كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
الارشيف
-6-
التنكر..
حين صحونا عند العصر ، قدموا لنا وجبة تتكون من الفول المهروس .. وكان هناك الكثير من التمر .. معنى هذا ان لهؤلاء القوم مكانا آخر غير هذا .. ربما واحة قريبة ..
لم يكن المكان مريحا .. ربما هو خانق كذلك ، يذكر كثيرا بشبكة المجاري التي كنا نعيش فيها في ارض المغول ، وإن كانت الكهوف أنظف وأعطر رائحة من المجاري طبعا ..
كنت في حاجة ماسة الى شخص يجلس معنا ونبدأ في سؤاله .. من البداية .. قل لنا يا اخي : ما معنى كذا وكذا ؟ لماذا يبدو كذا كذا ؟ ما اسم اللعبة ما قواعدها ؟
لكننا لا نجرؤ ابدا .. في هذا العالم وسط هذه الاحداث يسهل اعتبارك مجنونا ـ لو كنت سعيد الحظ ـ او جاسوسا ..
***
عند الغروب ظهر ( جمشيد بن عباس ) .. اين كان ؟
لا ادري لكننا لم نره ي الكهف لدى استيقاظنا ..
كانت ثيابه قد اختلفت قليلا وإن كان مدججا بالسلاح ، وقد التف حوله عدد من الرجال ، سأعرف أسماءهم فيما بعد وإن كانوا يحملون اسماء مثل ( امرؤ القيس ) و ( جابر بن حيان ) ..
ابتسم لا وبصعوبة يمكنك ان تعرف ان هذا الأخدود الذي ظهر في ملامحه ابتسامة .. وقال :
- " نمتما جيدا ؟ ليكن .. هل تحبان ( فيروز ) ؟"
طبعا كان هذا آخر سؤال يمكن ان نتخيله في التاريخ .. بالصدفة كلانا يعشق ( فيروز ) لكن ما اهمية هذا السؤال الآن وهنا ؟
مد احد الرجال يده الى جهاز عتيق وضغط على زر ، وعلى الفور تصاعد الصوت الرخيم يحكي عن ( شادي ) الذي ( ركض يتفرج ) وهو ما زال ( بعد صغير عم يلعب عالتل ) ..
كان الجهاز في أسوأ حال ، حتى لم يكن يصلح إلا كمبراة ، كما ان الحجارة الجافة المثبتة إليه تم غليها عدة مرات .. دعك من آثار العض التي تدل على محاولة إطالة عمر تكررت كثيرا ..
قال ( ابو العتاهية ) وقد لاحظ دهشتنا :
- " نعم .. لا توجد حجارة جافة في أي مكان .. لكننا سرقنا عددا منها منهم منذ سنين .."
قال ( جمشيد ) وهو ينظف سلاحه :
- " هناك جولة اليوم .. حوالي مائتين قادمون .. نعتقد أنكما قادران على الاندماج بينهم .. نريد معرفة كل شيء عن العرض .. ماذا ستريان ؟"
تبادلت و ( سلمى ) النظرات ..
الحقيقة اننا لا نفهم شيئا على الإطلاق ..
هنا جاء احد الرجال يحمل ثيابا نظيفة مطوية بعناية .. هناك شعر مستعار أشقر وأشياء اخرى لا اعر ف ما هي ..
قال ( جمشيد ) دون ان ينظر لنا :
- " ستدخلان الآن الى إحدى الفتحات الجانبية لتستبدلا هذه الثياب بما تلبسان .. ثمة لمسات نضيفها نحن .. لكن لا تنسيا اننا فقدنا الكثيرين من رجالنا كي نحصل على هذه الثياب .. حافظا عليها .."
وهكذا دخلنا انا و ( سلمى ) احد الشقوق في الكهف ، وعلق لنا احدهم مشعلا كي نرى بعضنا .. كنا في حالة مروعة من البغاء لكننا لا نجسر على توجيه أسئلة .. ثيابنا واحدة على كل حال .. قميص بلون خاكي وسروال ( جينز ) ازرق .. ثم حذاءان رياضيان ..
فرغنا من ارتداء هذا كله ، ثم إن ( سلمى ) ثبتت الشعر الأشقر المستعار على رأسها ، فكانت النتيجة لا بأس بها .. صحيح ان بشرتها خمرية ، لكن طقس الصحراء هذا يجعل اية بشرة تحترق ..
ثبت انا الجمة على رأسي ، ولم ار نفسي لكنها هزت رأسها بمعنى أنه لا بأس بي ..
ثمة أشياء في الجيب .. مدت يدي ابحث ، فوجدت بطاقة بلاستيكية مزودة بدبوس تصلح لتعليقها على الصدر .. فهمت الآن لماذا رأى الرجل أنه لا مشكلة .. إن الصورة لرجل أشقر ، مع كثير من الظلال ورداءة التصوير تجعل تعرف ملامحه مستحيلا .. فقط كانت البطاقة المغلفة تحمل شارة ESF .. لاحظت ان الجنسية تشير الى اننا ( ولايات شرق ) .. لم افهم معنى هذا ..
فيما بعد عرفت ان اهمية ( ولايات شرق ) هذه ان بوسعنا ان نتكلم إنجليزية غير متقنة .. فلا يفتح امرنا لأن إنجليزيتنا لن تخدع غريبا بالتأكيد ..
وكذا خرجنا الى القوم فأبدوا الكثير من الاستحسان ..
أضافوا بعض اللمسات مثل كاميرا حول كتفي .. وحقيبة ظهر لـ ( سلمى ) .. وزجاجتي ماء لكل منا .. ثم أضافوا اسوأ جزء في الموضوع .. عدسات ملتصقة زرقاء اللون .. لقد تبدل منظرنا تماما ، واستبعد ان تتعرفني ( سلمى ) لو لم ترني اتنكر امامها ..
هؤلاء القوم مستعدون تماما .. لكن يمكن القول إن هذه الاشياء كلها مسروقة من غريبين حقيقيين .. ربما ميتين كذلك .. هذا مفهوم .. وإن كنت لا احب كثيرا ان اسأل اسئلة بصدد مصدر العدسات اللاصقة
كنت قد كونت ـ بعبقريتي المعهودة ـ بعض الاستنتاجات .. هم يريدون منا ان نتنكر كغربيين .. لماذا ؟ طبعا لنندس .. نندس في ماذا ؟ في الجولة التي بها نحو مائتين ..
حقا إن الترتيب المنطقي يقود الى الحل دائما !
قال ( جمشيد ) :
- " لا بأس .. لاحظا كل شيء .. ( ابو العتاهية ) سيقودكما الى هناك .."
ثم انصرف الى احد رجالة ، وبدا كأنما نسي الموضوع تماما وفتح موضوعا آخر ..
***
تحت ستار الظلام نتسلل في الصحراء ماشين خلف ( ابو العتاهية ) .. النجوم تعطي ضوءا لا بأس به ابدا .. تشعرك بالألفة برغم انك لا تميز نجما واحدا مألوفا لك .. لا بد ان ( وعاء الدب الكبير ) هنا يدعى ( طشت غسيل التمساح ) او أي شيء مماثل ..
كان هناك ضبع نظر لنا من بعيد ، ثم قرر انه بائس وحيد ففضل الانصراف ..
لا بد انا مشينا نحو نصف ساعة .. كنا في الحقيقة ندور حول تلك المدينة الصحراوية الغامضة .. رأسانا يزدحمان بالأسئلة لكننا لا نجرؤ ، وعلى كل حال كنا قد قدرنا ان هذه الجولة ستشرح لنا كل شيء .. ستلعب دور كتاب التاريخ الذي قرأته انا في أرض المغول فأعفانا من أسئلة مربكة ..
قال لنا ( ابو العتاهية ) وهو يتقدمنا :
- " النصيحة المهمة هي : لا تتبادلا أية كلمة عربية .. أنتما غربيان في كل شيء .. ثم إنكما وحيدان تماما ولو وقعتما في أيديهم فلا علاقة لكما بأي شيء .. لن تعرفا كيف تجداننا .."
ثم اشار الى الكاميرا وقال :
- " هذه لا تعمل .. لكنها تطلق ضوءا .. حاول ان تبدو فضوليا .."
هذا الجزء بالذات لا يحتاج الى توصيات .. لن يحتاج أي جهد منا .. ان الفضول يقتلنا بالفعل ..
اخيرا راينا مشهدا عجبا ..
كان هناك سياج من السلك .. سلك مضلع يذكرك بالذي تثبته في دارك لتتقي البعوض .. ومن بعيد ـ على مسافة ثلاثين مترا ـ كانت هناك طائرة متوسطة الحجم .. لها ذات منظر حاملات القوات التي تراها في الصور .. إنها تخص الجيش .. جيشا لا يعلم كنهه إلا الله .. وعلى بعد اكبر كانت هناك طائرتا هليكوبتر وطائرة تبدو لي كالمقاتلات ..
كانت الطائرة المعنية واقفة تهدر كالوحوش ، غارقة في الأضواء .. وادركت انها وصلت من فورها .. كانت هناك حركة غير عادية ، مع عملية تقريب سلم على عجلات من بابها ..
- " بالضبط في الموعد .."
قالها ( ابو العتاهية ) وهو يدنو من السور ويثبت أظفاره في فجوات السلك ..
ثم نظر لنا وقال :
- " حين ينزل الركاب تدخلان .. لا توجد حراسة هنا ، ويسهل ان تندمجا وسط الفوج .. الركاب سينتشرون في كل مكان ومن المستحيل مراقبتهم .. كما اننا نعرف أنهم لا يجرون حصرا لهم .. الجولة تنتهي غدا في نفس الوقت .. سأكون هنا لأساعدكما على الرحيل ..
- هتفت ( سلمى ) :
- -" تتكلم كأنه لا يوجد سلك .."
ابتسم ومد يده ليرفع جزءا من السور .. واضح ان هؤلاء القوم مزقوا اجزاء من السياج من قبل ، صانعين بابا يدخلون منه متى أرادوا .. وحين يعود السلم لمكانه ويثبتونه بالخيط يصعب ان تلاحظ انه تمزق ..
اخيرا بدأ الركاب ينزلون من الطائرة ..
بالفعل سادت الفوضى ، وبدا كأن الساحة أمامنا تحولت الى نوافذ الدرجة الثالثة قبل مباراة كرة قدم .. هم مائتان لكنهم يقومون بما يقوم به الف من صخب وفوضى ..
وفي هذه اللحظة همس ( ابو العتاهية ) :
- " هيا .. لا تنظرا للوراء .. كونا طبيعيين .."
يبدو ان للرعب دورا مهما في اتخاذ القرارات الحاسمة .. لا اعرف كيف ولا متى وجدنا نفسينا بالداخل ، ولا كيف اجتزنا المسافة الحرجة بين السور والزحام ، لنتحول من ( متسللين ) إلى ( ربما كان هذان معنا من البداية ) ..
ولم ننظر الى الوراء ..
الزحام كله من الغربيين .. والأجمل هنا ان أكثرهم يلبسون مثلنا .. هذه ثياب صالحة للرحلات او لغرض ( السافاري ) .. وقد ذكرني منظرهم بالسياج الواقفين عندنا خارج معبد الكرنك بانتظار الدليل الذي يلوح لهم طالبا ان يتبعوه ..
سرعان ما اندمجنا وسط الزحام .. وكانت هناك كلمات بالإنجليزية والفرنسية والألمانية .. فتاة تلتقط الصور لصديقتها وصديقها .. رجل يجمع بعض الرمال في كيس .. مزاح .. بعض العجائز الأثرياء من طراز المومياوات إياه الذين نراهم في مصر ، والذين يجمعون المال طيلة حياتهم لينفقوه أكثر من ربع دولار يوميا والذين تعرفهم مصر كذلك ..
بعد قليل ظهر رجل يبدو أنه عسكري ، وكان يضع ( بادج ) صغيرا يقول : ESF وامسك بمكبر صوت وقال بإنجليزية جيدة :
- " إن المركز الصحراوي الرئيسي يرحب بكم .."
وكررها ثلاث مرات الى ان انتهت الضوضاء وصار قادرا على سماع نفسه ..
- " .. ستكون هذه رحلة الأحلام ، وقد خصصنا لكم خياما مكيفة ووجبة عشاء ساخنة .. تبدأ الجولة صباحا ، إلا إذا رغب بعضكم في استكشاف الصحراء ليلا .. هناك طائرات عمودية مخصصة لهذا .."
ثم دس يده في جيبه وقال :
- " هل من أسئلة ؟"
رفعت إحدى الفتيات يدها وبلهجة أمريكية سألته :
- " كيف يتم تمويل المشروع ؟ هل انتم جهة حكومية ؟"
قال في ( ألاطة ) لا بأس بها وهو يدير عينيه في وجوهنا :
- " اكثر تمويلنا من الجامعات .. ومن ESF .. وبعض النفقات يتم تدبيرها برحلات سياحية باهظة الثمن مثل هذه "
تعالت ضحكات عصبية لا مبرر لها .. واضح انها دعابة قوية فعلا ..
قال احد الواقفين ضاحكا :
- " خمسمائة ( كومون ) عن الفرد .. هذا ليس مبلغا زهيدا .."
قال الرجل الذي يبدو أنه عسكري :
- " انا لا احدد الاسعار .. لكن ما اعرفه حقا هو ان كل من زارنا لم يشعر بعد الزيارة بأنه دفع اكثر من اللازم .. والآن هل هناك من يرغبون في استكشاف الصحراء ؟"
ارتفعت بعض الأيدي ، فرفعت انا و ( سلمى ) أيدينا .. كنا في حاجة الى الفهم .. وعدم ترك فرص لهذه العملية ..
- " جميل .. هناك خمسون منكم .. سنحاول ترتيب الطائرات اللازمة .."
***
في المقصف انتظرنا في طابور طويل حتى جاء دورنا .. كان الطعام الذي حملناه في صينية هو نوع م اللحم الممهوك او الممزق .. لا اعرف بالضبط .. مع كوب من الكولا الباردة وبعض البطاطس المحمرة ..
لم أتحمس كثيرا للحم لأنني لا اعرف نوعه .. ربما هم يأكلون الذئاب على العشاء في هذا الكوكب ، والادهى أن تكون ذئابا مخنوقة كذلك لكن البطاطس كانت جيدة .. وعرفت ان ( سلمى ) أحبتها كذلك ..
ترى كي فيبدو تنكرنا في الضوء الساطع داخل المقصف ؟ لحسن الحظ أنه لا احد ينظر الى الآخر ..
بعد العشاء تجمعنا حول الطائرات الهليكوبتر ، وقد قسمونا الى مجموعات ..
بدأت طائرتنا ترتفع .. ترتفع .. دورة حول المدينة التي لم تظهر معالمها بوضوح .. مجرد نقاط لا حصر لها من الأضواء .. ثم ننطلق في السماء الشاسعة التي تملؤها ثقوب النجوم .. متى قرأت عن الثقوب في السماء ، والبرق الذي يحاول ان يرفوها كأنه إبرة خياط ؟ متى كان هذا ؟ في قصة أطفال ؟ ديوان شعر ؟ من المستحيل ان أتذكر الآن ..
ومن تحتنا بدت الصحراء الغامضة المسربلة في السواد .. كأنها طلسم لا قبل لأحد بفتحه ..
( سلمى ) جواري .. تدنو مني اكثر وتهمس بالإنجليزية ( على سبيل الاحتياط ) :
- " هل تشعر به ؟ هل تحسه ؟"
فألمس يدها .. ألثمه اوأصمت .. الليل والصحراء والصمت وهدير المحرك .. لا بد ان شيئا تحرك فيها كما تحرك في .. ليس هذا وقته ، لكن العواطف كالعضلات تبحث عن لحظات تستجمع فيها انفاسها .. لا يمكن ان تكون الحياة كلها تخطيطا ومؤامرات ومحاولات للفهم والنجاة بالحياة .. لا بد من لحظة ما يتقارب فيها رأسان يرمقان الليل ..
تقول لي :
- " منذ متى لم تقل إنك تحبني ؟"
في الحقيقة لا اذكر انني قلتها على الإطلاق ـ هل تذكر انت ؟ ـ لكني اكذب فأقول :
- " منذ راح جهازك هذا يلقينا من حفرة لحفرة .. ومن بركان لبركان .. لا بد من كوكب ما يصلح لالتقاط الأنفاس .."
- " لقد بدأت اعتقد ان عالمي هو أفضل العوالم المحتملة .."
الطائرة تحلق فوق تلال لا نعرف عددها ، ولا نهايتها .. ثم
ظهر وميض ناري من على أحد التلال ..
وشهق البعض صرخ البعض .. على حين صالح الطيار :
- " تماسكوا ! إن صاروخا حراريا يتجه نحونا !!"
|