-9-
منذ عامين ونصف ..
حدث هذا منذ عامين ونصف بالضبط ..
في لوبي احد فنادق وسط القاهرة جلس البروفسرو ( تشارلز هاتون ) مسترخيا واثقا من نفسه .. إنه استاذ الأجيال واسمه يكفي لانجاح أي مؤتمر .. وقبول اية ورقة علمية في أية مجلة ..
بالنسبة للجالسين من حوله كان الأمر يختلف .. كانوا متوترين يجلسون على أطراف مقاعدهم .. ويمدون آذانهم كي لا تفوتهم كلمة من الرجل العظيم .. مع هذا الطراز من العلماء تشعر ان تقديرك لذاتك يتوقف على تقديره لك .. فلو ابدى عدم اكتراث بك او لم يبال ، تشعر بأنك لست كما حسبت نفسك .. من يدري ؟ لربما انت غبي او احمق او عديم التأثير .. اليس هذا ممكنا ؟
على الأقل كان اكثر الموجودين راحة نفسية هو د. ( زكي عبدالرزاق ) .. فالرجل أستاذه علاقته به حميمة منذ كان يدرس في إنجلترا .. لهذا كان اقرب الجالسين له ، وكان يكلمه بشيء من التبسط .. بل جرؤ أكثر من مرة على وضع ساق على ساق ، والغربين عامة لا يرون في هذا التصرف وقاحة ، لكننا نراه كذلك طبعا ..
( هاتون ) نفسه كان شيخا مهدما خفيض الصوت ، له عينان رماديتان لا تثبتان على وجهك ابدا .. لكنه بالغ الأناقة .. وفيه لمسة من بناة الإمبراطورية الذين انقرضوا في انجلترا او كادوا .. عندما انقرض شاي الساعة الخامسة ليحل محله الهامبروجر ، وانقرضت مدافع الاسطول لتحل محلها حاملات طائرات الأسطول السادس .. حتى ثقافة ( اجاثا كريستي ) و ( هولمز ) انقرضت ليحل محلها ( سوبرمان ) و ( ميكي ماوس ) ..
الثلاثة الجالسون هم مع حفظ الالقاب (يوسف) ابو الحسن و ( مصطفى ) ابو
زينة .. دارسا تاريخ اكاديميان .. الاول جاء من الإسكندرية خصيصا لهذا اللقاء .. الثالث هو ( فايز قطب ) .. صحفي شاب صغير السن جدا ..
اما من حدد هذه الاسماء فهو د . ( زكي ) نفسه .. كان ( هاتون ) قد طلب اثنين من الدارسين للتاريخ اللذين يسافران كثيرا الى اوروبا وصحفيا شابا .. كان يريده شابا كي يضمن إخلاصه واستبساله في البحث .. وان يكون غير ذي أهواء شخصية وغير متزوج .. وكان ( زكي ) قد عرف كلا من هؤلاء الثلاثة في ظروف مختلفة .. لهذا اتصل بهم ليجمعهم في هذا اللقاء . اهم ما في الموضوع هو انه يعرفهم معرفة سطحية .. لا يريد اشخاص يقابلهم كل يوم .. لهذا لم يكلف ايا من رفاقه في القسم ..
اما اللفتة التي اثارت دهشت الجميع باستثناء د. (زكي ) فهي ان ( هاتون ) لم يبدأ الكلام إلا بعد ان تفحص باطن معصم كل واحد منهم .. كان هذا غريبا وقد قبلوه في ارتباك .. وصمموا على مناقشة الامر بعد انصرافهم ، اما الآن فن سن الرجل وهيبته تسمحان له بان يفعل أي شيء دون توبيخ ..
قال ( هاتون ) بصوته الخفيض :
-" ليس لدي إلا جزء واحد من هذا الشيء .. كل ما لدي هو معلومات مؤكدة عن مكان كل جزء "
بالطبع كان الكلام وضحا وإن احتاج الصحفي الشاب الى ترجمة سريعة هامسة فيأذنه لانه لا يجيد الانجليزية جدا . أردف الاستاذ البريطاني العجوز :
- " إن الامر جد خطير ..ان اموقن ان الوقت قد حان .. لهذا اطالبكم بالتعامل مع الأمر بجدية .."
ثم نظر الى ( زكي ) وقال :
-" أعرف ان مهمتك العلمية قريبة .. سوف ترحل الى ( سالزبورج ) .. سوف اخبرك بالطريقة التي تحصل بها على الأوراق .. إن اليهود هناك يعرفون مكانها او هذا ما اعتقده .."
ثم نظر لى ( يوسف ) الباحث السكندري الذكي وقال :
-" اعر فانك ستكون في انجلترا قريبا .. هناك سنلتقي واعطيك الجزء الذي عندي ، وهو باللاتينية . ما كنت لأجازف بالسفر به "
هز الفتى رأسه في رهبة ..
ثم نظر العجوز الى ( مصطفى ) وقال :
- " أما انت فإنك ستسافر الى إيطاليا لتحصل على جزء من ترجمة ( تيودور فيليتاس ) .. إنها باليونانية .. سوف أخبرك كيف تقابل الرجل الذي يملك نسخة منها "
ثم نظر الى ( فايز ) وابتسم فتوتر هذ ا الأخير ..
قال العجوز بينما ( زكي ) يترجم للفتى ما يقال :
- " أما انت ايها الشاب فمهمتك صعبة نوعا وسوف أخبرك بها على انفراد .."
ساد الصمت ثم سأل ( يوسف ) .. بكياسة :
- " بروفسور .. لماذا لم يقم بهذه المهمة شخص آخر ؟ لماذا لم تكلف تلاميذ بريطانيين لك بهذا ؟ "
قال ( هاتون ) بطريقته الواهنة :
- " إن ( الحظرد ) عربي .. وقد راهنت على ان الكتاب لن يفهمه حق الفهم إلا قارئ عربي .. يجب ان نتفق على ان هناك جزءا في عقولنا له جنسية.. مهم اقر الغربي تراجم القرآن فلن يفهمها كما يفهمها العربي ما لم يصر جزء من عقل الغربي عربيا .. ومهما بلغت إجادتك للإنجليزية فلن تفهم ( شكسبير ) كما يفهمه العقل البريطاني .. هذا هو رهاني الخاص .. انتم اقدر من الغربيين على فهم ما اراد ( الحظرد ) ان يقوله .. "
ثم اردف وهو يتناول كوب العصير الذي امامه :
- " إن الوقت ضيق .. لم يعد لدي وقت ولا قوة ذهنية يسمحان لي بهذه الأبحاث المعقدة ، لهذا القي بالمسئولية على عواتقكم .."
ثم طلب من الفتى ان يجلس بجواره ، فنهض هذا متهيبا .. ادنى اذنه من فهمه وراح يهمس له ..
قال ( زكي ) منبها :
- " لا أعتقد انه سيفهم ما تطلبه يا سيدي .."
- " ليس عندما تحدث ببطء ووضوح .. إن هذا الفتى أكثركم ذكاء .. هذا واضح على وجهه .."
ثم راح يهمس في أذن الفتى بما يريده منه .. مستعينا بورقة راح يخط فيها أشياء .. ومع كلماته راح اللون يفارق وجه الفتى حتى صار بلون هذه الورقة لو كانت الطباعة من نوع جيد ..
***
عندما غادروا الفندق بعد ساعة وقفوا جميعا في ميدان التحرير عاجزين عن اتخاذ قرار .
في النهاية قطع ( مصطفى ) جو الصمت قائلا بلا كياسة :
- " هذا الرجل مجنون !"
ثم رأى النظرة المنذرة في عيني د. ( زكي ) فتحفظ قليلا .. لكن زكي ) قال في برود :
- " أنت تقول هذا برغم انك باحث وتعرف قيمة الرجل .. لو قال هذا شاب طائش مثل ( فايز ) لقبلته .."
قال ( فايز ) في حدة :
- " انا لست طائشا .."
- قال د. ( زكي ) بلهجة من لا يريد فتح جبهتين في آن واحد :
- " لم اقصد الطيش .. اقصد انك لم تحصل على دراسة أكاديمية ، وليست لديك ادوات البحث التاريخ مثلنا .. هذا الرجل كمبيوتر بشري ويعرف ما يقول . اعتقد ان آخر جزء ستدب إليه الشيخوخة في جسده هو عقله .. هذا العقل لن يخرف أبدا .. إما ان يعمل أو يتوقف .. لا يوجد حل وسط .."
قال ( يوسف ) .. وهو يركل حجرا صغيرا على الأرض :
قال ( زكي ) في حماس كعادته كلما تكلم عن الغربيين :
- " إن لديه اسباب قوية عرفتها منه .. سوف تعرفون هذا واكثر فيما بعد .. إن هؤلاء الغربيين لا يمزحون بلا مناسبة ولا يلقون الكلام على عواهنه .. لهذا هم يحكمون العالم .."
وفكر قليلا ثم قال :
- " هذ االرجل جلس طويلا م ع( كراولي ) .. وسمع منه لكثير .. نحن نعرف ان ( كراولي ) هو اقرب البشر المعاصرين لهذا الكتاب ، وقيل إنه كان يملك ترجمة ( دي ) كملة .. لا احد يعرف .. لكني اردت ان اقول إن معلومات البروفسور دقيقة على الأرجح .."
قال ( مصطفى ) وهو يتحاشى عيني ( زكي ) :
- " بصراحة .. هل منكم من ينوي الاستمرار في هذا الموضوع ؟"
قال الفتى ( فايز ) في حرج :
- " لا اعتقد .. إن ما كلفني به صعب جدا .. يوشك ان يكون مستحيلا .."
قال ( يوسف ) :
- " اما انا فلن افعل شيئا حتى أسافر في تلك البعثة على كل مهمتي سهلة نسبيا .."
كان الأمر يبدو لهم سخيفا جدا وهميا جدا .. وقد قرر اكثرهم انه ينوس الانسحاب بلا اعتذار .. ام اعن ( زكي ) نفسه فإنه صدق او لا تصدق كان آخر من يهتم بهذا الموضوع.. فقط كان يعرف شيئا واحدا : إنه مخلص للرجل إلى أقصى حد وسوف يفعل كل ما يطلبه منه .. لهذا سينفذ المهمة بدقة .. لكن عليه ان يقنع هؤلاء كذلك لأنه من أتى بهم .. بالتالي هم مسئوليته ..
فيما بعد سوف ينسى الجميع الأمر ..
لن يتذكروه إلا يوم يعود ( زكي ) من ( سالزبورج ) بالكتاب لارهيب . يوم يعرف ان استاذه البريطاني قد مات .. عندها سيعرف ان المهمة صارت على عاتقه هو .. سوف يتصل بالآخرين ويخبرهم بما عرفه ، من ثم تتحرك القصة من جديد .. ( يوسف ) .. سوف يذهب الى انجلترا .. لن يقابل البروفسور طبعا لانه مات ، لكنه سيقابل أرملته .. ولسوف تعطيه اوراقا كتبت باللاتينية ..
( مصطفى ) سوف يذهب الى ايطاليا حسب تعليمات الرجل المكتوبة ، ليأخذ الجزء المترجم الى اليونانية من الكتاب ..
( فايز ) سيقوم بتلك المهمة الرهيبة التي لم اعرف تفاصيلها في ذلك الوقت لانه لم يترك اية مذكرات ( لهذا اتركها لخيالك الآن ) .. مهمة تحتاج الى شاب باسل غير ذي اهواء شخصية وغير متزوج .. وصحفي .. مهمة هدفها الظفر بترجمة ( ناتان غزة ) .. أي كتاب ( سيفر هاشاري حاداث ) شخصيا ..
هكذا صار لدي كل منهم جزء من الكتاب ..
ترى ما الذي عرفوه ؟ ما الذي وصلوا اليه ؟
هذا هو ما اريد معرفته بشدة ..