3- وأشياء مريبة هناك ..
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم .. ولهذا تجدني ميالا الى نظرية الجنون لأسباب يطول شرحها ...
***
هرب الدم من نافوخي . ويمكن القول ـ عمليا ـ إنني بدأت امر بأعراض الصدمة كما تصفها الكتب الطبية :الدوار .. ضربات القلب السريعة .. العرق البارد .. ثم ذلك الشعور المقيت بأن الحياة تنسحب مني ..
لكني وجدت صوتا واهنا استطعت ان اجبره على سؤالها :
- " أنا طلبت .. الزواج ؟"
تنهدت كأنما تجد الأمر سيئا .. وقالت :
- " أمس .. في الواحدة صباحا .. هل نسيت ؟"
هنا وجدت من الحكمة ألا أشعرها بشيء غير عادي .. فسألتها بعسر :
- " و .. وما رأيك ؟"
- " ما زلت حائرة .."
- " كنت بالنسبة لي دوما مجرد صديق ذكي .. ومن العسير ان افكر فيك من وجهة نظر أخرى .. انت تفهم قصدي .. اليس كذلك ؟"
- " بلى .. بلى !"
- " لكني أحاول !"
هنا ارتجف قلبي هلعا ..
أتراها ترفض وتحاول ألا تجرح ـ كما تتوهم مشاعري ؟ أم هي فعلا تحاول؟ ام هي قبلت وتنتظر مني مزيدا من التوسل ؟
قلت لها وانا ارى بقعة سوداء تتضخم امام عيني :
- " حاولي يا ( كاميليا ) .. حاولي !"
- " هذا عسير كما تعلم !"
" أعلم .. ولكن حاولي .."
فكرت قليلا .. ثم قالت كأنما تكلم نفسها :
-" لم أكن قط كالفتيات الأخريات .. كنت دوما جادة صارمة .. ولم أتزوج لأني لا اريد ان افقد عقلي وسط أواني المطبخ ورائحة السمن ..
لكني ـ لو قررت ان اتخذ فارس
احلام لي ـ لكان بالتأكيد يختلف عنك .."
هذا هو ما خطر لي كثيرا ..
إن فارس الأحلام الاصلع النحيل الذي يسعل طيلة الوقت ، ليبدو غريبا حقا حتى بالنسبة لسكان ( المشتري ) إن كان له سكان ..
أنا كذلك تختلف فتاة أحلامي كثيرا عن ( كاميليا ) .. لكني لن أصارحها بذلك .. سأحاول تفادي هذا الموقف المحرج بكياسة وحكمة ..
قلت لها بصوت العاشق الجريح :
- " أرجوك أن تحاولي يا ( كاميليا ) .. سأعطيك فرصة .."
وتثاءبت واعدا نفسي بنومة مريحة تزيل إرهاقي الذهني .. فقط فلتنته هذه المكالمة بأسرع ما يمكن . .
وأردفت وبرودة البلاط تفتل قدمي العاريتين :
- " لا تقولي ردك الآن .. وداعا .."
- " وداعا .."
قالتها في عدم رضا .. كانت تريد توسلا حارا ورجاء .. وربما تهديدا لها بان أقلتها وانتحر إذا رفضت ..هذا هو ما يرضي كبرياء أنوثتها .. اما ان اتكلم بهذا الأسلوب العقلاني البارد فأمر اقرب للإهانة ..
وضعت السماعة .. وهرعت لأندس تحت أغطية فراشي ..
ألن أحاول فهم ما سمعت ؟ فيما بعد .. حينما أصحو من النوم مرتب الذهن ، سأفكر مليا وانا ارشف قدحا من القهوة ـ في كل هذا ..
***
في المساء دق جرس الباب حاملا في مصيبة جديدة ..
فتحته لأجد ( عزت ) ـ بوجهه الكئيب المكفهر الترابي ـ يقف على الباب ، وقد رسم على سحنته ابتسامة رقيقة ( أعوذ بالله ) ..
كان يحمل في يده شيئا ما ملفوفا في قطعة من الورق ، وتم ربطه بحبل ..
وقال لي في مودة وهو يتراجع للوراء خطوة :
- " مرحبا ( رفعت ) .. عسى الا اكون قد أزعجتك.."
- " انا لا أجد أي إزعاج في ان يقرع احدهم جرس بابي عند منتصف الليل ..
هذا من حقه كما تعرف .."
- " وعلى العموم لن أطيل عليك .."
ووجدته يضع لفافته المرعبة في يدي .. ويقول وهو يبتعد :
- " هذا هو ما طلبته مني .. إنه اقل ما يجب اتجاهك .."
ثم تقلص في وجهه في تواضع أبله .. وأردف :
- " الحق أنني لم أتوقع أنك تفهم في الفنون إلى هذا الحد .."
هنا بدأ الأمر واضحا لي ..
لا داعي لمزيد من الأسئلة ( أنا ) زرته أمس مساءا وقضيت معه ساعة أو ساعتين .. ولا بد أنني أبديت انبهارا شديدا بأحد تماثيله المرعبة ، وطلب منه ان يهديه لي .. كل هذا واضح ولا داعي للاستفسار عنه ..
عدت لشقتي ووضعت اللفافة على مائدة الطعام ، وقطعت الحبل بسكين الفاكهة .. وكان التمثال ينتظرني .. تمثال يمثل سحلية فشلت في التظاهر بأنها بطيخة .. او جزرة مصابة بسرطان البنكرياس .. يبدو ان الاخ (عزت ) بدأ يتجه الى النحت الحديث .. وقد جعلني هذا ادرك للمرة الاولى مدى جمال وعبقرية تماثيله القديمة ..
إن هناك من يسخر مني .. من المستحيل ان يروق هذا التمثال لإنسان عاقل ..
***
وهكذا ـ لكم ان تراهنوا ـ جلست اتأمل التمثال وافكر في معنى كل هذا ..
يمكنني رسم خط سير لا بأس به لهذا الـ ( رفعت إسماعيل ) الموجود في كل مكان .. إنه نشيط جدا .. نشيط الى حد مرعب ..
لقد قاد سيارتي .. ثم قضى بعض الوقت مع ( عزت ) ، واختار هذا التمثال .. ثم ذهب الى المستشفى وأنقذ حياة مريضة ، وحاضر الطلبة عن سرطان اللمف .. وايا ما كانت شخصية هذا النصاب فهو يفهم جيدا في أمراض الدم ..
ليس هذا فحسب ..
بل إنه اتصل الدكتورة ( كاميليا ) وطلب يدها نيابة عني !
لقد قضى الوغد يوما حافلا مليئا بالإنجازات ، بينما انا غارق حتى أذني في حسابات معقدة ، وحيرة غبية ..
والغريب أنه يمارس كل هذا بعيدا عن بيتي .. يجري الاتصالات الهاتفية ، ويحاضر ويعالج ويعجب بالفن الحديث .. كل هذا في وقت لا أتوقعه فيه ..
أمس كان المفترض ان احاضر الطلبة .. لكني اعتذرت .. وهكذا خلا المكان له كي يحاضرهم هو .. ويعتذر عن الاعتذار ..
ولم يكن مفترضا ان امر على المستشفى ليلا .. لكنه فعلها هو .. وقام بما قام به .. وعرف أنني لن أزور ( عزت ) لأني سأنتظر في شقتي .. وهكذا زار هو ( عزت ) وقضى معه ساعة ممتعة .. ممتعة لـ ( عزت) طبعا ..
من هو ؟ من هو ؟
***
حتى هذه اللحظة كان دور الرجل لا يزيد على أداء بعض المجاملات عني .. وهو أمر يسرني انا الذي لا اطيق المجاملة ..
لكنني بدأت اشعر بخطورة الأمر حين توجهت الى البنك صباحا ، لأنهي ورطة مادية مزمنة يعرفها كل من يتقاضى راتبه اول الشهر مثلي ..
هنا بدت الدهشة على وجه الصراف ، وكان هذا كافيا جدا لأعرف أنني قد مررت بالبنك امس وقمت بسحب ألف جنيه .. والتوقيع هو توقيعي ذاته بالطبع .. كلا .. لا داعي لإثارة جلبة .. أريد مبلغا آخر من فضلك ..
وغادرت البنك مخدر الأعصاب ..
إن الامر أخطر مما ظننت .. فما دام يتعلق بالنقود الشيء الوحيد القادر على أن يؤلمني ـ فلم يعد تجاهله ممكنا .. إن ألف جنيه لمبلغ فادح في عام 1970
ماذا ينوي هذا النصاب عمله بمالي ؟ وهي يستمر في خرابي على ذات الوتيرة الى الابد ؟ أين هو ؟ ولماذا هو مختف حتى هذه اللحظة ؟
***
في طريق العودة عرجت على الجزار لأبتاع لحما .. لست أكولا لكن قطعة لحم من حين لآخر قد تنعش روحي .. الست من رأيي ؟
كان الرجل يقضي ساعات فراغه في عد المال .. وتكديسه في الدرج ، والتلويح بتلك السكين الهائلة الحجم ، والحديث عن الرضا بالقليل .. فهذا هو المقسوم لنا ..
قال لي حين رآني أتأمل اللحم المعلق في رهبة :
- " حمدا لله على السلامة يا دكتور ! أرجو أن تكون ( قطعية ) الأمس قد راقت لك !
نظرت له في غباء ..
ثم فهمت على الفور .. فلم أحتج الى مزيد من الأسئلة ..
حييته شاكرا على روعة ذوقه ، وهممت بالانصراف ، لكنه استوقفني في أدب وهو يلو السكين :
- " لم اتقاض ثمنها بعد .. وعدتني بالدفع غدا !"
ثم فرك يديه في ترقب متلذذ :
- " وها نحن أولاء في الغد !"
لا جدوى من محاولة التظاهر بالحيرة او عدم الفهم .. نقدته ماله ، وانا اتمنى لو تحولت نظراتي الى ( مترليوز ) يثقب جسده .. وجسد كل من أراه في هذه اللحظة ..
وانطلقت بالسيارة وقد فقدت شهيتي للطعام نهائيا ..
لكن اللحم كان في ثلاجتي !
قطعة كبيرة حمراء تستقر هناك ، وقد اقتطع منها جزء صغير .. وأدركت ـ حين نظرت الى حوض المطبخ ـ ان هناك من طهى بعض الطعام في آنيتي ..
لقد تناول أحدهم الطعام في شقتي ظهر اليوم ، ربما منذ نصف ساعة لا أكثر .. إن المقود م ازال دافئا .. كما أنه ليس من هواة غسل الأطباق كما هو واضح ..
رحت ابحث في كل أرجاء الشقة عن متسلل لكني لم أجد ..
لقد فرغ من تناول طعامه وغادر المكان .. قبل وصولي بأقل من ساعة ..
على أن بحثي الدءوب استطاع أن يجد رزمة من الأوراق المالية ـ أقل من الف جنيه ـ على ( الكومود ) جوار فراشي ..
هذا هو المبلغ الذي سحبه من البنك .. وذلك هو اللحم الذي اشتراه من الجزار امس .. إنه ليس لصا .. ولا يتلاعب بي ..
كل ما هنالك مشكلة صغيرة جدا .. إنه يعتقد أنه انا !