كاتب الموضوع :
^RAYAHEEN^
المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
يقول :
هذه القصة حدثت قبل حوالي 45 عاماً، وبطل القصة هو والدي (الحاج جمعة حسين )، المعروف بـ (أبوحسن) .
كان عمره في ذلك الوقت قُرابة العشر سنوات، وكان والده قد توفي، وأصبح يعيش مع جدّه وجدّته، وكان منزلهم عبارة عن (عشةٍ) صغيرة موقعها الآن بيت (الحاج عبدالله المعلم) والد كلّ من (الحاج عيسى المعلم و علي المعلم وأحمد المعلم ومكي المعلم وحسن المعلم).
كانت (العشة) مظلمة، والنور الذي ترسله (اللمبة) لا يكاد يضيء سوى بضع خطواتٍ حولها, وكان الجو البارد، قد فرض حضر التجول في كل مكان، سوى تلك الأفكار التي تتراقص في رؤس الصغار الذين يحلمون بشروق الشمس وطلوع الصباح ...
كان (أبوحسن) في تلك الليلة شأنه شأن باقي الليالي، يرقد فوق سريره الخشبي الذي يبدو كسفينة غوصٍ قديمة، تصدر أصواتها الموسيقية المعهودة (لمزايط)، كلما تقلب (أبوحسن) عليه، طلباً للنوم.
وكان سريره يقع في نهاية (العشة)، والباب المقابل له يقع بعد خطواتٍ منه, وهي مع ذلك تبدو بغاية الإتساع، نتيجة الظلام الذي يفتح الحدود إلى ما لا نهاية.
غفت عين (أبوحسن) قليلاً، ليستيقظ على صوت (بربقة النارجيلة)، لم يكد يفتح عينه حتى أبصر امرأةً تجلس الى جانب باب العشة, وكانت تعطيه ظهرها، وهي تحاول إصلاح النارجيلة ...
لم يعبأ بها ذلك الفتى الصغير، بل حاول أن يتابع نومه، في ذلك الليل الطويل، وهو مع ذلك يستنكر استيقاظ جدته في ذلك الوقت لشرب (النارجيلة الحبيبة على قلبها).
طلع الصبح ... واستيقظ الكل دون استثناء, وعلى الفور قصد (أبوحسن) جدته ليعرب عن استغرابه استيقاظها منتصف الليل لشرب (النارجيلة), وما كان من جدته الحنونة إلا أن أرسلت نظرة عطفٍ تلفها ابتسامة عريضة، وربتت على كتفي حفيدها اليتيم قائلة:
(ياولدي... اذا نمت لا تقعد من النوم إلا الصبح).
لم يفهم أبوحسن المغزى من كلامها بل اكتفى بابتسامة تعبر عن عدم اكتراثه للأمر وواصل يومه بطريقةٍ عادية.
وسرعان ما لاذت الشمس بالمغيب، تاركةً وراءها الحسرة والبرد القارص الذي لا يعرف أدنى درجات الرحمة والعطف.
كانت هذه الليلة أشد برداً وظلمةً، وربما كانت أصوات الكلاب التي ما فتئت تنبح منذ اللحظة الأولى لمغيب الشمس، ربما كانت هذه الأصوات هي التي جعلت منها ليلةً ليلاء لا قمر فيها ولا دفء.
استلقى (أبوحسن) على سريره الخشبي، وربما تدثر بقطعةٍ بالية من (الخياش), التي كان الحصول عليها يعدُ غنيمةً في تلك الفترة.
حاول صاحبنا المتعب أن يهجع في عتمة هذا الليل المظلم، وهو يشعر بأن شيئاً ما سيقع له ...
فالمنظر الذي شاهده البارحة لا يزال يرتسم في مخيلته، وصوت النارجيلة الذي سمعه من جدته لا يزال صداهُ يتردد في أذنيه.
لحظاتٌ مرت هوّمت فيها عيناهُ المتعبتان.... بعدما أخذ الدفء يسري في أجزاء جسمه المنهكة من شدة البرد وقساوة الحياة....
وفجأة...
الصوت المألوف يملأ أرجاء (العشة) الناعسة....
هو نفسه الصوت الذي سمعه البارحة... ونفسه الصوت الذي تعود أن يسمعه من جدته في حوارها الحبيب مع نارجيلتها المعمرة.
فتح (أبوحسن) عينيه بتثاقل شديد, فهو لم يكد يصدق أنهما أبحرتا في عالمٍ آخر, عالم الأحلام الصغيرة التي يحب معانقتها.
نظر صاحبنا إلى مصدر الصوت... كانت المرأة التي شاهدها من قبل...
بجانب باب (العشة), تتكأ على رجليها وتحاول أن لا تظهر ملامح وجهها بإعطائه ظهرها...
كانت حركاتها بطيئةً ومخيفة... ولا يظهر من جسمها إلا شعرها الأبيض, وربما كان بياضه هو مصدر الخوف الذي تملك (أبوحسن)....
أجال صاحبنا بصره في (العشة)... نظر أولاً الى جده الذي كان يغط في نومٍ عميق... وكان فراشه بالقرب من سرير (أبوحسن)... وذهب بنظرةٍ خاطفةٍ أخرى إلى مكان نومِ جدته... هي الأخرى تغط في نومٍ عميق إلى جانب الباب...
أصوات (النارجيلة) أصبحت بمثابة نواقيس الخطر التي ملأ رنينها أرجاء المكان الغارق في الصمت....
أخذ (أبوحسن) يحدّق في تلك العجوز المريبة... لحظاتٌ مرت كأنها عمرٌ كاملٌ من الخوف والرعب.... الى أن حدث ما لم يخطر بباله أبدا.....!!!
ألقت العجوز (النارجيلة) من يدها ونهضت من مكانها واقفةً على رجليها, والأغرب من ذلك أن طولها أخذ في الإزدياد الى أن وصلت إلى سقف (العشة).....
تسارعت دقات قلب ذلك الولد الوحيد في تلك اللحظات القاتلة....
وفجأة...
أدارت العجوز ظهرها الى (أبوحسن) وفي لحظةٍ خاطفة، انقضت عليه كأنها وحشٌ مفترس، تمد له يديها المخيفة، وهي تبتسم ابتسامةً تقشعر لها الأبدان .....
وجهها غائر المعالم... سوى من عيونٍ تتلألأ كأنها جمراتٌ ملتهبة، وأسنان كأنها أسنان ذئبٍ جائع....
انقضت عليه في سرعة البرق...
فما كان من (أبوحسن) إلا أن أطلق صرخةً عالية ... أيقظت جده وجدته من نومهما... ليسقط بعدها من على السرير إلى الأرض وهو يرتجف من شدة الخوف....
كانت تلك العجوز كما يعبر عنها (أبوحسن)، من الجن المؤذية، ولو لم تشمله رحمة الله لكان الآن نسياً منسيا.....
وإلى هذا اليوم يتذكر أبي تلك القصة، ويصفها بأنها أكثر المواقف رعباً بالنسبة إليه طوال حياته...
|