الجزء الثالث
عشرون شيطانا
إنهم يعيشون بيننا لكنهم لم يتكاثروا .. الأمر هين بالنسبة لهم .. يندمجون بنا ولا يشيخون .. ثم عندما يبدأ من حولهم في التساؤل يختفون .. ثم يظهرون في مكان آخر باسم آخر ويبدءون حياة جديدة .. لاحظ أن كثيرين ـ ومنهم ( كراولي ) نفسه ـ اعتقدوا هذا ..
-1-
اليوم قررت ( علياء ) ان تقتل زوجها ..
لا تقلق .. هذه هي المرة العاشرة التي تعتزم فيها شيئا كهذا .. أما في خيالها فقد قتلته فعلا ألف مرة ..
فتحت الدرج واخرجت المسدس الأنيق الصغير وحشته بالرصاص . ثم راحتتنتظر اليه في توجس كأنه ثعبان .. بعد دقيقة أغلقت الدرج وهمست من بين اسنانها :
- Its awful ( هذا لا يطاق ) "
ثم وقفت في الشرفة المطلة على البحر ـ وأخذت شهيقا عميقا لتهدأ .. نوبة الهستيريا قادمة لذا راحت تتنفس بسرعة أنفاسا قصيرة خاطفة ..
***
متى قررت ان الوقت قد حان للخلاص منه ؟
إنها من أسرة أرستقراطية لو لاحظت هذا ، وليس القتل بالسلوك سيد التهذيب بالنسبة لهذه الأسرة .. على الأقل ليس موضة العام .. لكن احيانا ما تصير الامور لا تطاق بالمعنى الحرفي للكلمة .."
- " it's awful "
منذ عشرة اعوام تزوجت د. ( مختار ) .. الاستاذ الجامعي المرموق .. إنه وسيم نوعا وعلى قدر لا بأس به من الرقي .. الناس مولعة به ويقولون إنه ابن بلد وظريف .. وتراه هي Cool .. هذا هو ما وصفته به لأبيها ..
لماذا لم يتزوج من قبل ، ولماذا يبدأ التجربة في سن الأربعين ؟ قال إن الحياة والدراسة لم يتركا له الوقت ولا البال الرائق لأمور كهذه .. ثم ..
- " في لحظة يدرك المرء انه ان لم يتزوج الآن سيكون وحيدا للأبد .."
شهقت في رعب :
- Oh ! c'st trop ( إن هذا لكثير )!"
وكانوا يتحدثون عن اسرته الراقية الثرية .. نعم .. لا بد انه ثري .. كيف بربك يملك هذا كله من راتب الجامعة ؟ من الواضح انه ورث مبلغا محترما .. هي ايضا تأخرت كثيرا في الزواج حتى صارت على مشارف الثلاثين ، لانها كانت تعتقد ان الرجال صراصير تحوم حول ثروة ابيها .. أخيرا وجدت الرجل المناسب .. وتم الزواج وسافروا الى الخراج في شهر عسل قصير ..
هكذا صارت حياتهما مزدحمة جدا .. يوصلها للنادي صباحا ثم يذهب لعمله في الكلبية ، ويعود عند الظهيرة لتناولا الغداء في النادي او مطعم ما ، ثم يعود بها البيت .. ويقضي فترة العصر في مكتبه ، ثم يخرجان مساء او يزورهما الأصدقاء ..
هل لاحظت شيئا غير معتاد عليه في ذلك الوقت ؟
لا تعتقد .. المشكلة انه كان مكتملا .. مكتملا بطريقة تثير الريبة .. دائما هو متأنق .. دائما هو لامع .. دائما هو حاضر الدعابة.. دائما هو جاهز للكلام المنطقي .. وهذا شيء يثير الغيظ لكنها تحملته ..
آه .. تذكرت .. هناك تلك الوحمة في معصمه .. إنها موجودة بالضبط في باطن المعصم على ارتفاع 3 سنتيمترات من المفصل .. رأتها مرارا .. لكنه يخجل منها بشكل خاص لهذا يحرص على ارتداء قمصان طويلة الكمين ، حتى مناماته لها كمان طويلان ، وهي لا تذكر انها رأته بالثياب الداخلية قط .. حتى حينما ينزل الى البحر يحرص على وضع شيء يشبه السوار حول معصمه .. ( علياء ) هستيرية لكنها لا تعرف هذا عن نفسها .. لهذا هي متأكدة ان شكل الوحمة يتغير كلما رأتها .. تارة تشعر انها دائرة سوداء ،وتارة تراها اقرب الى شعار تجاري فلا ينقصها إلا رمز .. وتارة هي ثعبان يلتهم ذيله أو نجم خماسي .. ربما سداسي ..
لكنها في كل مرة كانت ترى تلك الوحمة ربع ثانية ثم يغطيها زوجها في حرج ، لهذا كان احتمال انها تخرف واردا .. لم تكن تهتم كثيرا لولا ان هذه الوحمة بدت لها سوقية و ( بلدي ) إلى حد كبير .. وقد اقترحت عليه ان يجد جراح تجميل بارعا يزيلها فابتسم ولم يقل شيئا ..
ولم يزلها ..
هذا كل ما نغص حياتها في بداية الزواج ..
لم ينغص عليهما شيء آخر إلا معرفتهما انها لن تنجب ..
كانت هناك مشكلة ما في المبيضين .. ام هو الرحم ؟ لا تفهم بالضبط ، لكن الطبيب قال إنه من الصعب ان تنجب .. من المستحيل في الواقع لان لديها مشكلة غاية في التعقيد ..
-" Oh no Merciful God ! ( أه لا . يا الهي الرحيم ) "
وقد ضايق هذا ( مختار ) كثيرا .. لكنه لم يتحدث عن الزواج ثانية ولم يتحدث عن الطلاق ..
كل هذه ليست بالسباب التي تدفعها الى التدبير لقتله كما ترى ، خاصة ان القتل كما قلنا ليس موضة العام ..
***
ربما فكرت في قتله اول مرة عندما حدثت قصة كلبها ..
كلبها البكيني الحبوب ( سنوبي ) كان هو الشيء الأهم الذي جاء معها من بيت ابيها .. كان شيئا لطيفا صغيرا لا يكف عن النباح في وجه الغرباء ، فإذا اقتربوا سقط مغشيا عليه من الرعب ..
منذ اللحظة الأولى لم يكن ثمة ود مفقود بين الاثنين .. الزوج والكلب .. بدا ان هناك مثلث حب يجمع الثلاثة وان الذكرين يغاران من بعضهما .. وكان ظهور زوجها في أي مكان يكفي كي يتوارى الكلب تحت اقرب اريكة وربما بلل نفسه من الرعب .. أتحدث عن الكلب لا الزوج طبعا ..
-" لا افهم كيف تحبين هذا الشيء البشع .."
هكذا كان زوجها يقول كلما راى الكلب .. وكانت هي تكتفي بنظرة باردة قاسية لائمة ثم تحتضن الحيوان الخائف لراجف الى صدرها .
وذات مرة وجد ( مختار ) الكلب يرتجف جوار اريكة في طريقة ، فلم يتردد في ان ركله ركلة لا بأس بها أبدا أطاحت به مترين في الهواء ..
ثم جاء اليوم الذي اختفى فيه الكلب تماما .. بحثت عنه في كل مكان بلا جدوى .. وقيل إنه سرق أو فر .. طبعا كان مستحيلا لان ( سنوبي ) لن يفر .. إنها تعرفه أفضل من ذاتها .. ربما لا نعرف الكثير عنا .. ربما نكتشف أشياء عن ذواتنا لم نكن نعرفها ، لكن لا يوجد أي سلوك غير مبرر لدى ( سنوبي ) .. أم اعن احتمال سرقته فنحن لسنا في باريس .. لا احد يبالي بالكلاب هنا إلا لجره امن أعناقها بحبل في الطرقات .. دعك من انها لا تتركه وحده ابدا ..
طبعا أمكنها ان تفهم القصة حينما وجد البستاني تلك العظام الصغيرة في حوض الزهور بعد ستة اشهر من الاختفاء .. لم تستطع ان تلقي نظرة على الجثة لكن البستاني قال ان الجمجمة مهشمة تماما ..
طبعا لم تستطع إلقاء اللوم على زوجها ، لانها لا تتخيل الاستاذ الجامعي الوقور يهوى على راس كلب ببلطة .. لكن يظل السؤال هو : من فعلها ؟
***
والسؤال الثاني المهم هو ألبوم الصور الذي لديه .. والذي عرضه عليها اكثر من مرة ..
ألبوم غريب هو لا يضم صورة ام او اخ .. فقط صور اصدقاء وصور اجداد .. الطريف هو ان كل أجداده منذ اختراع الكاميرا لهم ذات الوجه .. فقط تتغير الثياب حسب الظروف .. طربوش .. ثياب الأربعينات .. نفس الوجه لا يشيخ ولا يتبدل .. هل صفاته الوراثية بهذه القوة ؟
بالمناسبة لماذا لا يشيخ زوجها ؟ حتى بالنسبة لها وهي في الأربعين فقط هناك اكثر من تجعيدة واكثر من شعرة بيضاء لان السنين لا تمر من دون اثر .. اما هو وهو في الخمسين من العمر فمن المفترض ان تبدو التغيرات اكثر ..
لماذا يصر على ان ينام وحيدا ولا يسمح لها ابدا بان تراه اثناء نومه ؟ هناك غرفة اتخذها لنفسه في البيت .. وعندما يحين موعد نومه ـ وهو لا يأتي ابدا إلا بعد نومها هي ـ يدخل الغرفة ويغلقها على نفسه من الداخل .. غالبا ما تصحو بعده لتجده منتعشا منفتحا يجلس الى مائدة الإفطار ..
ثم هي تعرف انه من اسرة أرستقراطية .. لكن من هم بالضبط ؟ لم يزرهما احد قط ولم يتصل بهما احد .. وهو الذي تقدم للزواج منها وحده .. كل الناس يقولون ان اسرة ( ابو مندور ) ثرية جدا .. لكن أي شيء يربط بينه وبين تلك الاسرة سوى الإسم ؟ اسم ( ابو مندور ) شائع فمن قال بالضبط انه من تلك الأسرة؟
ذات يوم قابلت في النادي فتاة جميلة وإن كانت تضع المساحيق بطريقة ( بلدي ) بعض الشيء اسمها (
غادة او مندور ) .. وقد تطرق بينهما الحديث فعرفت انها من تلك الاسرة الثرية .. سألتها عن زوجها .. هنا تقلص وجه الفتاة شأن من يتذكر ..وقالت :
-" ( مختار ابو مندور ) ؟ استاذ جامعي ؟ Pardon .. حقا لا اتذك ه ذا الاسم .. ان اسرتنا تضم رجال الاعمال وكبار التجار ولواءات الجيش والشرطة والمستشارين .. بل ان عندنا ممثلا او اثنين .. لكن لا اعرف أي شخص من السلك الجامعي .. ربما .. You never can tell "
كما ترى لم تزدها هذه المحادثة إلا قلقا .. يحب المرء ان يتعامل مع شخص له طول وعرض وارتفاع وجذور .. ان تكون لزوجها ام تتشاجر معها وخالة تتضايق كلما جاءت سيرتها .. لكنها تشعر في كل يوم ان زوجها نبت شيطاني ..
شيطاني .. هذه هي الكلمة !
هنا تأتي المغامرة التي لا بد منها ، والتي يطلق عليها القصيصون والسينمائيون اسم ( المشهد الاجباري ) ..
لقد قررت ان تلقى عليه نظرة اثناء نومه ..
امر عجيب ان يكون هذا مطمع زوجة بعد عشر سنين من الزواج ، لكن الحقيقة هي انها لم تتمكن قط من ذلك ، وقد بدا لها الأمر غريبا ..
الغرفة تغلق بالمزلاج من الداخل لكن هناك شرفة .. شرفة مشتركة مع غرفتها هي ، التي كان يجب ان تكون غرفتهما .. والشرفة تغلق بشيش . طبعا هذا يسهل الأمور .. كل لص يعرف ان اقتحام الشيش سهل من الخارج إذا كانت عندك أداة يمكن ان تنساب في الشق ثم ترفع بها اللسان لأعلى ..
كانت تعاني الفراغ وكان عندها كل الوقت لتحسن طريقتها ..
تتأكد من ان لديها جسما يصلح .. تضع بعض الزيت على اللسان كي لا يحدث صريرا .. ثم تختار ليلة مقمرة حتى تتأكد من ان الغرفة ستكون مضاءة ..
لو وجدها في غرفته ليلا فلا مشكلة .. لا جريمة .. لكنها لا تح بان تجد نفسها في هذا الموقف .. تشعر بأن اختلاق الاعذار امر لا يتسق مع الكبرياء ..
وجاء اليوم الموعود .. عادا من الخارج .. كعادته لاذ بالصمت بمجرد دخول البيت .. إن ظرفه ولطفه يشبهان الحذاء الذي ينزعه على عتبة البيت فلا يسمح له بالدخول .. إنه للشارع فقط ..
أعدت لهما الخادم العشاء فجلسا يأكلان في صمت ..
بالمناسبة .. لم تعرف قط من يحب اللحوم بهذا القدر .. عشر سنوات معه وبرغم هذا لم تلحظ إلا الآن انه لا يكاد يتذوق الخضر او النشويات او الحلوى .. كانت تعلل هذا برغبته في ألا يزيد وزنه .. لكن لماذا يحرص على عدم التهام الخضر ؟ لو شئنا الدقة لقلنا إنه نباتي لكن بالعكس .. حيواني إذا كان هناك مصطلح كهذا ..
بعد العشاء أعلنت انها تريد ان تنام ، فقال له اإنه سيعمل بعض الوقت هكذا دخلت غرفتها وراحت تعد الدقائق إلى ان تهدأ الشقة .. الأنوار تنطفئ .. جو الصمت يعم المكان .. ثم تسمع صوت باب شرفة غرفته ينغلق .. تنتظر في الفراش متوترة نصف ساعة على الأقل ..
الآن تنهض ..
تتجه الى باب الشرفة وتفتحها في حذر ..
نور القمر الفضي الوقور الانيق يغمر الشرفة .. النباتات المتسلقة تبدو كأنها اشخاص يتلصصون بانتظار من يدخل .. وقد دخلت ..
تمشي في بطء وحذر ، ثم تقف خارج شرفة غرفته ..
أخرجت الأداة الملتوية التي اعدتها في صبر .. ثم دستها بحذر عبر شق الشيش .. هوب .. حركة لأعلى بخفة .. لقد اجرت البروفة عشر مرات من قبل ..
اللسان يرتفع .. يرتفع ..
تدفع الى الأمام ليسقط اللسان خارج مجراه ..
أزاحت الباب بحذر .. تبا .. لقد قامت بتزييت اللسان لكنها نسيت ان تزيت المفاصل .. إن الباب يحدث صريرا ..
صريييييييييييييييييييرا !
كان خافتا جدا لكنها شعرت كأنها تسجد الإسكندرية كلها تتساءل عما هنالك ..
اخيار انفتح الباب اكثر .. إنها ترى الغرفة في وضح تام .. ظلها يمتد أماما طويلا مخيفا وهذا يدل على انها خططت جيدا .. النور يدخل الحجرة بالكامل .. سوف ترى ..
زوجها في الفراش ..
تدنوا أكثر فأكثر ..
الآن تراه بوضوح تام في ضوء القمر المعدني البارد القاسي ..
في هذه اللحظة سقطت الأداة المعدنية من يدها ..
كادت تصرخ لكنها لحسن حظها وضعت يدها على فمها في اللحظة الأخيرة ..
الآن فقط فهمت كل شيء ..
هذا الرجل يجب ان يموت ..
هذا الشيء يجب ان يموت !
يجب ..