموعة من الجثث .. وكنت قد حفظتها من فرط ما عرضوها علي ..
قال كأنما هو يكلم نفسه بصوت عال :
-" مخابيل .. نعم .. لا احد ينتزع قلب ضحيته إلا إذا كان مخبولا .. وفي كل مرة يكتب كلمة جوارها .. انت تؤمن ان القاتل هو من كتب هذا .. "
قلت في ضيق :
-" هذا واضح .. لا يمكن ان يتصادف ان كل ضحية تقرر كتابة اسم قاتلها في كل مرة .. ثم ان وضوح الحروف واتجاه الكتابة يوحي بيد مختلفة صافية المزاج .. دعك من ان انامل الضحايا كلها غير ملوثة بالدم .."
كان هذا ما قاله لي ( عادل ) وقد تبنيته بشدة الى درجة انه صار رأيي الخاص . . وسوف أحطم انف من يجادل فيه ..
عاد يكرر ما قلت شارد الذهن :
- " هم م .. غير ملوثة بالدم .. "
- قلت :
- - " أي أن أيا من القتلى لم يكتب .."
تثاءب وقال في شرود :
-" هم م .. لم يكتب .."
قلت لنفسي ان النعاس قد غلبه على الأرجح ما دام يكرر كل حرف قلته .. على كل حال لا أتوقع من البشر ان يكونوا مثلي في ذروة نشاطهم العقلي في الرابعة صباحا .. لكن الامر خطير .. جد خطير .. عندما يقرر لواء ان يسهر ليلته في مديرية الأمن فلا بد ان الامر خطير ..
قال وهو يخط اشياء على ورقة :
-" حسن .. دعنا نرتب الامور .. لدينا سلسلة من حوادث القتل يجمع بينها انها تتم بانتزاع القلب من الصدر .. وان هناك كلمة بالدم جوار القتيل ..
اول الضحايا وجدناه في زقاق .. إن اسمه ( مصطفى ابو زينة ) .. باحث في التاريخ في جامعة ( .. ) .. الاسم الذي وجدناه جواره هو ( عباس ) .. ثمة جثة اخرى وجدناها بقربه .. جثة يقال عجوز يدعى ( جلال ) .. يقول التشريح إن البقال توفي بنوبة قلبية .. يبدو انه لم يتحمل الصدمة .. وهذا يجعلنا قادرين على استبعاده من القصة مؤقتا .. "
تذكرت وجه عم ( جلال ) الطيب .. هذا الرجل بالذات كان يستحق ميتة أخرى .. لم اخبر احدا بأنني كنت اعرفه لكن موته سبب لي غصة لا بأس بها ..
واللواء يواصل السرد :
- " ثاني الضحايا وجدناه في الإسكندرية .. اسمه ( يوسف ) .. أبو الحسن ) .. مدرس شاب في كلية الآداب .. الاسم الذي وجدوه بجواره هو ( زكي ) ..
- " ثالث الضحايا وجدوه في قرية قرب القاهرة .. ثمة شونة حبوب هناك ، وقد رآه الخفير يركض ليتوارى في المخزن فلما لحق به وجده ميتا برغم انه ينفي بشدة ان يكون قد راى من يلحق به .. القتيل يدعى ( زكي عبدالرازق ) أستاذ بكلية الآداب قسم تاريخ .. الاسم الذي وجدناه بجواره هو ( يوسف ) .. "
" ما الذي نستنتجه من هذا ؟"
- " إنها دائرة .. كل قتيل تجد بجواره اسم القتيل القادم .. هذا هو أسلوب ( الكونت دي مونت كريستو ) .. وعلى الأرجح يتعلق الأمر بالانتقام .."
قال في ضيق :
-" كما قلت لك قد درسنا هذا الاقتراح مرارا .. لقد قتل ( زكي ) بعد ( يوسف .. وبرغم هذا وجدنا الاسم بجواره .. ثم اننا لم نلق أي قتيل اسمه ( عباس ) .. لاحظ ان اول اسم قرأناه كان ( عباس ) .. "
قلت :
- " لهذا قلت ( دائرة ) .. لا يجب ان تقرا اسم قتيل ( قادم ) .. يكفي ان تقرأ اسم قتيل ( آخر ) .. سوف تنغلق الدائرة بشكل ما .."
ثم عقدت أناملي وقلت مفكرا :
-" ثم هناك ذلك الطابع الأكاديمي المميز للضحايا .. كلهم يدرس او يبحث .. اثنان لهما علاقة بكلية الآداب والثالث باحث .. هناك كذلك ذلك التخصص في التاريخ .. لو كنت مكانكم لبحثت بعناية عن شخص يدرس التاريخ في الجامعة واسمه ( عباس ) .. اعتقد انه الضحية القادمة بلا تردد .. "
نظر إلى احد معاونيه فبادله ابتسامة من طراز ( هؤلاء الهواة يضحكونني ) وقال :
-" هل تحسبنا لم نفعل ؟ هناك اثنان نتابعهما بعناية .. وفي رأينا أنهما في خطر داهم .. أحدتهما على الأقل .."
قلت وان أتساءل في سري عن مدى ما بلغته استنتاجاته :
-" هكذا يمكن القول ان هناك قاتلا متسلسلا .. وهذا القاتل يحمل كل الأسباب التي تجعله يرغب في قتل مدرسي التاريخ .."
قال ضاحكا :
-" لا الومه كثيرا على كل حال .. "
-" وهذا القاتل ككل القتلة المتسلسلين في الواقع يحب ان يترك شيئا يدل على خططه او يدل عليه .. نحن لم نعتد هذا الطراز من القتلة في مصر ، لكنهم في الخارج يعرفون هذه الأساليب جيدا .. لديهم مثلا ( زودياك ) Zodiac الذي كان يرسل بطاقات لرجال الشرطة وما الى ذلك .. يقولون إنها تتجاوز رغبة التفاخر الطفولي .. إنها رغبة ماسوشية في عقاب الذات ، ورغبة في ان يضبط .. أي انه يقدم بنفسه للشرطة الخيط الذي يقود إليه ، لاحظ أننا نتكلم عن نصف مجنون .."
-" ومن هذا القاتل ؟ هل هو تلميذ يمقت التاريخ ؟ ام هو مدرس جغرافيا ؟ "
- " اعتقد ان المراقبة اللصيقة لهذين ( العباسين ) سوف تقود الى القاتل .. " فكر قليلا ثم نظر الى ساعته وهتف :
-" ياه ! لقد اطلنا عليك يا دكتور .. آسف على إزعاجك لكني قلق فعلا .. لم نعتد مقابلة هذا الطراز من الجرائم في مصر ، وبأي ثمن لا اربد ان اسمع عن الجريمة الرابعة .. "
ثم نظر الى مساعده وقال :
-" أعمل على ان يوصلوا الدكتور الى بيته "
وكانت لهجته تقول بوضوح ( شكرا على لا شيء ) .. ولم استطع ان ألومه .. لكن من قال لهم إن علمي ينفع هنا ؟ إن خبراتي مع الموميات والمسوخ لا تسمح لي ابدا بالتعامل مع قاتل حقيقي .. كأن ابنك مريض فتأتي له بأفضل مهندس الكترونيات في العالم .. وتندهش بعدها لان هذا المهندس عبقري لا يستطيع علاج طفل ..
وفي السيارة التي شقت شوارع القاهرة في ضوء الفجر الوردي الشاحب ، خطر لي ان الأمر مقلق بحق .. إن ارتفاع أسعار الكهرباء سوف .. ماذا اقول ؟ ما علاقة هذا بالموضوع ؟ آه ! إنني أخرف لا أكثر .. فقدت قدرتي على التفكير السليم لان موعد نومي قد جاء ..
وعلى باب البناية شكرت السائق وصعدت إلى شقتي ..
سأنام .. سأنام .. سأنام .
ثم أنام ...
|