كاتب الموضوع :
الاسد الجريح
المنتدى :
الارشيف
الحب فى عالم متغير
ان نظرة عامة على الساحة العاطفية اليوم ترينا ان هناك حالة ( فك ارتباط ) شاملة ومتكررة فى علاقات الحب العصرى , وترينا ان ظاهرة الوفاء اصبحت اقصوصة خرافية ورواية غريبة تروى وكأنها عن اهل المريخ , وتكاد الواحدة تقول للاخرى .. من تحبين هذا المساء ؟ ولا مانع من ان تتشنج الفتاة ويغمى عليها بكاء وحبا فى كل مرة ..
وتبلغ هذه الحمى أشدها فى المدن والسواحل وكافيتريات الجامعة .. ثم نراها تنحسر كلما نزلنا الى الارياف , او توغلنا فى الصعيد الجوانى , او رحلنا مع البدو .. ونرى انفسنا نعود مع البداوة الى الاصالة والوفاء وثبات العاطفة .. ونسمع عن عشاق اقاموا على حبهم حتى الموت .. ولا تمر خيانة زوجية دون قتل ودون دم .. ونرى الوفاء يعود فيكون هو القاعدة , ونرى نفس الوفاء فى الريف الفرنسى والريف الانجليزى والريف الالمانى , وكما نراه فى جبل الدروز وجبل لبنان .. فاذا نزلنا الى باريس ولندن وبيروت عدنا الى نماذج التهتك التى نراها فى القاهرة وروما ومونت كارلو .. ورأينا الحجاب يسقط كما يسقط الحياء .. ورأينا فتيانا وفتيات يعشن حياة اشبه بعروض " الستريب تيز " .
ويبدو ان للمناخ العام اثرا فى تشجيع صفات معينة فى النفس واجهاض صفات اخرى .. ففى الريف المناخ العام هو مناخ وفاء .. يلقى الفلاح البذرة فى الارض , فلا يخونه المطر ولا يخونه النيل ولا تخونه الشمس , وانما يجد الوفاء بالوعد هو القاعدة عند الجميع .. واذا اجتهد فى الحرث والرى اعطت الارض ثمارها فى الميعاد دون غدر .. ثم ان كل شىء يسير ببطء وهوادة ودون انفعالات ودون مفاجأت .. وتتجاور العائلات وتتزامل وتتصاحب وتتقاسم الخير والشر حتى الموت .. فلا عجب ان اثمر هذا المناخ وفاء عند الناس الذين يعيشون فيه .
ويختلف الامر تماما فى مدينة على الساحل يحج اليها السياح كل يوم , وتلقى البواخر بأطنان من النساء والرجال من هواة المتعة , وطلاب التغيير على الشاطىء بين ساعة واخرى .. والكل يتسابق الى الدفع فى سبيل اصطياد لذة جديدة .
كما يختلف الامر فى كافيتريا بالجامعة تتداول عليها طوابير طوافة من المراهقين والمراهقات , وتطن فيها الغرائز والشهوات طنين النحل فى خلية .. وتلتهب الانظار والاسماع بما ترى وتسمع .
ثم حياة المدن .. التى لم يعد فيها الانسان ينتظر من السماء شيئا .. وانما أخذ زمام الامر فى يده وبدأ يدير كل شىء بالازرار والرادار والاقمار الصناعية , فخيل اليه انه لا سماء هناك ولا رب ولا مهيمن سواه .. فالقى بالاوامر والشرائع والاعراف والتقاليد وراء ظهره , كما يلقى بتركة بالية وانطلق يعيش على هواه .. ولم يعد الواحد منهم يرى غير نفسه وغير ما يشتهى , وغير ما تأتى به اللحظة من حظوظ وملذات .
وتلك هى الحياة المادية الصرفة .
وحينما يعيش الانسان حياة مادية صرف .. فانه ينفصم تماما الى لحظات .. وحالات .. ونزوات .. لا رباط بينها .. الا استهداف اللذة .. والشهوات بطبيعتها سريعة الملل , سريعة الضجر طلابة للتجديد والتغيير لتظل على اشتعالها .
ومن هنا تأتى هذه الحالة العامة من ( فك الارتباط ) المتكررة والعلاقات الطيارة .. ونرى الساحة وقد انقلبت الى جبلاية قرود , تتلاقح وتتسافد فيها الاناث والذكور بلا قاعدة سوى لقاء المصادفة .
والغريب أن النفس فى هذه الحياة لا تزداد شبعا , بل تزداد جوعا ولا تزداد امتلاء , بل تزداد خواء .. ثم هى تنتهى الى حالة من الظلمة الحيوانية والقسوة والبلادة .. ثم تنتهى أخر الامر بفساد الفطرة الى اليأس والجنون وطلب الانتحار .
ولهذا نجد اعلى نسبة للجنون والانتحار فى بلاد الترف والتحلل , والاشباع الجنسى مثل روسيا وامريكا والسويد والنرويج .. ولا نجدها بين الذين يعيشون حياة الريف او حياة البداوة او حياة الجبل .. كما لا نجدها اطلاقا بين اهل الايمان , واهل الوفاء واهل المثل والقيم .
ويظل هؤلاء الماديون على غوايتهم لا يفيقون الا على زلزال او طوفان او بركان او وباء مهلك , تعجز أمامه حيلهم ومعارفهم , فيتوقف الواحد منهم وقد شل عقله تماما وهو يرى قوة اخرى غير قوته , وارادة اخرى غير ارادته تعمل فى الكون .
فاذا مضت الحادثة , وانصرف اخر عامل إنقاذ , عاد المسرفون منهم الى عتوهم .. ورأيناهم يفسرون ما حدث بالعبث والقوى العبثية والعشوائية والمصادفات العمياء , وازدادوا بذلك عمى على عماهم , وفاتتهم العبرة , ونسوا التاريخ , ولم يفقهوا ان ما حدث كان صيحة إنذار .. ونفخة أولى فى الصور .. ليصحو من يصحو ويفيق من يفيق .. قبل ان تأتى نفخة الصور الثانية فتكون الطامة ..
وتلك كانت رواية التاريخ التى تعددت فصولا .
وتلك كانت قصة عاد وثمود وقوم نوح وقوم لوط .
وتلك كانت سنة الله فى الارض .
ولن تجد لسنة الله تبديلا , وانما الحب وروايات اهل الحب مثال من الف مثال ..
والفطن اللبيب من يعرف كيف يقرأ التاريخ , وكيف يحل رموز حجر رشيد , ويفقه الحكمة الخفية والعبرة المستترة وراء الحوادث اليومية التى تبدو من السطح , وكأنها تداعى المصادفات .
|