كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
الارشيف
1- لقاء تأخر ..
أنهيت أعمال المؤتمر وصرت حرا ..
لا ازعم هنا انني امقت المؤتمرات .. بشكل ما انا اعتبر نفسي خبير مؤتمرات متمرسا .. ولا اخفي سرا إذا قلت إن ملاحقة المؤتمرات عبر العالم هي المتعة الوحيدة لي في الحياة .. انت تسمع أفكارا جديدة وتعرف أشياء جديدة وترى اناسا جديدين طيلة الوقت .. تصور شيئا كهذا بالنسبة لشخص ملول مثلي .. الامر نوع من المهرجانات العلمية ، والاهم انك لا تتكلف شئا تقريبا .. لانني ادى إلى اكثر هذه المؤتمرات ، كأنهم يحتاجون دوما الى تعكير مزاجهم بوجود ( رفعت إسماعيل ) الكئيب . .
طبعا كانت لمؤتمر ( دوبلين ) هذا مزية مهمة ، هي انني على ارض ( ماجي ) .. ومعنى هذا انني سأقابلها بالتأكيد .. وقد عرفت انها ستكون ي ( ايرلندا ) في هذا الوقت بالذات .. وحددت لي بلدة ( ليفورد ) في ( دونيجال ) لقاء .. لم اكن اعرف هذا المكان طبعا لانني لست ملكة بريطانيا ، لكني عرفت انها تقع في اقصى شمال البلاد ، وتطل على المحيط الاطلسي ..
كانت مع ( ماجي ) طفلة هي قريبتها وقد ضايقني هذا نوعا ، لانني لا اطيق الاطفال ولا الزهور ولا الربيع كما تعرفون عني ، لكن ( ماجي ) تستحق تضحية صغيرة كهذه ..
وجاء اليوم الموعود ..
كانت بانتظاري حين بلغت البلدة .. ( ماجي ) الرقيقة التي تمشي على العشب دون ان تثني منه عودا واحدا ..
( رفعت ) الملول العصبي غريب الاطوار كان يملك عالما لم يخط فيه بشرى من قبل .. ارض ( اللا بشر ) لو صح التعبير .. فقط واحدة استطاعت ان تخطو فوق هذه الارض .. تغزوها .. تغرس فوقها علمها الخاص .. ومنذ ذكل اليوم صرت رجل إمرأة واحدة ..
أتشاجر .. افرح .. افكر .. اخاف .. اطمئن .. لكنها هناك ..
اسافر .. اعود .. انام .. اصحو .. لكنها هناك ..
وكما يقول ( صالح جودت ) : فأنت المنتهى وهنا المصب ..
هل كان هذا في صالحي ؟ الحقيقة انني لا ادري بالضبط .. هذا الحب العتيد الذي أحسبه ولد قبل ان اولد ربمابينما المصريون القدماء ينحتون مسلاتهم .. ربما بينما ( التي ركس ) العملاق يتحرش بـ ( برونتوساوروس ) وديع قرب المستنع .. ربما بينما القمر يولد من المحيط الهادي .
هذا الحب قد جعلني عمليا عاجزا تماما عن ممارسة حياة طبيعية .. جعلني ذئبا متوحدا يحيا هنا في مصر ، بينما قلبه ينبض هناك في ( إنفرنسشاير ) ولعمري ما اطول تلك الدورة الدموية !
لم تتغير .. حقا لم تتغير .. إن الايام تعاملها معاملة غير عادلة .. فبينما تترك كل دقيقة ندبة لا تمحى على وجهي ، تلتف الاعوام حولها تزيل الغبار المتراكم .. قرر الزمن ان يضع قناعا ويدخل غرفة الجراحة ليصير جراح تجميل خصوصيا لها ..
هذه هي ( ماجي ) خمسة وخمسون كيلو جراما من السحر والرقة والرقي والمرح .. حساسة كزناد تفجير لغم نازي مدفون تحت رمال العلمين .. كتلة من الاعصاب المرهفة مغطاة بالجلد ..
وأنا ..
أهيم بها ..
***
قالت لي حين رأتني :
ـ " للابد ؟ "
ـ " ماذا ؟ "
ـ " ستون ملكي للابد ؟"
ـ " وحتى تحترق النجوم كلها .. وحتى .."
وتوقعت ان اكمل العبارة الاخيرة ، لكن الروتين هو الروتين .. لقد خنقني التأثر كالعادة ..
قالت ضاحكة وهي تقدم لي الطفلة :
ـ " ( إليانور ماكدوجلاس ) .. المفترض انها قريبتي لكنها في الحقيقة شريكتي .."
انحنيت وصافحت الطفلة بشكل رسمي مباغل فيه ، وتأملت ملامحها .. بارعة الجمال كما لا بد ان يكون كا ما يمت لـ ( ماجي ) .. هذا باستثنائي طبعا ما دمت اعتبر انني امت لها ..
ـ " تشرفنا ايتها الآنسة .. هل سبق لي ان حظيت بشرف معرفتك ؟ "
نظرت لي في فضول بعينيها الزرقاوين الصافيتين وقالت :
ـ " بالواقع .. لا .."
كأنه من الممكن ان ينسى المرء ( رفعت اسماعيل ) بسهولة !
كان الخان الذي اختارته لنا مريحا له ذات الطابع البريطاني ـ بل الأيرلندي طبعا ـ الودود الذي يذكرك بقصص ( أجاثا كريستي ) .. كانت قد اتخذت هي الطفلة غرفة .. واختارت لي غرفة جميلة لا تطل على شء على الإطلاف لإنها تعرف ذوقي ..
قالت للمسز ( بانكروفت ) صاحبة الخان وهي تقدمني :
ـ " هذا هو البروفسور ( إسماعيل ) الذي حجزت له الغرفة رقم ( 12 ) .. مسز ( بانكروفت ) .."
هززت رأسي متظاهرا بالرقي ،وقلت :
ـ " تشرفنا .."
كانت امرأة في المائتين من عمرها ، لها شعر ابيض ناعم عقصته بعنف بتلك الطريقة التي توحي لك بان فمها صار في موضع اعلى وأنها لن تستطيع إغلاق جفنيها للابد .. وكان لها وجه لطيف مليئ بالتجاعيد لكن فيه شيئا من الخبث بالتأكيد ..
قالت لي ( ماجي )
ـ " يمكنك ان تذهب لغرفتك وتتأهب للعشاء ، او نجلس هنا نتحدث .."
وكان اللوبي لهذا الخان شيئا اقرب الى قاعة الجلوس في البنسيونات الصغيرة .. جو حميم دافئ .. ثمة نار مشتعلة في مدفأة ، ومجموعة من الرجال لا يبدو عليهم انهم من طبقات المجتمع الراقية ، لكنهم ليسوا كلك من طبقة العمال .. كانوا يشربون ويدخنون ويرمقوننا في فضول ..
قلت لـ ( ماجي ) إنني افضل الجلوس قليلا .. فهزت رأسها راضية .. الغريب ان ( ماجي ) هي الشخص الوحيد في الكون الذي اعرف جيدا انه يحب وجودي ويستمتع به . . فأنا ابصر روحها كما ابصر روحي انا .. إن ا ختي تحبني بالتأكيد لكنني اشكل هلا ظاهرة تعجز عن فهمها ، ولا شك ان وجودي يسبب لها توترا غريبا .. ( عزت ) ؟ من المجنون الذي يزعم ان ( عزت ) يحب وجودي ؟ إنني اجلب له المصائب في كل لحظة .. لكني لن ابالغ .. بالتأكيد هنا اشخاص كثيرون يحبون وجودي ، لكني لا استطيع ان ازعم هذا بالثقة التي اتكلم بها عن ( ماجي ) ..
قالت لي باسمة وقد اسندت ذقنها على قبضتها ، وراح كشافاها الازرقان يتفحصانني :
ـ " هممم ؟ ماذا فعل الزمان بك ؟ هل فقدت أشياء او اكتسبت اشياء ؟ "
ـ " اضفت امراض البروستاتا وتصلب عدسة العين وحصوة كلية صغيرة الى قائمة امراضي .. بينما فقدت إصبعين من قدمي .."
تقلص وجهها ذعرا وهتفت :
ـ " ماذا ؟ إصبعين ؟ متى ؟ "
قلت في لا مبالاة وانا احتسي الشيكولاتة الساخنة التي طلبتها لنا :
ـ " ليلة في ثلاجة الموتى مع وباء يشبه التيفوس .. قضمة صقيع .. انت تفهمين هذه الامور !"
نظرت لي في هلع ثم ارتجفت اهدابها بضحكة تحاول ان تكتمها .. كانت ترغب في التأثر لكن لا مبالاتي جعلت الامر اقرب الى دعابة :
ـ " أنت لن تتغير !"
ـ " وانت ؟ هل تغيرت ؟"
قالت وهي تداعب شعر الصغيرة :
ـ " بمناسبة حضورك .. عندي لك قصة مثيرة حدثت منذ ثلاثة أيام ، واعتقد انها تنتمي الى عالمك.."
ـ " هاتها .."
وهكذا بدأت ( ماجي ) تحكي لي القصة التي يعرفها الجميع الآن باستثنائي طبعا ..
ـ " كنت راغبة في تصوير الكنيــ.."
***
ـ .. حتى وصلنا الى الخان وعرفنا اننا في امان .. "
انتهت القصة ، بينما انا اصغي باهتمام .. وكانت الطفلة بدورها تصغي وقد بدا عليها نوع من الفخر لأنها شاركت في هذه المغامرة الليلية ..
سألت ( ماجي ) في توتر :
ـ " وطبعا عدت في الصباح الى نفس البقعة .."
ـ " ولم اجد شيئا غريبا ... لقد تم تنظيف البقعة بعناية .."
ـ " ولم تتخيلي ما حدث ؟ "
ـ " أوه .. إن ما معي من جرعات عقار الهلوسة قد انتهى للأسف .."
نظرت في عينها بثبات وقلت :
ـ " وهل فهمت الآن انك رايت اجتماعا للسحرة ؟ يقول الأوربيون إن الغراب لاذي يحضر هذه الاجتماعات هو الشيطان ذاته ! "
قالت في ضيق :
ـ " ( رفعت ) .. كف عن هذا السخف .. نحن في القرن العشرين يا بني .."
ـ " على قدر علمي لم يتوقف الانسان عن ممارسة السحر منذ فجر التاريخ حتى هذه اللحظة .. لاحظي عدد الجماعات السرية Cult التي تمارس طقوسا سحرية في امريكا حتى اليوم .. لاحظي هذا الجمع الغريب بين ذروة التقدم التكنولوجي وممارسة السحر .. لا يوجد ما يمنع وكل خبراتي في ا لحياة تؤكد هذا .. سواء كان هؤلاء يمزحون او يأخذون الامور بجدية ..
ثم رحت اقدم محاضرة قصيرة عن الموضوع :
ـ " كان الاعتقاد السائد في القرون الوسطى هو أن السحرة كائنات اجتماعية جدا .. ولهذا يجتمعون في اطراف السهول او الاحراش الموحشة .. ثمة سمعة سيئة بالذات لجبال ( هرتز ) شمال ألمانيا . وتظهر الرسوم ان هذه الاحتفالات كانت استعراضا لاحدث ما وصلت اليه التكنولوجيا في التنكر وتغيير الشكل .. بعض السحرة كانوا يحضرون على اشكال حيوانات غريبة .. وبالطبع لا بد من عصي المكانس التي هي بمثابة بطاقة الدعوة لتلك الحفلات .. ويقولون إن الشيطان كان يحضر هذه الاجتماعات على شكل قط او ـ على الارجح ـ غراب .. وكان إثبات أن امرأة ما حضرت اجتماعا كهذا كفيلا بحرقها في غالبية الاحوال .. لقد احرق رجل يدعى ( جودفري ) عام 1611 لأنه حضر واحدا من هذه الاجتماعات دون ان يشارك فيه .. واحرقت طفلة تدعى ( كاترين ناجوي ) في فرنسا لانها وصفت شيئا شبيها بهذا .."
هنا نظرت الطفلة وتذكرت اين انا فابتلعت كلامي . الحقيقة انها الآن مؤهلة تماما للعقاب لو كانت في القرون الوسطى ..
واصلت كلامي :
ـ " ما رأيته انت في المقبرة كان اجتماع سحرة .. لا شك في هذا .."
فقالت ( ماجي ) باسمة :
ـ " على كل حال لدي ما يثبت أنني لم اكن واهمة لقد قمت بتحميض الصور وهي عندي .."
جميل وهل أبدى استديو التحميض إعجابه بها ؟"
ـ " لا احد يعلق على هذا .. وعلى كل حال لا يمكن فهم ما تدور حوله الصور إلا لو كنت تعرف ما تبحث عنه .."
ثم نهضت وقالت :
ـ " سأحضرها لك .."
ـ " بشرط ان يتم ذلك خلسة .. لا احب ان يلتف حولنا خمسون متحمسا .."
ـ " طبعا .."
وانطلقت تعدو بخفتها المعهودة نحة حجرتها .. لن اصدق ابدا ان هذه الطفلة المرحة تجاوزت الأربعين .. إلا لو صدقت انني في العشرين من عمري ..
هنا ـ ما إن ابتعدت ( ماجي ) ـ فوجئت بالطفلة الاخرى تهتف بي :
ـ " يا للروعة !!"
ونظرت الى حيث اشارت ..
وكان ما رايته يخطف الانفاس ..
|