-أسطورة المقبرة ـ
ما وراء الطبيعـــة
د. أحمد خالد توفيق
مقدمة
أنتم تعرفون ( نجيب السمدوني ) فلن أعلق كثيرا ..
يمكننا أن نتجاهل ما يقول كلية ، فلم تعد سني ولا صحتي تسمحان لي بأن احقق في هذا النوع من القصص .. لو كنت اصغر من هذا ثلاثين عاما ، لذهبت اليه وبحثت في كل ركن من داره عن تلك البقع ..
بقع دموية على البساط.. كلما غسلت ظهرت من جديد .. هذه القصة معتادة وقد قابلتها مرارا . . لقد صرت اغلق بابي كي لا اصطدم بهؤلاء الذين يرون بقعا دموية على بساطهم .. افتح النافذة يدخل عشرة منهم .. افتح صنبور المياه ينزل لك خمسة منهم ..
لكن الجديد في قصة هذا الرجل هي الخادمة الطفلة التي تنام في المطبخ ، والتي تدخل زوجته المطبخ ليلا لتشرب لتفاجأ بان طولها صار ثلاثة امتار ، حتى إن قدميها تتسلقان الجدار .. دعك من ملامح وجهها التي تذكرها وقتها بأسد عجوز نائم ..
انتم تعرفون ( نجيب السمدوني ).. لهذا يمكننا ان ننسى هذه القصة وإن اتضح أنها صحيحة فلن نخسر الكثير .. إن الخادمات اللاتي يستطيع جسدهن ليلا موجودات في كل مكان .. لقد صرت اغلق بابي كي لا أصطدم بهن .. افتح النافذة تدخل عشرة منهن .. افتح صنبور المياه تنزل لك خمس منهن ..
ثم القط .. القط الذي يضحك ضحكة بشرية واضحة .. انتم تعرفون ( نجيب السمدوني ) .. لهذا دعونا نتجاهل هذا ايضا .. لا اجد شيئا مسليا في هذا كله .. لقد صرت اغلق بابي كي لا اصطدم بالقطط التي تضحك ضحكة بشرية .. افتح النافذة يدخل لك عشر منها .. افتح صنبور المياه ينزل كل خمس منها ..
ولكن دعونا من هذا الهراء ولنبدأ قصتنا ..
ساحدثكم عن اسطورة المقبرة ..
اعرف ان المقابر المفزعة ليست موضوعا جديدا .. ماذا تقولون ؟ تقولون إن هذه القصة معتادة وقد قابلتموها مرارا ؟ تقولون إنكم صرتم تغلقون الأبواب كي لا تصطدموا بمقبرة مفزعة ؟ تقولون إنكم تفتحون النافذة فتدخل عشر منها .. تفتحون صنبور المياه فتنزل لكم خمس منها ؟
انتم تتلفظون بكلمات غريبة على مسمعي ، وإنني لعاجز حقا عن فهم شباب اليوم ..
من أين تأتون بهذه السخرية المقيتة ؟
من علمكم تسفيه الآخرين الى هذا الحد ؟
على كل حال ، سأحكي لكم القصة .. واعرف انكم ستحبونها .. إنها مرعبة .. وأنتم تعرفون أن الرعب يحتاج الى قدر كبير من الخيال .. إلى سعة صدر وصفاء بال .. يحتاج الى هدوء.. يحتاج الى ليل ..
هذا هو ما قاله ( لافكرافت ) الذي اعتبر كاتب
قصص الرعب مسكينا ن يحتاج الى ماهو اكثر من الحظ كي يعترف القارئ بأنه خاف ..
تعالوا الآن واصغوا إلي ..
إن ( رفعت إسماعيل ) العجوز سيحكي لكم قصة أخرى ....
العام 1675 .....
المكان : ( ليفورد ) .. البلدة الهادئة في مقاطعة ( تيركونل ) كما كانت تعرف في ذلك العصر أو ( دونيجال ) كما نعرفها الآن .. إن الخبراء منكم في أمور ايرلندا يعرفون أن ( دونيجال ) مقاطعة في أقصى شمال ( ايرلندا ) تطل على المحيط الأطلسي من جهتين . إنها مقاطعة رعوية وعرة مليئة بالجبال ، وتشكل حاليا جزءا من جمهورية ايرلندا ، وجزءا مما يعرف بـ ( اولستر ) التي تتكون من تسع مقاطعات .. و .. إن الموضوع معقد جدا لهذا لن ادخل في التفاصيل التي تجدونها في أي كتاب جغرافيا او تاريخ ..
الآن يحتشد أهالي البلدة الهادئة التي لا يحدث فيها شيء على الإطلاق .. اليوم من الأيام النادرة التي تحدث فيها أشياء ، ولهذا لم يبق واحد في داره ..
الحدث : أي حدث غير حرق الساحرة طبعا ؟
في هذه البلدة لا يحدث شيء مثير سوى تعذيب أحد المهرطقين من حين لآخر ، او حرق ساحرة .. وتهمة الساحرة هذه مطاطة تتسع لأية امراة تعالج المرضى بطريقة غريبة ، او تشاهد عند المستنقعات ليلا ، او توجد في جسدها علامة ما يفترض ان الشيطان يتركها في زوجاته .. كما قلت سابقا كل هذه التفاصيل الدقيقة مشروحة في كتاب ( مطرقة الساحرات ) الرهيب ..
عندها يكون الاستجواب .. ثم التعذيب .. والتعذيب اسلوب عبقري في استخلاص الحقائق ، يستطيع ان يقنع فار بان يعترف بقتل اسد ، او يقنعك بالاعتراف بتزعم عصابات المافيا في الثلاثينات ..
كثيرات بريئات هلكن بهذه الطريقة .. اما المرأة التي تصمد فكانوا يقيدونها ويلقون بها في الماء .. فإن غرقت اتضح انها بريئة للأسف ، وان طفت عرف الجميع انها ساحرة وعندها تعدم !
يجب ان نقول هنا إن ( هيلين ) أو ( رونيل السوداء ) ـ كما يدعونها في البلدة ـ كانت غيبة الاطوار جدا ..
اولا كانت جميلة جدا .. كان جمالها من الطراز الذي يخطف الأبصار ويذهل العقول . هناك امثلة نادرة جدا من هذا الطراز من ( الجمال المؤلم ) وكما نعرف يقولون عن المرأة بارعة الجمال إنها ( ساحرة ) .. يسهل إذن تصديق ما يقال عنها في هذا الصدد ..
ثانيا : لماذا لم تتزوج ( رونيل السوداء ) ؟ لقد هام بها السير ( باتريك مليجان ) حبا وفعل كل ما هو ممكن كي تقبل ان تكون له .. إن السير ( مليجان ) ليس سيئا .. ويمكن بسهولة ان تدرك انه ثري .. فما الذي ترفضه هذه الراعية الفقيرة في رجل كهذا ؟
الشباب ؟ هذا وارد .. إذن لنر ما سيحدث حين يتقدم إليها اقوى شاب في البلدة وأكثرهم وسامة .. إنه ( جون اونيل ) الذي لم يقل أحد قط إنه ليس حلم كل فتاة في البلدة .. لقد كلمها ثم قابل أمها العجوز مائة مرة .. لكن الاجابة دوما هي : لا .. ( لا ) غير مسببة هي نوع من النقد الانطباعي الذي لا نفع له ..
هذه النقطة هي الأخرى لا بد أن تثير التساؤل ..
ثالثا : لماذا تلتزم بثياب الحداد السوداء طيلة الوقت ؟
رابعا: ماذا يدفع فتاة حسناء ترتدي الاسود الى الذهاب الى المقابر ليلا وحدها ؟ هناك من شاهدوها وهم يقسمون على انها كانت تمشي بخفة بالغة .. برغم ان طريق المقابر وعر مليء بالمستنقعات .. لم تكن تمشي بل كانت ( تسري ) .. ( تنساب ) .. هكذا يؤكدون .. ومما يزيد الامور سوءا انها تختار الليالي القمرية لهذه الرحلات وإلا ما رأوها اصلا ..
وهكذا اخبر ( جيمس ) العجوز زوجته .. وزوجته اخبرت ( اليوت ) .. و ( إليوت ) اخبر ( جاك ) و ( جاك ) اخبر القس . والقس ـ الذي تذكر انه لم ير الفتاة في كنيسته منذ زمن ـ اخبر السيد ( كيلبارون ) الحاكم ..
وهكذا دارت العجلة الشهيرة ..
وقد تمت محاكمة سريعة وإن كان من العسير ان نزعم انها ظالمة .. إن للفتاة كهفا قرب المقابر .. وكان هذا الكهف يحوي اشياء تقشعر لها الابدان ، حتى إن القس لم يتحمل نفسه وأفرغ معدته لدى رؤيتها .. كانت الحقيقة التي ادركها الجميع هي ان ( رونيل السواء ) كانت تفعل بالاطفال ما تفعله اية ساحرة شريرة أخرى .. كانت تلتهمهم .. لكن غرض الالتهام لم يكن الجوع طبعا ، بل استكمالا لطقوس أهم ..
هذه إذن من المرات القليلة التي كانت فيها تهمة السحر مؤكدة وعادلة ..
والآن جاء اليوم الكبير ..
خرج أهل البلدة جميعا والحماسة تغلبهم كي يروا المشهد الذي لا يجود الزمان بمثله إلا كل عام ..
ثم إن رجال الشرطة في البلدة ظهروا وبينهم كانت الفتاة التي بدت شاحبة جدا ، لكن من الظلم ان نقول إنها كانت خائفة .. كانت ترتدي ثوبا من الخيش البسيط وقد وضعت يديها في قطعة من الخشب تحيط بعنقها في أسلوب ( الفلقة ) الشهير ، الذي كان يعتقد أنه ضروري لتوبة الساحرات ..
كان القاضي ( ستيوارت بارنيل ) المحترم موجودا ، وعلى المنصة وقف الجلاد جوار العمود الخشبي يضع الحطب والقش ..
صعدوا بها الدرجات الخشبية .. وأعلى الدرج كان القس ينتظرها ..
سألها في اقتضاب :
ـ " هل تعلنين توبتك الآن ؟"
فالحقيقة أنه لم يكن خبيرا في هذه الطقوس ، بينما كان الأسبان والألمان والفرنسيون علماء فيها . . إن التاريخ يحكي لنا قصصا نادرة جدا عن حرق الساحرات في جزيرة .. بينما يعج بتلك القصص في أسبانيا ، كما تشتهر ( سيلم ) الامريكية عبر المحيط الأطلسي بسمعة سيئة مماثلة ..
كانت الإجراءات مقتضبة وكذا كان رد فعل الفتاة ..
نظرت للقس بعيني متسعتين تنبعث منهما النيران تقريبا .. لا يعرف السبب لكن هذه النظرة الحاقدة هزته من الأعماق وجعلته يصمت تماما ..
ولنفس السبب لم ينظر لها الجلاد كثيرا وهو يقيدها الى العمود ..
هنا دوت صرخة الم من بين الجميع :
ـ " الرحمة !"
ونظر الناس ليروا الشاب ( جون أونيل ) الذي انفجر فجأة في بكاء هستيري جدي بالمراهقات ، من العسير نوعا ان ترى حبيبتك في هذا الموقف حتى لو قيل لك إنها ساحرة شريرة ..
ويحاول الفتى القوي ان يشق طريقة الى المنصة ، لكن القوم تكأكأوا من حوله ، وقيده أشداء الرجال من ذراعيه كي لا يتهور ..
على حين نظر الجلاد الى ( بارنيل ) ينتظر إشارته ..
وكان هذا الاخير لا يتميز برقة القلب .. كان من جلادي الساحرات المعروفين الذين يعطون المحرقة مزية الشك .. من الخير حرق خمس بريئات بدلا من ترك ساحرة واحدة تعيش ..
هز الرجل رأسه في وقار فقذف الجلاد بالشعلة على الخشب ..
بدأت الزهرة البرتقالية المخيفة تهمس بأسرارها .. تتوهج .. تضطرم ..
وتصاعدت شهقات رعب ممزوج بالنشوة من الواقفين ..
هنا فقط تكلمت ( رونيل السوداء ) ..
كان الدخان يتصاعد فلم يتبين القوم ملامحها وإن أكد البعض أنه لم يعد وجهها ..
فقط كان الصوت أغلظ مما يمكن تصوره .. صوتا ذا صدى كانما الف شيطان يتكلمون بصوت واحد :
ـ " ايها البلهاء ! لقد حكمتم بالويل على أحفادكم ! وليكون انتقامي شنيعا !! سأعود بع ـ .. ا .. م .. ا .. ئة .. عام .. كي ...... "
لقد تلاشى صوتها مع النيران التي راحت تتعالى ..
ليس في هذا شيء جديد ..
كل الساحرات يهددن أو يقلن نبوءة كريهة ما وهن على المحرقة .. إن الساحرة التي لا تفعل ذلك إنما تجازف بسمعتها .. وقد اعتاد اهل البلدة على هذا ..
لكن كانت هذه هي المرة الاولى التي تلقي الكلمات كل هذا الرعب فيهم ..ولم ينتظر الكثيرون حتى تتلاشى سحب الدخان كما هي العادة ليرو الجسد المتفحم ..
لسبب ما عاد أكثرهم الى داره ، ليغلق الباب عليه وعلى أطفاله ، ثم يندس تحت الأغطية راجفا مرددا الصلوات ..
لسبب ما لم يبد الفخر على الجلاد بعما أتم عمله الرهيب ..
لسبب ما لم يحاول أحد الكلام عن هذا اليوم قط ..
وفي قبر بلا شاهد في مقبرة المدينة وضعوا بقايا ( رونيل السوداء ) .. ومن يومها نسي الجميع او تناسوا هذه القصة المؤسفة ..
وبعد هذا بثلاثمائة عام زارت المكان إمرأة اسكتلندية شقراء ..
كان اسمها ( ماجي ماكيلوب ) ..
العام 1975 :
المكان : ( ليفورد ) في ( دونيجال ) كما نعرفها الآن و ( تيركونل ) أو ( اودونيل ) كما كانت تعرف في الماضي ..
في الفترة الاخيرة ، يبدو ان حارس المقابر ( جيمس إدوود ) قد لاحظ عدة أشياء لا تبعث الراحة في النفس .. كل حراس المقابر يلاحظون اشياء غريبة أهمها غالبا الجثث التي تحاول الخروج من القبور ليلا .. وليس الرجل استثناء ..
لكن ما لاحظه هو كالتالي :
ـ " في الليالي المقمرة بالذات .. بعضها لا كلها .. ارى عددها من النساء يمر عبر شواهد القبور .. لا استيطع ان اصفهن بدقة ، لكني اعرف جيدا انهن مسربلات في عباءات طويلة وأن شعورهن منكشوة ثائرة .. لا داعي لأن اقول إنني تجاسرت أكثر مرة ولحقت بهن .. لكننني كنت اصل الى هناك فلا ارى احدا على الإطلاق ..
وقد قررت أن اقنع نفسي بان هذا كله نوع من الهلاوس الليلية .. إن منظر المقابر في ضوء القمر ليثير شتى انواع الخيالات في النفس حتى بالنسبة لمن كانت تلك مهنته ..
" لكني من جديد ارى هذا المشهد من حين لآخر .. ومن جديد ألاحظ أنهن يحمن حول قبر بعينه .. يصنعن حوله دوائر وربما يرقصن رقصا مجنونا مخيفا .. "
***
ولم تكن ( ماجي ماكيلوب ) تعرف شيا من هذا ..
إن لها أسبوعين في إيرلندا وهي ليست زيارتها الاولى .. لكنها في هذه المرة كانت على موعد ( رفعت إسماعيل ) قادم لاحد المؤتمرات العلمية في جامعة ( دوبلين ) .. أي انه سيكون قريبا جدا منها ، وكانت هي تنوي من البداية ان تقضي بعض أيام في ( ايرلندا ) لان هواية التصوير القديمة عادت تغلبها هذه الأيام .. وقد اختارت ( دونيجال ) كي تزورها ، وتقضي الوقت في تصوير القلاع القديمة المهيبة على السواحل هناك .. قلعة ( كيلبارون ) قرب ( باليشانون ) وقلاع ملوك ( ايرلندا ) الاوائل في ( لوسويلي ) .ز
كانت ( ماجي ) قد نشات في قصر .. الحقيقة انها كانت قلعة مخيفة الى حد ما .. ومن الطبيعي ان حياتها فيها وحيدة بعد وفاة أبيها كانت خبرة مرعبة ..
لكنها تعلمت فن ( تذوق القلاع ) من نشأتها .. وادمنت ذلك الشعور الغامض الذي هو مزيج من الرعب والرهبة والافتتان وسحر التاريخ والجمال الذي نشعر به حين نرى القلاع ..
اشباح ؟ إن قلاع اسكتلندا تعج بها ، وهي لم تتصور قط ان هناك بعض الاشباح قد بقيت لأيرلندا . من المستحيل ان يبقى شبح واحد لشعوب الارض المسكينة بعدما احتكرتها اسكتلندا جميعا .. إن كثيرا من المفكرين الساخرين اعتبروا اشباح اسكتلندا موظفين في السياحة هناك .. ولن يكون غريبا ان تقبض هذه الاشباح راتبها آخر الشهر من الحكومة ..
لكن قلاع ايرلندا الرهيبة لها مذاق خاص لم تعتده ( ماجي ) ، وهي لم تعرف نفسها طيلة حياته إلا هوايتين محببتين حقا : دراسة الفيزياء ـ لو كانت هذه هواية ـ والتصوير الفوتوغرافي الذي لم تكن موفقة فيه في البداية ، ثم أجادته بشدة وصار يسيري في عروقها كالدماء ..
الجديد هنا انها كانت ترى البلاد بعينين بريئتين فيهما بكارة .. هاتان العينان اللتان يملكهما أي طفل وتجعلانك ترى كل شيء بمنظور مختلف كأنك تراه للمرة الأولى ..
الحقيقة ان الصغيرة ( إليانور ماكدوجلاس ) ذات السبعة اعوام طفلة رائعة الجمال .. اضف الشعر الاشقر الطويل حتى الخصر الى العينين الزرقاوين الواسعتين ، تجد انها دمية حقيقية ، وكانت تحب ( ماجي ) بجنون .. السبب الظاهر طبعا هو أنها قريبتها .. لكن لو أحب كل إنسان أقاربه بهذا الجنون لتحول العالم الى جنة .. إن ( ماجي ) برغم ذكائها الخارق وأعوامها التي تجاوزت الاربعين طفلة رائعة الجمال هي الأخرى .. ولا تحتاج الى مجهود كبير كي تفكر وتضحك وتحلم كالأطفال ، وكانت غريزة الأطفال الجهنمية لا تخطئ في هذا الصدد .. دعها تدخل اية قاعة مزدحمة .. تجد الاطفال يتجهون نحوها لا شعوريا .. دعها تداعب رضيعا تجده يقرقر ضحكا ، بينما لو داعبته انا لانفجر في بكاء مجنون حتى يزرق لونه ويموت ..
( إليانور ) إذن في ضيافة ( ماجي) .. وهي ضيافة كانت ( ماجي ) تتوق لها من زمن .. وهكذا تأخذ ضيفتها الصغيرة في رحلتها تلك الى ايرلندا ، وإن رسمت لها خططا اكثر طموحا .. ماذا عن فرنسا ؟ماذا عن إيطاليا ؟ بل ماذا عن الشرق الأقصى وربما مصر ؟
فقط لو أن اهلها سمحوا لها ، وهذا مستحيل على كل حال .. ولو انها تركت لنفسها العنان لاختطفت الطفلة الى مكان قصي ، ويومها لن تراها امها إلا بعد ما تدفع ثمن التذكرة في كل مرة ..
الن ، قدمنا لك الاسباب التي دفعت ( ماجي ) الى القدوم إلى هذا المكان بالذات ..
أما عن سبب ذهابها الى المقبرة ليلا فبسيط جدا .. إنه القمر .. إنه مكتمل الليلة ، ولك ان تتصور المشهد المهيب للكنيسة العتيقة الواقفة تغلفها الظلال والأشعة الفضية الباردة .. صحيح ان المقابر تقع على مرمى حجر من الكنيسة .. لكن من قال إن المقابر لا تصلح لوحة رائعة ذات طابع قوطي محبب ؟
كانت الاستعدادات بسيطة .. ( بول أوفر ) سميك لها والسويتر ذو الكبود للطفلة .. ثم القفازات .. لا غنى عن القفازات .. فيلم حساس يناسب التصوير الليلي .. مع حامل لا غنى عنه لهذه الصور طويلة التعريض ..
وغادرت الفتاتان الخان في التاسعة مساء ..
سألتها المسز ( بانكروفت ) عن سب بخروجها ليلا ، فقالت ( ماجي ) ضاحكة :
ـ " بعض صور للكنيسة في ضوء القمر .."
قالت صاحبة الخان ذات الشعر الأبيض المعقوص :
ـ " ولكن .. ليكن .. انت ذات حساسية للصور الجيدة .."
ـ " لقد كففت عن اعتبار نفسي هاوية منذ زمن .. سيأتي يوم تتقاتل فيه الصحف على تعييني .."
ـ " خذي الحذر إذن من الحفر .. إن بلدتنا وعبرة .. ولكن لا .. لا بد ان القمر قد جعل الرؤية كأنما هي في النهار .. أنت فاتنة يا عزيزتي .."
وهكذا خرجت ( ماجي ) مع الطفلة مميتين وجهيهما شطر المقبرة ..
كانت البلدة خالية تماما .. البرد والظلام جعلا الجميع يكمنون في ديارهم جوار المدفأة .. وكانت ( ماجي ) تفضل هذا على كل حال .. إن سكان هذه البلدان الصغيرة يتعاملون مع الكاميرا باعتبارها جسما شاذا هبط من المريخ ..
أخيرا ترى ( ماجي ) المشهد المهيب الذي وصفناه . تشهق انبهارا ثم تنصب الحامل وتعالج سرعة التعريض .. إنها تفضل فتحات الحاجب الضيقة مع سرعة تعريض أطول لأن هذا يجعل الصور حادة نوعا ..
قالت ( إليانور ) وهي تلتصق بها :
ـ " فلنسرع .. إن المكان مخيف بحق .."
ابتسمت ( ماجي) في رفق .. هي تحب هذه اللحظات حين يشعرون بالخوف ويلتصقون بها كقطط صغيرة عندها تشعر بأنها ( هرقل ) ذاته ..
كليك .. كليك .. كليك .. ثم..
ـ " فلنغير الزاوية .."
وحملت الحامل على كتفها وباليد الأخرى أمسكن بيد الصغيرة الدافئة في قفازها الصوفي ، وراحت تشق طريقها في حذر نحو الغرب محاولة ألا تتعثر في الحفر ..
آه ! من هذه الزاوية ترى المقابر بوضوح تام ..
الشواهد الباردة بما عليها من كلمات صار من العسير قراءتها .. وما بقي عليها من زهور جفت او ذرتها الريح .. تستحم في الضوء الفضي المصفر قليلا ..
قشعريرة زحفت على سلسلة ظهر ( ماجي ) لكنها تجاهلتها .. وبدأت تضبط مجال الرؤية ..
ـ " أنا خائفة .."
ـ " ليس هنا سوى أحجار .. لا تتوقعي ان تنفتح القبور ويمد لنا الموتى أيديهم الباردة كي .."
وهوت على ساعد الصغيرة بأناملها تعتصره ، ورسمت على وجهها نظرة مخيفة ضاحكة ، فأطلقت الفتاة صرخة هلع :
ـ " ( ماجيىىىى ) !! أنا لم ار إنسانا اخبث منك ولا أشر !"
ـ " ستقابلينه يا عزيزتي .. ستقابلينه .. إنه نائم في مكان ما من إنجلترا الآن .. ولسوف يكون زوجك بعد عشرة أعوام !"
ولسبب ما فكرت في ( رفعت ) .. هل لأن الكلام كان عن الزواج ؟ ام هو مشهد المقابر الرهيب ؟ ام هي سيرة الخبث والشر ؟ لا اعرف طبعا ..
إنه قادم خلال ايام ، ولسوف يبهرها بالمزيد من الضمور الجسدي والامراض المزمنة .. مع هذا الرجل يمر العام الواحد كأنه خمسة .. ولن تدهش هذه المرة لو وجدت أنه فقد عينا او ساقا او اصيب بالشلل الرعاش .. فقد ستدهش لو مات ، لان برهن على قدرة خارفة في ان يظل حيا برغم هذا كله ..
كليك .. كليك . كليك .. ثم .. كليك ..
ولا بد من كليك هنا ايضا ..
لو ان الصور خرجت كما تراها الآن فهذه أروع مجموعة التقطتها منذ عام ..
هنا هتفت الطفلة وهي تلتصق بها اكثر :
ـ " هناك أشخاص !"
بالفعل كان هناك اشخاص ..
لا تستطيع ( ماجي ) تحديد العدد بالضبط ، لكنه يقترب من الخمسة او الستة .. لمزيد من الدقة اللغوية خمس او ست .. لان كل شيء يوحي بان هذه أشباح نساء ..
ثمة شيء ما لا يريح في هاته النسوة ..
إنهن مسربلات في عباءات فضفاضة وشعورهن ثائرة.. يمكنها ان ترى ان شعورهن ثائرة برغم أنهن على بعد خمسين مترا على الأقل ..
إنهن يمشين وسط المقابر .. ما الذي يدفع مجموعة من النسوة كي يمشين وسط المقابر ليلا ؟
وبشكل غريزي مدت يدها الهشة تضعها على فم الطفلة ، وغاصت في موضعها أكثر .. لحسن الحظ أنها تقف خلف شاهد حجري يسمح لها ببعض الاختباء لا كله ..
النسوة يتجهن الى مكان معين في المقبرة .. يقفن فيما يشبه الدائرة .. إنهن يرسمن شيئا على الارض .. ثم يلتففن ويشبكن أيديهن صانعات دائرة بأجسادهن ..
إنهن يدرن كأنهن يلعبن لعبة اطفال .. تزداد السرعة وطيلة الوقت يرددن شيئا ما لا يمكن ان تتبينه . لكنك تشعر به ..
هنا فقط خرجت ( ماجي ) من شبه الغيبوبة التي شلت حركتها ، وخطر لها ان ما تراه مهم جدا .. وعلى الفور خرجت عدسة ( الزوم ) وقامت بتثبيتها الى الكاميرا ، وبدأت تلتقط بعض الصور لهذا الجمع ..
شهيق الطفلة يتعالى من فرط إثارة وتوتر .. ولا شك انها تشوك على الفرار في أية لحظة ..
النسوة يقمن الآن بإخراج أقفاص صغيرة .. يخرجن ما بها ... الآن فقط تفهم ( ماجي) طقوس سحرية .. يمكنها ان ترى بعين الخيال ان ما رسم على الارض لن يكون إلا نجمة خماسية .. يمكنها ان ترى بعين الخيال ان ما يخرجنه من تلك الأقفاص حيوانات صغيرة يقمن بذبحها ..
ثم بدأت الجنون .. فعلا الجنون ..
رقصات مجنونة لا يمكن وصفها لا بد ان قبائل ( البوشمان ) لم تقم بمثلها حول النار ليلا . تلك الضحكات الرفيقة الماجنة التي تضحك بها الساحرات في السينما ..
صوت غراب يدوي من بعيد ، فتزداد حماسة الراقصات ..
ترى هل تفهم الصغيرة معنى هذا الذي تراه ؟ على الأرجح لا .. ولعل هذا من حسن الطالع .. هي فقط خائفة وهذا من حقها ..
ولكن ما هذا ؟ هل ثمة قبر يفتح ببطء ؟
هل هذا الذي يخرج منه دخان فعلا ؟
لماذا تصلبت النسوة وكففن عن الاحتفال الصاخب ؟
وقدرت ( ماجي ) ان الوقت قد حان كي تجمع حاجياتها وتفر .. لقد رأت الكثير .. هاذ المكان يحتاج إلى زيارة صباحية لرؤية ما كانت هاته النسوة يفعلنه ..
لكن الآن لا بد من الــ ..
ضربة في مؤخرة رأسها فأطلقت صرخة عالين واستدارت . فقط لترى ذلك الغراب الكريه يفر مبتعدا .. لا شيء يخيف .. إن الغربان تهاجم الأجسام اللامعة ، وقد كانت الكاميرا تلمع في ضوء القمر ..
لكن المشكلة هي ان النسوة سمعن الصرخة ..
إنهن قد تصلبن ..
إنه يتحركن نحو مصدر الصوت ..
وهنا فقط صرخت ( ماجي ) في الطفلة :
ـ فلنفر يا ( إلانور ) !!"
ولم تكن الطفلة بحاجة الى شرح ، لانها كانت قد انفجرت في البكاء الهستيري ..
جذبتها ( ماجي ) من يدها وانطلقتا تركضان وسط الأراضي الوعرة .. حامل الكاميرا في يد والطفلة في يد .. حفر .. حفر .. وهدة .. حفرة .. حفرة .. صخرة ..
ولم تجسر قط على النظر إلى الوراء .. لسوف ينتابها الهلع . .لسوف تتعثر ..
لا بد من فرارا سريع بلا تردد ..
وعندما تصل الى الخان ، سيكون هذا الكابوس قد انتهى ..
لكن هذه كانت ـ كما نعرف جميعا ـ هي البداية ..