-3-
ESF ..
- " منذ متى أنتما هنا ؟"
اجفلنا من الرعب ، ثم تبينت ان هذا الصوت المنهك ياتي عبر القضبان ..
قلت لها وقد امسكت بيدي رعبا :
- " لا تخافي .. هذا هو الموقف الشهير .. مع ( الكونت دي مونت كريستو ) يكون هذا الجار هو السجين ( فاريا ) الذي يعرف سر الهروب ..حتى في السجون عندنا تسمعين من الزنزانة المقابلة من يسألك : ما هي تهمتك يا ( زمل ) ؟ بضم الزاي والميم طبعا .. "
ثم بحثت عن مصدر الصوت وهتفت :
- " نحن هنا من دقائق .. من انت ؟"
وهنا فطنت لحقيقة انه يتكلم العربية .. عربية غريبة مضعضعة نوعا لكنها كافية ..
- " انا ( اسماعيل خان ) .. عالم با********تاني .. لا اعرف إن كان هذا يفيدكما .."
قتل له في تعب :
- " أعتقد انك تملك الإجابة عما يحدث هنا .."
- " سوف تريان .." ـ قالها في غموض ـ " سوف تريان .."
حتى رفيق السجن او ( الزمل ) ـ بضم الزاي والميم طبعا ـ لا يبدوا ثرثارا هنا .. كل الاطراف غير عادلة تتوقع منا ان نعرف بنفسينا وإلا فلا .. على كل حال اعتقد ان هذا الرجل ليس عربيا على الإطلاق .. ربما هو هندي او أفغاني او ماليزي ..
وهكذا مرت علينا الساعات .. بين نوم واكتئاب ، واكتئاب ونوم.. وتساؤلات لا تنفذ ابدا ..
بعد ساعات او ايام او اشهر ـ لا يمكن معرفة الوقت في هذا الظلام الدامس ـ جاء من يصحبنا الى ما يشبه غرفة التحقيق ..
لا بد انها كانت ساعات .. لأنني لم احتج الى استعمال الحمام مرة واحدة ولو احتجت لوجدت نفسي في مأزق ..
***
الآن وقد وثبت الى رشدي قليلا يمكن ان اصف لكم الدكتور ( ستارسكي ) .. إنه رجل ذو ملامح مزعجة .. يمكن ان تقول بشكل سطحي إنه وسيم أشقر .. لكن في وجهه قسوة وبرودا ، وهو من طراز الوجوه التي لا تشيخ مما يثير الرعب في عروقك .. كأنه وجه مصاص دماء او ( زومبي ) ..
كان هناك مقعدان ، وكان هناك عدد من الحراس مفتولي العضلات يدس كل منهم سماعة في أذنه . لا اعرف من اكتشف ان الرس الأصلع يجعل المرء يبدو أضخم وأشرس ، لكن هذا الاكتشاف بلغ هذا العالم .. وكانوا يلبسون بزات عسكرية ما لكن بلا غطاء رأس .. هذا المكان عسكري إذن ..
لماذا يلف كل منهم حول عضده شارة تقول ESF ؟
ما معناها ؟
ثمة جهاز تسجيل يدور ببطء ، وثمة إضاءة تذكرك بغرف استجواب النازيين ..
ما عن دخلنا حتى أشار لنا بالجلوس ، وقال :
- " هل أقدم لكما مشروبا ؟ "
- " بالتأكيد .."
فالحقيقة ان الحرارة كانت مرهقة بالفعل .. من الواضح اننا لم نفارق المنطقة الصحراوية بعد ..
جاء حد الحراس حاملا زجاجة بها سائل اصفر ، وبعض الأكواب الملأى بالثلج ، فقال الطبيب وقد راى ارتباكنا :
- " عصير برتقال لا اكثر .. نحن في وحدة عسكرية ولا يسمح بالكحوليات . زاعرف انكما معشر العرب لا تشربونها اصلا ..
وهكذا امسكت بالكوب .. ونظرت الى ( سلمى ) .. كانت ترشف ما في كوبها ، وخلاياها تنتعش .. تينع بعد جفاف .. فعلت مثلها وشعرت بما شعرت به ..
هنا نظرت الى المنضدة فرأيت الجهاز العزيز .. جهاز الانتقال .. إنه هنا ..
قال الطبيب وهو يصب لي كوبا آخر :
- " والآن هل يمكنك ان تتكلم ؟ من انتما ؟ لماذا انتما هنا ؟ هل انتما عربيان حقا ؟ "
- " وهذا ؟ ما وظيفته بالضبط ؟ "
قالت ( سلمى ) وقد بدا انها تحبس انفاسها :
- " هذا جهاز خاص للترجمة .. هل تسمح لي ؟"
مد يده في تردد ووضع الجهاز في كفها المفتوحة ، ثم اراح ذقنه على قبضته وراح يتابع ما تفعله ..
- " نطلب رقما .. ليكن 300 مثلا .. ثم نضغط حرفا ليكن ( الهاء ) .. ثم .."
كان الجهاز على حجرها ، وكانت تضغط على الأزرار بإصبع واحد ، ثم انها مدت يدها اليسرى في رفق لتمسك بيدي اليمين من تحت مستوى النظر ..
- " نختار رقما مثل .. "
هنا هتف الرجل :
- " كفى ! "
- " لحظة .. 2 .. 8 .. "
- " قلت كفى !! "
ثم نهض بسرعة البرق وانتزع ـ ذلك الوغد الذكي ـ الجهاز من يدها قبل ان تتم عمليتها ، وقال وهو يدسه في جيبه :
- " لا اعرف ما أنت بصدده لكني لن اسمع بان تنجحي فيه .. والآن ارجو ان تجيبا على أسئلتي .."
قلت له وانا اضع الكوب :
- " أسئلتي مثل أسئلتك بالضبط .. من انتم ؟ لماذا انتم هنا ؟ هل انتم أمريكيون ؟ "
تبادل النظرات مع الرجال ثم سألني :
- " ما معنى ( أمريكيون ) ؟"
تبادلت نظرة مع ( سلمى ) .. إما ان تمييزي للهجات فاشل ، وإما ان هذا هو الاختلاف الأساسي .. هذا عالم لا توجد فيه أمريكا .. طبعا سيتضح ان ( كولومبوس Colomber ) لم يصل الى ساحل امريكا ، ربما لانه كان احمق ، وقد غرقت سفينته .. او لأن بحارته ثاروا وألقوه لأسماك القرش .. وهو ما كان سيحدث في عالم على كل حال لولا انهم بلغوا الشط قبل ان يتموا خطتهم ..
هكذا لم اجب وأجابت ( سلمى ) عن السؤال الآخر :
- " ما حقكم في احتجازنا ؟ هل انتم شرطة ؟
تنهد الرجل في انهاك وراح يصف اوراقه ، ثم قال دون ان ينظر لنا :
- " واضح تماما اننا لن نصل لطريق مشترك .. كلما سال سؤالا تلقيت آخر.. لا بد من ان يجيب احد الطرفين عن الأسئلة أحيانا .."
- " قل هذا لرجالك ولنفسك .."
أشار الى الشارة المعلقة على عضد الحارس الواقف جواره ، وقال :
- " نحن من EFS .. هل هذا كاف ؟ هذا يعطينا كل الحق في استجوابكما .."
- " وما هي الـ ESF ؟ "
بدا كأنما تعلم أسلوبنا في عدم الإجابة على شيء . فنهض ورتب أوراقه ، ثم قال وهو يغادر المكان :
- " ثمة طائرة ستحملكما الى ( لوس انجيليس ) صباحا .. اعتقد انهم هناك سيعرفون عنكما كل شيء .."
( لوس انجيليس ) ؟ إذن ما معنى انه لا يعرف معنى لفظة ( أمريكيون ) ؟
دنا منا احد الحراس .. إنه غير مسلح لكن من الواضح انه لن يتورع عن استخدام العنف .. وهكذا مشينا معه في تهذيب .. لكنه لم يقتدنا الى الأقفاص إياها .. بل إنه أجلسنا في مكتب مكيف مريح نوعا .. مكتب لا يحوي إلا جهاز كمبيوتر وثلاجة صغيرة .. ثمة نافذة صغيرة وأريكة وثيرة وبعض نباتات الظل .. هناك لحسن حظ الجميع ـ حمام صغير نظيف في غرفة صغيرة جانبية ..
ثم أغلق الحارس الباب ..
بمجرد خروجه فعلت ( سلمى ) الشيء الذي كنت اعرف انها ستفعله باعتبارها بارعة في الإلكترونيات .. لن اقول إنها اكثر براعة مني ، لأنه لا براعة لي على الإطلاق .. لا يمكن ان تقارن بيننا على أساس كثافة شعر اللحية او نسبة هرمون الأنوثة .. هذه أمور غير واردة اصلا ..
لقد فتحت جهاز الكمبيوتر ! هذه معجزة كما ترى ..
قالت في ضيق وهي تتأمل الشاشة :
- " ليس لديهم نظام تشغيل أعرفه .. مثل ( الخوارزمي ) او ( الإدريسي ) .. لا اعرف كيف يبدأ البحث في هذا الشيء .."
تذكرت ان الكمبيوتر في عالمها اختراع عربي صرف ، وليس لديهم اسماء كالتي نستعملها على غرار ( ميكوسوفت ) و ( النوافذ ) .. الخ ..
لكن على الشاشة ـ حيث ما تسمونه سطح المكتب ـ كانت هناك صورة عملاقة لديناصور ( سبيونوسوروس Spinosaurus ) ضخم يقف جوار بحيرة واعدا بخراب بيت من يقترب .. وكانت هناك الحروف المعتادة ESF كتبت بحروف مجسمة عملاقة كأنما تطير مع السحب في السماء ..
فيما عدا هذا بدا كأن الشاشة جدار مبهم لا يمكن تجاوزه ..
حتى الصور الصغيرة ـ هل تسمونها الأيقونات ؟ ـ كلها تمثل ديناصورات منوعة ..
أغلقت الجهاز وقاتل :
- " لا اعرف .. لا يبدو لي هذا المكان ذا طابع عسكري .. كأني بهذا الحاسوب خاص بصبي يهوى الديناصورات .."
قلت لها في ضيق :
- " صدقيني انا لا اهتم كثيرا سوى بالحصول على الجهاز الكريه . في المرة المقبلة يجب التأكد من انه مخفي بعناية.. ربما لو ابتلعته لكان الامر افضل .."
قال توهي تجوب الغرفة جيئة وذهابا :
- " لو تركنا الأمر لك لانتهت كل احتمالات هذا الجهاز خلال ربع ساعة .. ولن نعرف شيئا ابدا .."
- " انا لا أبالي كثيرا .. لاحظي اننا نتعلم عن عوالم اخرى ، لكننا لن نعود ابدا للعالم الذي تكون فيه هذه المعلومات ذات قيمة .. هل تفهمين ما اقول ؟ لفظة ( عجيب ) و ( غريب ) لا معنى لها إلا في ارضي انا .. اما هنا فلا قيمة لرأيك .."
لم تكن تسمع ما اقول .. كانت تنظر الى النافذة ..
ثم اتجهت لها ورفعت الزجاج .. كانت هناك شبكة دقيقة مخصصة لإبعاد البعوض ، لكن لا توجد حماية اخرى من أي نوع .. ومن الخارج كان الظلام وبعض مصابيح قصية ونسمة هواء حانية رقيقة ..
- " انهم حمقى .. ما رأيك ؟"
- " ومن ادراك ان الخارج افضل ؟"
- " لا احتاج الى حكمة العالم كي اختار الفرار من أي مكان مغلق يقف على بابه حارس .. سل عن هذا أية قطة او ذبابة تحترم نفسها .. أي مكان هو أفضل من المكان المغلق الذي يقف عليه حارس .."
- " والجهاز ؟ "
- " لن نستطيع استرداده لو حملونا الى ( لوس انجيليس ) .. ثق بهذا ..
ثم بحثت قليلا حتى وجدت فتاحة ورق على المكتب .. غرستها في السلك فبدأ ينهار ..
تبا ! لا بد ان قرحتي عادت تنشط من جديد ..
تدريجيا اتسعت الثغرة اكثر فأكثر .. وهكذا نظرت لي باسمة ، ثم حشرت جسدها في الفتحة .. نسيت طبعا ان اقول إننا في الطابق الأرضي ..
لم يبد لي هذا مريحا .. ليس الامر بهذه البساطة ..
على كل حال انتهى ما كان يربطني بهذه الحجرة ، فحشرت نفسي عبر الفتحة .. لا يكلفك هذا اكثر من بضعة تمزقات في الكفين ، لكنك تعبر في النهاية ..
أخيرا تقف في الخارج ..
الرمال والبرد والظلام .. نحن في الصحراء ليلا .. هذا واضح ..
لا يوجد حراس .. هذا واضح .. هناك كشافات من بعيد ، لكنها كشافات محايدة ودود لا تبحث بل تنتظر ..
مشينا في الظلام عاجزين عن معرفة وجهتنا بالضبط .. لا فارق عندنا إن سمعنا ( قف ! ) ام لم نسمعها .. المشكلة الوحيدة هي ان نسمع صوت الطلقات .. لكن لا يبدو ان هناك طلقات حتى الآن ..
كان هناك هدير محرك ، والهدير كان آتيا من سيارة تقف هنالك على اليسار .. سيارة عسكرية هي .. شاحنة عليها علامة ESF اللعينة المعتادة ، وكانت تلوث الهواء بلا كلل ..
هناك جندي يقف على بعد يثرثر مع صديقه ويبدو انه يمزح .. لكمات على الكتفين وسبب إنجليزي فظ ..
وبالطبع خطرت لنا نفس الفكرة معا ..
اتجهنا الى مؤخرة العربة .. وثبت الى ظهرها ، ومددت يدي الى ( سلمى ) اساعدها على الوثب ..
كانت هناك أغطية لعلها قماش خيام .. لا اعرف .. إن الظلام يجعلني لا أرى يدي كما لاحظتم ..
المهم اننا تدثرنا بهذه الأغطية ورقدنا على بطنينا .. وهكذا صرنا في معزل عن الأبصار .. محرك يهدر .. معنى هذا ان الرجل سيرحل ، ولو عاد ليغلق لمحرك وينام لقتلني الغيظ ..
فجأة سمعت ( سلمى ) تهمس في أذني :
- " هناك أشياء صلبة تحت قديم .. هل تشعر بها ؟"
- " لا .. لا اعتقد .."
مدت يدها تتحسس وهي تغمغم :
- " صبرا .. سأرى .. يبدو لي ان ..ط
ثم صرخت صرخة أنثوية هستيرية متقنة جدا :
-" ( سالم ) !! هذه السيارة محملة بعظام بشرية !! "