كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
الارشيف
-11-
ميكرع هلكول ..
أو ( قبل ان يضيع كل شيء )
كانوا قد صاروا خمسة ..
تركوا منهم خمسة هناك جثثا هامة .. لم يتركوهم إلا بعدما تيقنوا من انهم جثث هامدة ، لان تعذيب ( ستارسكي ) ينتزع الأسرار من حوض الاستحمام ذاته ..
لماذا لم يعذبنا حين كنا في قبضته ؟ ثمة رأيان .. الرأي الأول يقول ما معناه ( لا تتعجل رزقك .. كل شيء كان في الطريق ).. الراي الثاني يقول : لاننا كنا غريبين غير معتادين بالنسبة له . وكان يشعر اننا قد نفيده اكثر مما لو عذبنا وتركنا حطاما بشريا ..
والسؤال هنا : ماذا بقي من ذلك الباكستاني لو كان هو المطلوب ؟
اما الخبر السيء فهو ان ( سليمان ) قد كان من الذين لم يعودوا قط .. ولن يعودوا ابدا .. كتب لي و ( سلمى ) ان تلقى نسختنا هنا الشهادة اللذان لم نتبادل معه اكثر من ثلاث عبارات ..
وصلوا الى الخيام وبسرعة تمت عملية إخلاء عاجلة ..
لم يبق إلا عدد محدود منا دخلوا الى الخيام ، بينما ذاب أكثرهم في الجبال .. إن الطائرات قد تصل في اية لحظة ..
كان الباكستاني في حالة مريعة .. تذكروا اننا لم نره في النور قط .. بل لم نره في الظلام .. وقد بدا لي ( روبنسون كروزو ) بعد اعوام من حبسه .. أظفار طويلة ولحية تغطي اعلى بطنه وأسمال بالية .. لكني رايت عينيه فأدركت انهما تشعان ذكاء .. إنهم لم يقضوا عليه بعد ..
كان اول سؤال سالناه له :
- " هل تكلمت ؟ "
قال بعربية واهنة عرجاء :
- " لا .."
وهكذا هدأت النفوس وبدأت عملية إطعام الرجل وسقي الرجل وغسل جسد الرجل وإبدال ثياب الرجل وإراحة الرجل .. طبعا قامت ( سلمى ) بالجزأين الاول والثاني ، بينما وقعت الأجزاء الثلاثة الباقية على عاتقي ..
في نهاية اليوم كان قد بدأ يبدو بشريا لكنه ظل عاجزا عن الوقوف .. الآن فقط اجد انه يبدو كالعلماء وليس كالمجاذيب .. وهكذا جلسنا على الرمال في حلقة صغيرة حول نار متقدة .. ودارت الدلة تقدم لنا القهوة العربية ..
قال له ( جمشيد ) وهو يقدم له بعض اللبن :
- " منذ متى وانت معهم ؟"
- " خمس سنوات ! "
- " ولماذا احتفظوا بك كل هذا ؟"
- " خمنو ان ما لدي خطير .. لكني لم اتكلم .. لهذا كان الحل الوحيد أن يبقوني حبيسا .."
- قال ( جمشيد ) وهو يعقد يديه امام وجهه :
- " دعني اقل لك إننا لم نفقد خمسة من رجالنا لأننا نحب ذلك .. نحن نعرف انك الوحيد القادر على صنع او اختراع القنبلة الأيونية .. ومصيرنا كله معلق بها .."
قال الباكستاني واللبن يسيل على ذقنه :
- " لقد صنعتها بالفعل !"
هنا ساد صمت رهيب .. وسقطت بعض الاقداح من الايدي .. إذن كانت القنبلة موجودة طيلة هذه الاعوام ولا احد يعرف ..
- " وهل تستطيع عمل سواها ؟"
- " مستحيل ! لم يعد الزمن ذات الزمن .. قمت بتركيب آخر جزء منها وانا في قسم الفيزياء في ( كراتشي ) قبل ان تسقط البلاد .. إنها مدفونة في الصحراء هنا في موضع لم انسه قط .. لكني في السجن منذ خمس سنوات .. وكنت اتمنى لو خرجت وفجرتها في قلبي ( إمبيريا ) .. في هؤلاء الكلاب الذين عذبونا واهانونا .."
ولمعت عيناه ببريق متوحش :
- "اتمنى ان ارى لحمهم يحترق ويذوب.. ان اسمع صرخات نسائهم .. أن .."
هنا تدخلت أنا في عصبية :
- " اسمع يا سيدي .. قبل ان تدخل في تفاصيل .. هذه القنبلة لن تلقى على بشر .. سيتم استعمالها كورقة ضغط !"
نظر لي متحديا بعينيه الواهنتين وقال :
- " ومن انت كي تحدد لي ؟"
قال ( جمشيد ) وهو يهدئ الامور :
- " هذا هو الرجل الذي لولاه لقضيت في محبسك وإنني لأرجو سماع خطته قبل ان نتحرك .."
تكورت على نفسي ودنوت اكثر من النار ، وبحثت عن ( سلمى ) فوجدتها تبتسم لي مشجعة .. قلت بلهجة حاسمة :
- " أولا .. يجب تفجير هذه القنبلة هنا في الصحراء .."
قال ( جمشيد ) في غيظ :
- " إذن انت تمزح .. كل هذا الجهد كي نفجر أملنا الأخير في الصحراء؟"
قلت ضاغطا على كلماتي :
- " ليس هدف القنبلة التدمير بل التخويف .. لا بد من ان تصل الرسالة كاملة .. هل هناك محطات تلفزيونية هنا ؟ اعني شبكات عالمية للأخبار ؟"
قال (جمشيد ) :
- " هناك شبكات عدة كلها في المدينة الصحراوية .. إنها تبث الى العالم الغربي أخبار العظايا .."
- " وما هي قدرتكم على توصيل شريط فيديو لهم ؟"
- " اعتقد ان رجالي قادرون على ذلك . .هناك صناديق بريد على كل حال .."
- " إذن سيتم التفجير في أقرب فرصة .. وسنقوم بتصويره .. أنت قلت إن هناك كاميرا .."
قال ( جمشيد ) بسما :
- " لا داعي للتصوير .. ما إن يتم الانفجار حتى تلتقطه الاقمار الصناعية .. سيعج المكان برجالهم خلال ساعات .. لو ان ثعبانا تثاءب في هذه الصحراء لالتقطوا صورته .."
- " لكني اريد التصوير .. لن اسمح بالمجازفة او ان يمر الانفجار دون ان يلاحظه احد .."
انتهيت من كلامي فاسترخيت قليلا ، هنا قال لي ( جمشيد ) وهو يضحك ضحكة ذات معنى :
- " بالمناسبة عندي هدية لك .."
- " وما هي ؟"
كان الجهاز ناقل الجزيئات في يده .. لم ار قط جهازا اجمل من هذا ..
مددت يدي لكن يد ( سلمى ) كانت الأسرع .. لقد انتزعت الجهاز وراحت تقلبه في يدها في نهم .. ضغطت زرا صغيرا للتأكد من ان البطاريات بحال جيدة .. لم يخدش لحسن الحظ ، وكان من السهل ان تخترقه رصاصة ..
قالت لي في خبث :
- " ما رأيك ؟"
- " مثل رأيك .. لم يحدث قط ان استرددناه بهذه السهولة .."
- " هل نرحل ؟"
- " لا .. لا بد من اتمام مهمتنا .. لكني أوصيك به خيرا .. انت لا تفعلين شيئا إلا إضاعته كأنما يدفعون لك راتبا من اجل هذا .."
ونظرت لـ ( جمشيد ) طويلا وابتسمت .. ومن قلبي همست :
ـ " شكرا .."
***
تم التفجير في السابعة صباحا بعد يومين .
كانت القنبلة تعمل جيدا ، وكان العالم قد دفن جوارها اجهزة التحكم عن بعد اللازمة لهذا التفجير ..
ابتعدنا مسافة كافية في تقدير العالم ـ حوالي كيلو مترين ـ ثم تم الانفجار .. ولم تفارق عين ( سلمى ) العدسة لحظة واحدة ..
حقا كان اغرب انفجار رايته في حياتي .. له ذات الطابع الذي رايته للقنابل في هذا العالم .. الانتشار الشبيه بالسوائل ، ثم اللهب الأخضر .. لكنه انفجار ضخم مريع .. سحابة زرقاء تتصاعد لتنتشر على ارتفاع كيلومتر من سطح الارض لكنها لا تشبه سحابة عش الغراب الشهيرة ..
كان الباكستاني في حالة مريعة من التوتر والقلق .. إنه لم يجرب قنبلته قط وكان من السهل ان يفشل .. لهذا بكى فرحا حين رأى الانفجار ..
توقعت ان يقول ( انا قد صرت الموت .. مدمر العالم ) كما فعل ( اوبنهايمر ) بعد نجاح اول تجربة للقنبلة الذرية في ( لوس الأموس ) على كوبي .. لكنه لم يكن يعرف هذه الصلاة الهندية على كل حال ..
المهم ان الفيلم كان ناجحا ..
بعد هذا عدنا الى الأكواخ ..
بدأنا بتعليق ملاءة كبيرة على الجدار لتكون خلفية محايدة للصورة ..
ثم جاء دوري ..
كنت قد كتبت الخطبة عدة مرات ، وتدربت على إلقائها .. في النهاية صرت احفظها عن ظهر قلب ..
جلست ( سلمى ) أمامي وبدأت تشغيل الكاميرا العتيقة ..
كنت اظهر بوجهي كاملا الآن . لو سارت الامور كما نريد فلن نكون هنا حين يفتشون عنا ..
اشارت لي باسمة كي ابدأ الكلام فابتلعت ريقي ..
كنت اا الوحيد الذي يمكن ان يلقي هذه الخطبة لأنني أجيد الإنجليزية .. ولأنني و ( سلمى ) لن نكون هنا كما قلت لك ، حين يشرع الجنود يفتشون تحت كل حجر ..
فقط عليهم الا يعرفوا اننا كنا في هذه القرية .. لهذا وضعنا الملاءة ..
قلت بصوت هادئ :
- " نعم يا سادة .. ما رأيتموه هو انفجار تجريبي للقنبلة الأيونية التي تمكنا من صنعها بمعونة بروفسير باكستاني ، الذي يدهشني انه كان في قبضة د.( ستارسكي ) ولم ينتزع منه اية اسرار بل وتركه يفلت من يده .. والأهم هنا انني كنت انا نفسي في قبضة د. ( ستارسكي ).."
كان هذا نوع امن ( الإسفين ) أدقه عمدا .. وانا اعرف ان حالة الهياج والذعر التي ستحدث كفيلة بسلخ الرجل حيا ..
واصلت الكلام :
- " الحقيقة المخيفة يا سادة هي ان هناك اربع قنابل من ذات النوعية موجودة الآن في مخابئ حصينة في أربع مدن مهمة من مدنكم .. اية مدينة هي ؟ هل ( لندن )؟ ( لوس انجليليس ) ؟ ( شيكاغو ) ؟ ( بوخارست ) ؟ إن الحدس متروك للجميع .. لكني اؤكد لكم ان هذه القنابل تم تركيبها بالداخل على ايدي عملائنا وبخامات محلية .. وهناك شاب مسئول عن كل قنبلة .. هذا الشاب من ذويكم ويتقاضى اجرا على مهمته هذه .. وهو لا يعرف أي شيء عنا ولا عن القنابل الاخرى ، لكنه سينفذ مهمته بمجرد ان يتلقى إشارتنا .. والإشارة قد تكون أغنية او اعلانا في التلفزيون .. قد تكون رسالة وقد تكون موعدا محددا .."
- " والآن لنا يا سادة ان نتخيل ما سيحل بمدنكم المزدحمة لو وجدت فيها ذات المشهد الذي رأيتموه في الصحراء .. هل تخلون مدنكم ؟ مستحيل .. لا يمكن ان خلوا كل مدينة من مدنكم .. ولو انني حددت المدن المستهدفة لكان الأمر سهلا .."
- " هل هذا ابتزاز ؟ نعم يا سادة .. إنه ابتزاز .. لم لا وقد تعلمنا منكم النفاق والخداع وازدواج المقاييس منذ زمن ..انتم أبدتم قومنا وفي الوقت ذاته تنفقون المليارات من جل الحفاظ علينا لمتاحفكم وتطلقون علينا ذلك اللفظ المهين ( العظايا ) .. أي أننا انقرضنا لأننا لم نتطور .."
- " لقد تعلمنا الدرس كاملا ، ومن اللحظة سيكون توازن الرعب حقيقة واقعية .."
- " نحن لا نهدد الآمنين .. لا نخيف احدا . فقط نحن نحمي وجودنا وحضارتنا من صياديكم .. وما نطلبه منكم بسط جدا .. لا تأتوا الينا .. نحن لن نذهب اليكم ، فلا تأتوا الينا .. إن هناك حملة يتم إعدادها لإبادة غرب القارة عما قريب ( لأنكم قلقون ) .. وانا اقول لكم إن هذه الحملة لن تتم .. لان لحظة بدئنا ستكون هي اشارة التفجير للقنبلة الاولى .. ثم يتم تفجير قنبلة كل يومين ..
- " لا تقنطوا يا سادة .. فلا تنسوا انكم فعلتم شيئا مماثلا في اليابان منذ اعوام ولم يتحدث احد عن الابتزاز .. كان تفكيرا عملي حقن دماء جنودكم كما قلتم وقتها ..
- " نحن نفعل نفس الشيء فلا تكونوا خاسرين سيئين .. يجب ان تتحملوا الهزيمة بروح رياضية ..
- " ستظل القنابل في مكانها ولن تعرفوا مكانها ابدا .. ولسوف تسحبون قواتكم وفرق الدراسات إياها .. لسوف تتعاونون مع الحكومات الجديدة التي ستنشأ في هذه المناطق .. لسوف تمولون مشروعات التعمير وما يلزم لإنشاء دولة .. هذا نذر يسير من كل الثروات الطبيعية التي سرقتموها من هذه البلدان .. نحن لا نطلب إلا الحق في الحماية وهو مطلب عادل .. كما ان كلامنا واضح : لا تأتوا الينا فلن نذهب اليكم ..
- " ستبحثون عني يا سادة لكنكم لن تجدوني .. لا تتعبوا انفسكم في استجواب الابرياء وتعذيبهم .. فلا احد يعرف اين انا .. لا احد يعرف مكان القنابل سواي .. ودعوني اؤكد لكم اننا نعتبر تعذيب الأبرياء او البروفسير الباكستاني خرقا واضحا منكم ربما يستدعي تفجير واحدة من هذه القنابل .."
- " شكرا يا سادة .. اكرر : نحن لم نفعل إلا تطبيق ما تعلمناه منكم .."
انتهى التسجيل فرحت الهث . العرق يغمرني .. ونسبة الأدرينالين في دمي تجعلني كانما أنا خرقة بالية .. بينما رفعت ( سلمى ) إبهامها بمعنى أنني كنت رائعا ..
سألت ( جمشيد ) :
- " الآن هل يمكنكم توصيل الشريط الى إحدى وكالات الأنباء ؟"
قال في رضا وهو يأخذه مني :
- " بالتأكيد .. سيلقيه رجالي في صندوق بريد الآن "
قالت لي ( سلمى ) باسمة :
- " هذه فكرة لا باس بها .."
قلت لها :
- " كانوا سيفجرون القنبلة على سبيل الانتقام لا اكثر .. وكنا سنفقدها بثمن بخس .. بهذه الطريقة من ( البلف ) يشعرون باننا اقوى من حقيقتنا .. بالإضافة الى ان يدنا لم تتلوث بجريمة حرب مثلهم .."
***
وفي نشرات المساء راينا الصورة مرارا وسمعت كلماتي تتردد مترجمة لعديد من اللغات ..
اما الاجمل فهو حالة الاضطراب العامة التي بدت واضحة .. مظاهرات في الشوارع . .مشاجرات برلمانية .. فرق بحث .. وهدير الطائرات فوق رءوسنا عدة مرات خلال نصف ساعة من إذاعة الرسالة مما دلني على ان وقت الرحيل قد حان .. لقد صرت فجأة صاحب اشهر وجه في العالم الغربي ..
ثم اعلن المذيع ان وفدا من ( إمبيريا ) قادم الى الشرق الاوسط لدراسة إجراء مفاوضات مع بقايا العظايا .. قالها في النشرة الاولى ثم عدل الاسم الى ( المتمردون العرب ) وفي النشرات التالية تحول الاسم الى ( الثوار العرب ) ..
هكذا ! كاد يستفزني الى حد ان افجر قنبلة ثانية !
جاءت اخبار اخرى عن وقف الزحف نحو القطاع الشمالي الغربي في افريقيا .. ستتوقف العمليات بعض الوقت حتى ينبلج الضباب .. ليس هذا خضوعا للابتزاز ـ كما قالوا ـ لكنه حرص على سلامة مواطنيهم ..
- " إنهم خائفون لكنهم يتظاهرون باللامبالاة !"
قالها ( جمشيد ) في رضا وهو يتابع الاخبار فهززت راسي في فخر ..
- " يجب ان يخافوا .. هم مهددون بفقد كل شيء .. بينما نحن ـ علميا ـ لن نفقد أي شيء إلا حياة لا قيمة لها .. سيظل شبح القنابل الباقية جاثما فوق رءوسهم لأعوام عديدة .. يجب ان يعرفوا ان الخوف لعبة يلعبها اثنان .. وأنه لا يوجد بشر بلا ثمن لأرواحهم .. اعتقد الآن انكم في الطريق الصحيح .. لا اعرف طوله لكنه مرهق شاق .."
قال في حكمة وهو يطفئ جهاز التلفزيون :
- " ليكن خمسين عاما او مائة .. هذا لا قيمة له في حياة الشعوب . انا ساكون في القبر خلال عام او عامين .. لكني ساموت راضيا لو عرفت ان وجودنا لن يزول .. واننا لم نعد عظايا .."
- " العظايا انقرضت لانها بال عقل ولا إرادة .. لا يمكن ان نكون عظايا ابدا إلا لو فقدنا عقولنا وإرادتنا .."
ثم عانقته طويلا .. كان يعرف اننا الآن راحلون .."
- " شكرا لك يا ( سالم ) .. فقد ساعدتنا كثيرا .."
- شكرا لك يا ( جمشيد ) فقد علمتنا كثيرا .."
وامسكت بيد ( سلمى ) على حين ضغطت هي على أزرار الجهاز بالترتيب المعروف ..
وتلاشت الصحراء من حولنا ..
(( تمـــت ))
|