11- التسلل ..
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم .. لهذا ربما احتاج الى البحث عن هذه النفس في كل مكان مطروق ..
***
ولكن اين هو الآن ؟
ما دام لا يحث عني فعلي أن ابحث عنه..
إن يوم الجمعة يقترب .. وبعده سيكون علي ان أتحمل وجوده معي للأبد .. لكنه لن يحاول تعكير حياتي وقتها .. بل سيحاول إنهاءها !
لقد تجاوزنا مرحلة ( المقالب ) إلى مرحلة القتل .. علي ان أجده سريعا .. لكن اين ؟
***
هو قال إنه يقيم في فندق ..
يمكننا هنا ان نستغل التشابه الشديد في طباعنا ، لنتوصل الى هذا الفندق .. هو فنقد من النوع الذي يناسبني .. نظيف .. صغير .. ثم هو فندق رخيص الثمن .. لان إمكاناته المادية محدودة ..
أضف لهذا أنه فندق دان من بيتي .. ما دام الرجل يحوم حول منطقة سكني بهذا الإفراط .. وهو لا يملك سيارة .. ولا يستعمل سيارتي في المعتاد .
وهكذا ـ وعلى طريقة ( هولمز ) الشهيرة ـ أمكنني ان أركز شكوكي في ستة فنادق . كلها تتمتع بالشروط الثلاثة ..
ورحت اجول بينها بالسيارة .. بعدما أعددت بعض احتياطات ضرورية ..
دخلت فندقين لأسأل عن (رفعت إسماعيل ) .. وهو سؤال غريب طبعا لو أتضح ان الرجل يقيم في أحدهما .. ( رفعت ) يسأل عن ( رفعت ) .. سيجن موظف الاستقبال حتما ..
لكن الفندق الثالث أراحني من عناء السؤال .. كان اسمه ( فندقا المهراجا ) .. وهو اسم غريب لا يبعث الطمأنينة في النفس ..
فما إن دخلت إلى ردهة المكان ، حتى وجدت موظف الاستقبال يمد يده ـ دون أن ينظر لي ـ ليلتقط مفتاحا من اللوحة خلفه ، ويناوله لي دون اكتراث .. ثم يعود لمطالعة الجريدة التي أمامه ..
فهمت ! هذا هو الفندق المقصود .. والموظف يحسبني انا ( رفعت إسماعيل ) غير عالم ـ الأحمق ـ أنني ( رفعت إسماعيل ) !
للأسف فاتني ان اعرف رقم الحجرة .. فاللوحة بها عدة مفاتيح ناقصة .. لهذا استجمعت شجاعتي وسألته أسخف سؤال ممكن :
ـ " معذرة ! غرفة رقم .."
ارتفع حاجباه في دهشة .. ونظر لي هنيهة ثم قال :
ـ " رقم ستة وخمسين ! هل نسيت يا دكتور ؟"
حاولت أن ابرر موقفي بشرود الذهن .. حكيت له عن الأديب ( تشسترتون ) الذي وقف في طابور البنك حتى وصل الى الصراف .. عندها أدرك انه نسي أمسه ! والتفت الى الواقفين يسألهم : هل يعرف أحد اسمي من فضلكم ؟
ابتسم الموظف ابتسامة باهتة .. إن هذه النكتات الإنجليزية لا تناسب موظفي الاستقبال كما هو واضح .. على كل حال لقد عرفت ما اريد ..
وتهيأت للانصراف حين تذكرت .. تذكرت أنني نسيت الرقم من جديد ! تبا لعقلي الفراغ المتخاذل ! لقد أنستني حكاية ( تشسترتون ) الرقم بعد دقيقة من سماعه .. لهذا التفت الى الموظف من جديد :
ـ " سامحني على وهن ذاكرتي .. قلت لي ما هو الرقم ؟"
نظرة حيرة تبدت في عينيه . .أتراني اسخر منه ؟ في النهاية قال نافذ الصبر :
ـ " ستة وخمسون ! إنه مكتوب على المفتاح على كل حال !"
ـ " شكرا .."
وصعدت في الدرج .. لا بد أن الغرفة السادسة والخمسين في الطابق الثاني .. ووجدت أرقام الخمسينات على الأبواب أمامي .. فسرت معها حتى وصلت الى الغرفة المطلوبة ..
ليس ( رفعت ) هنا حتما ما دام مفتاحه مع موظف الاستقبال .. فلأدخل دون وجل .. كليك ! انفتح الباب عن وكر الأفعى ..
ودون تردد خطوت الى الداخل .
لم تكن الغرفة آية في النظام والنظافة ..
هذا طبيعي .. أليس هو ( انا ) آخر ؟ ثم إن عاملة الفندق لا تنظف الغرفة إلا مرة واحدة في الصباح ..
رحت أتأمل أشياءه في فضول نهم ..
أكوام من الجريدة التي أقرؤها دون سواها .. ثيابي التي سرقها مني في كل موضع ..
لا اعتقد أنه سيحتفظ بمالي هنا ..
وجوار الفراش وجدت علبة مميزة .. علبة أقراص ( النتروجلسرين ) إياها .. فهو مثلي يشكو من ضيق الشرايين التاجية في سن مبكرة نسبيا ..
كان المقلب الأول في ذهني تماما ، وقد استعددت له منذ وقت مبكر..
مددت يدي الى جيبي وأخرجت علبة أقراص ( الإفدرين ) .. ثم إنني أفرغت محتويات علبة ( النتروجلسرين ) في جيبي .. وملأت العلبة بـ ( الإفدرين ) ..
إنها مفاجأة غير سارة لمرضى القلب عموما .. سيشعر بألم في صدره ، ويحاول ان يخفف منه بقرص ( نتروجلسرين ) .. عندئذ يؤدي ( الإفدرين ) عمله ويزداد العبء على القلب أكثر فأكثر .. ربما يؤدي الى الوفاة أيضا ..
الوفاة ؟
عندها توقفت .. تصلب أطرافي .. ثم ـ لا شعوريا ـ مددت يدي لأفرغ العلبة من ( الإفدرين ) .. إن القتل أصعب مما توقعت .. خاصة حين يكون قتلا خسيسا مخادعا كهذا .. على كل حال إن علبة ( نتروجلسرين ) فارغة لأفضل واقل ضررا من علبة ملآ بسم زعاف ..
قررت ان امرح قليلا على طريقته ..
وهكذا قمت بإتلاف بعض الأشياء في الحجرة .. وخدشت الجدران بقلمي .. ومزقت حشية الفراش .. أتمنى ان أرى وجهه حين تطالبه إدارة الفندق بثمن هذه الإصلاحات .. إن فندق ( المهراجا ) هذا لا يقبل التشيكات طبعا .. وبالطبع يحتفظ ببعض البلطجية لإقناع الرافضين من أي نوع ..
***
تأهبت للانصراف حين سمعت صخبا خارج الغرفة .. أرهفت السمع .. فتبينت صوتي الوقور يتكلم بالخارج .. والصوت الآخر كان موظف الاستقبال .. لقد وقعت في الشراك !
كان موظف الاستقبال يكرر في حماس :
ـ " أقسم إنك أخذت المفتاح وصعدت لحجرتك منذ دقائق .."
وكان ( رفعت ) يقول في إصرار :
ـ " وهأنذا أمامك ! فهل وثبت من النافذة وعدت لأدخل من الباب ؟ "
ـ " أستغفر الله العظيم !"
ـ " لن نظل هنا طيلة اليوم .. هل معك مفتاح آخر ؟"
ـ " بالطبع . لكن .." ـ ثم في استسلام ـ " استغفر الله العظيم !"
لم يكن هناك مفر من الاختباء ..
وراء الستائر ؟ لا .. إنه مكان أبله لا يناسب سوى أبطال مسرحيات ( شكسبير ) .. تحت الفراش ؟ سيكون في هذا ( بهدلة ) لا بأس بها .. لكنه الحل الوحيد ..
وهكذا شرعت أزحف تحت الفراش ، ومددت جسدي .. يا له من جسد مليء بالعظام لم يخلق للنوم على الأرض !
وهنا سمعت صوت المفتاح يدور في الباب ..
ـ " يا الله ! ماذا أصاب الغرفة يا سيـ ..؟"
ـ " لا عليك .. خذ هذا .. سنتفاهم فيما بعد ..؟"
ـ " لكن ..."
وعرفت ـ من مكاني ـ أن جنيها قد استقر في جيب الموظف ليخرس. .ثم سمعت صوت الباب يغلق ..
لقد صار ( رفعت ) وحده هنا الآن ..
سمعته يصدر عبارات ذهول او ضيق .. ثم غمغم: " فعلها اللعين " !"
كان يتأمل الخراب الذي قمت به .. ثم سمعت خطواته تدنو أكثر فأكثر .. حبست أنفاسي .. شعرت به يجلس على الفراش فوق .. الملة تئن ..
ثم سمعته يقول بصوت هادئ :
ـ " هلم يا د. ( رفعت ) .. اخرج ! أنت لن تظل ها هنا ليوم الدين !"
واصلت الصمت .. فشعرت بيده تتحسس الملاءة ..
وارتفع طرفها .. وعاد يكرر إلحافه بذات الصوت الهادئ :
ـ " هلم .. انا اعرف أنك هنا .. لا تجبرني على الانحناء .."
هنا لم اعد واجدا نفعا من البقاء في هذا القبر ، فأخرجت جسدي بكثير من العناء .. وجلست القرفصاء على الأرض انفض الغبار عن ثيابي .. بينما جلس هو فوق الفراش يتأملني كأنما أنا شيء معتاد في عالمه ..
سألته وأنا انهض :
ـ " كيف عرفت ؟"
بلا مبالاة قال :
ـ " أنا اعرف انك صعدت ولم تهبط .. إذن أنت في الغرفة .. ولا يوجد مكان للاختباء بالغرفة سوى تحت الفراش . .إن الاختباء وراء الستائر لا يناسب سوى أبطال مسرحيات ( شكسبير ) !"
حقا هو يفكر مثلي بدقة تامة ..
عاد سألني دون ان ينظر إلي :
ـ " هل جئت لقتلي ؟"
ـ " ربما خطر لي هذا .."
ـ " ... وجبنت.. اليس كذلك ؟ اما أنا فلن اجبن عن هذا .. لكن لا تخف .. لن أقتلك ها هنا لان التخلص من جثتك مشكلة .. وعلى كل حال .. ما زلت أعتقد أنك سترجح جانب العقل .. ما زال يوم ( الجمعة ) ينتظرنا ."
ثم تأمل فوضى الحجرة حوله .. وقال دون ان يبدو لوم في كلامه :
ـ " انت تضرب تحت الحزام .."
ـ " مثلك ! والبادئ اظلم .."
ضحك من قلبه حتى غرق في نوبة سعال .. ثم سألني :
ـ " كح كح ! هل ستكون هناك يوم ( الجمعة ) ؟"
ـ " لا تعتمد على هذا .."
ونهضت وسويت ثيابي .. واتجهت الى الباب ..
قال لي مذكرا :
ـ " موظف الاستقبال سيطلب المفتاح منك .."
ـ " سأعطيه إياه .. إنه معي .. هل نسيت ؟"
ـ " وكيف أخرج أنا ؟"
ـ " تلك مشكلتك !"
وغادرت الحجرة دون تردد .. ولم أنظر للوراء ..ونظر لي موظف الاستقبال نظرة لن أنساها ابدا . فأنا إنسان مجنون تماما لا يكف عن الدخول والخروج ، واستبدال بذلته .. دونما تفسير واضح .
تجاهلت نظرته ، وغادرت الفندق ..
***
إن يوم ( الجمعة ) قادم بسرعة جنونية ..
إنه منتصف ليلة ( الخميس ) !