6 أخيرا نلتقي !
إن المر لا يلقى نفسه كل يوم .. لهذا قد تصرف هذه النفس بكامل حريتها ، ودون رقابة .. وهذا قد يكون خطرا .. خطرا أكثر مما تظن ..
***
- " أنا قلت لك ماذا ؟ "
اندفعت الصرخة من حلقي .. ويبدو أنني وقفت : أو أنني وضعت ركبتي على المائدة .. لا اعرف حقا ما فعلته . لكنه كان مجنونا ..
- قالت همسا وهي تضع سبابتها أمام شفتيها المضمومتين :
- - " صه ! لا فضائح من فضلك .. يكفيك ما كان صباح اليوم ! "
عدت أسألها مستعملا ( أوكتافا ) اقل في صوتي :
- " انا قلت ماذا ؟"
مطت شفتيها في اشمئزاز .. وغمغمت :
- " ما كان لك ـ ايها ال**************** ـ ان تستغل غياب صديقك عن داره .. وتأتي لزوجته كي تصارحها بحبك .. أبعد كل هذه الصداقة ؟ أبعد كل هذه الثقة ؟"
كانت تكرهني حقا .. تحتقرني حقا ..
وشعرت أنني اتلاشى تماما .. لن تفهم شيئا ولن تصدق شيئا .. لقد احيط بي حقا ولم تعد الكلمات تجدي ..
هنا ـ غارقا في مجرور أفكاري مقيت الرائحة ـ سمعت ( عادل ) عائدا ..
لقد انهى مكالمته .. كان يقول أشياء وأشياء ..
- " قلت لك إنها مهنة تقصف العمر " .. عساه لم يسمع .. عساه لن يعرف .. " كلهم لا يجدون سواي كي .." .. والخطيئة المرتسمة على وجهي تعلن للكون كله أنني حقا فعلتها .. " .. لقد قتل زوجته لأنها عايرته بفقره .." .. كيف افسر شيئا كهذا لا اصدقه انا نفسي ؟" ثم سلم نفسه .. ويقول .." .. الصديق الخائن .. لكني لم أخن .. فعلها الوغد .. و .. " الساطور .. دماء .." .. لم يعد البقاء ممكنا هنا .. " الجيران سمعوا صراخها " .. هذا البيت محرم علي إلى يوم الدين .. لكن هل محرم عليه ( هو ) ؟
ووثبت على قدمي المتخاذلتين .. وبصوت كالتوسل صحت :
- " خذني معك !"
- " لا تكن سخيفا .. نحن لم نجلس معا بعد .. ثم إنك لم تحتس الشاي .."
بصوت كالبكاء :
- " خذني معك يا عادل !"
- " لن اتأخر .. ستنتظرني هنا.. إن (سهام ) بمثابة أختك لون يضير في شيء أن .."
- " خذني معك !"
نظر لها في حيرة .. ثم لي ..ثم لها .. وهز كتفيه باستسلام :
- " ليكن .. طالما تصر على ذلك .. لكننا سنعود .."
واتجهنا الى الباب ، ولم استطع ان التفت الى الوراء لأشكر ( سهام ) على حسن ضيافتها .. أعرف أنني لن اضع قدمي في هذا البيت الحبيب أبدا ..
وفي السيارة ظللت صامتا ارمق الشوارع بعينين من زجاج ..
( عادل ) يتكلم.. يتكلم .. ثم سمعته يقول بنبرة عالية ليجذب انتباهي :
- " ( رفعت ) ! ما بالك ؟ تبدو كمن رأى شبحا .. بل تبدو شبحا أنت نفسك ! "
ثم أردف وهو يدس لفافة تبغ في فمه :
- " ربما لم تكن ( سهام ) ودودا كما يجب ..لكني أعرف أنك واسع التفكير .. ونحن لن نفهم النساء أبدا .. هل تعرف السبب ؟ "
فلما لم ارد .. اجاب على السؤال بنفسه :
- " لأننا لسنا نساء ! نياهاهاهاه ! حلوة ! اليس كذلك ؟"
كان هذ اهو ما أحتاج اليه كي أبكي .. انفجرت ماسورة عواطفي وأحزاني كي تغرق الميادين وتعطل المرور في مدينة الواقع .. وسمعت ( عادل ) يتساءل في لهفة عما حدث . أتراها ( سهام ) ؟ اللعينة ! لا بد أن لسانها الشبيه بذيل الأفعى قد ...( رفعت )! بسم الله الرحمن الرحيم ! هل نتوقف ؟ هل احضر لك بعض الماء ؟
كنا قد وصلنا الى ( مديرية الأمن ) ، وحيث تركت سيارتي .. ففتحت باب سيارته وخرجت متثاقلا . وبصوت لم آلفه همست وأنا انحني على نافذته :
- " اسمح لي .. اريد ان انفرد بنفسي قليلا .."
- " لكنك لا تبدو في حالة تسمح بــ .."
- " انا بخير .. فقط أنا مرهق . مرهق .."
وابتعدت دون ان اترك له فرصة الاستزادة ...
***
كان الشاطئ خاليا تقريبا من الناس ...
في ذلك الوقت لم يكن ( العجمي ) بالازدحام الذي نعرفه ، ولم يكن الوقت وقت اصطياف على كل حال ... لهذا مشيت .. مشيت ...
يداي في جيبي بنطالي . والريح تصفر في أذني كأنما قوقعة عملاقة ملتصقة بها .. ورذاذ البحر يبلل زجاج عويناتي .. ويملأ فمي بمذاق مالح ..
رمال .. رمال .. يبعثرها حذائي يمينا ويسارا ..
وخواطر لا تنتهي ..
نظرت الى البحر .. وقلت له : هأنتذا ايها البحر بأسرارك الغريبة ، ترمقنا منذ ملايين السنين .. وتخفي في أعماقك الكنوز والجثث و ....
ثم وجدت أنني لا أتأمل .. بل أمثل أنني أتأمل .. واردد ذات ما يقوله كل من يقرر ان يكتب عن البحر .. الواقع أنني لا اجد في البحر ما يثير أبدا ...
مجرد صفحة غبية مملة من المياه ... مثله امثل ترعة قريتي .. الفارق الوحيد هو أنني لا ارى الضفة الأخرى ...
ونظرت الى الأمام لأتجنب سخف الأمواج .
كان هناك رجل يقف في الماء الضحل ، وقد ثنى طرفي بنطاله .. وغمر قدميه العاريتين حتى الساقين في الزبد .. وكان منحنيا على الماء يتفحص شيئا ما ، بدا لي شيء مألوف في مظهره ..
دنوت منه أكثر ..
كان نحيلا كعود خلة .. اصلع ككوكب المشتري .. يرتدي بذلة كحلية اللون وقد تطايرت في الريح ربطة عنق رمادية .. على أنفه عوينات سميكة ..
وكان يضع تحت إبطه حذائين مألوفي الشكل لي .. أنا اعرف هذا الكهل .. ولكن أين ؟
شعر بوجودي ـ وقد صرت على بعد مترين منه ـ فرفع رأسه ، وتلاقت عينانا .. فابتسم .. لقد عرفني كذلك ..
لقد رأيت وجهه مرارا .. أين ؟؟ أين ؟؟ في مرآتي ؟!
في صوري الشخصية ؟ في عقلي الباطن ..
وهنا بدأت افهم ..
لقد جاء الفهم بطيئا .. لكن جاء شاملا قاسيا مروعا ..
إنه هو !
إنه أنا !
***
ظللنا لفترة لا بأس بها نتبادل النظرات .. إن كلام ( اينشتاين ) عن الدقيقة التي تمر فوق موقد مشتعل فتبدو كساعة .. والساعة التي تمر مع حسناء فتبدو كدقيقة ، هذا الكلام لا يعني شيئا ها هنا .. فأنا لم اتعذب بلقاء هذا الرجل .. لكن دهرا كاملا مر عليها ونحن صامتان ..
اخيرا وجدت الكلمات :
- " انت ؟ "
بنفس صوتي .. قال :
- " وانت ؟"
- " إنني لم اتصورك بهذا القبح ! قرد أصلع يرتدي بذلة كحلية اللون .. بذلتي ايها اللص !"
وقبل ان يجد ردا .. كنت قد اطلقت العنان لغضبي ..
اندفعت قبضتي في لكمة عنيفة الى انفه . اكاد اقسم إنني سمعت العظام تتهشم .. إنه ضعيف مثلي .. لكني حانق .. وهذا ما يجعلني اتفوق عليه ..
واندفعت قدمي في ركلة شرسة لساقه فأطلق صرخة ألم .. وراح يتواثب كالقلق على ساق واحدة .. سقطت عويناته على الرمال .. فلم أتردد في سحقها تحت حذائي ..
ثم وثبت لأدفن راسي الصلبة في بطنه .. وهنا سقط على الأرض ، وسقطت فوقه .. اعتصر عنقه بين أصابعي واضغط ..
انا لا استطيع إيذاء دجاجة .. ولماذا أؤذيها ؟ لكني ـ بالتأكيد ـ قادر على سحق افعى حينما اجن .. حينما انزع عن روحي أصفاد التحضر وقيود الخوف والوقار .. سأقتله الآن .. لن أنتظر حتى اسمع تفسيراته ..
كان يحاول أن يتكلم .. لكن الكلام مستحيل حينما تضغط يد مجنونة على حنجرتك ..
وأخيرا نجح في انتزاع عويناتي .. وشعرت به يحاول غرس إصبعين في عيني .. لهذا أبعدت وجهي إلى آخر مدى ممكن ..
هنا كان ( الأدرينالين ) قد ملأ دمي .. وشعرت بان قلبي قد صار اسرع من اللازم .. اسرع مما تحتمل شرايينه المجهدة ..
لحظة وهن مرت بي .. لكنها كانت كافية ..
وعلى طريقة المصارعين نجح في ان يعتليني بدوره ..
لكنه لم يحاول خنقي لم يوجه لكمات لي .. كان يمسك بمعصمي .. ويردد مرارا وهو يلهث :
- " صبرا ! هيه ! قلبك ايها الغبي ! إنه سيتوقف !"
لكني لم اكن مستعدا للتعقل ..
رفعت ركبتي معا وضربته في مؤخرة رأسه .. ثم نهضت لأعتليه من جديد .. ورحت أوجه لكمات مجنونة إلى وجهه ..
هذه من اجل البنك .. بوم ! هذه من اجل ( كاميليا ) .. بوم ! هذه من اجل اللحم .. بوم ! وهذه .. هذه من اجل ( سهام ) .. بوم بوم ! أقوى بكثير .. أما هذه فــ .. بوم ! من اجل بذلتي الكحلية .
.كان صلبا او انا أضعف مما ينبغي .. هذه اللكمات لو كان صاحبها رجلا عاديا لأمكنها قتل فيل .. لكين لست رجلا عاديا .. إن قوتي تعادل قوة دجاجة مصابة بضمور العضلات ..
والوغد ما زال يحاول الكلام ..
كان الغضب اقوى من عضلاتي .. لهذا انحنيت وفعلت الشيء الوحيد الممكن ..عضضته في ساقه عضة جعلته يصرخ .. يصرخ ليثير ذهولهم في ( إيطاليا ) ..
والتحمنا في صراع فوق الرمال ..
لا بد ان منظرنا بدا غريبا .. نوعا من مصارعة الديوك . لم تطل كثيرا ..
وفي النهاية جاءت الأمواج لتغمر جسدينا .. جسدينا الراقدين فوق الرمال وقد قتلهما الإنهاك والانفعال ..
وحين انحسر الموج كنت قد هدأت نوعا ..
ورحت أكافح لأعب الهواء في صدري .. وأحاول النهوض جالسا . أما هو فظل راقدا على ظهره يلهث .. وصدره يعلو ويهبط ..
في النهاية استطاع ان يقول :
- " انت .. شرس .. حقا !"
قلت وان ابصق الماء المالح من فمي :
- " وانت صلب حقا .. كان المفترض ان تكون في جهنم الآن .."
قال وهو ينظر الى السماء :
- " إنا متعادلان في القوة .. فلا أمل في أن يفوز أحدنا .. كما في الشطرنج حين ينتهي الدور ( باطة ) .. "
- ونهض .. وأردف وهو يحاول الاتزان :
- - " ثم إنني اطول منك نفسا لأنني .. أقلعت عن التدخين منذ خمسة أعوام .. هلم ساعدني على النهوض .."
مددت له يدي فالتقطها .. ونهض ..
على حين مشيت الى الماء لأغسل عويناتي ثم اضعها على أنفي .. ورحت أتأمله عبر قطرات الماء التي تبلل الزجاج ..
إنه أنا .. دون زيادة أو نقصان ..
حسن .. مرحبا بك يا ( دستويفسكي ) يا استاذ الجنون .. .هو ذا المشهد الذي طالما وصفته في رواياتك .. لقاء البطل مع نفسه .. الرواية تدنو من نهايتها ..
سالت الرجل وانا انفض الرمل المبتل عن ثيابي :
- " والآن كفانا مزاحا .."
- " هذا حق .. إن المزيد من المزاح سيقتلنا .. "
- " قل لي من أنت .."
نظر لي وضيق عينيه .. ثم قال في ثبات :
- " يا سلام .. ومن أنا إذن ؟ "
- " هذه مشكلتك .. لا بد أنك شخص ما .."
قلت في غضب :
- " أسمع يا صاح .. انت تعرف أنني اعرف أنك تعرف أنني ( رفعت إسماعيل ) فكف عن هذه التمثيلية .."
قال وهو يمط شفتيه في سخرية :
- " تمثيلي ؟ احقا تأمل في هذا ؟ انت رجل يا .. يا ( رفعت ) .. لهذا أناشدك بالله ان تقول لي : هل حقا يمكن لتشابهنا ان يكون مصادفة ؟"
قلت وانا ادير الإحتمالات الرياضية في ذهني :
- " هذا عسير لكنه ليس مستحيلا .. إن الرجال نحيلي القوام ذوي العوينات صلع الرءوس يتشابهون .. ثم إن الشارب يجعل الرجال جميعا يحملون ذات الطباع .."
- " نعم .. ونفس الندبة في الكوع الأيسر !~"
قالها وهو ينزع سترة البذلة .. ثم يطوي كم قميصه ليريني ما يتحدث عنه .. وكان صادقا ..
قليلون يعرفن بأمر هذه الندبة . .الكسر الذي حدث حين سقطت من فوق الأرجوحة .. كان ذلك في بيت خالي في ( المنصورة ) .. سن العاشرة ؟
الألم .. الجبس .. كسر لم يلتحم جيدا .. ندبة .. فتحت فمي ومددت إصبعي داخله .. هنا صاح قبل أن أسأله :
-" تتحدث عن الحشو الذي سقط في الضرس الثاني . .هو ذا ! يمكنك ان تراه وتتحسسه إذا لم تخش ان اعض إصبعك !"
" أنا اشمئز من محتويات فمك !"
" عسير على المرء ان يشمئز من فمه الخاص .. وانت تدرك جيدا اننا ذات الشخص .."
-" وتريد مني ان اصدق هذا ؟ "
" تصديقك او عدم تصديقك لن يضير الحقيقة .. إن الشمس تشرق من الشرق .. وعاصمة ( النرويج ) هي ( هلسنكي ) .. اردت او لم ترد .."هذا صحيح .. حتى تعبيراتي الأثيرة يستعملها بذات الأسلوب ..
لكن هناك تفسيرا لك هذا ..
وواجبه ان يقدم لي هذا التفسير ..
وهنا تذكرت خطأ صغيرا ارتكبه وهو يتكلم .. فقلت مصححا :
- " آ . بالمناسبة عاصمة ( النرويج ) ليست ( هلسنكي ) بل هي ( اوسلوا ) !"