كاتب الموضوع :
ahmedsobh
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
هؤلاء النصابون الكبار وابتكاراتهم العبقرية 6
الدستور 29/5/2007
رأيته جالساً فى القطار وهى على بعد خطوات .. ليسا معاً لكنهما ينتميان لذات العالم .. نظراته تعسة وقميصه مجعد ولحيته نصف نامية .. يجلس وفى يده مذكرة بخط اليد مصورة تحوى معلومات زراعية .. هذا طبيعى فى عصر صار فيه الكتاب عملاً غير أخلاقى .. هو إذن طالب فى كلية الزراعة ذاهب إلى الامتحان كما هو واضح .. اسمه (عادل) .. أعرف هذا يقينا كما أعرف أن اسمها (رانية) .. حرام ألا يكون اسمها (رانية) .. فتاة العصر التى تلبس حجابا مزركشاً و(جوباً) ضيقا من الجنز وحذاء (كوتشى) والموبايل فى يدها بينما هى تقلب فى ملل مماثل صفحات مذكرة مصورة تحوى دروسا باللغة العبرية .. هى إذن طالبة فى الألسن ..
واضح تماماً أن كليهما يشعر بملل قاتل وأن هذه المذكرة تفتح للمرة الأولى أو الثانية غالباً .. نظرات (عادل) تتوه بعيداً عن المذكرة .. تسبح .. تجول .. تنزلق عينه فى نظرة عابرة إلى (رانية) ..تلتقى العينان فيبعد عينيه خارج النافذة .. يتثائب .. ينظر للسقف .. يغمض عينيه بعض الوقت ثم يفتح المذكرة من جديد .. إنه فى مأزق .. بإذن الله ستكون وقعته سوداء عنما يرسب وعندما يعرف (الحاج) ذلك .. لكن لا وقت حتى للقلق .. لابد من قراءة هذا الهراء فى الربع ساعة الباقى على القاهرة ..
نظرت له شاعراً بالشفقة وحمدت الله على أننى لست مكانه .. مهما حدث سوف يتخرج عادل وسوف يجد نفسه بلا عمل .. سوف يفكر فى رانيا أو غادة أو مها .. ربما يعمل فى شركة اتصالات لو كانت لديه واسطة .. ربما يأخذ كورساً فى الكمبيوتر أو الإنجليزية أو إدارة الأعمال، لكنه بالتأكيد سوف يستدين كى يأخذ دورة فى البرجة اللغوية العصبية ..
تساءلت فى مرارة: ما الذى ستقدمه له هذه البرمجة اللغوية العصبية؟ .. فهم الآخرين! .. ماذا يفعل فهم الآخرين أمام البطالة وكيف يقهر الواسطة وكيف؟ .. وكيف؟ .. كيف يساعدك على ان تتزوج رانية؟ .. ربما يساعدك على أن توقعها فى حبك لكن ماذا بعد ذلك؟
ومن جديد أشعر أن الموضوع هو بيع الترام بالماستر كارد .. بيع الترام فى ورق مصقول لامع .. هذا علم لا يهم إلا خبراء الدعاية، ويحتاج إلى مجتمع مترف .. الحياة سهلة فى الخارج .. كل ما عليك هو أن تجد وتشقى وتتعب وتؤثر فى الآخرين لكى تنجح!
قصة نشوء هذا العلم معروفة لكل شاب وهى تعود إلى العام 1975 عندما قرر العالمان الأمريكيان (جرندر) و (باندلر) بالاشتراك مع (باتيسون) أن يحللا مقادير الخلطة السرية التى تؤدى إلى النجاح، بحيث يمكن لكل شخص أن يستعملها فى مطبخه .. أن يضعا قواعد لطريقة التعامل مع البشر، وان يضعا منهجا لفهم الآخرين، وقد اعتمدا على ثلاثة نماذج للنجاح هى للعلماء النفسيين فريتس بيرلز وفيرجينيا ساتير وإركسون ..
هكذا صارت هناك مجموعة من القواعد الجميلة جداً التى جرت على الألسن مجرى الأمثال: (الشخص ليس هو السلوك) .. (الخارطة ليست هى المنطقة) .. (لا يوجد هناك فشل إنما تجارب وخبرات) .. (وراء كل سلوك نية إيجابية) .. (كل الناس لديها وسائل النجاح) ..(استعمل ما أنت ناجح فيه فى مجالات أنت تفشل فيها) وهو هرش مخ لو فكرت بأمانة .. نفس جو المأثورات الذى يذكرك بتبشير توماس فريدمان للعولمة: (يجب ان تكون مستعداً لقتل أسراك) .. (لا غداء مجانياً بعد اليوم) ... الخ، ويبدو أن هذه المقولات رائجة جداً فى أمريكا ..
خلطة حريفة المذاق من علم النفس والمدرسة السلوكية وفن التخاطب وحكمة المرحومة خالتى، مع الكثير جداً من الأمثلة .. أمثلة لا تنتهى تصيبك بالدوار .. عندك جهاز محمول يمكنك بشئ من الجهد أن تستخدمه فى طلب أرقام لكن باقى الإمكانيات مجهولة لك لأن الكتالوج ليس معك .. عقلك كذلك جهاز لا تعرف عنه الكثير ويجب أن تقرأ الكتالوج الخاص به .. ((ستمدك البرمجة بدليل الإرشادات حول طريقة تشغيل عقلك ويعرفك على عقلك اللاواعى، كما سيوفر لك التقنيات التى تساعدك على التغيير سواء بحياتك أو بحياة الآخرين، وستزودك بالخريطة التى تجعلك تحقق النجاح فى الحياة))
هناك دائماً مفهوم الخارطة فى هذه البرمجة .. عامة فهمك للعالم هو الخارطة .. العقل والكلمات يتفاعلان مع الخارطة التى هى العالم .. تعمل البرمجة اللغوية العصبية على أربعة أركان رئيسية هى الحصيلة أو الهدف (ماذا تريد؟) والحواس والمرونة والمبادرة والعمل (لأنك مالم تصنع شيئاً فلن تحقق شيئاً)
يجب ان تفهم البشر الذين تقسمهم البرمجة اللغوية إلى سبعة أنماط(من يهتم بالناس - من يهتم بالنشاطات - من يهتم بالأماكن - من يهتم بالأشياء - من يهتم بالمعلومات - من يهتم بالوقت - من يهتم بالمال) أو هم (اللوام - المسترضى - الواقعى - العقلانى - المشتت)فاهم حاجة؟ .. بالطبع تفهم لكن هل يفهم عادل؟
هناك مبدأ إعادة التأطير ومبدأ القولبة .. أن تتخذ نموذجاً لشخص ناجح تتبنى معتقداته وتراكيبه اللغوية واستراتيجيته، ثم تكون معتقداتك الخاصة وأنت ما زلت تعتنق معتقدات الشخص السابق .. لو كنت تخاف من الظلام فكل ما عليك هو أن تبرمج عقلك على التفكير كواحد لا يخاف الظلام!
هكذا نمت البرمجة اللغوية الحركية العصبية الذاتية هذه، وتحولت إلى طريقة لعلاج الاكتئاب والإدمان وعلاج الفوبيا .. صارت نظام تنمية ذاتية يعتمد على الحلقات الدراسية والاستشارات وجلسات العلاج .. تسربت إلى بلادنا العربية وصارت هوجة وموضة لا تنتهى، وهناك مواقع كثيرة تربطها بالإسلام باعتبار أن الإسلام يحض على البرمجة اللغوية وأن الأنبياء استخدمو أساليبها بنجاح تام .. طيب لماذا لا تكتفى بالدين إذن؟ لكن كما قلت فى المقال السابق، أعتقد أن أغلب علماء الدين الذين هاجموا البرمجة اللغوية العصبية هاجموها قبل ان يعرفوها جيداً .. وهذا ليس دفاعاً عنها قدر ما هو دفاع عن مبدأ الدقة، ومن الخطأ ان نتعامل معها كامتداد لليوجا والشامانية وطاقة التشى...
على كل حال يبدو ان باتلر لم يتعلم السماحة من طريقته هذه لأنه أراد عام 1996 ان يأخذ الكعكة كلها لنفسه، وطالب بأن تسجل الطريقة باعتبارها ملكية فكرية له وحده ..
عندما تقرأ الهجوم على هذه الطريقة تجد أنه من الصعب أن تتوقف .. لابد من كتاب كامل يستعرض هه الآراء .. يقولون أنه بعد 30 سنة من وجودها مازالت لم تقيم علمياً بما يكفى .. لا يوجد لها كيان متكامل من الأساليب العلمية القابلة للتطبيق ..
عام 1984 قام عالم اسمه شاربلى بتقييم 15 دراسة حول هذه الظاهرة فوجد ان البحث العلمى لا يؤيد جدواها، ونتائجها غير قابلة للتكرار ..عدم القابلية لتكرار هى الصفة المميزة للعلم الزائف أو هرش المخ عدم المؤاخذة .. علماء آخرون قالوا بالحرف: ((ال NLP قد جذبت أتباعاً كثيرين بينما هى لا تزيد على خدعة نفسية)) .. ((حتى التقنيات الناجحة نوعاً التى تمارسها البرمجة ليست من اختراعها بل هى من أساليب أخرى سابقة .. لم يعد أحد يذكر البرمجة اللغوية ضمن أساليب العلاج النفسى)) عالم آخر يقول: (( إنها التغيير من أجل التغيير فقط)) ..
يقول ساتام ساسانجيرا عام 2005 إن شعبية ال NLP ليست دليلا على فعاليتها، بل على قدرة الهراء الخارقة على هزيمة العلم .. إن ال NLP عجينة نصف مخبوزة من علم النفس الشعبى والعلم الزائف ..
يقول تونى روبيرز: البرمجة نفعية جداً .. تضم إلى ترسانتها كل وسيلة تثبت نجاحها حتى لو لم تكن مدعومة علمياً .. لا أحد من مدربى البرمجة قد أجرى أبحاثاً حقيقية للبرهنة عليها، طريقة العمل هى: تظاهر بأن الطريقة تعمل .. لو لم تحصل على نتيجة جرب شيئاً آخر .. عن الاسم الغريب تقول مارجريت سنجر إن باندلر اعترف أنه اخترع الاسم من مجموعة كتب متناثرة على أرض سيارته عندما سأله رجل شرطة عن عمله!
على شبكة الإنترنت قرأت لقارئ عربى ذكى يهاجم أحد أنبياء البرمجة اللغوية فى الفضائيات، فيسأله: هل قام تلاميذه بإنشاء المراكز الحيوية التى تفيد المجتمع أم قاموا فقط بانشاء مراكز التدريب لنفس المجال وفى نفس الاتجاه؟!!
هذه هى الحقيقة .. الطريقة الوحيدة للاستفادة من ال NLP هى أن تصير مدرباً لها، وأن تؤلف عنها كتابين، وأن تنشئ مركزاً يعلمها .. هؤلاء الذين فعلوا ذلك هم الذين ظفروا بالخير العميم ..
ترى هل يفهم (عادل) هذا؟ .. هل يمكنه أن يفتتح مركزا لتعليم البرمجة اللغوية العصبية كمشروع عمره الذى يدر الذهب، ويخرس المتحذلقين من أمثالى؟ .. لا أعتقد .. لقد وصل القطار إلى المحطة، وابتعدت (رانية) بخطوات رشيقة لتلحق بالمترو، فلم يعد لدى (عادل) وقت لسماع أى شىء سوى صياح مراقب اللجنة لانه يحاول الغش ..
منقووووول .....
|