-8-
فالنفر من هنا ..
كنا في حالة نفسية بالغة السوء ، ونحن نتقدم الى الطائرة .. طائرة كبيرة نوعا هي التي رأيناها أمس رابضة في المطار .. لأين ؟ ( أبو العتاهية ) قال إن موعدنا في الليل ، وما زال الليل بعيدا ..
لقد ارتفعت الطائرة في الهواء ، وبدأت تعلو باستمرار ..
لحسن الحظ كانت هناك مقاعد خالية وإلا لافتضح امرنا لدى السعود .. هذه الرحلات ليست تامة العدد فيما يبدو ..
ولم نتبادل الكلمات .. لم نفتح فمنا بكلمة واحدة ..
لأننا لو تكلمنا لانفجرنا في شلال من الأسئلة والاحتجاجات والهستيريا ..
الليلة لو نجونا سنذهب الى ( جمشيد بن عباس ) .. سنلقي بأنفسنا تحت قدميه نتوسل إليه ان يشرح لنا كل شيء .. لا تقل إن الحقيقة هي ما فهمناه نحن .. قل إننا غبيان .. قل إننا حماران .. قل أي شيء .. لكن من فضلك لا تقل ما نعرف الآن هو الحقيقة ..
- " يمكنك ان تروا النيل لو نظرتم الى الجانب الأيمن .."
كان هذا صوت المذيع الدليل او الطيار ذاته ..
تصاعد الكثير من ( الواو ) و ( الياي ) ونظر الجميع من النوافذ اليمنى ، حتى شعرت بان الطائرة تميل مهددة بالسقوط ..
- " انهضي .."
قلتها لـ ( سلمى ) في كآبة لأن منظرنا بدا غريبا الآن .. نهضنا ونظرنا من النوافذ وأطلقنا الكثير من الـ ( واو ) بدورنا ..
دوى صوت المذيع او الدليل او الطيار ذاته :
- " من الناحية اليمنى ترون الأهرام .."
وتكرر المشهد من جديد بحماس كبير ..
- " جوار الهرم الأكبر تجدون معبد ( فيلة ) و ( الكرنك ) .."
ما هذا التخريف ؟ هل هذا من أنواع الخلط الشهيرة بين العوالم ؟ لكن لا .. ثمة شيء يقول لي إن هذا ليس خليطا ..
- " والآن ترون أجزاء من سد ( مأرب ) .. وأطلال ( بترا ) .. ثمة آثار قرطاجية بالغة الأهمية لو .."
هنا لم تتحمل ( سلمى ) اكثر فهتفت :
- " لحظة .. انت تجمع أقصى اليمين مع أقصى اليسار في مكان واحد .. هذه الآثار مقلدة طبعا ؟"
لا ادري كيف سمعها فقد دوى صوت المذيع او الدليل او الطيار ذاته يقول :
- " بل هي أصلية طبعا .. هذا عملنا هنا في ESF .. لقد تمكنا من نقل هذه الآثار المهمة للحضارات الغابرة، وجمعناها كلها في مكان واحد .. هذا يسهل زيارتها وصيانتها ويحميها من التلف .."
الآن نرى بقايا من الحضارة الآشورية .. وبعض بقايا الرومان في ليبيا ..
- " يمكن القول إننا استبقينا بعض الأجناس بهدف علمي بحت .. لكن خطتنا مستمرة لجعل كل شيء تحت السيطرة .."
أخيرا انتهت الجولة ، فبدأت الطائرة تدور بالعكس لنرى نفس المعالم من جديد ..
بعد ساعة او اقل كانت الطائرة تنحدر لتهبط في المطار ..
وترجلنا انا و ( سلمى ) شاعرين بحاجة ماسة الى العثور على مكان نستجمع فيه خواطرنا .. مكان بلا بشر ..
وقف أحد العسكريين على باب الطائرة وهتف في مكبر الصوت :
- " هناك وجبة عشاء جاهزة لكم ، بعدها جولة حرة قبل ركوب الطائرة الـ ( شارتر ) للعودة .."
كانت الحماسة قد بلغت بالقوم مبلغها ، وراحوا يلتقطون الصور لكل شيء .. لاحظت ان هناك شعبية كبرى للرمال ، الكل حريص على أن يحتفظ ببعضها في كيس ..
تناولناه في شرود ، بعدها وقفنا في المطار بينما الطائرة الضخمة التي سترحل بهؤلاء تدور ببطء على الأرض ، وصخب المحركات يصم الآذان .. يبدو أن تزويدها بالوقود قد تم ..
إن فتحة السور هناك .. لو وجدنا اللحظة المناسبة لتسللنا الى هناك ورفعنا السلك و ..
فوجئت بالعجوز البولندي الثرثار إياه يقترب منا ومعه فتاة .. فتاة من طراز ابيض الشعر أحمر الجلد رمادي العينين ، حتى لتشعر بأنها سلبية صورة تمشي على قدمين ..
قال لي بالإنجليزية :
- " معذرة .. انت ( بوخارست ) .. هه ؟ "
قلت باسما في عصبية :
- " وانت ( وارسو ) "
رفع يد الفتاة وقال :
- " هذه ( ناديا ) من ( بوخارست ) هي الأخرى كانت تبحث عن رفقة فقلت لها إن مواطنيها هنا "
توارى الكون كله خلف غشاوة بينما الفتاة تضحك في مودة ، وتنطلق في حديث بالرومانية جدير بأن يخرج من فم الكونت دراكيولا نفسه ..
نظرت لــ ( سلمى ) ونظرت للفتاة ثم هززت رأسي بمعنى أنني لا افهم .. إشارة غبية جدا لا معنى لها .. ربما لو كنت أثبت جنانا لاتهمت الفتاة بأنها نصابة وان ما تتكلمه ليس الرومانية ..
وقف رقيب ما على باب الطائرة وصاح :
- " فليركب الجميع .."
تأهب الجميع للصعود ، لكني سمعت صوتا يقول :
- " لحظة ثمة نقطة لا بد من استيضاحها .."
نظر الجميع لمصدر الصوت .. كان هذا هو العجوز البولندي اليهودي ..
قال في حماسة ضاغطا على كلماته :
- " هذان الشابان .. لا استريح لهما على الاطلاق .. يزعمان انهما رومانيان وهما لا يعرفان حرفا من الرومانية .. وأكاد أقسم إنهما لم يكونا معنا في الطائرة عندما جئنا !"
صاح صائح :
- " بالفعل لم نرهما قط .."
هنا ـ كما في الكوابيس ـ ظهر الجندي ( سميث ) الذي تشاجرت معه البارحة .. تدخل في الكلام قائلا :
- " بالفعل .. هذان لم يكن اسمهما في الاوراق !! نحن لا نرتكب أخطاء .. لا تسقط منا اية اسماء سهوا .."
وهتفت عجوز شمطاء اخرى :
- " الفتاة كانت معنا امس في الطائرة العمودية .. وصاحت حين رأت الصاروخ بعبارة لم اسمعها من قبل بأية لغة !!"
هنا ادركت اننا وقعنا في الشرك ..
لكن الشرك لن يكون السجن هذه المرة . .انا اعرف ما يحدث لمن يقع في يد الجماهير الغاضبة ..
كان الجميع ينظر لنا الآن .. حوالي مائتي سائح متحمس ، ومعهم عدد من رجال القاعدة او المدينة ..لو كان الجهاز معنا الآن ! هذ اوقت مناسب جدا لضغط الأزرار ..
بالفعل راحت أناملي تضغط على زر وهمي وفق قماش سروالي .
***
في اللحظة التالية حدث ما يمكن ان تسميه ( اسلوب جريفث ) في الإنقاذ على اللحظة الأخيرة ..
لقد دوى إنفجار مروع في مكان ما من المطار .. وفي اللحظة التالية كانت سحابة كثيفة من الدخان تغلف الجميع .. وتفرق الناس في رعب .. وتعالت عبارات ( النجدة ) و Help و Secours و ...
هنا شعرت بيد قاسية عنيفة كالمنجل تطبق على معصمي وسط الدخان ..
حدث الشيء ذاته مع ( سلمى ) على ما يبدو .. وشعرت بأننا نجر كالخراف الى السور واخيرا وجدت الفتحة فاجتزتها ..
- " تمرغا ! بسرعة ايها الاحمقان قبل ان ينقشع الدخان !"
كان ها سهلا لان هناك منحدرا ، وسرعان ما راح جسدانا يدوران فوق الرمال كأننا حزمة من الصبار الجاف ..ومعنا حزمة ثالثة بدأت أفهم أنها ابو العتاهية ..
أخيرا وجدنا أننا نرقد فوق الرمال التي يبللها السواد والندى ..
لا بد ان تأثير اختفائنا كان دراميا بالنسبة لهؤلاء القوم بمجرد ان زال الدخان ..
قال ( ابو العتاهية ) :
- " اعددت قنبلة دخان لاستعمالها لو ساءت الامور .. ويبدو أنني كنت حويطا في هذا .. ما كانوا ليسمحوا لكما بالفرار مهما حدث .."
ثم هتف وهو ينهض :
- " نبتعد الآن .. هناك فجوة كهف قريبة .. يجب ان نتوارى قبل ان تأتي الطائرات العمودية .. للاسف افتضح امر هذه الفجوة في السلك .."
رحنا نركض بين الرمال حتى بلغنا فتحة من تلك الفتحات المعالجة بعناية.. يزيل الرمال المعجونة .. ينزع الورقة المقواة .. ثم ندخل . الخطر في الدخول هو أنه مهما حاولت من الداخل ، فإن الفتحة تظل واضحة للعيان منهكة .. بينما الفتحات التي تعالج من الخارج يستحيل اكتشافها ..
اخيرا جلسنا في الكهف المظلم ، فأشعل مشعلا ما جعل الأمور أفضل ..
قال لي باسما :
- " فقدت شعرك المستعار يا صاح .."
قلت له منهكا :
- " لهذا خير من ان افقد إحدى عيني .."
بعد تفكير قالت ( سلمى ) :
- " لدينا عشرات الأسئلة .."
قال وهو يضع بندقيته الآلية جانبا :
- " نحن لدينا مئات الأسئلة لكننا لن نتكلم عن شيء إلا امام ( جمشيد بن عباس ) .."
للمرة الأولى اظهرت ( سلمى ) جهلها بقواعد هذا العالم وكانت عامدة :
- " هل هذا اسمه الحقيقي ام الحركي ؟"
نظر لها في حيرة ، ثم قال بصدق :
- " اسمه الحقيقي طبعا .. ( جمشيد بن عباس بن محمود ) .. نحاول ان نبقي اسماء جدودنا حية ساخنة .. إن ابني اسمه ( فرناس ) .. لهذا صار محتما ان يكون اسم ابنه ـ لو رزقه الله بابن ـ هو ( العباس بن فرناس ) .."
قلت لـ ( سلمى ) مفسرا :
- " رائد حلم الطيران .."
هزت رأسها في غيظ :
- " اعرف .. بالله العظيم أعرف .. لدينا واحد منه كذلك .."
وأطبقنا شفاهنا عن الكلمات .. وأخلدنا لصمت طويل اختلط بلحظات نوم عميق .