12- لحظة الحقيقة ..
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم .. وهذا من حسن حظه ..
***
دق جرس الباب فذهبت لأفتحه ..
كانت الإضاءة خافتة بسبب المصباح المكسور إياه .
لكن الضوء الخارج من شقتي كان كافيا لأعرف من القادم ..
كان هو .. وقد بدا جادا صارما .
ـ " من قال إنني سأدعك تدخل شقتي ؟"
ـ " انا اعرف انك ستفعل . فانت تريد معرفة سر قدومي .."
كان صادقا .. لكني سألته :
-" جئت لقتلي طبعا ؟"
ـ " أنت اذكى من هذا .. انا لا اريد جثثا تشبهني تسبب تساؤلات عديدة .."
ثم تساءل حالما :
ـ " متى يخترعون وسيلة للقتل تزيل جثة القتيل من الوجود ؟ إننا بحاجة الى مدفع ( ليزر ) يحول المقتول الى بخار ...
ـ " إن الرفاهية التي يقدمها العلم لن تقف عند حد .."
ثم سمحت له بالدخول ..
ما أقبحني ! لو كان هذا الشيء حقا نسخة مني ، فإنني لا اجد سببا يجعل حسناء كـ ( ماجي ) تتعلق بي .. او فتاة عادية كــ ( هويدا ) تقبل بي عريسا .. لا بد أنني ظريف أو رائع الى حد مذهل .. بحيث تغطي جاذبية روحي على هذا القبح المريع ..
قال لي وهو يسترخي على الأريكة :
ـ " الحق أنني بدأت ارتاح لك يا ( رفعت ) .. يؤسفني ان لقاءنا يوشك على الانتهاء .."
ـ " انت صادق في هذا .. احدنا ذاهب الى الجحيم .. ولن يكون أنا !"
تنهد .. وقال وهو يفك رباطي حذائه :
ـ " إن الخلاص من نفسك لأمر عسير .."
ابتلعت ريقي وقلت له وانا اتحاشى نظراته :
- " دعنا نغادر الشقة .. سأدعوك الى كوب من العصير في مكان جيد .."
- ابتسم . وتربع على الاريكة قائلا :
- " ولوسف تدس لي مسحوق ( الديجتالا ) في العصير .. ثم تلقي بجثتي في الصحراء .. اليس كذلك !!
اسقط في يدي .. فسألته :
ـ " إذن لماذا انت هنا الآن ؟ "
ـ " اردت ان اعاود إقناعك .. فما ادعوك اليه ليس بهذه البشاعة.."
ـ " هذا عالمي .. وهذه حياتي .. ولا انوي التخلي عن أي شيء منهما .."
قال وهو يمد يده في سترته :
ـ " انا اعرض عليك حلا جذريا .."
وفي بلاهة رحت ارمق المسدس المصورب الى راسي .. مسدسي او نسخته إذا اردنا الدقة .. وتصلب جسدي كله :
- " لا تكن سخيفا .. انت لا لن تطلق علي الرصاص !"
- " لم لا ؟"
- " قلت إنك لا تريد جثثا تشبهك ."
- " هذا حق .. لكن احدا لن يجد جثثا .."
- " سيسمع الجيران الطلقة ..
- " عندما افتح الباب لهم ، واقول إنني بخير .. وان المسدس انطلق بينما كنت انظفه ، عندها سيعودون الى بيوتهم مغمغمين : يا للمجنون ! ثم ينسون كل شيء . بعدها احمل جثتك الى السطح ليتم التبادل .."
- كان مخي يعمل كسيارة سباق ..
هذا كلام منطقي .. ومن الغريب أنني لم افكر فيه عندما سمحت له بالدخول ..
عدت أسأله :
-" ولماذا لا تفعل ذلك الآن ؟"
ـ " لاني آمل في أن تفعلها حيا .. لست شغوفا بقتل من يشبهني الى هذا الحد .. لكني بالتأكيد سأضغط الزناد إذا استمررت في عنادك .."
نظرت الى ساعتي ..
إنها الرابعة صباحا .. ما زالت ثلاث ساعات تفصلنا عن الموعد المنتظر ...
وعلى أن اخدع هذا الوغد قبل فوات الأوان ..
ومرت الدقائق بطيئة مملة ..
يبدو أنني جست على الأريكة بعض الوقت فغبت عن العي .. ثم عدت لصوابي .. وتأملته .. كان جالسا يقاوم النعاس بدوره .. والمسدس في يده ..
أغمضت عيني من جديد .. وفتحتها فوجدته قد أغمض عينيه تماما ..
هل أثب عليه لأنتزع المسدس ؟
إنها مخاطرة .. ماذا لو كان حافظ الخطر عنده قويا . وفتح عينيه وانا على بعد مترين منه ؟ سيضغط الزناد بدون تفكير .. و ..
وعاد النعاس يهزمني من جديد ..
لكني كنت اعرف ان حرب النعاس سجال بيننا .. وانه يصحو حين انام أنا .. والعكس صحيح ..
وبدأ الضوء النظيف المنتعش يتسلل الى الشقة ..
صياح الديكة من مكان ما .. وصوت الطيور تتشاجر على لقمة العيش ..
ألقيت قطعة قرميد في المكان المذكور ..
ثم هرعت الى الهوائي .. فجاهدت حتى انتزعته من مكانه . كان مثبتا الى السور ببعض الحبال لم اجد مشقة في قطعها ..
ثم حملته الى موضع بعيد .. واحكمت ربطه هناك .. لم يأت شبيهي بعد ..
يحتاج الى بضع ثوان كي يفيق .. ويهرع الى الباب .. ثم يبحث عني في الطوابق السفلى لأنه يتوقع أنني هربت الى الشارع ..
بعد هذا سيفطن إلى انني لم ابرح النباية بعد .. وسيبدأ في البحث عني من اسف لأعلى .. حتى يصل الى السطح ..
ونظرت لساعتي . ربع ساعة .. عشر دقائق على الموعد ..
اشرقت الشمس .. ورايت ظل الهوائي ـ في موضعه الجديد ـ يرتسم على ارض السطح .. إنها السابعة إلا دقيقتين ..
هنا انفتح الباب ..
ورأيت ( رفعت ) يدخل شاهرا مسدسه ..
كان شرسا .. نظرة الغضب الوحشية في عينيه .. واحساسه بأنه قد خدع بشكل ما .. ولو لم يكن يخشى تأثير الموت على انتقال الجزيئات ، لافرغ رصاصة في جسدي فورا .. لكنه كان يخشى ان يفسد شيءا ما بقتلي ..
قال لي بصوت لم يفارقه النعاس تماما :
ـ " كانت محاولة حمقاء .. والآن تحرك . فقد حان الموعد !"
قلت وانا اتراج للوراء :
ـ " لن افعل !"
ـ " اسمع .. لم يعد الوقت يسمع بالمزاح .. هيا !"
قالها وازداد عصبية .. للمرة الأولى لا يبدو واثقا من نفسه الى هذا الحد .. وتقدم نحوي .. بطء .. ببطء ..
بدأت اتراجع بدوري الى البقعة المحددة .. حيث سقط ظل الهوائي ..
خطواته تقوده نحو قطعة القرميد ..
إنها السابعة تماما ..
تقف لحظة .. نظر حوله .. فتراجعت الى الوراء أكثر .. صار الظل فوق صدري ..
انتظر هنيهة .. ثم نظر للسماء .. وغمغم في شك :
ـ " غريب ! لم يحدث شيء .."
ـ " لعلها فوراق التوقيت بين الكوكبين .."
ـ " كلا .. إن الموعد في السابعة بتوقيتكم هنا .."
وعاد ينظر حوله .. ثم غمغم في شك اكبر ، وهو يركل قطعة القرميد :
ـ " لحظة ! هل قمت بتحريك الهوائي من موضعه ؟!"
والتمع الفهم في عينيه :
ـ " انت حركت الهوائي من موضعه !"
وهنا شعرت ان الهواء مشحون كأنما عاصفة رعدية تدنو . . وفي اللحظة التالية رأيت جسده يتحول الى لون ازرق باهت .. ثم بدأت ظلال سوداء تزحف لتغزو اللون الأزرق .. وازداد اللون شحوبا ..
لقد صار جسده شفافا تماما .. ثم لم يعد هناك شيء ..
اختفى ( رفعت إسماعيل ) من امام عيني ..
اختفى من الوجود في ثانية واحدة ..
لقد كان الاسترداد ناجحا ودقيقا .. وعاد الرجل الى عالمه مرغما .
ولحسن الحظ لم يفهم الجزء الأخير من اللعبة إلا بعد فوات الأوان ..
***
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم ..
شكرا لله ..!
***
الخاتمة
هذا هو كل ما استطيع قوله عن هذه القصة ..
اشبه شيء هي بهلوسة في عقل اضناه المخدر او الإدمان .. لكنها حقيقة واقعة ..
ولقد احتجت الى جهود كونية ، كي أصلح كل الخراب الذي تركه الوغد في عالمي قبل ان يرحل ..
تحججت لدى البعض بإرهاق أعصابي .. او بحيرتي .. أو بمرضي النفسي . او بخرقي وغبائي .. المهم أنني خسرت كثيرين لم يقبلوا مبرراتي ..
ولطالما دعوت الله الا يعود ذلك المأفون الى عالمي .. وإن كنت استبعد عودته ، فاجتياز العوالم الموازية ليس حقا من حقوق الإنسان يمارسه متى شاء .. ثم إنني اعتقد ان لدى الجرل مشاكل جمة في عالمه .. مشاكل اعقد مما حكاه لي .. ربما هو متورط في جريمة ما أو مأزق ما .. هذا هو المبرر الوحيد لحماسه الشديد كي يجعلني اعود بدلا منه .
على كل حال لم يجل بخاطري قط أنني قد أكون مرعبا الى هذا الحد ..
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم .. ومن الأفضل لنواميس الطبيعة ألا يحدث هذا ابدا ..
***
والآن ـ بعد هذه المغامرة القصيرة ـ يمكننا العودة الى روتين الحياة المعهود ..
تمت ،،،