2- أشياء مريبة ها هنا ..
إن المرء لا يلقى نفسه كل يوم .. لهذا لم استطع ان امنع نفسي من الشعور بخيبة أمل ساحقة ..
***
ومرت الليلة في سلام ..
لم تكن هناك أحداث سوى ذلك الكابوس المقيت الذي ألقى فيه مئات النسخ مني ، وكلهم غاضبون لسبب لا ادريه . لحظتها خطر لي ان اختفائي لن يشكل كارثة ما دام هناك المئات مني ، ومرارا صرخت : انا الوحيد ! أنا الأصل ! لكن ما معنى هذا ما دام الجميع يقولون نفس الشيء عن أنفسهم ؟
في الصباح استعددت للذهاب الى المستشفى ، وقد بدت لي ليلة امس شيئا بهاتا سحيقا كنقش رسمه الآشوريون على جدار ..
حييت البواب ، وادرت محرك السيارة الواقفة امام البناية.. كروو كروو !
ثمة مشكلة ما .. إن السيارة من طراز عتيق حقا لكنها لم تنته بعد ..
نظرة الى مؤشر الوقود جعلتني ادرك ان الخزان خاو او يكاد ..
كيف ؟ لقد كان به ما يكفي امس .. انا متأكد من ذلك .. هناك من يسرق البنزين من سيارتي او يسرق السيارة ذاتها ليتنزه بها ..
ناديت البواب .. وهو بالمناسبة شديد الكبرياء حاد جدا يعاملنا ـ نحن سكان العمارة ـ باحتقار لا مبرر له ، ولسان حاله يقول : لست خادما لأبيكم إن الزمن الأغبر هو ما جعلكم تصدرون الأوامر لي ..
جاءني متململا مشمئزا ، ويداه في جيبي جلبابه ..
فسألته في أدب معلنا عن خجلي من وقاحتي :
- " أ .. ( عبدالله ) .. هل رايت احدا يتحرك بهذه السيارة ؟"
اطلق زفرة ضيق .. وقال :
- " سبحان الله ! لا احد سواك .."
- " ولم ترا احدا يدنو منها ؟"
" سبحان الله ! لا أحد .. منذ ركنتها ها هنا مساء امس .."
- " لحظة .. تعني ظهر امس .."
- " بل مساء امس .. التاسعة مساء . سبحان الله يا بك ! لقد صار النسيان دأبك هذه الايام .. وبعد هذا غادرت العمار راجلا .. ويبدو انك قضيت ليلتك في الخارج .."
- " انا بت في الخارج ؟"
عاد ينفخ في ازدراء .. وقال وهو يدير سده في اتجاه الباب :
- " سبحان الله ! أنت قلت هذا .."
- " واين بت إذن ؟"
- " هذا ليس عملي .. الله اعلم بما يفعله كل من هؤلاء السكان ليلا !"
وجدت أنني لن أظفر منه سوى بمزيد من التذمر ونفخ الهواء ،فصرفته .. وانا أمرر كلماته مرارا على جهاز التحليل الموضوع في مخي ..
وقدت السيارة الى اقرب محطة بنزين ، وانا أتساءل عن كنه هذا الذي قال .. إنه ذكي ـ برغم ضيق صدره ـ ويمكن الثقة بان الامر لم يختلط عله او يتشابه . أمثاله يدسون أنوفهم في كل شيء ..
وفضوليون جدا ..ولو سطا لص على العمارة فسيكون هذا البواب شاهدا دقيقا جدا لدى الشركة وسيحدد ملامح للص بدقة فوتوغرافية مذهبة ..
لكني بدأت انسى الامر مع الساعات الأولى من اليوم ..
***
وفي المستشفى بدأت جولة المرور مع ذلك الطبيب المقيم الذين نسيت اسمه ، ولكن له أذنين حمراوين كالدم ، وهو عصبي كقال جالس على الكرسي الكهربائي في ( متشيجان )..
سأتله عن الأحوال فقال ، وهو ينظر لممرضة تمزح مع صديقتها :
- " كل شيء على ما يرام .. إن حالة هبوط القلب قد تحسنت كثيرا .. لقد فعلت كما طلبت بالضبط .."
- " عظيم !"
لا ليس عظيما على الإطلاق .. لأنني لم اطلب منه أي شيء بخصوص أية حالة أساسا .. دعك من كونها حالة هبوط قلب ..لهذا سألته والفأر ( يلعب في عبي ) كما يقولون :
- " ماذا أعطيتها ؟"
- " كما طلبت تماما !"
قالها في فخر وهو يتقدمني الى العنبر ..
لم يفسر الأحمق شيئا .. ولم أجرؤ على سؤاله .. ودخلنا لنرى أمامنا ألعن حالة فقر دم رأيتها في حياتي .. إمرأة في الثلاثين من عمرها ، صفراء كالموز ، تجاهد كي تلتقط انفاسهما .. والتشخيص واضح دون جهد كبير .. هبوط في القلب ناتج عن فقر دم رهيب ..
دنوت من المرأة وسألتها في شك !
- " هل أنت متأكدة من أنك تحسنت !!
لو كانت أسوا من هذا أمس ، فمن المؤكد انها كانت ميتة .. فلا يوجد أسوأ مما اراه أمامي .. لكنها قالت وهي تلهث :
- " حمدا لله ! أشكرك على رعايتك .. لــ .. لي .."
قال الفتى في حماس وهو يربت على ذراعها :
- " لو لم يمر د.( رفعت ) ها هنا مصادفة في العاشرة مساءا ، لكان من السير ان ننقذك .."
حقا .. يا لي من عبقري شهم ! المشكلة الوحيدة هي انني لم أغادر داري طيلة امس .. أتراني جننت ؟
انا واثق من أنني كن تجالسا في شقتي انتظر ذلك الـ ( رفعت إسماعيل ) الذي لم يأت ..
فهل اكون فعلتها دون علمي ؟
قالت المرأة كأنما تزيد حيرتي :
- " حفظه الله .. لقد ظل جواري ساعتين كاملتين .."
قال الفتى بدوره :
- " كان لديه موعد في التاسعة لكنه ـ مشكورا ـ قرر إلغاء الموعد هاتفيا ليظل بجوارك !"
وانهمرت عبارات المديح لي .وانا اشعر بان رأسي يتحول الى مستشفى مجانين كلهم يصرخون ويصخبون في آن واحد .
هاتفيا ؟ ( هو ) اتصل بي امس وقال إنه لن يستطيع الحضور بسبب ظروف العمل .. أي عمل ؟ كان ها هنا ينقذ حياة هذه المريضة .. وهو جهد استحق عليه الثناء .. واستحق غيظي ..
من هو هذا المدعي ؟ ماذا يريد بالضبط ؟ وما الذي يحاول قوله ؟ وهل من الممكن الخلط بيني وبينه الى هذا الحد ؟
مستحيل ..
يوجد احتمال واحد هو أنني جننت .. وأنني أفعل أشياء لا ادري ما هي . .هذا يحدث كثير اجدا ولن يكون غريبا أن يحدث لي .. لست ممن لا يتصورون ان يجنوا .. كل إنسان قابل للجنون .. ولا احد معصوم ..
وكذا يمكن ـ دون جهد كبير ت ان أتصور نسي ها هنا ي المستشفى ، أنقذ هذه المرأة البائسة من توقف قلبها ، بينما عقلي الباطن هناك في داري يتخيل أنه ينتظر شبيها له ..
تبا .. إن حالتي سيئة حقا !
وقد ازداد الأمر سوءا حين دخلت قاعة الدرس ..
كان هناك عدد محدود ـ حوالي ثلاثين من الطلبة ، يجلسون في تعاسة بانتظار تعذيبي لهم بساعتين من الملل .. وفي مؤخرة القاعة كان هناك طالبان يثرثران وقد غطى كل منهم فاه بكفه حتى لا ألاحظه .. وهو مشهد وجدت ألا داعي لان اعلق عليه .. كما كانت هناك طالبتان تتبادلان كتابة أشياء في دفتر المحاضرات ، ثم تناولها كل منهما لصاحبتها .. إنها نوع من المحادثة المكتوبة لا يمكن الا ألاحظها ..
كأنها اساليب عتيقة جدا طالما لجأنا اليها في صبانا . واكره ان اعلن احتاجي عليها لمجرد اني من يقف وراء المدفع هذه المرة ..
وعلى لوح الكتابة العتيق الي تشقق خشبه ، كتبت بقطعة الطبشور وبخط عريض ( الأورام اللمقاوية ) .. وهنا سمعت همهمة ..
نظرت لهم في تساؤل .. فبادلوني النظر في حيرة ..
- " هل ثمة مشكلة ما ؟ "
لم يقل أحدهم شيئا .. فبدأت أتكلم بعدما سكنت الهمهمة :
- " اليوم تتحدث عن نوع من الأورام التي تصيب الخلايا اللمفاوية .. ونحن مدينون بأكثر ما نعرفه عن هذا الموضوع للعالم ( هودجكين ) الذي .."
هنا تعالت الهمهة من جديد .. لا أفهم .. هل فيما اقول شيء بذيء لاسمح الله ؟ أم أن ...؟
هنا نهض احد الطلاب مستجمعا شجاعته الأدبية ليقول ..
- " سيدي .. لقد شرحت لنا الموضوع ذاته امس !"
- " انا ! امس ؟ "
- " نعم .. حتى موضوع اننا مدينون لـ ( هودجكين ) و .. كل شيء "
ورايتهم يتبادولن النظرات الباسمة ..
فميا بعد قال ( علاء ) ـ أحدهم ـ إن الامر بدا لهم كأنه شريط سينمائي يعاد تشغيله من جديد . . ذات الوقفات والسكنات .. والخط ذاته .. وكان رأيهم هو أنني احفظ الموضوع كما يحفظه طالب في حصة المحفوظات .. وبالطبع لم يتخيلوا ان الموضوع لم يكن حاضرا في ذهني .. وانين كنت ارتبه وانا اتكلم ..
أي انني لم اكن استقررت بعد على ما ساقول ..
لم آت برد فعل معين ، بل مسحت لوح الكتابة بقطعة من القطن ..وكتبت عنوانا آخر بخط عريض .. وبدأت اتكلم ..
هذه المرة لم يصدر أحدهم همهمة ..
في داري ـ بعد كل هذه الاحداث ـ قررت ان اغفو قليلا .. فلربما إذا صحوت من النوم وجدت ان كل هذه اهلاوس من عقل مرهق ..
وتهيأت للنوم حي دق جرس الهاتف ..
هرعت حافي القدمين لأرد .. يجب منع المصيبة القادمة التي يدق الهاتف مندرا بها .. فلا بد من واحدة كما تعلمون ..
سمعت صوتا أنثويا ذكريا يقول :
- " هاللوا ! د.( رفعت ) ؟"
- " اعتقد أنه انا وإلا فبيتي مسكون .."
- أنا ( كاميليا )!"
وهنا استعدت الاسم الذي نسيته لفترة طويلة ..ربما منذ الكتيب الحادي والعشرين ..
إن القارئ يذكر ـ دون شك ـ د.( كاميليا ) استاذ الفلسفة ، التي حاول د.( محمد شاهين ) ان يجعلني اتزوجها ، ونمت بيننا صداقة لا بأس بها.. الى ان اتضح ليانها ليست ( كاميليا ) لكنه مخلوق طيفي يلعب دورها ببراعة ..
لقد سادت المودة بيني وبين ( كاميليا ) بعد هذا اللقاء .. وانتهى سوء التفاهم بيننا .. وكانت بيننا مكالمات هاتفية طويلة تحدثنا فيها عن كل شيء يمكن ان يتحدث فيه رجلان ..
لماذا تبتسم بخبث ؟ بالطبع لم نتحدث فيما تفكر فيه .. فهي انضج وانا أحكم ـ أو أغبى ـ من ان اقع في الحب .. ولو فعلنا لبدا الامر سخيفا ..
إن ( كاميليا ) هي صديق راجح العقل .. وتملك كل مزايا الرجولة النفسية ولن اقول الشكلية حتى لا يتهموني بالوقاحة ..
قلت لها وانا اتثاءب :
- " يسرني ان اسمع صوتك يا كآآآآآآآآآآآآه .. ميليا .."
ثم اضفت في حذر :
- " منذ متى كففت عن النوم عصرا ؟ "
قالت في زرانة جعلتني اوقن ان شيئا ما في الطريق :
- " لم استطع النوم .. إن الافكار تصطرع في ذهني .. والسبب انت !!"
- " أنا !"
لو كانت تتصل بي عصرا فتحرمني من نوم القيلولة ، لتصارحني بأنها تميل لي ، فمن المؤكد انها فقدت قطاعا لا بأس به من عقلها . ولكن دعنا نر ..
قالت بنفس الصوت الرزين :
- " طبعا لقد بلبل عرضك أفكاري !!"
" أي عرض ؟"
- " لا تتغاب يا ( رفعت ) .. طبعا عرضك الخاص بالزواج مني !"