لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

"أشعلتُ لقلبك شمعة" (1) اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له... البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري

 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-05-07, 10:35 AM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الارشيف
Wink أشعلتُ لقلبك شمعة ، للكاتبة : لا أنام ..

 

"أشعلتُ لقلبك شمعة"


(1)


اليوم عطلة والنهار طويل، طويل لا نهاية له...

البيت هادئ على غير العادة، لاعجب فأمها وزوج هذه الأخيرة خرجا لا تدري إلى أين، ومنذُ متى أخبراها بشئ، هي تسمع فتُطيع ثم تسمع فتُطيع ثم تُضرب وتطيع أيضاً!!!

سارت الهوينى من على الدرج، تتأمل جدران البيت، ترى تشققاته، طلاءه الذي تكاد لا تميز لونه، أصبح قديماً مثلها ربما!!

وصلت للصالة، كان التلفاز مفتوحاً على قناة الجزيرة الرياضية، من غيره يشاهدها، تُراه أين ذهب؟!

دلفت إلى المطبخ لم تجده، سارت إلى الممر الخارجي، الميزة الوحيدة في هذا البيت أنهُ لم يكن مسقفاً!!

ركلت حصى اعترضت طريقها بأصابع قدمها الحافية إلاّ من دثار الأيام ومرارة الزمن، الترابُ ساخن قد كوتهُ الشمس، تشعرُ بحرارته تتماوج مع باطن قدميها، ومع ذلك تستعذبُ ذراته ورائحته خصوصاً حين يتحدُ مع المطر!!


المطر........


حلمٌ آخر دونتهُ في دفترها!!!!


حدقت في شمس الظهيرة وهي تستند على شجرة اللوز الضخمة، اتحدت مع جذعها الأجعف، فرقٌ شاسع بينها وبين هذه الشجرة، تلك لها جذور راسخة لا تُنتزع أما هي فلا تعرف لنفسها قرار أو مرسى، يا تُرى ماذا سيؤول إليه أمرها؟!

ضاقت عيناها الآن، كم من مرة حاولت أن تُطيل فترة تحديقها في الشمس، لكن بصرها لا يلبث أن ينقلب خاسئاً وهو حسير، ستدون هذه المحاولة الخامسة ربما في دفترها أيضاً....

التفتت لأفواجٍ من النمل الأسود تتسلق الجذع برتابة جندي، إحداها دغدغت ذراعها، انتابتها قشعريرة هزت جسدها فابتعدت لا شعورياً عن الجذع...

عن الجذع أم الجذور؟!

سمعت صوت سعلة مكتومة، مدسوسة بين الأزقة كلصوص الظلام...

التفتت لمصدر الصوت، وبخطوات لا تكاد تُسمع دارت إلى الجهة الأخرى، لقتهُ يُحني ظهره وهو يكح..

السجارة بيده قد احترقت إلى المنتصف ورائحتها الكريهة قد أغرقت المكان...

- "مجيد" ماذا تفعل؟ زمجرت فيه بغضب.

التفت مذعوراً إلى الخلف، ألقى السجارة من يده وكأن أفعى لسعته، لم يجب فوراً كانت المفاجأة قد ألجمته.

- تُدخن سجائر، ألا تخجل من نفسك، لازلت في الإعدادية وتُدخن.

استعاد رباطة جأشه بعد أن أطمأنّ من هويتها، نظر لها بإشمئزاز:

- وما دخلكِ أنتِ؟
- أنا أختك الكبيرة.

الإحساس بالقرف يتصاعد، يتراكم بحجم الثرى وبطول الثريا!!! في حنايا الوجه يرتسم نفور، بغض، كراهية، حقدٌ أسود...

- أنتِ لستِ سوى خادمة في هذا المنزل، حشرة، بعوضة، كلما أراكِ أشعر بالقرف، كم ألعن اللحظة التي أصبحتُ فيها أخاكِ.

كلماته تنطلق بقوة، بسرعة، مغلفة بالطين، بالوحل، بكل شئٍ أسود!! كيف لا وهذا الشبل من ذاك الأسد!!

هوت بصفعة قوية على وجهه، ذهل في مكانه، هي أيضاً ذهلت من نفسها لكن ذهولها لم يستمر، إذ سُرعان ما سمعت صوت الباب الخارجي يفتح، دارت على عقبيها وهي تهرول إلى غرفتها، لا بد أنهم وصلوا، لا تريد أن تراه...

أغلقت باب غرفتها وهي تستند عليه، الدماء التي تجري في عروقها تكاد تُسمع من وقع ضخاتها، لا تدري أيهما طغى صوته على آذانها: دقات الباب أم دقات قلبها!!

أم تراها تتخيل ما تسمع؟!

تعالت الطرقات وهي ترتجف في مكانها.....

لماذا فعلتِ ذلك، لماذا صفعته، ألا تعرفين ابنُ من هو؟!

إنهُ ابنه، ابنُ الوحش، لكنها أخته أيضاً، أليس لها حقٌ عليه؟! أليس الدم الذي يسري بجسده جزءٌ منها..

خطأ، أنتِ مخطئة، فلقد أختلط بدمٍ آخر، دمٍ غريب، دمٍ منحط، دمٍ....

- افتحي الباب يا بنت الـ.......

"يشتمني أنا نعم، لكن لم يشتم مذهبي"....

شرعت بفتح الباب بإرتجاف وهل لديها خيار آخر؟!

لقد اكتشفت من تجاربها أنهُ كلما طال انتظاره في دق الباب زادت سياط ضرباته على جسدها، ستفتحه الآن ربما تهدأ ثائرته على لحمها وترتاح منه.

فتحته ببطء، ببطءٍ شديد، دفعهُ هو بقوة في وجهها، ترنحت للخلف، صرخ:

- لِمَ ضربته؟

عيناها زائغتان، تلتفت يميناً وشمالاً، أيحاول أن يكون ديمقراطياً!!


"لم تسألني في كلتا الحالتين سأُضرب، سأُضرب حتى لو لم أفعل شيئاً"..

أرجوك أفرغ شحنة غضبك على جسدي، ولكن بسرعة، بسرعة شديدة، لا أطيق أن أرى وجهك الكريه، يقتلني ألف مرة....

- ألا تُجيبين؟

اختنق صوتها في حنجرتها، كثيراً ما يخونها حين تراه، أنفاسها تجثو بهدوء، وكيف لا والجاثوم يقفُ أمامها!!

وبصوتٍ لا يكاد يسمع أجابته:

- س..سجائر، رأيته يدخن سجائر..

هل رأيت الأوداج يوماً حين تنتفخ من حدة الغضب، انظر لرقبته وستعرف، حانت اللحظة الموعودة..

شدها من حجابها...

"أكرهه أكرهه أكرهه كم انتهك حرمتي في هذا المكان"....

حاولت أن تعيد شده لأسفل، لكنه ضربها على فمها بقوة...

سائلٌ حار يتدفق ويبلل الشفتين، يجري بسرعة بقوة زخات المطر، يتغلغل إلى اللسان وتستطعمه..

طعمه كريه لكنهُ دافئ يُشعرك بالخدر...

لم تصرخ كعادتها، بل عضت على نواجذها المتورمة كي تمنعها من الخروج، من زلزلة أركان هذا البيت المتهالك...

"صرختي هي تسليته الوحيدة في هذا البيت..أجل الوحيدة"!!

- وما شأنك إذا شرب سجائر أم لا، ألم أقل لكِ ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ، كم مرة قلتُ لكِ ذلك.

دفعها على الأرض فسقطت على صدرها، كانت السقطة مؤلمة، أحست بعظامها تتهشم...

يا لهذا الوجع..

لم تقوى على الحراك ولا على الصراخ، لم تشفِ غليله بعد...

يا لهُ سادي، يلتذ بتعذيب الآخرين وسماع صراخهم، تباً له من رجل، بل تباً للرجال كلهم، كلهم دون استثناء!!

تقدم منها، أغمضت عينيها بقوة ووجهها لازال يقبّل الأرض، لا تريد أن تراه أو ترى ما سيفعله..

أفعل أي شئ وخلصني، أتُراه سيدوس على ظهري أم رأسي؟!

أرجوك أفعل أي شئ وأغرب، أغرب من هنا..

لم تشعر إلا بوقع حذائه الثقيل على أصابعها، يدعكها دعكاً ببطء وقوة، زاد من ضغطه، أصابعها تكاد تُسحق..

أتراها لازالت باقية..أصابعي!!


مؤلم مؤلم مؤلم...


وصرخت بقوة، بأقصى طاقتها، بأقصى ما تصل إليه حنجرتها، وابتعد أخيراً، رفع حذائه عن أصابعها، الخدر يدبُّ في أطرافها بهون، ليس بها حاجة لتفتح عينيها، لا بد أنهُ يبتسم الآن، لقد أرضى ساديته...

- إذا لمسته مرةً أخرى سأكسر لكِ يدك الأخرى، أسمعتي؟

ثم خرج....

لم تقوى على رفع جسدها، أصابعها لا تتحرك، وخزاتٌ كنصل السكين تنبض عند قمم أصابعها والخدرُ يسري في الجسد كالتيار، يمنع أجهزة الجسم المعذب من العمل..

ليتني أبقى هكذا للأبد!!

حركت جفنيها بإضطراب، نظرت إلى اليد المدعوكة، انسحق الجلد، أصبح لونهُ داكناً، سال الدم وردياً يلمع بين طياته، حزّ في نفسها منظرها...

لقد تشوهت يدي...

وددتُ لو أصرخ، أن أبكي، ولكن طاقتي كانت قد استنفذت، لم يتبق إلا الأنين.....

أنّت بصوتٍ متقطع وكبدها تتلظى، جسدها يهتز، يهتزُ بعمق، بقوة، نكأته الجروح وأعياهُ السهاد..

لحظة!!! جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!


ثم جاءت، طالما أتت بعد أن ينتهي هو، تأتي بدمعتها دوماً، تحاول أن تعتذر...

أتيتِ تعتذري عمّاذا وماذا؟!

جثت بجانبي، تمسح على ظهري، لكني لا أشعر بشئ..

ألم أقل لكم أنّ جسدي مخدر!!

كم أكرهها، أكرهها أكثر منه، صدقوني، هي أمي أعرف، لكنها زوجته، زوجته التي لا تقدر أن تنطق بكلمة أمامه، لا تقدر أن تفعل شئ، فقط تبكي، يا لدموعك!! يا لضعفك، أنتِ عارٌ على الأمهات، عارٌ على الأمومة..

أكرهك أنتِ السبب، لم تزوجتِ هذا الشيطان؟؟ ألكي تعذبيني، لتشقيني، لتدفنيني حية؟!!

أرتفع أنينها....

لا أطيقُ قربها مني....

نظرت إلى اليد المسحوقة وهي تشهق بالبكاء، رفعتها فندت من الفم صرخة:

- إنها تؤلمني، دعيها...

تركتها وهي تزدادُ نحيباً، انصرفت لتعود بثلج وكمادات تضمدها...

تركتها تفعل ما تشاء وعيناي تكادات تقفزان من محجريهما حين تحركها، الألم أشد من شفرة السكين يقطعني تقطيعاً، كأنهُ جمرة تكويني، تحرقني، تلسعني بسياطها...

أمسكتها من خصرها، كانت لاتزال تلامس الأرض، تستمد الأمان منه، تطفئ لهيب قلبها، تُثلج صدرها قليلاً، فالصور ستتكرر قريباً ، لاتلبث أن تُعاد ولكن بيدٍ أخرى ألظى!!!

أجل...قريباً!!

رفعتها وهي تشعر بالتهالك، الإجهاد حطمها، بدت كقطعة لحمٍ عاجزة تتقلب على فحم، سرعان ما يتحول إلى رماد، أترى أسفله أي شئ؟!!

مررت اللحاف على جسدي، أشعر بدماغي يكاد ينفجر، بزغ الألم، لقد زال الخدر..

لمَ زال، كنتُ أفضل منذُ قليل..

قبلتني على جبهتي ووجهها مغرقٌ بالدموع.....

منظرها يمزقني أكثر من آلالام جسدي، يغيظني، يفتتني، أرجوكِ ابتعدي، لا أريد أن أرى وجهك، أنتِ مثله، بل أقسى منه، أنتِ السبب، لمَ تزوجته، لمَ؟!

أغلقت عيني لعلّها تفهم الإشارة وتنصرف، لكنها بقيت بجانبي، تنظر إلي وتبكي بصمت....


نامت "غدير"، لم تكن تدري أكانت نائمة أم تهذي!!

أكانت تحلم..أكان كابوساً؟!

يا ليت....

===========
(2)


لا أدري كم مرّ عليّ من الوقت وأنا نائمة.....

كان جسدي يشتعل بالحرارة، طنين في أذني وفي يدي، نظرتُ إليها، إذن لم أكن أحلم، فللتُ الرباط قليلاً.....

لونها قد أصبح غامقاً، أختلط لون الجلد الأبيض بثنايا زرقاء داكنة، حاولت تحريكها فعاد الألم قوياً قوياً..

نظرتُ حولي فلم أرها، ذهبت، أجل ذهبت، ربما منعها وهي أطاعت، اختارتهُ هو بجسده الذي يشبه الثور وتركتني أنا بأضلعي المتكسرة..


سمعت صرير الباب، التفتت نحوه، الإكرة تتحرك ببطء، لكأن من يمسكها يودُّ أن يفاجأ من بالداخل، يقبض عليه متلبساً!!

أخذ يحدق بها وهي على الفراش، تقدم منها وهو لايزال يتفحصها، ألقى عليها شيئاً، كانت 3 دنانير...

قال بصوتٍ باردٍ مثله:

- يقولُ لكِ أبي خذي هذه النقود واذهبي للبقالة لتشتري زجاجتي حليب وبيض وماء لقاح.

نظرت له مبهوتة، كلماته ألجمت لسانها، أنستها الألم بأم عينه..

- يقول لكِ اذهبي بسرعة قبل أن يحل المغرب، وتعالي فوراً.

الأخوة تتلاشى والروابط تنعدم، تنفلت، كقشة، كريشة، ها هي تطير، تطير، ولكن أين هي وأين الجاذبية!!

لاتلبث أن تهوي، تهوي رغم أنفها، تهوي لأن الحياة هكذا، والقوانين تقودك، تحطمك لا يمكنك الفكاك منها، أين أنت يا "نيوتن" أين أنت؟!!

- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وتعلمتي ألا تتدخلي فيما لا يعنيكِ..

لم تجب عليه، لسانها ثقيل ينوءُ بحمله، يرزء بتلال الألم والحسرة...

وقبل أن يغادر، التفت إليها وهو يبتسم ابتسامةً كريهة كأبيه:

- اشتري بالباقي علبة سجائر لي..

"بأس ما أنجبتي يا أمي"..

حدقت في تلك الأوراق الحمراء التي التفّت حول نفسها، تأملتها طويلاً وهي تزفر، حركت أصابع يدها اليسرى بتعب لتلامسها، قبضت عليها، جعدتها وأبقتها هكذا في كفها الصغير..

أطبقت جفنيها باستسلام، ولقد أنزوى في جانب المقلة شيءٌ كابدته، حاربته، قاومته طويلاً، لكنهُ انتصر و ها هو يعلق بأهدابها ندياً وهي صاغرة....

جرجرت نفسها من السرير جراً، كانت يدها اليمنى بجانبها، تحاول عدم تحريكها ولكن هيهات..

جسدها يهتز وهي تهتز وشعر جسدها يهتز أيضاً من شدة الألم..

ذهبت إلى الحمام لتغتسل، لتبرد اللهيب المستعر بداخلها، لتمرر الماء على صدرها لعلهُ يخترق الجلد وينفذ إلى القلب، يطفئه ويثلج خواطره المجنونة..

ظلم، هذا ظلم ظلم ظلم...

سالت الدموع مع الماء، اتحدت معه في صورة متماهية، شفافة لكن مخدوشة!!

أجل ومن منا لديه صورة كاملة؟!!

أحست بالراحة قليلاً، بالإرتخاء، البخار يتصاعد، يُثير فيها النعاس، ترنحت في خطاها، ارتدت ملابسها وعباءتها بوهن، فتحت درجها الصغير، تناولت حبتي بندول، وأعادت ربط الضماد بخفة وهي تمسح عليها بحنو أقرب إلى هدهدة القطط..


خرجت من غرفتها، لقتهم في الصالة، هي وزوجها وابنهم يشاهدون التلفاز وكأنَّ شيئاً لم يكن، كأنها ليست منهم، بل مجرد قطعة ناشزة!!

لم يدعوني يوماً للجلوس معهم، لم يحسسوني بإنتمائي لهم..

خاطبها دون أن يحول عينيه عن التلفاز:

- اشتري بسرعة ولا تتأخري.

"اخرس أيها الظالم، يا عديم الرجولة، ترسلني للبقالات وأنا فتاة وأنت في البيت، وأنتِ أيضاً لا تنظري إليّ هكذا بوجهك ودموعكِ البلهاء، أنتِ لا تستحقين لقب أم، الأمومة تتبرأ منكِ، أكرهكِ وأكرهكم جميعاً، متى أرتاح منكم، متى؟!!"

سارت ببطء، لم يكن المكان بعيداً، تشاهد المارة والسيارات وتتصفح الوجوه لعلها تجد كتاباً مثلها، صفحة ألم تشبهها، تواسيها، تقرأ فيها حروف الظلم والقهر واليتم..

لو كان أبي موجوداً، لو كان لي أب يحميني، يواسيني، يدفع عني جرعات الظلم، لو...

أستغفر الله، لو تعمل عمل الشيطان...

وصلت إلى البقالة، لتنفذ أمراً آخر....

حملت السلة الصغيرة بيدها اليسرى بصعوبة، نقلت بصرها حول المكان، تبحث عن زجاجات الحليب والبيض وماء اللقاح!!

وضعت السلة على الأرض ثم أمسكت البيض ووضعته، ذهبت إلى الثلاجة ووضعت علبتي الحليب أفقياً بجانب البيض كي لا ينكسر، حملت سلتها لتبحث عن زجاجة ماء اللقاح الذي يعشقه زوج أمها وتكره طعمه هي..

- وأخيراً وجدته.

لم تشأ أن تنزل السلة من ذراعها اليسرى مرة أخرى، رفعت يدها المضمدة ببطء نحو الزجاجة، أمسكتها من زندها وحاولت أن تضغط عليها بقوة لتلامس جذعها، لكن مظهر الزجاجة المصقول لم يكن خادعاً، أخذت تنزلقُ بنعومة شيئاً فشيئاً وهي تزيد من الضغط عليها..


ودون مقدمات.....

ودون رحمة....

سقطت، وتناثرت قطع الزجاج في أرجاء المكان..

سال الماء ليبلل القطع، يزيدها لمعاناً ويزيدُ قلبها حرقة، رددت بهمس:

- انكسرت..انكسرت، ماذا أفعل يا ربي، سيقتلني، لا أملك نقوداً أخرى، سيذبحني، رحماك يا رب رحماك..

جثت على الأرض، تراقب الزجاج المتناثر بعينين زائغتين.

- ماذا أقول له؟! أقول الحقيقة، لكن لا لا، لن يصدقني.

هزت رأسها وهي تخاطب نفسها:

- غبية، غبية، غبية.

وانحدرت الدموع من عينيها بصمت.....

أتعرف إلى أي مدى يقودك اليأس والخوف؟!!

كان بريق الزجاج مغرياً، يجذبك لتلامسه، لتتحسسه، لتتأكد من حدة شفرته، أيقطع بسرعة كلمح البصر دون ألم؟!

نظرت إليه من بين دموعها، لازال يناديها، يدعوها بإغراء، مدت يدها اليسرى وهي ترتجف، لا تدري يدها التي ترتجف أم القطعة كانت ترتجف؟!!

مجرد ضغطة قوية نحو العروق وينتهي كل شئ، ينتهي الألم، ينتهي العذاب وكل أيام الشقاء، ترتاح من وجوههم، من ظلمهم، من هذه الحياة..

سيسيل الدم عبيطاً بلذعة وستتألم في البداية ربما، لكنها عروق، والعروق نبض الحياة، سيكون الأثر قاضياً إذن..

لكن ماذا لو أنقذها أحدهم في اللحظة الأخيرة؟!

هزت رأسها بقوة، أسقطت القطعة من يدها، رنت على البلاط، تتراقص بخفة حول هودج الموت، ها هي تستقر أخيراً على الأرض حيثُ مكانها الحقيقي..

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

أنهضت نفسها بصعوبة، دفعت ثمن زجاجة اللقاح المكسورة وباقي الأشياء، تمشي دون أن ترى الطريق بعينيها، عاد ألم يدها بقوة والوخز لا يكف عن جنونه..

- ماذا أفعل الآن، أأعود للمنزل ليكسر ضلعاً آخر من جسدي، أأعود لذلك السادي وأترجاه أن يسامحني وأن يقتص من مصروفي حتى أسدد ثمن الزجاجة وأشتري أخرى، ماذا أفعل؟

أغمضت عينيها وهي تسير، كانت شمس المغيب قد ألقت بظلالها على الجميع والطيور قد سارت لتختبئ في أعشاشها فقد حان وقت المبيت، خفت حركة البشر، والطريق إلى المنزل يبدو طويلاً طويلاً لا نهاية له، أتلقى حتفها اليوم؟! ربما...

سمعت صوت بوق سيارة خلفها، نظرت وراءها، كان شاباً يلاحقها بسيارته، يسير ببطء بجانبها، تكلم كثيراً وفي أشياء كثيرة، لم تكن تسمع أي شئ، لم تكن تقوى على استيعاب أي شئ آخر سوى الزوبعة التي تنتظرها في المنزل...

عادت إلى واقعها ونظرت إلى الشاب...

من هذا وماذا يقول هذا المجنون؟!!

غيرت مسارها وسارت بسرعة في طريقٍ آخر لا يؤدي إلى المنزل، كانت تمسكُ الكيس بيدها السليمة، لا تدري أسيبقى لها عظمٌ سليم هذا اليوم!!!

عاد الشاب ليلاحقها، خافت فأوقفت سيارة أجرة..

"أين أذهب يا ربي..ليس لدي مكان أختبئُ فيه، أين أذهب، كل الطرق مسدودة..."

بلى، يوجد، هو هو، أجل سأذهب إليه...

أعطت السائق العنوان، ثم أغمضت عينيها بقوة وهي تتنهد...


لطالما كان يزورهم على أيام حياة والدها، تسترق من وجهه نظرات الحنان والشفقة، يحضر لها دمى وقطع الشوكلاته بعد أن يمط وجنتيها المكتنزتين بقوة، غاب الآن وغارت وجنتاها فقد منعه "حميد" من أن يلامس عتبة بيتهم حتى!! وكان ذلك منذُ خمس سنوات، آخر عهدهم به وبأبيها....


نقدت السائق 500 فلس ثمن السجائر التي أوصاها "مجيد" بها...

"لو قُطعت يدي الأخرى ما اشتريتُ له هذا السم"..

سارت تترنح في مشيتها، وقفت أمام سورهم، فقد عاشت هناك لمدة عام قبل أن تتزوج أمها مرةً أخرى، كانت أياماً جميلة حقاً..

أُعيد ترميم البيت وأعيد طلاءه، بدى كبيراً وجميلاً، أشياء كثيرة تتغير في لمح البصر..

دقت الجرس، انتظرت كثيراً حتى فُتح، ظهرت خادمة أندونيسية في وجهها، خاطبتها بتعب:

- بابا "محمد" موجود؟

هزت الخادمة رأسها بإيجاب ولكن دون أن تسمح لها بالدخول.

- بابا "محمد" في المزرعة هناك. وأشارت بيدها للقطعة الخضراء الملاصقة للبيت.

شكرتها وهي تجرُّ نفسها وتجرُّ الكيس معها، مضى وقتٌ طويل، لا بد أن الثور الموجود في بيتهم قد أظهر قرنيه!!


سارت الخادمة أمامها، كانوا قد أقتربوا...

تناهى إلى مسمعها ضحكات تخرج من القلب صافية، من القلب إلى القلب..

"أيوجد في هذا العالم شئ يُضحك؟!!"..

أحست بالغيرة، بالحسد ربما، هؤلاء يتجرعون من الحياة حلوها، عذوبتها، أما هي فتتجرع العلقم، العلقم فقط..

رائحة الشواء تملأ المكان، لم تتناول شيئاً منذُ الصباح، معدتها تصارع الجوع، تتلوى، لا بد أن الغشاء المخاطي المبطن لمعدتها قد انقلب على عقبيه!!!


- إلى متى سأظل انتظر لبس الفستان، أريد أن ينبهر الجميع بجمالي.

ضحك الجميع على تعليقها، لكنها أكملت:

- حراام، ناصر أصغر منك وتزوج، عمرك 28 عاماً ولا زلت عازباً...

ابتسم "عمر" في وجه شقيقته الصغيرة، لقد أخذت دور الأم مبكراً بعد وفاة والدتهم.

- يا حبيبتي، ما لي والزواج؟! يكفيني صداعك، أنتن تجلبن الهم للرجل مبكراً، لا يوجد شئ أحلى من العزوبية..

التفت "ناصر" لزوجته وهو يغمز:

- صدقت في هذا، ليتني سمعتُ نصيحتك هذه من قبل.

ضربته زوجته على كتفه وهي تضحك والجميع يضحك معهم.

- اشتقت للعزوبية؟! لولاي ما عرفت أن تربط خيط حذائك.

وتظاهرت بالغضب فذهب ليراضيها.

- انظروا "أشار عمر" انظروا كيف يذل الرجل نفسه هكذا بعد الزواج.

وضعت "ندى" يدها على خصرها وهي تهزُّ نفسها:

- نحنُ ملح الحياة بدوننا لا تساوون شيئاً.

صفر الجميع لكلامها فشعرت بالخجل، أحاطها والدها بذراعيه وهو يثني على كلامها:

- صدقتِ..

وشرد قليلاً يتذكر ملح حياته التي ذهبت، حياته بدونها أصبحت لا طعم لها..

أحسّ الجميع به، فحاولوا أن يغيروا الموضوع، لا زال يذكرها، لم ينسها بعد رغم مرور عامين....

- بل قولي نحنُ شرٌّ لا بد منه. ردّ ناصر.

ضحك الجميع وندى تنظر لهم بغيظ.

جاءت الخادمة الأندونيسية لتخبره عن الزائرة، كانت واقفة على مسافة بعيدة، لم يلاحظوها.

- من هذه؟

أشار لها بيده كي تقترب، ترددت في خطاها، لقد جنَّ الليل والثور في البيت لا شك يُعربد وقد شحذ قرنيه..

صمت الجميع يرقبون الزائرة الغريبة، زاد ترددها، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت، لا تريد أن تتطفل على الآخرين....

بانت ملامحها، شهق الأب وقد اتسعت عيناه:

- غــ..غ..غدير، معقول؟!

ابتسمت، ازدادت ابتسامتها اتساعاً، لقد عرفها...

هرعت إليه تحضنه، تتعلق برقبته كما أيام الطفولة وهي تبكي والجميع ذاهل..

أسقطت الكيس الذي بيدها، لايهم، ينكسر البيض، يتسرب الحليب، المهم أنها وجدته، وجدت ذلك الحضن الدافئ، صدرٌ تستند عليه، يحسسها بالأمان ولو بشكلٍ مؤقت!!!


- خاااالي ..... خااالي.

كان جسدها يهتز مع شهقاتها، خمسُ سنواتٍ لم ترهُ فيها، خمسُ سنواتٍ عمرٌ طويل أليس كذلك؟!

زادت من تطويقها لرقبته، بالرغم من شعورها بالألم في يدها، لا تريد أن تفلته، لا تريد أن تترك هذا الصدر حتى لو قطعت يدها!!!

قربت شفتها المتورمة من أذنيه لتهمس بإرتجاف:

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.

أبعدها عن صدره، مسكها من كتفيها وهو يقول والدموع تملأ عينيه:

- ماذا تقولين يا ابنتي؟

لكنها أنقضت عليه مرةً أخرى، تمسكت بصدره...

أرجوك حسسني بالأمان...

عادت لتهمس، لم تكن تقوى على الكلام، تخاف أن يسمعها ذلك الثور، تتخيل أطياف شكله المجنونة.

- سيـ ...ذ..ب..ح..ني.
- ماذا تقولين يا ابنتي، لا أفهم؟!

صرخت، لم تتمالك أن تكتم أكثر، صرخت بقوة، بأقصى ما تستطيع، إنها لا تلبث إلا أن تُشبع ساديته، ربما سيهدأ في منزله الآن!!

- سيذبحنيييييييييييييييييييي.



الليلُ يزدادُ حلكة، تشعر بنفسها خفيفة، تُحلق في ثناياه، تدورُ مع نسيمه، تشتمه، انزلقت ببطء من ذلك الجسد، ببطءٍ شديد وصورة ذلك الثورُ المعربد تطوفُ أمام عينيها....


=====================
(3)

فتحت عينيها بتثاقل، زادت من رمشها لعلَّ الصورة تتضح أمامها، رائحة المستشفى تملأ رئتيها، لها رائحة مميزة لا يخأطأها أي أنفٌ أبداً...


تطلعت إلى أزواج العيون الثلاثة المحدقة بها، كان خالها و"ندى" جالسين بجانبها، أما "عمر" فقد بقي واقفاً عند الباب مكتفاً ذراعيه، شعرت بالخجل من الجميع....


التفتت إلى خالها وهي تسأله بغباء كما في الأفلام:

- أين أنا؟!!

ردت "ندى" بدلاً عنه:

- أنتِ في المستشفى الآن ياااا ابنة عمتي.

وابتسمت، إنها تشبه أباها، بل تكادُ تكون نسخة مصغرة منه.


ردت لها "غدير" ابتسامة واهنة وهي تحاول أن تُسند نفسها..


ارتكزت بيديها على السرير لترفع جسدها، أفلتت من فمها صرخة قصيرة، وسرعان ما أرخت يدها، كانت مُجبرة...

هرعت "ندى" لتسندها على ظهرها، كادت دموعها تنزل لكنها حبستها إلى وقتٍ آخر، لم تنظر إلى أيٍ منهم، أطرقت فقط للأرض..

- غدير.

رفعت وجهها ببطء، كان ينظر لها بحنان، بحنان الأبوة، أيُّ قلبٍ تحمل، ليتك كنت معي...

- من فعل بكِ هذا؟! حميد؟؟

أطرقت مرةً أخرى ولم تُجب.

- لا تخافي يا ابنتي، أخبريني..

لازالت مطرقة، خرجت الكلمات من فمها متكسرة:

- لا....لا أحد.

تنهد الخال وهو يستعيذ من الشيطان:

- كيف لا أحد!! إذن من ورّم لكِ فمك وكسر لكِ يدك، الطبيب يقول أن يدك تحتاج لشهرٍ كامل كي يلتأم الكسر.


وبشكلٍ لا شعوري، رفعت بصرها نحو الباب، كان واقفاً يرمقها بتأمل و بريق اهتمام يلمع في عينيه الخضراروين!!!!

حتى الآن لم ينبس ببنت شفه، تغير منذُ آخرِ مرةٍ رأتهُ فيها...

- غدير!!

عادت لتتصفح وجه خالها، عيناه تطالبها بالإجابة لكنها تمتنع...

"إذا أخبرتك، من سيبقى معها في البيت؟! مجيد!! إنه لا يكاد يكون موجوداً هناك، دائماً مع أصدقائه...

هم أولاً ونحنُ...أخيراً..".


تنهد الخال يائساً منها..

تمتمت في نفسها:

- ما كان عليّ أن آتي، ماذا بمقدوره أن يفعل؟! لو عدتُ للبيت مباشرة لأخذتُ جزائي وانتهى الأمر...يا تُرى كم الساعة الآن؟!


دقّ على ركبتيه ثم أضاف:

- على العموم لقد اتصلتُ بوالدتك لأطمئنها، مسكينة كانت قلقة..

"ولماذا قلت لها، لماذا أخبرتها؟!!"..

- متى سأخرج من هنا؟ سألتهُ بخوف.

- يومان هذا ما قالهُ الطبيب، تحتاجين للتغذية والراحة.


"لن يستطيع أن يؤذيني هنا في المستشفى وأمام الآخرين..هذا مؤكد!!".


ابتعد "عمر" عن الباب بعد أن سمع طرقاً خافتاً، غاص قلبها في أوديةٍ سحيقة، إلى القاع....

أتت معه، هذه المرة أنقلبت الآية، تقدمت هي أولاً ثمَّ هو..ألسنا في مستشفى؟!!

- السلام عليكم.
- وعليكم السلام والرحمة.

"أيُّ سلامٍ يأتي منكما..".

كانت تنظر لها وهي تبكي، دائماً تبكي، يا إلهي ألا تنتهي دموعها أبداً؟!

دلفت لتسلم على "عمر"، صافحها ببرود فلم يكن يعرفها جيداً، يا للعلاقات الأسرية المترابطة!!

أخيراً سمعنا صوته:

- كيف حالك عمتي؟
- بخير يا ابني..

"كم تُثيرين الشفقة" رددت "غدير" في نفسها..

تقدمت من السرير، سلمت على أخيها طويلاً، ثم قبلت "ندى" التي فرحت بعمتها....

كانت تنظرُ لي، أعرفُ ذلك، لكني أشحتُ ببصري للجهة الأخرى، فالتقت عيناي به، بذلك الوحش.

- كيف حالك؟! سألها بصوتٍ خافت كفحيح الأفعى.

"بأفضل حالٍ عندما لا أرى وجهك"..

لم ترد، نظرت إلى خالها وهي تزدرد ريقها، تتوسل إليه بعينيها لعلهُ يفهمها...

"أرجوكم أبعدوه، انظر له كيف يبتسم كالشيطان، سيذبحني..."

- كيف حالك؟

خاطبها مرةً أخرى وقد تغيرت نبرة صوته، يبدو أن سكوتها لم يعجبه.


شدّت اللحاف حتى ذقنها، تقدم هو الآخر ليسلم على خالها، ألسنا في مستشفى!!


كان يتقدم وهو ينظر لها لكأنهُ يتوعدها، اقترب أكثر فمسّ حافة السرير، انخلع قلبها....

خافت أن ينقض عليها، يضربها، يخلع ذراعها من جديد، الظلال تسقط والعينان تتقدان، تكادان تفلتان من محجريهما، فزّ قلبها، صرخت:

- كلااااااااااااااااااا، أبعدوه، خاااااالي...

وغرقت في نوبة من الصراخ الهستيري، عيناهُ مخيفتان، وجههُ أسود، كريه كريه كريه..

لا بد أنّ الجميع سمع صرختها، أتت الممرضات، لم تنتبه لأحد، كان همها ذلك الواقف أمامها....

لاح لها "عمر" يمسكه من يده ويسحبه للخارج، والأخير يسب ويلعن.....

لحق الخال بهما، لم تشعر إلا بوخز إبرة في ذراعها وصوت "ندى" يتلو آية "الكرسي" وأمها لا زالت تبكي!!!!



===================


- اسمع يا هذا إن اقتربت من ابنة أختي ستندم..أقسمُ بذلك.

نظر لهُ ببرود وبكل جرأة وقال:

- ماذا ستفعل؟!

هذه المرة تقدم منه "عمر":

- سنوصل تقرير الطبيب إلى الشرطة، أتفهم، لقد كشف التقرير عن رضوض في الجسد وكسرٍ في اليد، ويكفي نظرة إلى وجهها ليعرف الجميع أنها كانت تُضرب، أو تعرف ما هي عقوبة ضرب قاصر؟!

تغير وجه "حميد" وأطلّ الخوفُ من عينيه، قال بعد تردد:

- ومن قال إني ضربتها؟!
- هي..

- أنت تكذب، هي لا تجرؤ.
- بلى وجميعنا شهود.

قالها بثقة ثم أضاف:

- وبإتصالٍ واحد مني ستُلقى في السجن لتتعفن مع الحثالة التي تنتمي إليهم.

عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، صدره يعلو ويهبط والغضب يحتد بداخله، تنفس بعمق ثم زفر وهو يبتسم بإذلال:

- والمطلوب؟!

هنا تكلم الخال:

- سآخذها معي إلى المنزل لترتاح نفسيتها قليلاً.

قاطعه بسرعة:

- ولكن أمها...

- عمتي يمكنها أن تزورها في البيت متى شاءت..أهلاً وسهلاً بها..

نظر إلى "عمر" بكل الحقد والكراهية، ابتسم مرةً أخرى ابتسامةً صفراء وهو يصد للأب:

- إنها في بيت خالها..في أيدٍ أمينة..لو سمحت أخبر زوجتي بأن تأتي هنا، لقد تأخرنا...

تركاه دون أن يردا عليه، تمتم "عمر":

- يا لهُ من حيوان..
- بنت ال...... لن أجعلها ترتاح. ردد "حميد" في نفسه.



==========


انتقلت إلى بيت خالها، رحب بها الجميع، شاطرت "ندى" غرفتها التي تُجاور غرفة أخيها، أما "أبو عمر" فقد كانت غرفته في الصالة، و الطابق العلوي قد أحتله ناصر وزوجته بإعتبار أنّ "وليد" مسافر ليدرس طب ولن يعود الآن.


إذن لم يتغير ترتيب الغرف حتى بعد مرور كل تلك السنين..


- كم أنا سعيدة، بل أكادُ أطير من الفرح، أخيراً وجدتُ من أحادثها في هذا المنزل..يا ربّ سأطير..

ضحكت "غدير" من منظر "ندى"، بدت كطفلة وجدت دميتها الضائعة، كانت جميلة، بشرتها صافية بلون القمح، عينيها صغيرتين لكن فاتحتان كالشهد بعكس أخيها ذي العينين الخضراوين...

من أين اكتسب هذا اللون!!!


كانت في الثانية والعشرين من عمرها، تكبرها ب4 أعوام ومع ذلك بدت وكأنها أصغر منها، أصغر بكثير، ليس وهي تتحدث وتفكر هكذا كالصغار...

لم يطحنك الزمن بعد مثلي يا "ندى"، لم يطحنك بعد....

أكملت وهي لا تزال تتحرك كطائر في الغرفة:

- صحيح أنّ "شيماء" زوجة ناصر تعيش معنا، لكنها عروس، وأخجل أن أجلس معها..

ماتت ضحكة غدير على شفتيها قبل أن تكتمل، لم تصل إلى القلب بعد...

قالت لتغير الموضوع:

- أين القِبلة، عليَّ أن أقضي صلوات اليومين الماضيين..

ابتسمت "ندى" في وجهها وهي تُشير للقِبلة، أحضرت سجادة الصلاة ووشاح..

دخلت "غدير" للحمام لتتوضأ، مسحت على جبيرتها وهي تفكر بتردد:

أأسألها إذا كان عندهم "تربة".....

غبية، بالطبع لا يوجد شئ من هذا القبيل في هذا المنزل، إنهم من المذهب السني مثل أمها، وإلا لما سمّوا ابنهم "عمر"!!!!

نظرت غدير إليها بإرتباك:

- أيمكن أن تعطيني منديلاً..
- بالطبع.

أخرجت "ندى" من حقيبتها واحداً، ثنتهُ "غدير" وشرعت بالصلاة و هي تشعر بنظرات "ندى" الحائرة تخترقها، لكنها ما لبثت أن استغرقت في صلاتها، فعليها الكثير لتقضيه...


دلفت "ندى" إلى حجرة أخيها، كانت لاتزال مصدومة، فتح لها الباب، دخلت على الفور، نظر بإستغراب لمرآها:

- ماذا بكِ؟ ماذا تُريدين؟!
- أتُصدق أنّ ابنة عمتي شيعية!!

سكت برهة وهو عاقدٌ حاجبيه حتى تلاصقا، لانت ملامحه ثمّ عاد ليكمل ربط حذائه:

- وإذن؟!!

تطلعت إليه وهي لم تستوعب بعد:

- أقول لك أنها شيعية.. ألا يعني لك هذا شئ..أمها سنية من مذهبنا، كيف هي مختلفة؟!!

قاطعها وهو يتنهد، كأنهُ ضاق من كثرة الكلام:

- والدي أخبرني أنّ والدها كان بحرانياً من المذهب الشيعي لذلك رفضوا زواجها منه في البداية، ويبدو أنها بقيت على مذهبه...

أكمل ربط حذائه واستعدَّ للإنصراف، نادته، التفت لها وهو يتأفف:

- ماذا أفعل الآن؟!
- تفعلين بماذا؟!!

هزت كتفيها وكأنها لا تعرف عمّا تريد أن تسأل.

ضمّ ذراعيه إلى صدره وهو يبتسم بسخرية:

- يا أختي العزيزة، إنها من مذهب آخر ولكنها مسلمة مثلك، يوجد بيننا وبينهم نقاط اختلاف لكنها لا تضر....

تركها، هزت رأسها وهي تتمتم:

- ولم أنا قلقة هكذا؟! إنها تبدو طيبة..طيبة جداً، يكفي ما لاقته!!!


================



أكان من الحكمة أن آتي إلى هنا، أحتمي بجدران هذا المنزل، إلى متى سأهرب منه، سيأتي اليوم الذي أعود فيه إلى هناك، وسينتظرني هذا أمرٌ لا شك فيه.....


شهرٌ كامل مدة بقائي هنا وهي مدة تكفي لأن تزيدهُ سُعاراً، ولكن لمَ أُوجع رأسي، دع الخلق للخالق، لا أدري ربما تحدث أشياء!!


كأن يموت مثلاً!!! دعوني استمتع بالبقاء هنا، إنها نعمة ما بعدها نعمة...

جلست على السرير وهي تفكر بأغراضها، ملابسها، وخصوصاً دفترها الأسود، كيف تجلبهم إلى هنا...

سمعت دقاً على الباب، اعتدلت في جلستها، كانت "ندى" وكانت تبتسم...

ما أجمل ابتسامتها....

- لقد وضعوا الغذاء، هيّا..جميعنا بإنتظارك.
- لستُ جائعة.

قطبت حاجبيها:

- كيف!! الطبيب أوصى بأن تتناولي الوجبات الثلاث بإنتظام.

- أيمكن أن أتناول طعامي هنا؟ حقيقةً أنا أخجل من الظهور أمام أخوتك بذراعٍ مُجبّرة.

- كلا، والدي أوصاني بأن أسحبكِ معي إلى غرفة الطعام، ثم أخوتي هم أبناء خالك أي بمثابة أخوتك، ليسوا بغرباء...

"ما الغريب إلا أنا"..لم تملك أن ترفض، في بيتهم وترفض، هذه قلة ذوق!!!

- طيب، ساعديني في إرتداء وشاح الصلاة.

دلفتا، كان الجميع متجمع على الطاولة، ألقت السلام عليهم وهي مخفضةً رأسها، لازال الحياء يعقلُ لسانها..


أشارت لها "ندى" لتجلس بجانب والدها، ربما لتؤكد قرابتها منهم، أو لتحسسها بالأمان...

بالأمان؟!!

نظرت إليه "غدير" كان يتحدث إليهم وهو يضحك، جميعهم يضحكون...

اللهم احفظ لهم سعادتهم...

لم تشاركهم في الحديث إلا قليلاً، لم تعتد على هذا الجو بعد، اكتفت بتناول بضع لقيمات وهي تعبث بملعقتها بيدها اليسرى، خاصة أنّ "عمر" كان جالساً قُبالتها وكانت عيناها تسقطان عليه سهواً!!!

- خالي. نادتهُ بصوتٍ أقرب للهمس.
- نعم يا عيوون خالك.

أحمرَّ وجهها، تلعثمت وهي تكمل، فهي لم تعتد على هذا الإطراء والتدليل.

- أريدُ أن أجلب بعض حاجياتي من المنزل.

- لا بأس، في الغد، في مثل هذا الوقت يناسبني، ما رأيك؟!

- كلا "قاطعتهُ فوراً" أقصد لا أستطيع أن أذهب في مثل هذا الوقت لأن..لأن....

"لأنه يكون متواجداً في المنزل، لا أريد أن أراه..".

- يمكنني أن آخذها في الصباح.

كان "عمر" من تكلم، صوبت نظرها تجاهه، أومئ رأسه لها بخفة لكأنهُ فهمها، علم بمخاوفها...


لكن الأدوار ستتغير، أجل لن تلبث إلا أن تتغير!!!!

أليس كذلك؟!

انتشلها خالها من خواطرها:

- وعملك؟
- سأستأذن من المدير، لن يمانع.

أكمل الخال تناول طعامه وكأنه أعلن موافقته، أما هي فلم تعلم بما شعرت...

فرح، خوف، غموض، يلزمني وقت لأحلل خواطري المجنونة..رددت في نفسها.


==================



جلست هي و"ندى" و "شيماء" يثرثرن في أمورٍ شتى، مضى الوقتُ سريعاً، لا أدري لم ساعات السعادة تبدو دوماً قصيرة لا تكاد تحسُ بها!!

تناول الجميع العشاء، لم يكن "عمر" موجوداً....

ذهبت غدير وندى لغرفتهما المشتركة، تحدثتا قليلاً وسرعان ما غطت "ندى" في النوم، إذ تنامُ مبكراً استعداداً للذهاب إلى الجامعة، فصل صيفي، فلم يتبق عليها إلا القليل وتتخرج.


سمعت "غدير" باب الغرفة المجاور يُغلق، لا بد أنهُ أتى...فكرت.

تقلبت على وسادتها ربما للمرة الخمسين، لم تعتد عليها بعد، بل لم تعتد على المكان برمته، يدها اليمنى تعوقها عن التقلب بحرية على الفراش...


أينما تتلفت تحاصرها القيود، تطوقها وتكبّل حريتها....

تطلعت للساعة، كانت الثانية عشر بعد منتصف الليل.

- سأذهب لأشاهد التلفاز!!

لكنها ترددت:

- أألبس وشاح الصلاة؟ من الصعب أن ألفه على جسدي بيدٍ واحدة، ثم من سيخرج في هذا الوقت، الكل نائم والسكون مخيم على المكان..


سحبت خمارها، وأغلقت الباب خلفها بخفوت، توجهت للصالة، قلبت في القنوات، ضغطت على قناة space toon، شاهدت رسوم الكارتون توم & جيري...

كم أحبها!!!

أندمجت وهي تضحك، يغيظها توم دائماً ينتصر على القط المسكين..


- ألم تنامي بعد؟!

التفتت إلى مصدر الصوت، كان هناك واقفاً بفانيلة بيضاء وإزار، وهي جالسة بخمارها وبجامتها فقط!!!

تمتمت بكلمات غير مفهومة، لم تعرف بم ترد، ركزت بصرها على شاشة التلفاز و وجهها يحترق، بدا توم و جيري ضبابيين!!


- في أي صفٍ أنتِ؟ أتاها صوته قوياً ورخيماً خرق سكون الليل.


"يا إلهي، لماذا لا زلت واقفاً، أرجوك اذهب، أريد أن أعود لغرفتي..".

- لقد أنهيت المدرسة هذا العام.
- ألن تذهبي للجامعة؟

- لا أدري.
- ربما نسبتك لا تسمح لكِ بذلك.

التفتت له بكبرياء وأنفة:

- تخرجتُ بنسبة 92.9 % . قالتها بإنفعال.

رفع حاجبيه مستغرباً ردة فعلها الهجومية، سكت برهة يتأملها ثم أردف:

- إذن....
- أعتقد أن هذا أمرٌ يخصني.

- لم تتكلمين هكذا من طرف أنفك. قالها ببرود.
- لم أطلب منك أن تكلمني.

حاولت أن تنهض، لكنها تذكرت أنها تلبس خماراً فقط لا يكاد يستر.

فهم حركتها المبتورة لكنهُ لم يتحرك، تنهدت بتأفف:

- لا إله إلا الله..
- سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله.

- سيدنا محمد صلى الله عليه وآله "وهنا ضغطت على مخارج حروفها" وسلم رسول الله.


ابتسم بتهكم وهو يقطب حاجبيه العريضين، يتلاصقان سريعاً عند المنتصف، غاظتها ابتسامته، ردت بحدة:

- إمامكم الشافعي يقول:

يا آل بيت رسول الله حبكم فرضٌ من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الفخرِ أنهُ من لم يصلِ عليكم لا صلاة له...

كشّر في وجهها:

- أنا لستُ شافعياً.

- لا يهمني ما تكونُ عليه.

- أتعرفين أنتِ وقحة. قالها بشراسة.

- وأنت قليلُ الأدب.


ارتفع فكه قليلاً ثم أطبقه، كان يريد أن يتكلم أو يتحرك، لا تدري، خافت من منظره...

"ما كان عليي أن أشتمه، لكنه هو من شتمني أولاً، لحظة أنا في بيته وليس في منزلنا وهذه نقطة تُحسب له..".

كيف اختلفنا هكذا، كان في الصباح لطيفاً....

لكنها الأدوار، ألم أقل لكم أنها لا تلبث أن تتغير؟!!!


- تستحقين الضرب فعلاً. قالها من بين أسنانه المطبقة من الغيظ.


حزت في نفسها كلماته، أخترقتها، وصلت إلى القلب فوراً، لم للكلمات أثرٌ مدوي في نفسك، تشطرك شطراً، يظل صداها ممتزجاً مع دمك، لا تنساها أبداً...

تظاهرت بأنها لم تسمع، أصبح لون الشاشة أزرق، توقف إرسال قناة "سبيس توون"، غيرت القناة لعلهُ يفهم الإشارة ويذهب...

وذهب فعلاً، أما هي فانتظرت دقائق، انتشلت نفسها بصعوبة إلى الغرفة، بكت بصمت ونامت من شدة التعب...

=============

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  

قديم 24-05-07, 10:41 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
Wink

 

(4)


استيقظت من النوم بصعوبة على هزات "ندى"...

- هاا، ماذا تريدين؟
- انهضي أيتها الكسولة، "عمر" يستعجلك.

قفزت مذعورة من اسمه، لا تريد أن تذكر ما حدث البارحة..

- لماذا؟

ضحكت "ندى" من منظرها ثم عادت للمرآة لتضبط حجابها:

- أيُّ ذاكرةٍ تمتلكين!! ألم تتفقا على أن يوصلك إلى منزلك اليوم لتجلبي أغراضك.


"في الحقيقة أعتقدتُ بأنهُ سيلغي ما اتفقنا عليه بعد ما قلتهُ له البارحة".

- حسناً، سأجهز بسرعة.


نهضت إلى الحمام بتثاقل، ففكرة العودة إلى المنزل مرةً أخرى تُثير فيها الرهبة والخوف، ومع من؟! معه!!


كانوا يتناولون الإفطار، الأب وندى وعمر، ألقت التحية عليهم، تجنبت النظر في وجه هذا الأخير، قضمت شطيرتها دون شهية، قرب خالها طبق البيض المقلي بجانبها فأبعدته وهي تشكره...

رائحته تثير فيّ الغثيان في الصباح الباكر!!!

نظرتُ إلى خالي بشعره الذي غزاه الشيب، لم يتغير كثيراً...

بلى تغير، باتت ملامح وجهه أكثر ليناً وضعفاً، بعض الرجال حين يكبرون يصبحون شفافين جداً لدرجة الكسر، أقول البعض وليس الكل!!



انطلقنا في سيارته، جلستُ في المقعد الخلفي، و "ندى" في الأمام بجانبه...

- عمر اضغط على موجة "إمارات FM".
-
- أصبحنا وأصبح الملك لله، أرحمي أذناكِ، سنستمع للقرآن الكريم أفضل.

صمتت "ندى" ومن يقدر أن يحتج؟!

انسابت آيات الذكر الحكيم عذبة كعذوبة قطرات المطر، شفافة كإشراقة الشمس قُبيل الفجر....

نظرت غدير إلى الطريق من خلال النافذة، تتأمل المارة وتنصت لسورة "يوسف"...

لا أملُّ سماعها...


أوقف "عمر" سيارته عند صرح الجامعة بمنطقة "الصخير"، صرحٌ كبير، أتراني سأدخله يوماً...

هل سيقبل "حميد" بذلك؟!

لاأعتقد، هو بالكاد سمح لي بإكمال الثانوية، فما بالك بالجامعة ومصاريفها التي سيتحجج بها....

همهُ الوحيد أن يحرمني من الأشياء التي أحبها..

ترجلت "ندى" من السيارة وهي تلوّح لكلانا، لتنضم إلى هذا الصرح..

- مع السلامة..
- مع السلامة. همست.

عدتُ لأراقبها من خلال النافذة وهي تلتحق بمجموعة من الفتيات اللاتي يضممن كتبهن إلى صدورهن بشدة...


ليتني كنتُ معكم...

لم نتحرك، نظرتُ إلى الأمام، التقت عيناي بعيناه في المرآة...

هل قلتُ لكم أنها خضراء بلون الزبرجد؟!!

كانت المرة الأولى منذُ البارحة، رفعتُ حاجباي بتعجب أما هو فظل ينظر لي بثبات:

- ماذا تنتظر؟! سألتهُ ببرود.
- اركبي في المقعد الأمامي.

فتحتُ فمي وأنا مصدومة:

- لماذا؟!
- لا أريد أن يظن الناس أني أعمل سائقاً..

- وبماذا سيضرك هذا الظن، أتحسب نفسك عنتر بن شداد أو قيس بن الملوح.. قلتها بسخرية.



- أنتِ لا مذهب لكِ.
- وهل مذهبك يقول أن تجلس فتاة أجنبية بجوارك؟!

- مذهبي لا يقول هذا، بل أنا أقولُ هذا...

- إذن أنت لا مذهب لك أيضاً..
- متساويان أليس كذلك؟! قالها بقسوة.

- الثرى لا يتساوى مع الثريا أبداً...

قلتُ هذا وأنا أشير بإبهامي الأيسر إلى صدري...

زمّ شفتيه، وعيناه تتقدان شرراً، دار بجذعه تجاهي، أما أنا فالتفتُّ إلى النافذة بسرعة، أخفي عيني الخائفتين...

- اشكري جنسك، لو لم تكوني أنثى لحطمتك...


كانت يدي اليسرى ترتجف، لساني ينزلق بي في مواقف سخيفة حقاً..

وضعتها في حجري كي لا يلاحظ ارتجافها...

صاح بقوة أجفلتني وجعلت قلبي يهوي بعيداً، بعيداً إلى أدنى بقعة....

- ترجلي هيا إلى الأمام، وإلا قسماً لن أتحرك من هنا...


ثم عاد إلى موضعه، أما أنا فبقيتُ صامتة...


أوقف محرك السيارة ورغم أن الجو حار إلا أنه لم يفتح نافذتي!!!!


مرت 10 دقائق ربما ونحنُ على هذا الحال...


أخيراً فتحتُ الباب بصعوبة واستسلام، كان بودي أن أصفقه بقوة لكن يدي اليسرى لم تكن بجودة الأولى...

ركبتُ بجانبه، شغل محرك السيارة ولم ينبس ببنت شفه، لم يعلق ويسخر مني، لديه أخلاق عالية هذا الأخ!!!

المسافة التي تفصل بيننا صغيرة جداً، لا تتعدى الشبران....

لم أرتح في جلستي، هو أيضاً يبدو غير مرتاح، يداهُ اليمنى تتحرك كثيراً!!!

نظرتُ إلى النافذة لألهي نفسي، لم يسألني حتى عن الطريق إلى منزلي...

أتراهُ يعرفه؟! ربما وصفهُ خالي له...

أجل ربما!!!!

===============







تابع (4)


أودُّ لو أفتح باب سرك
لأستطيع فهم سرّ شرك

فأنت لا تضرُّ من يسعى إلى
أذاك يا راعي الندى وضُرك

لكل من سقاك كل شهدهِ
في كأسه تصبُّ كل مرك (الرائع مانع سعيد العتيبة)


===========


لم تنم "شيماء" البارحة جيداً، تقلبت في فراشها وهي تتذكر ما قالته لها أمها:

- دعينا نذهب إلى الطبيب لنتأكد.

- لقد أجريت اختبار الحمل في المنزل والنتيجة كانت لا شيء.

- لقد مرّ على زواجكم ثلاثة أشهر وهو وقتٌ كافٍ، ابنة عمك "ليلى" حملت منذُ الشهر الأول.

امتقع وجه "شيماء" وهي تردد بصوتٍ متباكٍ:

- لم يمضِ على زواجنا الكثير يا أمي، إنها 3 أشهر فقط...أحياناً يحدث الحمل بعد مرور سنة على الزواج.

شهقت الأم وهي تضرب بيدها على صدرها:

- أجننتِ يا "شيووم"، ستنتظرين سنة كاملة؟!! أتريدين أن يتزوج "ناصر" بأخرى!!

- أنا لم أقل هذا، أنا قلتُ لازال الوقتُ مبكراً على الحمل و كل شئ بيد الله..

مطت الأم شفتيها المجعدتين وهي تتمتم:

- ونعم بالله، ولكن اعلمي أن ما يربط الرجل بالمرأة هو الولد، هو من يقوي شوكتها ويصونُ بيتها...


تنهدت "شيماء" بحرقة، سالت الدموعُ بحرارة على وجنتيها، شدت اللحاف وهي تبكي:

- لم تريدين أن تفسدي فرحتي يا أمي....


===========


- هذا هو بيتكم.

- أجل.

أوقف مكابح سيارته.....

شيء يشدني إلى مقعدي، يمنعني من التحرك، قدماي ثقيلتان كأنهما خُدرتا....

- إلى متى سأنتظر؟!!

لم أرد عليه، جررتُ نفسي وهو يتفحصني وكأنني وكأنني....


لا شيء!!!


يا لقلبك الأسود، حدجتهُ بنظرة وتركتُ سيارته دون أن أغلق بابها حتى...


فلينفجر في مكانه..لايهم..


دخلتُ المنزل دون أن أدق الجرس، لم يدخل معي، الحمد لله...


في الحقيقة خجلتُ أن يشاهد المكان الذي أعيشُ فيه..


البيتُ هادئ، لا توجد حركة إنسية في هذا المكان، التلفاز مغلق على غير العادة، أين ذهبوا؟!!


ولجت إلى المطبخ بخفة، كانت تمسك بالملعقة الكبيرة وتديرُ ما بالوعاء...

رائحة الطهو لذيذة، مميزة، بيتية من الدرجة الأولى، تقفُ ساهمة، شاردة، يا تُرى فيمَ تفكر؟!!

تنحنحتُ في بادئ الأمر كي لا تجفل:

- احم، احم... السلامُ عليكم.

التفتت نحوي وقد ألقت ما بيدها، مسحت يديها بثوبها بعجل، وهي تنظر لي بتلك النظرة التي تُثير الشفقة، أراهن بأنها ستسكب دموعاً جديدة الآن...

لم يخب ظني، هرعت إلي تحتضنني، تمسك بيدي المجبرة وتبكي، تركتُ لها المجال لتعبر عن مشاعرها دون أن أتحرك أو أنبس ببنت شفه...


أخذت تتلمس قسمات وجهي غير مصدقةٍ وجودي، هالتني الهالات السوداء التي أحاطت بعينيها الغائرتين في أفول، لكني لم أعلق....


- كيف حالكِ يا ابنتي، هل أنتي مرتاحة هناك؟ هل يعاملونكِ جيداً، لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، البيت لا طعم له من دونك..


"الآن، الآن يا أمي؟!"...

- أنا بخير والحمد لله. قلتها بجمود، وأنا أنزع نفسي منها. ثم أردفت:

- سآخذ بعض حاجياتي..

سألتني بتلهف والحسرة ترتسم في عينيها الذاويتين:

- أستذهبين؟ ألن تبقي هنا؟!!

- وهل أصبتُ بالجنون لأفعل ذلك..تريدين منه أن يُجهز علي، لا ترتاحين إلا بعد أن يشبعني ضرباً، أليس كذلك؟!


شهقت وهي تضع يدها على فمي بسرعة مانعةً فمي من إطلاق سيل كلماتي الحاقدة:

- سامحكِ الله يا ابنتي، أنا لا أتمنى لكِ إلا الخير، لكني..لكني ، لا حول لي ولا قوة..

"لو حاولتِ ردعه يوماً لما استمرّ في تعذيبي"...


أبعدتُ يدها عن فمي، أدرتُ لها ظهري وأنا أقول بصوتٍ خافت:


- لقد تأخرت، سأجمع أغراضي.... وداعاً ياا أمــ......


دلفتُ دون أن أكمل، انتابتني غصة، أعلم أني قاسية في معاملتي لها، لكنها هي السبب، هي السبب في كل شئ....


هي السبب وكفى، ثم قلبي لم يعد به مجالاً لأن يحب، الحقد ملأه، أعماه وأدماه، صيرهُ شوكاً يجرح فقط، لأنهُ لم يعرف في حياته إلا الجرح...


انطلقت "غدير" إلى غرفتها والغصة تخنقها، تلسع صدرها، فتحت غرفتها، وتوقفت فجأة....

لقد رتبتها، وضعت كل شئ في مكانه كالسابق...

تنفست بعمق...

ولكن هل سيبقى شئ كالسابق؟!!


جثت على الأرض، رفعت حافة سجادتها الحمراء وأخرجت مفتاحاً صغيراً، توجهت لخزانة ملابسها، فتحت درجها السري أولاً، مدت يدها لتتناول دفترها...

ذاك الذي رافقها طوال سنين عمرها الثامنة عشر، في كل ورقة وكل سطر جزء من حياتها...

جزء من سرها، جزءٌ منها، هي وهو سيان، إن فُتح هو اختفت هي!!

ضمتهُ إلى صدرها بيدها اليسرى بقوة بأصابع مرتجفة، أغمضت عينيها والصور تتلاحق، تومض وتنطفئ كبروق سماوية...

حين تولد النجوم وتموت....

ويغيبُ القمر....

لا يبقى إلا السراب، والحقيقة أين محلها؟!!

إنها لا تعرف ولا تدري أفي يومٍ ما ستعرف!!!!


ضغطت بأظافرها على جلده الأسود لعلها توقف الاهتزاز الذي يعتريها كلما أمسكته..

قلبها يغوص، يتماوج مع الرمال المتحركة، ها هو يوشك على أن يُدفن، نتوءٌ يطفو، يعلو وينخفض، تعبث به الرياح، تقلبهُ كيفما تشاء رغماً عنها....

- ماذا تفعلين؟!

قفزت من مكانها مذعورة، التفتت لصاحب الصوت المستنكر، الواقف بجانب الباب بغطرسة...

ذكرت الرحمن في سرها لعلها تهدأ الإنقلاب في نبضاتها...قالت بعد دقيقتن، بعد أن تمالكت نفسها..

- أنت، لقد أجفلتني، ألا تعرف أن تتحدث بصوتٍ هادئ كباقي البشر..


رمقها بإبتسامة هازئة بات لا يفتأ أن يصوبها تجاهها....

- عذراً إن قطعتُ عليكِ أحلامك الوردية...

نظرت إليه بشزر ثم قالت:

- من سمح لك أن تدخل غرفتي؟!

- أهذا كل ما تعرفينه من آداب الضيافة؟

"ربما كان يقصد أنني لم أدعوه لدخول منزل عمته!!"...

عادت لتخرج باقي حاجياتها من درجها دون أن تهتم لمغزى كلماته:

- أريد فقط أن أرتب ملابسي، لو سمحت.

- أمكِ تبكي.
- أعرف.

- أقول لكِ تبكي، وتقولين أعرف!!
- ماذا تريد مني أن أفعل؟! قالت ببرود.

تطلع إليها بإستنكار، لكنهُ ردّ بهدوء:

- المرء لا يجد لديه بين الفين والأخرى أماً، انتبهي فلا يحس الإنسان بقيمة الشئ إلا بعد أن يفقده.


تركت ما بيدها فجأة لكأنها تفجأت ما قاله، في عينيه بريقٌ حزين سرعان ما أخفاه، وغلّف تعابيره بقناعٍ جامد:

- إذا انتهيتِ من جمع ما يلزم، ناديني لأحمل الحقائب ولكن بسرعة، ليس لدي وقتٌ لأضيعهُ أكثر.


وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...

فوضى مشاعر...

عادت لتضم دفترها إلى صدرها، أبحرت بها الخيالات بعيداً، بعيداً...

تنهدت ثم أكملت جمع أغراضها...

لم تأخذ معها الكثير، فقط ما يكفي لمدة شهرٍ واحد!!!


تناول منها حقيبتها الصغيرة، كان حينها واقفاً مع أمها، التفتت لها الأخيرة، وقد بانت الهالات أكثر سواداً والعينان أكثر ضيقاً....

تهدج صوتها وهي تقترب منها لتصافحها:

- انتبهي لنفسك..

الصوت يختنق بحنجرتها، يجاهد ليلامس الهواء وينطلق...

كعصفورٍ كسيرٍ هو، ها هو يبزغ بخفوت، بصوتٍ أقرب للهمس:

- مع السلامة.

كان ينظر لها، يشير إليها بشئ، لكنها لم تفهم...

لكن الأم فهمت ما يعنيه، بادرت هي بعناقها، وغدير تشعر بالضياع، بالفوضى...

لملمت نفسها بصعوبة...

وفي الحياة دوماً....

لقاء ووداع....

ويخسر فقط من يفقد الأمل!!!!



=============


- قلتُ لك يا "ناصر" لا تقف أمام هذه النافذة.

ابتسم في وجهها وهو يهمس:

- تخافين علي؟!

تورد وجهها، لكنها سرعان ما قطبت جبينها بعبوس وهي تردف:

- هذة النافذة خطيرة، انظر ليس بها قضبان، الحمد لله لا يوجد في هذا المنزل أطفال..

- لكن قريباً سيفدون مثنى وثلاث ورباع...

قالها وهو يفرد أصابعه للعد، ثم أردف متسائلاً بابتسامة:

- أم نكتفي باثنين، أعتقد أن هذا الزمن تصعب فيه تربية أطفال كثيرون...

- ..........................

- لكن لو كانوا يشبهونك فلا مانع أن يكونوا 10، حتى إن رأيتُ أحداً منهم في الشارع تذكرتك...

أخذ ناصر يضحك بأريحية و "شيماء" تحاول أن تخفي امتقاع وجهها، وصوت أمها يتردد صداه في أذنيها:

أتريدين أن يتزوج أخرى...لا يربط الرجل بالمرأة إلا الولد...إلا الولد...


هي تحبه، بل تعشق ذرات الهواء التي يتنسمها...

صحيح أن زواجهم تم بطريقة تقليدية، ولكن من قال أن الحب قبل الزواج هو الأساس، بل كثيراً ما يولّد الزواج حباً أقوى وأسمى من الحب الذي يتفوه به أخونا روميو وأختنا جولييت!!!


نظرت إلى زوجها بكثير من الحب، وإن شابته حسرة وألم، صحيح أنهُ لا يذكر الأطفال إلا مازحاً، ولم يحادثها قط بالموضوع بجدية أو بشكل مباشر، لكن توقه للأطفال يلوح دوماً في عينيه حين يرى أحداً منهم، فيردد لها هامساً بود:


- سننجب طفلاً مثله، لا بل أحلى منه، أريده مثلك..
- وإن كانت طفلة؟!

- سيكون هذا أروع، سأسميها شيماء2 ، واحدة في قلبي والأخرى في سويداءه...

عضت على شفتيها بقسوة حتى كادت تدميها لعلها توقف هذه الانفعالات المحتدة بجنون داخل أعماقها...


"لماذا يا أمي، لماذا؟..."

أخذت نفساً، ثم مست كتفه ليلتفت لها:

- ناصر، فلنبتعد عن هذه النافذة...

التفت لها بحنو، أمسك يديها حين فاجئتهم دمدمة "ندى"...


- أنا منحوسة، أعرف ذلك، مكتوب على جبيني "ندى" المنحوسة..

أطلت عليهم بوجهها المنتفخ من الغيظ، ألقت الكتب التي بيدها وهما يرمقانها بتعجب.

- ماذا بك؟! ماذا حدث؟ سألتها ندى.
- لم يجدوا غيري لأتدرب في شركته.

- عمن تتكلمين؟

- ما من أحد يتدرب معه إلا و أعاد فصل التدريب مرة أخرى..
- من هذا؟ سألها ناصر هذه المرة.

تطلعت إليهما بنفاذ صبر، زمت يديها معاً عدة مرات ثم تركتهما وعلامات الاستفهام على وجهيهما وانصرفت...

فتحت باب غرفتها بقوة، كانت "غدير" مستلقية على الفراش وبيدها دفترها تنظر إليه بشرود...


- أرأيتِ أين سيلقوني؟!

التفتت إليها "غدير"، وقد علق بأهدابها شئٌ من الندى، مسحته بسرعة قبل أن ينتثر...

- ماذا هناك، لم تصرخين؟! حاولت أن تسأل بصوتٍ طبيعي.

خلعت "ندى" خمارها وهي تجلس على السرير الآخر.

- سأتدرب..
- وماذا في ذلك؟
- سأتدرب في شركة ".......".

رفعت غدير كتفيها وكأنها لم تفهم بعد.

- كثير من صديقاتي تدربن هناك، من تحمّلن منهن للنهاية أعدن الفصل من جديد، أما الأغلبية فتركوا العمل هناك...

- ولم كل هذا؟

- من مديرها، يقولون أنهُ قاسٍ في عمله و مصابٌ بمسٍ في عقله..

رفعت غدير حاجبيها بإستنكار، ثم ما لبثت أن ابتسمت:

- مدير ومجنون ولديه شركة؟!! كيف هذا....
- هذا ما يقولونه..

- لا عليكِ منهن، إنها إشاعات...
- أقولُ لكِ صديقاتي أكدن لي ذلك..

- حتى وإن كان كذلك، اعتبريها مغامرة أن تتعاملي مع هذه الفئة...
- تضحكين علي..

ووقفت وهي تكادُ تنفجر....

- على العموم أنا سأرى الوضع هناك ليومِ واحد، وإن كان مثل ما قالوا سأنسحب من هذا الفصل..

- لن تتخرجي إذن، اسمحي لي أنتِ المجنونة إن فعلتِ ذلك...


سكتت "ندى" وقد أعتلتها حيرة وخوف....
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
.

القادم يزحف ببطء....

في يديه زهرة وكومة حشائش....

ونقطة في السماء تضيُ من بعيد...

تمنح للسائلين أماني....

فهل تتحقق؟!!
(5)

عيناك للبعيدِ تنظران
لذا فأنت لم ولن تراني

أنا القريبُ منك تلك محنتي
ومحنتي أساسها أمران

فأولاً أرى خطايا سيدي
وثانياً أمنحها غفراني

(العتيبة)



=====================


واقفة هي وخمارها يتطاير، تواجه الريح وتحدق في ذلك القرص كعادتها، لعلها تنجح مرة واحدة وتطول فترة تحديقها!!

ولم لا؟!

سرت في جسدها رعدة بفعل نسيم الهواء، التفتت لندى التي كانت تقفز، ضحكت في سرها من منظرها، أحياناً تخالها فتاة خارج هذا الزمن....

- انظري يا "غدير"، شهاب، شهاب...

- هذا شهاب؟! خلتهُ دخان طائرة!! تساءلت بتعجب.

- كلا، كلا أنا أعرفهُ، هيا تمني.. صاحت بإنفعال.

- أتمنى ماذا؟!

- تمني أي شئ، ولكن بسرعة قبل أن يختفي...


تطلعت حينها إلى ندى، كانت قد أغمضت عينيها و مسّت بأناملها شفتيها كأنها تهمهم بشئٍ ما..

صدت "غدير" للشهاب، تتبّع خياله الذي يذوي بخفوت وتتلاشى ذراته كلما ابتعد..

تتمنى أمنية؟!


أيُّ أمنية!! إنها لا تعرف أيها تختار، أن ترتاح من "حميد" أو تعود لمقاعد الدراسة من جديد، أو.....


الوقتُ ضيق والشهاب يأفل مودعاً، يمنحُ الناظرين أماني، منهم من لحق ومنهم لا بد أن يقطع تذكرة القطار الثانية، إنها مسألة وقت فقط...

الوقت؟!!


عادت لتتطلع لصاحبتها، إنها تكاد تحزر ما تمنتهُ منذُ لحظات..

أن ينقلوها إلى شركة أخرى، أو يقيلوا مديرها الذي لا تفتأ أن تذكر اسمه بكره...


تناهى إلى مسمعهما صوتٌ رجالي ينادي...

- ندى، والدي يريدك أسفل...


استدارت هذه الأخيرة لأخيها، مطت شفتيها وهي تسأله:

- لماذا؟!

- اذهبي وانظري ما الأمر..

هزت كتفيها بإستسلام، ثم خاطبت "غدير":

- أستنزلين معي؟

هزت هذه الأخيرة رأسها نفياً، وبقيت تتابع ذلك الخيط الأبيض الرفيع.....


أين سيصل؟!!


تقدم بمحاذاتها، قطع وجوده حالة السكينة التي كانت تعيشها منذُ لحظات...


ما تراه الآن يبدو هلامياً، سراباً!!!


نظر إلى حيثُ تتطلع، وقال بصوتٍ ساهم:

- أتؤمنين مثلها بهذه الترهات؟!

لم تجب فوراً، بقيت صامتة ثم قالت بهدوء:

- أن تؤمن بشيءٍ ما ليس بترهات..

- أنتن الفتياتِ هكذا دوماً رؤوسكن فارغة.

- قد أقولُ الشئ نفسه عنكم..


التفت إليها فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين، في عينيه بريق وفي عينيها تحدي أشم..

بقيا هكذا لبضع دقائق، لكن سرعان ما أشاحت "غدير" وجهها بإرتباك وقد علا وجنتيها حمرةً خفيفة...


ابتسم مغيراً الموضوع:

- كيف هي يدك الآن؟!

تطلعت إلى ذراعها الذي فُكت جبيرتها منذُ يومين...

- بخير..

- غداً تكملين شهراً هنا..

- وغداً أذهب هناك.. قالتها بهمس.

- أخائفة أنتِ؟ سألها بحنان.

هربت من عينيه وهي تطأطأ رأسها للأرض...

خائفة؟!!!

إنها تكادُ تموتُ رعباً، لياليها الأخيرة كانت كابوساً، صورته المخيفة سلبت عينيها الكرى، وبات الليلُ طويلاً طويلاً، و أينما قلبت رأسها على وسادتها الخالية ، لاح لها طيفه مهدداً...


يا رب لطفك، لطفك فقط....

النسيم يهوي يرتع بحرية مع تقلبات الجو، ولم يتبقى من الشهاب شئ، ها هو نقطة صغيرة تجثو بهدوء، وتتماهى مع السحاب...


لم تشعر إلا بوقع أصابعٍ ثقيلة تمسكُ يدها، تطلعت إلى كفها المرتجف الذي احتواهُ بين كفه الكبير...

بدت ذاهلة وهي تنقل بصرها بين يده و سحنته التي كانت هادئة...

سكنت هي لبرهة وإن كان الذهول لازال عالقاً بمحياها الذي شحب فجأة....

وما أن ضغط على يدها مهدئاً حتى انتبهت لنفسها، وعادت تنظر إلى يده...

وكأنها فاقت من ذهولها، فنزعت يدها من يده بحدة وتراجعت إلى الوراء وهي تحدجهُ بنظرةٍ ما...


قالت بصوت بعيد، تعدى حنجرتها ومرّ خاطفاً على أوتار أحبالها الصوتية، ولكن هذا الخطف كان كافياً ليهزه، ليبعثره، ليجعل هذه الخيوط متشابكة فتتكوم بشكلِ عقدة....


أيمكن الفكاك منها؟!!


صدى الصوت يتردد، رغم بعده، رغم لحنه المتكسر، رغم تشابك أوتاره!!!


- تظنني سهلة، تستطيعُ خداعي..

رفع حاجبيه متسائلاً ثم أجاب بجفاف:

- عقلك يقفز بكِ إلى البعيد جداً..

- كلكم متساوون، كلكم...


قاطعها وهو يجيبها بخشونة ساخرة:

- عزيزتي لا تتوهمي بنفسك الشئ الكثير..

نظرت إليه بحقد، وقد تداعت النظرة الخجولة التي كست عينيها منذُ قليل...

- أتعلم، أنا أكرهك أكرهك، أكرهكم جميعاً..


تطلع إليها من رأسها إلى أخمص قدميها وكأنه يحدج ذبابة، ثم قال ببرود:


- أنتِ لا تستحقين الشفقة أبداً..

- لم أطلب شفقتك.. صرخت بوجهه بغضب.

- انتظري.. صاح وهو يقف أمامها معترضاً.

- ابتعد عن وجهي.

- خاطبيني باحترام، لا تنسي أنتِ ضيفة في بيتي. وأشار بأصبعه إلى الأرض مهدداً.

- حسناً، سأترك لك بيتك، ليس غداً بل اليوم والآن..

- أيُّ لسانٍ تملكين؟!

- قلتُ لك ألف مرة، لا تحادثني...


- اسمعي، لم يولد بعد من يملي علي طريقة حديثي، وإن كنتُ متساهلاً معك في أشياء فهذا لأني لا أريد أن أضع عقلي بعقل طفلة لم تتعدى الثامنة عشر، معقدة وحمقاء....


- أتقيس العقل بالعمر؟! أنا لستُ بطفلة أتفهم...أنت لم تعش مثلي، لم ترى ما رأيتهُ أنا، أنا لستُ بطفلة لأني لم أعش الطفولة حتى...لست من تكسر ألعابك، لست أنت من يقول لك أخوك الصغير: أنت حشرة أنت لا شئ.. لست أنت من يضرب في اليوم عشرات المرات، لست أنت عندما حرقت ثــ....


وتوقفت عن الحديث فجأة وكأنها انتبهت لسيل كلماتها، وضعت أناملها المرتجفة على شفتيها، وعيناها تزدادُ اتساعاً، والرعب يغطي القسمات، يسري في حنايا الوجه كالتيار...

الصور تتزاحم، تومض وتنطفئ، وذيل الشريط قد بدأ يتزحلق، يفلت من رباطه الذي ربط فيه يوماً ما بإحكام..

اقترب منها وهو يسألها متلهفاً:

- أنتِ ماذا؟! اكملي...

هزت رأسها نفياً وهي تبتعد للوراء ببطء..

- لا، لا، لم يحدث شئ، لم يحدث شئ، صح؟!!

كررتها بذهول وهي تضم يديها لصدرها لعلها توقف خفقانها المجنون...


- غدير، ماذا بكِ؟! سألها بقلق.

عادت لتهز رأسها من جديد وقد بدأت الدموع تطفو في عينيها السوداوين...

- أريد أن أعود..أعود لغرفتي..أرجوك.


تأملها للحظات وهي تطأطأ رأسها محاولةً أن تخفي الندى...

الريح، لازالت تعبث، تجولُ المكان بخفة، ولم يبقى من الشهاب إلا ذرة، حاملةً آخر الأماني...


ابتعد عن الباب الذي كان حاجباً إياه بقامته الطويلة...

مرت بسرعة بجانبه، وأخذت تعدو من على السلم...

راقبها إلى أن اختفى طيفها تماماً...


تنهد "عمر" وعاد يتصفح وجه السماء، كتف ذراعيه وبقى هكذا زمناً مفكراً....


ثم انصرف............
الحزنُ لا يزالُ لي مُعلّماً
تسمعهُ أذناي إن تكلما

تراهُ في سود الليالي أذني
إن ضحك الحبيبُ أو تألما

الحزنُ أعطاني حبيبي أحرفي
وأحرفي كانت إليك سلما


==============
(6)


حنت "ندى" جذعها، وإحدى يديها مرتكزة على طاولة العمل..

- أين هذه الفردة اللعينة؟!


مالت أكثر وهي تتلمس الأرضية بيديها كلما أمكن، اصطادت يدها شيئاً، كانت إحداها...

سمعت دقاً مزعجاً على طاولتها، فأخذت تتأفف بين انهماكها:

- لو سمحتِ ....

- لحظة، لحظة، لن أهرب من هنا، سأرى أين ذهبت فردتي أولاً!!


وفجأة أطلقت تنهيدة ارتياح طويلة وهي ترفع رأسها وعلى وجهها ابتسامة كبيرة، ويدها اليمنى حاملةً كعبها العالي بظفر..

- أخيـــ ....

و وأدت جملتها قبل أن تكتمل، غابت الابتسامة من على الشفتين، تطلعت إلى حذائها ذو الكعب العالي المرفوع وإلى الواقف أمامها عاقداً حاجبيه بإستهجان...


ألقت ما بيدها بخوف وهي تقف بسرعة، تلعثمت:

- أ..أعتذر، لم أكن أعلم أنه..أنهُ أنت أستاذ.


وضع كفيه على طاولتها وهو يحدجها بغضب:

- أهكذا تعاملون من يفد إليكم لحاجة؟!! تستصغرون خلق الله، وحين يأتي المدير ينقلب وجهكم ولسانكم وكأن على رؤوسكم الطير، أليس كذلك يا آنسة..


صمتت "ندى" وهي تسبُ نفسها ونعالها وذاك الواقف أمامها يزأر كوحش.


- ماذا بك؟! لم لا تردين، أتخالينني لا أعلم ما يدور في هذه الغرفة، أو بما تقولينه أنتِ وزميلاتك الموظفات عني..

- أنا أنا..

- أصمتي..


أطرقت "ندى" للأرض وهي تود لو أن الأرض تُشق فجأة وتبلعها، لا بد أنها "جميلة"، أجل و من غيرها تلك الجاسوسة الفتانة، انتظري علي و سأُريكِ؟!



ضرب على طاولته فأجفلت وتبعثرت خواطرها المحمومة:

- والآن خذي هذه الحسابات وراجعيها...

وألقى الملف، تبعثرت بعض أوراقه على الطاولة، نظرت إليها بنقمة، وصوبت إليه نظرة تماثلها وفمها مقفل بشدة مانعةً إياه أن ينفتح وتنطلق كل أنواع الشتائم التي سمعتها في حياتها...


رفع حاجبيه وكأنهُ يقول بتحدٍ:

- نعم؟!! ردي إن استطعتِ..


وتركها وبركان من الغضب يحتدُ بداخلها...

جلست على كرسيها وهي تحاول أن ترتدي حذائها بلا شعور....


لكنها لم تجده، فعادت تبحث عنهُ من جديد!!!


==============



جالسة هي في الصالة والتلفاز مفتوح، كانت ترى ولا ترى، تسمع ولا تسمع، وجهها شاحب وقد علتهُ صفرة...


ضمت الوسادة الصغيرة إلى حجرها، ثم قربتها إلى صدرها، ثم تركتها على الأريكة....


زفرت، وهي تضع يدها على جبينها، حرارة تشتعل بجسدها منذُ الأمس، وهمدان يلفها، يمنحها الخمول والتعب، كل شئ معطل إلا الخافقين، ينبض بجنون كطبول غجرية حارماً إياها من الراحة أو التنفس بحرية...


ساعة الصفر أقتربت، وحتفها بات قريباً ومؤكداً!!!


الانتظار متعب، مرهق للأعصاب، بل هو سفرٌ طويل هائم في تراتيل الزمن،،،


آلالامٌ قوية اجتاحت معدتها، قطعت أمعاءها، لا تدري كم مرة تقيأت هذا الصباح...


أغمضت عينيها بعجز فانحدرت دموعها سخية دون خجل، دون قيود، دون عيون متطفلة...


تركت لها العنان، لعلها ترتاح، تأخذ نفساً، فالساعات القادمة تبدو مخيفة، كئيبة...


آه، ما أصعب الانتظار!!!


ها هي تجلس هنا وكأنها على أهبة الاستعداد لتلاقيه، لتلاقي حتفها...


لا تريد أن تبدو أكثر ضعفاً، أكثر خوفاً، على الأقل ليس أمامهم، ليس أمامهُ هو خصوصاً!!!


وسمعت جرس الباب، لا بد أنهم قدموا، أمها اتصلت لخالها وقالوا سيأتون بعد قليل...


لم يحددوا الساعة بالضبط؟! يا له من بارع في تحطيم الأعصاب...


دق الجرس، وقريباً سيُفتح الباب وينخلع قلبها للأبد...


أحنت رأسها والدموع لا زالت تنزل بإستسلام، بضعف، جسدها لا تشعر به، فقط روحها التي تتعذّب، تتقلب بين شفا حفرة من الجحيم الأسود...


النبض بات خافتاً، ضعيفاً، والدماء في رأسها تضخ بقوة، بسرعة، تكادُ تسمعها، والعِرق، العِرق كأن أصابهُ مس، يضغط على بقاياها، يخنقها، يطوق رقبتها...



لاح لها خالها وبجانبه "عمر"، لم تستطع أن تنظر لأياً منهما، دفنت وجهها في تلك الوسادة التي ألقتها منذُ قليل، وأجهشت بالبكاء بصوتٍ مرتفع...


شعرت بيدين على كتفيها، تربتان عليها، أتاها صوته مطمئناً أبوياً ذكرها بالغائب منذُ زمن، بيتمها الأول:


- لا تخافي يا ابنتي، ثقي برحمة الله...


لم ترفع رأسها لكنها قبضت على يده، ضغطت عليها بقوة دون أن تفلتها.

- عمر، افتح الباب يا ابني..


اليدُ تزيد من ضغطها، والروحُ تفلت، تهيم على وجهها، تكادُ تلفظ آخر أنفاسها...


لطفك يا ربُّ لطفك...


الريحُ تحمل السلام والتحايا، والهودج، هودج الموت يفتح ذراعيه لها، يدعوها لتستقله وتلحق بالركاب...


ندّت من فمها صرخة ملتاعة بترتها فوراً...


اليد الآن ترتجف، خفت من قبضتها، ترى أين وصلت الروح الآن؟!!


هبت إليها والدتها تعانقها، لكنها لا تقبل، لا زالت تعانق وسادتها، ترفض أن تراه...


الصمت خيم حول المكان ما خلا الشجن الذي ينبعث من ذلك الرأس...


- أكلُّ هذا البكاء شوقاً لوالدتك؟! ما كان عليكِ إذن أن تفاريقها منذُ البداية.. ردد "حميد" ساخراً.


حدجه "عمر" بنظرة غاضبة، لكن ذلك لم يمنعه من يبتسم ابتسامتهُ الصفراء القبيحة:

- هيا لا بد أن نذهب الآن، فلنترك هذه المشاعر الجياشة بعد العودة للمنزل.

- انتظر "غدير" لن تذهب إلى أي مكان.

- ماذا تعني؟!

- أعني أنها ستبقى هنا..

- هه، وبأي حقٍ تبقيها هنا؟!

- هذا بيتُ خالها..

- وذاك منزل والدتها.. ألا تخافون ربكم، تريدون أن تحرموا هذه اليتيمة من أمها..لا حول ولا قوة إلا بالله...

- وهي ترفض الذهاب إليه ما دمت أيها ال**** موجوداً هناك..



عادت أوداجه لتنتفخ من جديد، وقد انمحى القناع المتزلف الذي كان يرتديه:

- مال****ُ إلا أنت..


تقدم منهُ "عمر" لكن الأب أوقفه:

- عمر، توقف، لا تنسى أنهُ ضيفٌ في بيتي، وزوج عمتك أولاً وأخيراً.


ثم التفت إلى هذا الأخير وهو يخاطبه:

- لكن هذا لا يمنع أن ما يقولهُ ابني هو الذي سيحدث بالفعل...

- يبدو أنك جننت أنت وابنك..

- احترم نفسك أيها الدنيء.

- اسمع، بل اسمعا كلاكما، ستأتي رغماً عنها وعن أنفيكما، وإن لم تدَعوها تأتي بهدوء معنا، فسنضطر أن نأخذها بالقوة، وتحملوا أنتم الشرطة والفضائح..


- بل اسمعني أنت، غدير لن تخرج من هنا، وافعل ما تريد، وبابُ بيتنا مفتوحٌ دوماً للشرطة وغيرها، لذا تهديدك هذا أكتبهُ في ورقة وألقه في ماء البحر...هيا تفضل، أخرج من هنا.


والتفت لأخته:

- اعذريني يا أختي، أنتِ محشومة عن كل ما يحدث..

سكتت الأم ولم تحر جواباً، وبقيت تتطلع لابنتها التي لا تفتأ أن تشهق بين الفينة والأخرى دون أن تفلت زمام وسادتها..


- هيا، هيا فلنخرج من هنا، بأس العائلة التي ناسبتها، ولكنكم لن تفرحوا كثيراً، بيننا وبينكم المحاكم، وسنرى كلام من الذي سيُلقى في البحر..


و دفع زوجته وهو يسب ويلعن، التقت بهم "ندى" في الطريق....

ابتسمت لعمتها:

- عمتي هنا؟! مرحباً كيف...

- لا بارك اللهُ فيك ولا في والدك ولا في عمتك..سيري بسرعة أنتِ الأخرى، هيا...


تطلعت "ندى" إليه دهشة وقد عقد لسانها، وما أن ولجت بالداخل ورأت "غدير" بهذه الحالة، حتى هرولت إليها مسرعة وهي تتساءل:


- ماذا حدث؟! بالله عليكم أخبروني..

التفت الأب لابنه دون أن يجيبها:

- عمر، تعال معي المكتب..


وانطلق الرجلان معاً...

- غدير....


أحاطتها بذراعيها، كان جسدها يرتجف، يدها متشنجتان، كلما حاولت أن تبعدها عن الوسادة المتشبثة بها، كانت تلهث والأصابع تنثني وتعود لتقبض عليها من جديد...


أخذت "ندى" تقرأ عليها ما تيسر من آية "الكرسي" والمعوذتين، حتى هدأت أنفاسها المتقطعة شيئاً فشيئاً....

تراخت اليدين...

- هيا، ارفعي رأسك..


الجسد يرتفع، ينوء بحمله، بدت عيناها صغيرتان حمراوان، أمسكتها "ندى" لتستند على الأريكة، لكن صوت الأب المنادي قطع عليها ذلك.

- غدير يا ابنتي، تعالي هنا ، أريدك قليلاً..

- أتستطيعين النهوض؟ سألتها ندى.


هزت "غدير" رأسها بإيجاب وهي تنهض بتعب، ساعدتها "ندى"، لكنها عادت لتأخذ الوسادة من جديد...


لا تدري، حسستها بالأمان!!!


- ادخلي يا ابنتي..

دخلت "غدير" تسبقها "ندى".

- أنا قلتُ غدير فقط وليس أنتِ.

ابتسمت "ندى" ببلاهة لأبيها وهي ترد:

- ربما تحتاجون لشيء.


صدّ الأب لغدير، كانت مطأطأةً رأسها وهي تمسح عينيها اللتان لا تتوقفان عن الذرف.


- ارفعي رأسكِ يا ابنتي، ما دمتِ معنا فأنتِ بأمان...


رفعت رأسها ببطء فاشتبكت بتلك العينين الخضراوين...


كان مكتفاً ذراعيه وقد استند على طاولة المكتب....


لكنهُ سرعان ما أشاح بوجهه لكأنهُ يتهرب من نظراتها!!!!


نقل الأب بصره بين الاثنين، تقدم منها فالتفتت إليه:

- اسمعي يا ابنتي بعد الذي حدث اليوم لا بد أن نجد حلاً.


ردت عليه بتقطع وشهقاتها تخنقها:

- كيف؟! سيأخذني معه، لن يقبل بأن أبقى هنا.

- بل سيقبل رغماً عنه إذا نفذتِ ما قلته أو بالأحرى نفذتما ما سأقوله الآن..


تطلعت لخالها بخوف وقد بدا الشك يدبُّ في أعماقها خصوصاً بعد نظرات ذاك الواقف ليس ببعيد.

أخذ نفساً طويلاً ثم أردف بهدوء:

- تتزوجان أنتِ وعمر، وبالتالي تخرجين من وصاية الكل إلا زوجك.


الأصابع لا ترحم الوسادة القطنية، والمفاجأة أكبر من أن تُحتمل، أمسكت بتلابيب صاحبتها لعلها توقف رجفتها، تمنع نفسها من أن تهوي، من السقوط!!!


الضخ، الضخ يعود بقوة وهناك في الحنجرة، حشرجة، الصوت يودُ لو يغادر الجسد...

هزت رأسها نفياً وهي تردد بصوت مبحوح :


- لا لا... لا لا أريد أن أتزوج...سأعود... سأعود إلى هناك من جديد.


تطلع لها بدهشة متسائلاً:

- لماذا يا ابنتي، في زواجك نجاتك!!

- لا أريد لأن.. لأن...

واشتبكت بتلك العينين من جديد، فيهما قسوة وغضبٌ مفاجئ انعكس على لونهما فبات أخضراً قاتماً...


أخذت تتطلعُ إلى الأرضِ بحيرة، ماذا تقول بالضبط!!!


- لأن ماذا؟! سألها الخال بلين.


عادت لتنظر إليه، عيناهُ معلقتان على شفتيها تنتظران الإجابة...


ارتبكت أكثر، قربت الوسادة من صدرها كأنها في حالة دفاع عن النفس:

- لأن لأن كلانا من مذهب مختلف...

- وماذا في ذلك؟! سألها "عمر" بتصلب.


- أجل يا ابنتي، ماذا في ذلك، كلنا أولاد آدم وحواء، أبناء دين واحد..


- أأأ.. تعرف.. تعرف أنت يا خالي، نحنُ.. أنا، لدينا طواف النساء، أما أنتم فلا، فإذا لم يطف الزوج أكون..أقصد تكون محرمةً عليه..


أخذت شهيقاً طويلاً متقطعاً، ثم أردفت دون أن تنظر لأحدهم:

- ثم الزواج ليس... ليس شيئاً بين اثنين فقط، سيكون هناك أطـ..أطفال، والأطفال دائماً يتبعون مذهب الأب عادةً، مثلما أنا تبعتُ مذهب والدي، وتبع أخي "مجيد" مذهب والده..


تطلع إليها "عمر" بدهشة وعلى وجهه علامات الاستفهام:


- والداك كانا أيضاً من مذهبين مختلفين، أفهميني إذن كيف تزوجا بالرغم من ذلك وأنجباكِ.

وأكمل:

- أما بالنسبة لمذهب الأطفال فأعتقد أن هذا الأمر سابق لأوانه..


صمتت دون أن تحر جواباً، وعادت أصابعها لتتشنج من جديد، تطلعت إلى "ندى" بحيرة كأنها تستعطفها، أن تفهمها، أن تساعدها وتقول شئ أي شئ، ولكن أنّى لها أن تفهم هي الأخرى..


لكنها لا بد أن ترفض أليس كذلك، لا بد لها أن تصمد وألا تضعف، لابد!!!


- أنا لا أريد أن أتزوج، لا أريد...أرجوكم.

و تركت وسادتها لتهوي كي لا تهوي!! وغطت وجهها وهي تجهش بالبكاء.


- قلتُ لك يا أبي مثلها لا يستحق، لا فائدة منها أبداً..

ثم وجه خطابه لها:

- ليكن في معلومك أنني لم أرغب بالزواج منك لشخصكِ أنتِ، ولكن احتراماً لطلب والدي، لخالك الذي لم أشأ أن أراه يستعطفني لأتزوج فتاةً حمقاء مثلك.


- عمر!!!

تنهد "عمر" وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم.


- أنا لدي فكرة.


نظر الجميع إلى "ندى" التي ارتبكت من تسلط العيون عليها وقالت بخفة لتلطف الجو:

- يتزوج عمر وغدير على الورق كما في الأفلام..كل ما يهمنا هو ورقة الإثبات الذي سنواجه بها زوج أمها..أليس كذلك؟!!


صمت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، حتى "غدير" أوقفت بكاءها.

- فكرة لا بأس بها.. ردد الأب مفكراً وإن شابه ضيق.

لكزت ندى صاحبتها وهي تخاطبها:

- اقبلي، إنهُ على الورق فقط...


على الورق!!!

كان ينظر لها تلك اللحظة، في عينيه حديثٌ طويل، فيه عتاب، برود، ظلمة!!!


عيناهُ تقولان الكثير، لكنهُ لم يتح لها الفرصة لأن تقرأ أكثر!!!


غلف وجهه بتعبيرٍ جامد، ولم يبدِ حماسه أو رفضه للموضوع، بل همهم موافقاً وكأن الأمر لا يعنيه...

وافقت هي الأخرى...وهل لديها خيارٌ آخر!!! وشئ أفضل من لا شئ....


على الورق!!!!


لا تدري لم قلبها منقبضٌ هكذا...

ربما وجهه الذي قسى فجأة...ربما عيناه!!!

أجل..أجل عيناه هي السبب...


- أجهزا بسرعة كي نذهب للمحكمة بعد قليل، لا بد أن نغتنم كل دقيقة متاحة لنا قبل أن يتحرك ذلك المعتوه...

ثم أردف الأب:

- سأتصل بناصر ليكون شاهداً على العقد، والآن سأترككما لتتفاهمان..ندى تعالي معي.

- لكن يا أبي... قالتها بإستعطاف.

- هيا..


خلا المكان إلا منهما وبدا الصمتُ السيد الآمر في هذا الجو المشحون بالتوتر....


أحست بنظراته مصوبة عليها، أرادت أن تلحق بخالها و "ندى" وتهرب من أمامه...

لا تدري ما الذي تشعر به الآن..

ليتني لم ألقي الوسادة!! رددت في نفسها.


- هل أنتِ سعيدة الآن؟! أتاها صوته ساخراً بارداً.

- ...................

- هيا، أطلقي رصاصاتك، أبي ليس هنا..أخلعي رداء البراءة وقولي ما بجعبتك...

- ...............

- ما بك، لم لا تتكلمين؟! ألا تريدين أن تضيفي شيئاً آخر غير المذهب والأطفال أم أن جميع حججك قد نفذت!!!

- ..................

تحرك من مكانه فرفعت رأسها بخوف، مرّ بجانبها وما أن وصل للباب حتى قال شيئاً جعلها تلتفت إليه وهي تشهق!!!!!!



================

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 10:45 AM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
Wink

 



- أتعتقد أن زواجهما سينجح؟!

غمغم "ناصر" بعبوس وهو مندمجٌ في القراءة:

- اممم، ما فهمته من والدي أنهُ زواج صوري ليس إلا.

- أعلم ذلك، ولكن الابتسامة لم تفارق وجه أخيك طيلة اليوم...


ابتسم "ناصر" وهو يذكر شكل أخيه الأكبر، ووجه "غدير" المرعوب التي ما فتأت أن أوقفت الإجراءات عدة مرات لولا إلحاح والده و"ندى".


- لا أدري، الله وحده يعلم ما إذا كان هذا الزواج سيستمر أم لا...

- ونعم بالله.


وعاد ليكمل قراءته، أما هي فأخذت تتطلع لخيطِ نشز من فستانها، محاولةً قطعه..


لكنهُ كان أملساً والخيط قصير أصعب من أن يُقطع هكذا!!!

ارتجفت أناماها لخاطرٍ مر عليها، خاطراً بات هاجساً بالنسبةِ لها..


تركت الخيط كما هو ونادت زوجها بصوتٍ هامس:

- ناصر...
- نعم..

تشجعت من ابتسامته الهادئة، اقتربت منه بإرتباك دون أن تنظر إليه مباشرةً:

- ما رأيك، أن..أن نذهب للمستشفى.

ترك ناصر الكتاب الذي بيده وهو يتطلع لها بتعجب:

- لماذا؟

- لـ..لإجراء فحص.


الدهشة تتسع في عينيه، لكنهُ سرعان ما فهمها، هو قد بدأ يلاحظ تلميحاتها لهذا الموضوع في الآونة الأخيرة.

- لا داعي لذلك..لازلنا في البداية.

- أعلم..لكن "ليلى" ابنة عـ...

- أعرف، قلتها لي من قبل، ولكن ما شأننا والآخرين، هذا الأمر بيد الله، وخوفك هذا لا مبرر له، حتى الطبيب سيقول لكِ ذلك.


نكست رأسها بأسى وانكسار.... تنهد من مرآها...

اقترب منها وهو يخاطبها بحنان:

- لا تبتأسي يا عزيزتي، اسمعي سننتظر شهراً آخر، إذا لم يحدث شئ، سنراجع الطبيب، هل ارتحتي الآن؟!


رفعت رأسها وقد تهلل وجهها وبان الفرحُ في عينيها، تطلعت إليه بحبٍ كبير، حبٍ جارف....


يا رب احفظ لهم سعادتهم!!!



=====================


الخروج الآن لوحدها بات خطيراً، في المرة المقبلة ستأخذ معها "ندى" أينما أرادت شيئاً، فالدنيا الآن لا أمان لها، لا أمان لها إطلاقاً!!!!


- لماذا تنظر إليّ هكذا..

- وكيف أنظر إليكِ؟!

- لاأدري..لكن..المهم نظراتك لا تعجبني.

- سأنظر كما يحلو لي، أتفهمين.


قالها بهدوء وهو يقترب منها شيئاً فشيئاً. تراجعت هي إلى الوراء بخوف حاولت أن تخفيه.

أجابت بحزم:

- لا أريد أن أفهم، وإذا كررتها سأضطر لأن أخبر خالي.


تطلع لها برهة بإستغراب ثم ضحك بقوة، سألها بإستهزاء:

- ستخبرينه بماذا؟! أن زوجك ينظر إليكِ!!!!!

- أنت لست زوجي...ألا تفهم. صاحت بحدة.


قبض على يدها وقد تلاشت تباشير الضحك من وجهه:

- بل زوجك رغماً عنكِ والورقة تؤكد ذلك.


حاولت أن تنزع تلك الأصابع القابضة على ذراعها ولكن دون جدوى.


صاحت بتقطع وقد خُطفت أنفاسها:

- قلتها بنفسك "على الورق" الورقة فقط من تجمع بيننا، لا شئ أكثر.


قرب وجهه من وجهها، حتى كادت أن ترى انعكاس صورتها في عينيه، رد بهدوء، بصوتٍ واطئ:

- هذا ما تتمنينه أنتِ أليس كذلك؟! لكن الوضع لن يبقى هكذا للأبد.


أنفاسه تحرق خديها، الاحمرار يتصاعد ليعمّ رقبتها، رمشت عينيها مراراً وتكراراً لعلّ الصورة تتضح، وبعد جهد أطلق سراحها فجأة..


ترنحت إلى الخلف وصدرها يعلو ويهبط من حدة الانفعالات التي اجتاحتها تلك اللحظة.


سألته بتقطع وهي تحاول أن تمسك بجمام نفسها:

- ماذا..ماذا تقصد؟!!

لم يجب واكتفى بالنظر إليها من جديد ولكن ببرود.

صاحت في وجهه:

- طلقني، أتسمع، طلقني.


قهقهته الجافة ترتفع، تتصاعد ولا تلبث أن تهوي، لكن أين؟!!


في أعماقها هي..هي وحدها...

نطق متشدقاً:

- وهل تزوجتك يا صغيرتي حتى أطلقك...


وقفت مشدوهة من عبارته للحظات، وكأن الزمن تجمد، كل شئ توقف، إلا صداه.

وحين فاقت من بهتانها، واستيقظت من خيالاتها، أخذت تنادي عليه...


لكنه كان قد سار عنها إلى غرفته، خياله تلاشى بين الأزقة، ضربت الأرض بقدميها لعلّ الدق يخفف دقات قلبها المرتاعة.....


القادم يبدو مخيفاً، غامضاً، مليئاً بالشوك، وقد بدأت أزهار الياسمين تبزغ من بين الحشائش!!!!!



===============



ماذا لدينا غير الاستسلام
وغير عزف نغمةِ السلام

الحربُ طالت بيننا حبيبتي
وآن أن أنام أو تنامي

عودي إلى طفولةٍ مُحتاجةٍ
للنوم في الهدوء والظلام



==============

(7)


استندت على الباب مغمضةً عينيها بقوة، الأصوات ترتفع وتعلو، وصوت صراخه يصمُّ الآذان....


عادت لتتحسس إكرة الباب كالعمياء لتستوثق من أنهُ قد قُفل بإحكام..

- كيف زوجتهما هكذا؟! هذا الزواج باطل..

- أبطله أنت إذا استطعت...


الحروف لا تُسمع الآن بوضوح، همهمة غير مفهومة هي التي طغت حول المكان، حيثُ اجتمع الرجال وأشباه الرجال!!!


أخيراً هدئت الجلبة، ربما خرج، لكن لا، ها هو صوته القبيح يعود من جديد:

- إن كنتُ قد قلتُ ذلك فمن خوفي أنا وأمها عليها ليس إلا، مسكينة لقد تركتها في البيت تبكي، ابنتها الوحيدة ولا تحضر عقد قرانها، لذا كان علي أن أتأكد...


ثم التفت إلى "عمر" وهو يبتسم له ابتسامته الصفراء اللزجة:

- مباركٌ عليك يا "عمر" عرفت أن تختار، انتبه لها!!!!


أيها ال****!!!


أرادت أن تصيغ السمع أكثر، أن تعرف ما رد عليه هذا الأخير، لكن صدى صوته لم يصل إليها بعد...


تنهدت وهي تسمعُ الأبواب تُصفق...


لقد انتهى كابوس!!


و بدأ كابوسٌ من نوعٍ آخر، أتراها تتخلصُ منه هو الآخر؟!!


ستحاول وبشتى الطرق، ولن تعدم أي وسيلة لذلك..


سمعت طرقاً خافتاً على الباب فاعتدلت في وقفتها، تساءلت:

- من؟

- هذا أنا.

- ماذا تُريد؟!

- أريد أن أحادثك قليلاً.

- قل، أنا أسمعك.

- افتحي الباب، ليس لائقاً أن أقف هكذا.

- ندى ليست هنا، و لن أفتح، أسمعت، لذا قل وخلصني.


صرّ على أسنانه، وهو يردّ عليها بصوتٍ كظيم:

- افتحي الباب وإلا كسرته على رأسك الفارغ.

- ما الفارغ إلا أنت، وإن كنت تجرؤ اكسره، سيأتي خالي وسيكسر رأسك...


- أخفتيني أنتِ بخالك..أم نسيتي أنهُ أبي أيضاً، ثم يا "حبوبة" أبي خرج هو الآخر..

صمتت وهي تسمع صوت تنفسه الغاضب، مرت ثواني قبل أن ترد بخوف:

- أنت تكذب، خالي لن يتركني مع...مع مثلك!!

صاح بإستنكارٍ أفزعها:

- مثلي؟!!


ثم أردف بغضب:

- حسابنا ليس الآن يا "غدير" سأجعلك تدفعين ثمن كل كلمة، كل عنادٍ عاندتيني إياه، كل شئ والأيامُ بيننا، أقسم بذلك.


ضربت الباب بقبضتها لعلها توقف الارتجاف الذي سرى في جسدها:

- طلقني ... طلقني، لا أريدُ أي شئ يربطني بك، أتسمع..

- هذا أبعدُ إليكِ من طيل السحاب...


وصفق هو الآخر باب غرفته المجاورة....


طلقني...

أخذت ترددها بهمس، وهي تنزلق لتصل إلى الأرض، إلى أدنى بقعة....

وضعت رأسها في حجرها و بكت بصمت....


ولكن من قال أن المصائب لا تأتي فُرادى؟!


غديـــــر..ماذا أقولُ لكِ؟!!


لا تعليق!!!

==============



وقفت أمام باب مكتبه عدة مرات، كلما همت أصابعها بأن تخدش خشبه أو تخدش وجهه!!! عادت لتضم يدها إلى جانبها من جديد...


وأخيراً، بعد عشر دقائق استجمعت شجاعتها وهي تردد كل الآيات التي حفظتها منذُ طفولتها، طرقته بخفوت فربما لا يسمعها وتعود إلى مكتبها، لكن صوته الجاف وأد أحلامها الخائبة.


- تفضل.


"أعوذُ بالله".

دخلت وبيدها الملف الذي أعطاها إياه بالأمس، لم يرفع نظرهُ إليها بعد، كان منهمكاً في توقيعِ أوراق..

تنحنحت لعل صوتها يخرج من احتباسه الأزلي كلما رأته.

- لقد راجعتُ الحسابات أستاذ.

- والنتيجة؟! سألها دون أن يرفع رأسه بعد.

- جميعها صحيحة.


حينها فقط رفع رأسه وأشار لها بأن هاتيه، مدتهُ إليه من بعيد، لكن يدها لم تصل إليه.


- اقتربي، لم أنتِ واقفة هكذا؟!


"أحقاً لا تعرف!!!"


تقدمت فتناولهُ منها، أخذ يتصفحه وهو يغمغم:

- إذن كل العمليات الإحصائية صحيحة؟!

- أجل.


وفجأة، ألقى الملف الذي بيده بقوة فأجفلت، وبقيت تنظر له بتعجب من نزوات غضبه الغريبة.

صاح في وجهها:

- صحيحة؟!! يا آنسة، هذا الملف قد تم مراجعته عدة مرات من قبلي وقِبل بعض الموظفين، واشتمل على 6 جداول إحصائية خاطئة، وتقولين جميعها صحيحة؟!!!


فتحت عينيها بدهشة على وسعهما ورددت دون تصديق، ودون أن تبالي بصياحه:

- لقد راجعته من قبل، وجعلتني أُعيد مراجعة ملايين الحسابات التي تحويه؟!


- كنتُ أريد أن أتأكد، ما إذا كان هناك شئ في العالم اسمه ضمير، دقة، أمانة.


العينان تكادان تخرجان من محجريهما واللسان ينطلق دون قيود، أخذت تهتف وهي تشير لوجهها:

- انظر..انظر لعيناي، كيف أصبحتا حمراوين، لم أنم البارحة إطلاقاً وأنا أراجع هذه الحسابات المطبوعة بآلة من العصر الحجري.


نظر إليها دهشاً من جرأتها وعفويتها في الكلام:

- وما شأني أنا إن نمتِ أم لا؟!


صاحت بتقطع وصدرها يعلو ويهبط بإضطراب:

- أنت..أنت..

- أنا ماذا؟ تكلمي.. سألها ببرود.


"أنت ****، نذل، جبان، أنت مزبلة التاريخ، بودي أن أخلع حذائي وأحطم جمجمتك".


عادت لتعض على نواجذها بقوة لبضع دقائق، ثم أفلتت شفتيها وهي تزفر بحقد:

- لاشئ يا.. يا أستاذ..


حدجها بنظرة هازئة وكأنه علم بأنها لن تقدر أن تنطق حرفاً.


فتح درج مكتبه، وأخذ يعبث فيه دون أن يحول عينيه عنها.

- أيمكن أن أنصرف الآن؟

- لحظة..انتظري.


وأخرج شيئاً ما:

- خذي هذه حسابات أخرى تخص بنك "......" راجعيها و افتحي هاتين العينين المكحلتين جيداً..

- هذا ليس كحلاً، هذه هالات سوداء من أوراق البارحة. قالتها ودموعها توشك أن تطفر من الغيظ.

لم يبالي بما قالته، تأمل بإهتمام تغير ألوان وجهها بالتدريج.


كانت تتطلع إلى الملف الذي لو تُرك له المجال لينطق، لأنًّ من ثقله!!


- هذا كثير!! هذا الأسبوع زواج إحدى قريباتي و.....


"يا رب تكثر عليك العقارب والأفاعي".


قاطعها وهو يعنفها:

- وهل نحنُ نلعب؟! هذا عمل، ما دمتِ لستِ نداً لهذا النوع من الأشغال لم أخذتِ تخصص محاسبة.

وأردف:

- أنا لا أحب التلكأ أو التبريرات الواهية للتهرب من العمل..ولا تُدخلي شؤونك الخاصة في العمل، مفهوم؟!

- ...................


- لم أسمع جوابك، أم أن كلامي لا يعجبك؟!


"لا يعجبني!! يا أخي أنت بأكملك لا تعجبني".


- مفهوم يا أستاذ. أجابت بذّل.

واستدارت لتعود من حيثُ أتت، تسبقها آلالاف الدعوات عليه طبعاً!!!

- يا آنسة..

- نعم؟!

- وجهكِ منتفخ...تنفسي ببطء، ليس جيداً لصحتك هذا الاحتقان.


وكادت أن تتعثر بالسجادة المبسوطة في مكتبه:

- انتبهي أثناء سيرك أو ارتدي نظارات ما دمتِ لا ترين جيداً...


وما أن خرجت من مكتبه حتى أخرجت الصرخة التي كانت قد كتمتها طويلاً,,,


ولكنها، لم تجد إلا الجدران وحدها لتتلقفها!!!



=============



- ماذا سترتدن في الحفلة؟ سألت "شيماء"

- أنا عن نفسي لا أملك ثوباً، سأطلب من والدي نقوداً لأشتري شيئاً جديداً.


- وماذا عنكِ "غدير"؟!

- أنا؟!

- أجل..

- أنا لن أذهب، لا أعرف أحداً، ماذا سيقولون عني؟! "أطرش في الزفة".

- يا عزيزتي، لقد بتِّ فرداً منا، يا حرم أخونا المصون.


حدجتها "غدير" بنظرة نارية، وعادت لتكتب شيئاً في دفترها..

لا أفهمه، لا أعرفه!!

من؟!!

قالوا عنهُ زوجي...

وأغلقت الدفتر بشرود...


- ماذا قلتِ؟! عادت "شيماء" لتسألها.

- امممم، لا أدري.

- ستأتين رغماً عن أنفك. ردت "ندى".

- لاأملك مالاً.

- والدي لن يبخل أبداً على ابنة أخته..

قاطعتها "شيماء" وهي تغمز عينيها:

- ولم عمي؟! الآن أصبحت في ذمة رجل آخر مسؤول عنها.


وضحكت الفتاتان و"غدير" تنظر لهما بحنق، ودثرت نفسها بغطاءها لعلها تهجع وتسلم من لسانهما.


"يا ليت!!"

==============


- ندى قومي، قومي..

- آ..آآه ماذا تريدين؟

- أريدُ أن أشرب كوب ماء.

- اذهبي واشربي.


وعادت لتتدثر في فراشها من جديد.

- ندى، أنا أخاف من الظلام، قومي معي.


من الظلام أو من ذاك الذي يترصدُ بك في الظلام!!


- أريد أن أنام..المدير ال****...

- أيُّ مديرٍ تتحدثين عنه؟!


لكن الأخيرة لم تجبها، فرأسها مثقل من حسابات الأمس واليوم، والمعادلات وعلامات الجمع والطرح تطنُ بجنون أمام عينيها كأزيز نحلة!!


تطلعت إلى النائمة بيأس....


أأنبأكم إحساسكم يوماً أن شيئاً سيئاً سيحدث إن فعلتم هذا الشئ، ومع ذلك تفعلونه؟!!


ارتدت "غدير" حجابها بيدٍ ترتجف، ها هي تفتح باب غرفتها ببطء كلصة تتسلل بين الأزقة....


صوبت بصرها إلى الغرفة المجاورة، كان الهدوء والظلام سيدا المكان بلا نزاع..


مشت على أطراف أصابعها....


اللهيب يتراقص والفراشة تهوي إليه رغماً عنها، تتراقص بخفة حوله، تفرد جناحيها الجميلين، وفي لحظةٍ ما، تسقط!!!!


أجل تسقط...


فأنى لجناحيها أن يتحملا قسوة تلك النار...


احذري يا غدير، احذري...


وصلت إلى هناك، كان مصباح المطبخ مولعاً، توجهت إلى الثلاجة وسكبت لها كأساً.


لم تنتبه إلى الظل الذي بقى واقفاً يتأملها وهي تزدرد الماء.


وحين همّت بإرجاع الكأس لمكانه، هتف بسرعة:

- انتظري.


والتفتت إلى مصدر الصوت، كان واقفاً بمحاذاة الباب وعيناه الخضراوان ترصدان تحركاتها...

على شفتيه ابتسامة، ماذا عنها هي؟!!


استندت بضعف بجانب الثلاجة، تنفسها بات سريعاً، متلاحقاً، ونبضات قلبها تدق بجنون...

لسانها يتثاقل، والصوت يخرج بخفوت، بتقطع:


- أنت..أنت ماذا تريد؟

رفع يديه إلى أعلى ببراءة موضحاً:

- أريدُ فقط كوب ماء.

- أنت تكذب، تعتقد أن خدعتك ستنطلي عليّ...

- كم أنتِ واهمة كثيراً بنفسك..هيا اعطني كوب ماء.

- لن أُعطك شيئاً.

- إذن سآخذهُ بنفسي..


صرخت مهددةً وهي تنكمش على نفسها:

- لا تقترب.

- اخفضي صوتك أيتها المجنونة.


الكأس يكاد يتحطم، يتلاشى بين أصابعها، الضغطُ على الكأس وفي الهواء يزداد، وإن كان الكأس من زجاج فما بين الضلوع أرق من أكسير..


عادت لتنكمش، لتنزوي بعيداً عنه، الصدرُ يعلو ويهبط بقوة، والامتقاع يلون وجهها بألوان شفافة، خالية من أي لون!!!


صاحت فيه بيأس:

- قل لي ماذا تُريد وخلصني.

- أريدُ كأس ما، لم لا تصدقين، ماذا في رأسكِ هذا؟!


رددت بشرود:

- تريدُ ماء؟!

- أجل ماء..ماء فقط، ليس في نيتي أي شئ آخر!!


تطلعت بداخل الكأس لثواني، ثم عادت لتنظر إليه، على وجهه علامات تساؤل، تعجب، تفكير!!!


حاجباه التصقا معاً بصرامة، وشئ ارتسم في عينيه، عادت لتسأله بصوتٍ شارد:

- تريدُ ماء؟!

- أجل ماء. أجابها متفحصاً.


فتحت باب الثلاجة من جديد، سكبت الماء في الكأس، ها هو يطفو ويلامس حافته.


مدتهُ إليه بيدٍ ترتعش، الماء قد بدأ ينسكب شيئاً فشيئاً على الأرض واليد لا تتوقف عن الاهتزاز...


تقدم منها ببطء، العينان الخضراوان تعكسان شيئاً غريباً، تكادان تنطقان:


لماذا؟!


مدّ يدهُ هو الآخر، تابعت هذه اليد الممدودة وهي تقترب ببطء، أنامله كادت تصل ولم يتبقى من الكأس إلا ثلثه!!!


وما أن مسّت أصابعه حافته حتى أسقطته، وانتثر زجاجه على البلاط..


شهقت وهي تلطمُ وجهها، أخذت تنظر بهلع إليه وإلى الزجاج، هزت رأسها بجنون نافيةً وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:


- لم أقصد أنا..لم أقصد..

- لا بأس..لايـهم.


واقترب منها محاولةً تهدئتها، صرخت بجزع وهي تحمي نفسها بيديها:

- لا تضربني..

- لن أضربك..


لكنها لم تكن تسمع، لازالت تتراجع ويديها تغطيان وجهها برعب.


وأحاطها بذراعيه بقوة، رغم احتاجها، رغم ممانعتها، رغم الخدوش التي خدشتهُ بها!!!!


لازالت تقاوم، كلبؤة هي...


كلبؤة أم طيرٍ جريح؟!!!


هزها من ذراعيها بقوة لعلها توقف صراعها المحموم معه...


أجنحة الفراشة تتكسر، تذوي واللهب لازال مشتعلاً، لازال يتراقص بخفوت فوق ذُبالته...


عادت لتسأله بوهن من بين دموعها:

- ماذا تريد؟!

- قلتُ لكِ لا أريدُ شيئاً..



عاد ليضمها بقوة ليطفأ مقاومتها الأخيرة، فالجسد بات واهناً، أضعف من أن يقف صامداً أمام اللهب!!


بكت كثيراً على صدره، يدها لاتزال تهوي على كتفيه بهون، والشهقات لا تتوقف..


أيُّ زمنٍ توقف لتلك الصورة الفريدة....


أتراها ستتكرر؟!


صوت بكائها يخفت، يذوي كذُبالة الأمس، واليد تتوقف...


وهناك، في سمرة الليل، عينان تسمرتا:

- "عمر"..."غدير"!!!

نزعت "غدير" نفسها وهي تشهق من صوت الأب المستنكر....

أخذت تجول بصرها بين الأثنين بذهول، بتعجب، دهشةً هي من نفسها...


وحين أفاقت، ركضت إلى غرفتها وهي تتخطى صوت الأب المستنكر...




الريح تصفر في الخارج....


وقد بدت نجوم السماء قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد....


وهناك في غرفةٍ ليست ببعيدة، انساب نشيج يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر!!!


ويبقى صوتُ الأب هو الفاصل...


تُرى ماذا تحمل الأيام القادمة لـــ:

غدير، عمر، ندى؟!!!

انتظروني....

لاأنااام...

أبعدتُ عنك سيدي فؤادي
فارجع إلى طبائعِ الاستبدادِ

اغضب وصح فلن يضجّ مسمعي
لأنني أسمعُ في حيادِ

الحبُّ مات بيننا لأنهُ
لا حُبّ بين العبدِ والأسيادِ!!


===============

(8)


أناملها تلامس شفتيها المرتجفتين وقد ارتكزت بإحدى يديها على سطح الأرض بضعف...


هي لا تصدق ما حدث للتو!!


كيف حدث ذلك؟!


هو السبب، ذلك الغشاش المخادع يخالني لا أعرفه، لا أفهمه، لكن لا...


لا وألفُ لا، سأحاربه....سأٌقاومه حتى آخر رمقٍ لي..


لأنني...لأنني أكرهه!!


أكرهه وكفى!!


امتدت أصابعها لخدها وهي تهزُّ رأسها، الدموع تملأ الوجه المعذب، تحفر في حناياه شيئاً، والخطوط تتضح لتكون معلَماً,,


السطور تُرسم، والوجه صفحة، يحتاج لمن يفهمه ويقرأه....


عادت لتهز رأسها غير مصدقة....


الحروف تتبعثر، والكلمات تتلاشى وتبتعد هناك، حيثُ لا قلم، لا حبر، لا سطور!!


همست لنفسها بخوف:

- و خالي، ماذا سيقول عني الآن؟!!

- ماذا سيفعل؟!

- رحماك يا رب رحماك....


نجوم السماء تتراءى من خلف زجاج النافذة، ها هي تنبض بقوة ووضوح، في نورها أمل وألم!!!


اتجهت لفراشها وهي تحيطُ نفسها بدثارها، لعلها تشعر بالأمان قليلاً، قلبها لم يتوقف عن الدق بعنف، بجنون...


أخذت تطمأن نفسها:


ما حدث كان كذبة، كذبة سقيمة من تخيلاتي...


لا بد أنني كنتُ أحلم، أتوهم...


ولكن....


كيف حدث ذلك أخبروني، كيف؟؟!!


الجبين لازال يتصفد عرقاً رغم الجو المكيف، وباب الغرفة المجاورة لم يُوصد بعد!!!



=================


- "غدير" انهضي..

- ............

- غدير!!

ردت دون أن تفتح عينيها، الصوتُ كان متعباً، راحلاً منذُ الأمس:

- ماذا تريدين؟!

- هيا افطري.

- لا أريد.


"لا أريدُ شيئاً، لا أريد أن أراهم، لا أريدُ أن أرى خالي".

- أيتها الكسولة!!

- أريدُ أن أنام.


"لم يصافحني الكرى منذُ الأمس، هو السبب، هو الغشاش، المخادع".


وعادت لتتدثر من جديد...


الهجوع نعمة، لا يقدرها إلا المحرومون!!


==============




- هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. تتمتعين بلباقة الحديث وتستفيدين من قوة إقناع مميزة تجعلك محط أنظار العديد من الأشخاص.



رفعت "ندى" رأسها عن الجريدة بزهو وهي تبتسم لصُحيباتها، ثم أردفت بخيلاء وهي تضم خصلة نشزت سهواً من حجابها للداخل:


- كم أحب "الأبراج" تشعرني بالتفاؤل.


- أنا لا أصدقها. ردت "جميلة".


"أكيد لن تصدقيها لأنكِ حقودة وحسودة، ولو كان طالعي اليوم سيئاً لقلتِ آميين!!".



- ندى، أقرأي برج المدير.. خاطبتها "أشجان".

- من أي برجٍ هو؟!


- من برج الحمل..


فتحت "ندى" عينيها دهشة في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ضحكت بإستهزاء:


- الحمل؟!!! ظننته من برج "الثور"، برج "أم دويس"، برج "الله وأكبر عليك يا الظالم"...


ثم أكملت وهي ترفع الجريدة لأعلى:


- اسمعن "برج الوحش" ماذا يقول اليوم: تتجه إلى إقامة علاقات فوضوية. كن صادقاً مع نفسك واعطِ قلبك فرصة ليدق دقاته الحقيقية..


ولم تكمل، إذ غرقت في نوبة هستيرية من الطراز الأول:


- قلبه يدق؟! أشك..أشك إن كان لدى هذا الرجل قلبٌ أصلاً..


وألقت الجريدة ووجهها يتضرج احمراراً من شدة الضحك:


- مسكينــ .....



لكنها توقفت فجأة ما أن رأت وجه "أشجان" الذي تغير فجأة والتي راحت تدفن رأسها في الأوراق الموضوعة أمامها، ولم تفتها تلك الابتسامة الخبيثة التي لاحت على شفتي "جميلة"..


وبلا شعور صدت للباب، ورأتهُ واقفاً وقد ضمّ قبضته لجانبه وانحرف فمه بزاوية حادة...


وضعت يدها على فمها وهي تشهق وتسب نفسها في سرها ومن أخترع الأبراج ووضعها في الجرائد!!!


- أ..أ...أ.. هذا كان..كان برجي أنا. وابتسمت ببلاهة وهي تشير لصحيباتها كي يؤيدنها لكن أحداً منهن لم تنطق بكلمة.


ملامح وجهه الجامدة جعلتها تزدرد ريقها وتبتلع ابتسامتها البلهاء.


- تعالي إلى المكتب فوراً. قالها بصوتٍ آمر مليء بالوعيد.


وانصرف إلى الداخل..


- ماذا أفعل، أشيروا علي، ثم لماذا لم تخبروني، أشهد ألا إله إلا الله، منذُ زمن والنحس مكتوب على جبينك يا "ندى".


وأخذت تندب حظها العاثر و"أشجان" تحاول تهدئتها:


- لقد جاء على حين غرة، ثم لقد أشرتُ عليكِ بأن تتوقفي لكن صفحة الجريدة كانت تغطي وجهك بأكمله.


- ماذا يقول برجكِ اليوم: هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. قالتها "جميلة" بإستهزاء وتشفٍ، ثم أردفت:


- صدق تعالى حين قال "كذب المنجمون ولو صدقوا".


لم ترد عليها "ندى" بل أخذت تحدجها بنظرة نارية وهي تود لو تنقض عليها وتملأ وجهها بعلامات خضراء وزرقاء بدلاً من ألوان المكياج التي تصبغ بها وجهها كل يوم.


التفتت لأشجان وهي تسألها:

- ماذا أفعل الآن؟!

- أذهبي له الآن..

- ماذا؟!


وكأن أفعى لدغتها، أحنت جذعها لتحكم إرتداء لحذائها، قالت دون أن ترفع رأسها:


- أذهب إليه وهو في هذه الحالة؟!! مستحيل.


وسحبت حقيبتها والجريدة بعد أن جعدتها بغيظ:


- أنا سأعود إلى البيت الآن، بعد يومين لدي حفلة إحدى قريباتي و أريد أن أذهب هناك وأنا سليمة، مع السلامة.


- انتظري...


- قولي له معدتها آلمتها، أخاها عاد من السفر، دهستها سيارة، أي شئ...



وانصرفت عنهم وهي تهرول حامدةً نجاتها، تاركةً بركان الغضب ينتظرها هناك لوحده!!!



===========



سمعت طرقاً على الباب، عادت لتتدثر وتصمّ آذانها وتتظاهر بالنوم من جديد:


- "غدير" هذا أنا خالك افتحي الباب.


فزّت من فراشها وقد بدأت تقضم أظافرها دون شعور:

- غدير!!

- لحظة، لحظة، سأفتح الآن..


تلكأت كثيراً قبل أن تمسك إكرة الباب، طأطأت رأسها وهي تتحاشى النظر إليه....


جلس على الكرسي المقابل للمنضدة أما هي فاحتارت...


أتقف أم تجلس على حافة السرير، أم ترمي بنفسها من النافذة وترتاح من الموقف برمته!!!!


كان يتأملها، ويتأمل علامات الشعور بالذنب الذي أنطبعت على وجهها حمراء قانية...



الصمت بينهما طال، كلاهما سارحٌ بفكره، ولكن ما أصعب الانتظار..


الكلمات لا بد أن تُراق بسرعة، بسرعة، حتى يكون أثرها قاضياً مميتاً، ربما بعدها يلتأم الجرح دفعة واحدة!!


والنزف، النزف فلتكن حذراً منه، إياك أن تقترب منه، فغبار الأيام كفيلة بأن تثيره، وتجدد ثوب حزنه من جديد...


لكن المشكلة تكمن في نوع الجرح، أليس كذلك؟!


أهي جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!


طال الصمت وآن لهُ أن يقطع، والمجرم لا بد له أن يتكلم، أثمه يخنقه، يضيق عليه الخناق...


دعه يتحدث لعل مطرقة الضمير تتنحى عنه، فلقد أعياها وأثقل همها..


الحروف تخرج مترددة، مبعثرة، خجلة هي من نفسها:


- خالي، أنا..أنا...


لكنها لم تستطع أن تكمل، ماذا تريدونها أن تقول؟!

تنهد وهو يربت على ركبته:

- بعد الذي حدث البارحة لا بُد أن يتمم هذا الزواج.


- لا أرييييييد.


وانكبت على قدميه وهي تنتحب:

- لن أخرج من هنا حتى، سأحبس نفسي، ولكن لا، لا توافق يا خالي.

- لماذا يا ابنتي كل هذا؟! لماذا تتعبين نفسك وتتعبيني؟!


- أنا قلتُ لك، نحنُ..نحنُ مختلفان.

- لكنكما تزوجتما وانتهى الأمر، ليس من المعقول أن تبقيا هكذا للأبد.

- ..................

- ثم لا بد أن تتابعا حياتكما، كلٌّ له حق بأن يعيش..

- فليكمل هو حياته، أنا مرتاحة هكذا، فليطلقني، أجل يطلقني ويذهب كلٌّ في حال سبيله.


- ماذا تقولين؟! لم يمر أسبوع واحد على قرانك وتريدين الطلاق؟! وبهذا السن الصغيرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.


"ليتني لم أوافق منذ الأساس، ليتني"..


- أنا أقبل بأي شئ إلا هذا، أتوسل إليك يا خالي، أتوسل إليك.


ودفنت رأسها بين قدميه، وهي تتشبث به بإستعطاف...


جثا للأرض وهو يمسحُ على شعرها، رفع وجهها المبلل بالدموع:

- لا تتوسلي يا ابنتي، وسيكونُ لكِ ما تريدين، ولكن اعلمي ستكون هذه آخر فرصة لكما، إن تكرر ما حدث بالأمس، سأبتُ في الأمر.


- حـــ....حسناً..


ربت على ظهرها لكي تقف على قدميها من جديد...


كان يتنهد كل حين وكأن شيئاً يضايقه، وكأن الأمر برمته لا يعجبه....

- هيا قومي لتتناولي إفطارك.


- لا أريد...ليس الآن.

"ربما لحين أن يذهب ذاك إلى عمله".


- طيب سأترككِ، ولا حاجة لأن تحبسي نفسكِ هنا.


هزت رأسها بإيجاب دون أن تؤمن فعلاً بإماءتها...


وما أن خرج وابتعدت خطواته حتى أوصدت باب غرفتها من جديد...


تنهدت هي الأخرى وهي تلهج بالحمد، لقد نجت بأعجوبة!!!


لكن تنهيدتها لم تكتمل، إذ سرعان ما سمعت صوت "عمر" يرتفع شيئاً فشيئاً، وكان يقول شيئاً عنها...

أخذت تدور في الغرفة بتوتر وهي تقضم أظافرها من جديد، وما هي إلا ثواني حتى سمعت طرقاً عنيفاً على الباب..


توقفت في مكانها وقد أخذ منها الخوف مأخذاً كبيراً...

- من؟!

- لا تتظاهري بالغباء.

- ماذا.. ماذا تريد؟

- أحقاً لا تعرفين!! صاح فيها بشراسة.

- قلتُ لك لا تتعب نفسك معي.

- أنتِ مجنونة.

- أجل مجنونة، أتريدُ الزواج بمجنونة؟!

- بودي ذلك كي أعالجك.

- أليس لديك كرامة، أقولُ لك لا أريدك، لا أريدك، أتريدني أن أصرخ عالياً علك تفهم.

- اسمعيني هذا الزواج سيكتمل شأتِ أم أبيتِ، وتوجد طرق كثيرة لإجبارك على ذلك..

- أنت شخص لا تُطاق.


- لديكِ 4 جدران في غرفتك، أليس كذلك؟!


لم تفهم مغزى سؤاله لكن أجابته بنعم.

- وباب أيضاً؟!

- نــ..عم..

- اضربي رأسكِ بأياً منهم.



وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...


مستحيل، هذا الرجل مستحيل!!



وقطع صوت ندى خيالاتها...

- لحظة، لحظة.

ولجت إلى الداخل وهي تتنفس بسرعة:

- أعوذُ بالله..

نظرت إليا "غدير" بتساؤل:


- بعلك العزيز كان سيقطع رأسي منذُ قليل.


تجاهلت "غدير" كلمة "بعلك" وعادت لتستفسر:

- لماذا؟!

- لأنني سألتهُ كيف حالك!!


ثم أردفت وهي تلقي بنفسها على السرير:

- الإجرام تفشى في كل مكان، في البيت، وفي المكتب..


أخذت "ندى" تثرثر عما حدث لها اليوم، والأخيرة لا تسمع، كان ذهنها منصرف للذاهب منذُ قليل، في حديثه، في تهديده المبطن...


أتراها ستنجو فعلاً؟!

أتمنى ذلك.....


==============

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 04:32 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
Wink

 

- لكنك وعدتني.

- لقد اتفقنا بعد شهر وليس بعد مرور أسبوع!!!


- أنت لا تفهم، لم لا تحس بي، لم تستصغر هذا الأمر، أينما التقيتُ إحدى صديقاتي يسألنني: ألم تحملي بعد؟! وأمي تسألني وأقاربي كذلك، أكادُ أجن..


- .........................


- وأنت ليس لديك إلا اصبري واصبري، لم أنت خائف هكذا؟!


وانتفض "ناصر" في مكانه وكأن أفعى لدغته:

- ماذا تعنين بحديثكِ هذا؟!


صمتت وكأنها أحست بفداحة ما قالته، لكنهُ لم يمهلها لتعتذر:

- لا تظنيني من هؤلاء الرجال الذين يقيسون الرجولة بهذا الشئ، لو كان بي عيباً لكنتُ أول من أخبرتك..


- "ناصر" أنا...

- يكفي، لقد أفضتِ أم لديكِ المزيد؟!


طأطأت "شيماء" رأسها خجلة من نفسها:

- على العموم سيكونُ لكِ ما تريدين، واليوم إذا شأتِ حتى لا تظني أني أتهرب..


- أ..أ.. اليوم سنشتري فساتين لحفلة الغد.


- ..........................

- ألن تذهب بي إلى السوق؟


- ...............

- ناصر؟!

- نعم. رد بضيق.

- هل أنت غاضب مني؟

- كلا.


- ناصر، لا تكن قاسياً علي هكذا.


واقتربت منه وهي تذرف "دموع التماسيح"، قالت بإستكانة:


- إذا لم تسامحني فلن أذهب لحفلة الغد.


ولأنهُ يعرفها، أخذ يجاريها وهو يخفي ابتسامته:

- لا تذهبي..

- هذا يعني أنك لم تسامحني.

- بل سامحتك، ولكن لا تذهبي.

- ولكن، ولكن، "ندى" ستذهب، حتى "غدير" ستذهب هي الأخرى، ماذا سيقول عني الناس؟!

- قولي هذا من البداية..

- ناصر!!

- آه منكن!!!




=============


- هيا يا غدير لقد تأخرنا.

- لا أريد..لا أدري.

- تريدين أن تبقي لوحدك في البيت مساء الغد.

- لا.

- إذن؟!

- من سيوصلكم؟!


- قلتُ لكِ ألف مرة "ناصر" و "عمر".

- ولم لا يوصلنا "ناصر" فقط؟

- وهل سيبقى "ناصر" لوحده في المجمع ونحنُ ندور في المحلات!!


سحبت "غدير" خمارها وهي تدمدم، إنها خائفة من مقابلته وجهاً لوجه بعد آخر حوار دار بينهما، لكنهم ليسوا لوحدهم، سيكون الجميع معهم....


سارت وهي تطمأن نفسها، ألقت السلام بصوتٍ لا يكاد يبين وهي تلج داخل السيارة...


كانوا يتسامرون ويتضاحكون حتى هو، وكأن شيئاً لم يكن!!


بقيت صامتة وهي تنصت لأحاديثهم وعينها على المرآة والسائق!!!

"حتى لم ينظر إلي، غريبٌ أمره"..


ووصلوا إلى مجمع "..."، تقدمت النسوة أماماً والرجال يتبعنهم، لم يتركوا ركناً إلا دخلوه...


كانت "غدير" تتابع بملل الملابس المعروضة بعكس "شيماء" و "ندى" اللتان أخذتا تبحثان بحماس عما يليق وفي أيديهم عشرات القطع!!!


ولفت انتباهها فستاناً ما، اقتربت لتتفحصه...


لونه أسود بغموض الليل، ملمسه أثيري ينزلق بسرعة عند لمسه...


كان بسيطاً في تصميمه، حتى التطريز لم يكن ملفتاً للنظر...


أخذت تقلبه وقد بدأ يروقها، لكن شيئاً ما فيه استوقفها وجعل يدها تتوقف فجأة!!


"لا يوجد شئ كامل، لا يوجد، حتى الفساتين!!"..


- ماذا؟! هل أعجبكِ هذا الفستان؟! سألتها "ندى" وهي تتفحصه هي الأخرى.

- إنه جميل، لكن....

- لكن ماذا؟! لا تتعللي، لقد حل المغرب الآن، والحفلة غداً وليس بعد أسبوع.

- لو كان مقفلاً من الخلف لأخذته..

- وماذا في ذلك؟!


- أنا لا أحب هذا النوع من الملابس.

- أيتها الغبية، تلك كانت ملابس جدتي، ثم كل الفتيات يرتدين هكذا، ألم تشهدي أعراساً من قبل.


"بلى، بلى شهدتُ واحداً، وكان عرسي!!"...

- كلا، سأبحث لي عن شئ آخر..

- انتظري لا تتركيه، إن ابتعدتِ عنه الآن، لن تجديه، سيتخطفهُ غيرك...


"هذا فستان أم قطعة لحمة؟!"...


- اسمعي، بوسعك أن ترتدي عليه وشاحاً بمثل لونه، لدي واحد في خزانتي..

- ألم تنتهين بعد، لقد أصابني الدوار من السير وراءكن.


أتاهم صوت "عمر" مزمجراً من الخلف، فغضت "غدير" بصرها بإرتباك، ردت "ندى" مدافعةً عن نفسها:

- أنا قد انتهيت و "شيماء" منذُ قليل، زوجتك هي من أخرتنا..


لكزتها هذه الأخيرة بمرفقها، فصاحت متوجعة، أما "عمر" فلانت ملامحه الغاضبة وقال بهدوء:

- ألم يعجبكِ شئ؟!


تطلعت "غدير" إلى "ندى" لكأن تنتظر منها أن ترد.


- إنهُ يسألكِ أنتِ وليس أنا.

تطلعت للأرض وهي تهمهم بصوت غير مسموع...


خاطبت "ندى" أخيها بعد أن امتنعت تلك عن الكلام:


- لقد أعجبها هذا الفستان لكنها تقول...

ولم تكمل، إذ سرعان ما وضعت "غدير" كفها بسرعة على فم "ندى" مانعةً إياها من أن تنطق المزيد..


تطلعت إليه لأول مرة منذُ الأمس ووجهها يتضرج إحمراراً:

- سآخذه، لقد انتهيت من الشراء، أليس كذلك؟!


هزت "ندى" رأسها بالإيجاب وهي تكاد تختنق...


أما "عمر" فقد بقي ينظر إليهما بدهشة وهما تبتعدان وكلٌّ منهما تدفع الأخرى...



وجالت عبارة "أصحاب العقول في راحة!!!" في ذهنه طويلاً....


تُرى من قالها؟!!


===========



وضعت "ندى" العذر الطبي الذي أخذته بالأمس من الطبيب في حقيبتها كي لا تنساهُ في الغد....


لقد غابت يومين كاملين عن العمل بحجة المرض ، وأغلقت هاتفها كي لا تتصل لها تلك "العقربة" أو "أشجان" ويخبرنها بردة فعل المدير فتفسدان عليها فرحتها...


فلتهنأ براحة البال ولو مؤقتاً، فالليلة حفلة ولا بد أن تكون هي النجمة بلا منازع!!!


أخذت تتطلع إلى نفسها في المرآة، تستوثق من ملابسها و مكياجها، تضيف وتمسح، وهكذا دواليك!!


وفي الجانب الآخر، كانت "غدير" حابسةً نفسها في الحمام، لا تفتأ أن تثبت الوشاح حولها بضيق، فوجوده أو عدم وجوده سيان!!!


ماذا تفعل الآن؟!


إنها لا تتبع إحساسها، لا تتبع حدس الأنثى أبداً!!


كيف ستخرج، مستحيل أن تذهب هكذا، هذا من رابع المستحيلات!!

ودت أن تلقيه في القمامة، لكنها استدركت نفسها، فهو ليس ملكها...


فتحت إكرة الباب وهي تنادي:

- "ندى"...

- نعم، ماذا تريدين؟

- وشاحك هذا لا ينفع؟!

ردت عليها وهي تعقص رموشها:

- إذن لا تلبسيه.

- ماذا؟!

- لم تعطين المسألة أكبر من حجمها الحقيقي، يا ماما هذه حفلة نسائية..


- أنتِ لا تفهمين..

- أفهم ماذا؟!


- لا شئ...
-

- لم أتوقعكِ هكذا من العصر الحجري مثل مديرنا.. قالتها بصوت هامس، ثم هزت رأسها لكأنها تريد أن تنفض ذكراه من ذهنها.


- والحل؟! سألتها بنفاذ صبر.

- أخرجي وسأجد لكِ حلاً بإذن الله..


ترددت "غدير" كثيراً في الخروج، لكن ما باليد حيلة، لفت الوشاح عليها من جديد وهي تمسكه من الخلف كل حين...


وما أن خرجت حتى صفرت "ندى" تصفيرة إعجاب "فاشلة":

- تبدين رائعة.

- شكراً. ردت "غدير" بتواضع، ثم أردفت:

- وأنتِ أيضاً.

تطلعت "ندى" لنفسها بزهو في المرآة وهي تقول وابتسامة كبيرة على وجهها:

- بالتأكيد هذا أمر لا نقاش فيه!!!!!!!

- والآن جدي لي حلاً يا "أبو العريف"..

- استديري لأرى..


- اعطني وشاحاً آخر أكبر من هذا فقط..

- ما بك؟ سأتأكد أولاً أي الأحجام تناسبك..


عادت "غدير" لتثبت الوشاح جيداً بيدها اليمنى بإرتباك، ونظرات "ندى" المستغربة لم تساعدها...

- أ..أ..ستــ..ستعطيني وشاحاً آخر أم..أم لا؟


هزت "ندى" كتفيها وهي تتنهد من غريبة الأطوار هذه:

- لحظة واحدة...

فتشت في ملابسها المبعثرة إلى أن وجدت شيئاً مناسباً..

- خذي هذا..

تناولته منها بسرعة، وعادت للحمام مرة أخرى ونظرات ندى التي كادت أن تقع تلاحقها...


وأخيراً خرجت وفي وجهها شئ من الرضا وكثير من الإحراج...


لكن "ندى" لم تعلق وعادت ترتب خصلات شعرها المتناثرة بتمعن مصطنع..


جثت "غدير" لتبحث عن حذائها الأسود المخبئ أسفل سريرها، وبينما هي منشغلة في البحث، غافلتها "ندى" بحركة مفاجئة وسحبت وشاحها، وهي تضحك بلؤم:

- ألديك وشــم أم...


لكن ضحكتها لم تكتمل، إذ سرعان ما شهقت بقوة وهي تسقط الوشاح من يدها...


وضعت يدها على فمها وهي تتراجع إلى الخلف حتى اصطدمت بالباب:

- آنا آسفة، لم...لم أقصد، يا إلهــي...


وفرّت من الغرفة وهي تحبس دمعة خانتها على حين غرة...


أما تلك القابعة ليس ببعيد، بقيت هكذا ردحاً من الزمن جامدة في مكانها وهي تمسك ذلك الوشاح المتطاير...



الأيام لا تخبئ أحداً، أليس كذلك؟!!




كانت يدها اليسرى ممتدة على حافة السرير، و الأخرى قابضة على عنقها المطرق إلى الأرض بوهن.


نظرت بذبول إلى القدمين اللتين اقتربتا منها بوجل، رفعت رأسها فجأة فاصطدمت بتلك العينين الخضراوين، في مرآتهما تساؤل وشفقة و......!!!!


ابتعدت لاشعورياً عن السرير وجسدها يرجف من الهلع، دنا منها فصاحت بصوتٍ مبحوح:


- ماذا تريد أنت الآخر؟!


- لم آتِ لشيء، اطمأني..


- أ..أخرج، أخرج من هنا.


- أريني ما بظهرك أولاً.


- ليس بي شئ أتسمع.


- لا تخافي لن أفعل شيئاً، لن أقترب حتى، أريني من بعيد.


تراجعت إلى الوراء وهي تضم يديها خلفها، لصقت نفسها بالجدار وصدرها يعلو ويهبط بقوة واحتقان...


- لا تقترب مني ولن أريك شيئاً، أخرج من هنا، أرجوك أخرج....


- لن أخرج قبل أن أطمأن عليكِ..

- قلتُ لك ليس بي شيء.

- إذن أريني...


جالت ببصرها حول الغرفة بيأس، ثم نظرت إليه وهي تقول له بإستعطاف:


- أرجوك أخرج قبل أن يأتي خالي، أتوسل إليك.


لم تنتبه إلى وشاحها الحريري الذي انحسر فجأة عن كتفيها، ملس بسهولة، انزلق حتى وصل لأصابع قدمها ثم تدحرج بعيداً عنها......


حاولت أن تثني جذعها لتلتقطه، لتلفه عليها من جديد، لكنه سيراها، سيرى ما بها، تطلعت إلى الوشاح بعجز ثم هزت رأسها بألم.



ركع للأرض وانتشله، نظر إليه مطولاً ثم مده إليها، يداها لاتزالان مضمومتان إلى الخلف، تحيطان بظهرها، نزعت إحداها وهي تشعر بالثقل، مدتها وما أن لامست أصابعه حتى شدها إليه وبقوة......




ارتطمت به بفعل القصور الذاتي، مسكها من كتفيها كي لا تسقط، حاولت أن تبعده، أن تدفعه، لكن يداه كانتا كالصخر...


ضربته بما تبقى لها من قوةٍ متلاشية، ضربته بجنون وهي تحاول التملص منه....

صرَّ على أسنانه وهو يهزها:


- اهدأي ...


- دعني، خاليييييييييييي.


لم ينصت لها، أدارها ليرى ما كانت تخفيه، مرّت ثانية و لم تشعر إلا بوقع أصابعه تنغرز بقوة على كتفيها...


الجسد يرجف، ينوءُ بما يحمل، سكنت عن المقاومة، اهتز جسدها بقوة ويداه لازالتا مثبتتين تمنعها من السقوط أو الهرب....


بكت بصمت وإن أفلت منها صوتٌ متقطع...


أحست بالعار، بالمهانة، ها هم اكتشفوا أحد أسرارها الخاصة بها وبأوراق دفترها، ماذا سيبقى لها بعد إذن؟!!


أتاها صوتهُ أجشاً كابتاً إنفعاله:

- من فعل بكِ هذا؟

غطت وجهها بكفيها، أتاه صوتها متقطعاً، راحلاً، غائباً في زمن لا يملك إلا الغبار!!!


- لا...لا أحد..

- كفي عن الكذب.


حاولت أن تبتعد عنه.


ردّ بإصرار:


- ليس قبل أن تخبريني، حميد، أليس كذلك؟


سكنت حركتها وكأن اسمه كان كفيلاً بإيقاف أي شئ، أي شئ...


- متى وكيف ولماذا؟ أجيبي...


الأسئلة تتوالى، تتدافع بقوة زخات المطر، وسيلان السم!!!


الجروحُ تنكأ، والماضي يُنبش، ولم يتبقى من الورق الشئ الكثير!!!


أمسكت عنقها وهي تشعر بالإختناق، أدارها لتنظر إليه....


أبعد يدها عن جيدها:


- أخبريني بما حدث..

- ليس لدي شئ لأخبرك إياه.


عاد ليهزها من جديد، لكنها كانت تصرُّ على شفتيها من جديد:

- لن أدعكِ إلا بعد أن تخبريني بما حدث.


- ماذا أقولُ لك. صاحت في وجهه وقد عادت إليها نوبة الشراسة.


- أبي قد يأتي في أي لحظة!!! قالها بتهديد.


عادت لتحاول سحب يدها وهي تنادي بندى وشيماء لكن أحداً منهن لم يكن ليسمعها...


تطلعت إلى العينين الصارمتين بيأس وهي تتلفت كل حين خشية أن يأتي خالها، صرخت بألم:

- تريد أن تعرف؟!

- أجل. رد بهدوء.

تنفست بتقطع وهي تطالع البعيد:

- هو طلب مني أن أكوي له ثوبه، صدقني لم أكن أقصد أن أحرقه، لا بل قصدت، لا بل لم أكن أقصد، كنتُ أتمنى حرقه في خاطري ولا أدري كيف أحترق..


أرخى ذراعيه شيئاً فشيئاً فهامت روحها، ارتحلت لبضع سنين إلى الوراء، حين كانت تملك جديلتين، جديلتين فقط!!!


الصوت يبتعد، يخبو، والعينين تدكنان وتعكسان صفحة ألم:


- ضربني ووضع المكواة على ظهري و....

ورفعت رأسها إليه وهي تردد ببطء، ثم ما لبثت أن هزت رأسها بعصبية:

- حرقني، حرقني، طبع على ظهري العلامة الكريهة، بتُ أكره نفسي، أكره أن أراها في المرآة...


شدته من ياقة قميصه بعنف، الصور تتضح، تومض وتنطفئ، ولم يتبق من الألوان إلا الأبيض والأسود!!


- وهي، هي، لم تفعل شيئاً، لم تقل له شيئاً، فقط وضعت لي مرهماً، حتى المستشفى لم يرضى أن تأخذني إليها، وتقول لي إنها أمك، وهي مسكينة!!!!


وحينها فقط أفلت يدها....


وانزوت بجانب سريرها تبكي بصمت...


بقيا هكذا زمناً ليس بطويلاً...


جثا بجانبها وبيده وشاحها، خاطبها بحنان:


- خذي، ارتدي هذه وامسحي دموعك.


لكنها لم تستجب، فألقاه في حجرها وهي تزداد انكماشاً..

- هيا قومي، لقد بدأ الحفل..

- لن أذهب.

- بل ستذهبين.


رفعت رأسها، وقد بانت ابتسامة على محياه بين غلالة دموعها..

- ألا تريدين أن ينبهر الجميع بجمالك كما تقول "ندى"..


أشاحت بوجهها كي لا ترى عيناه، كي لا تؤثرانِ بها!!!


مدّ لها منديلاً ورقياً، فأخذت تمسح وجهها، لكن ما أن رأت ما علق به حتى شهقت:

- مكياجي؟!


رفع كتفيه بإستسلام، أن لا حيلة لي...


وأنهضت نفسها بسرعة وهي تنظر لنفسها في المرآة، لكن صوت استنكارها احتبس في حلقها، بعد أن رأت صورته بجانبها....


كسا اللون الزهري وجهها، فعادت لتتلعثم:

- لو سمحت...

- ماذا؟
- أخرج من هنا..

- لماذا؟!!!

- لأسباب كثيرة..

- مثلُ ماذا؟!


تطلعت إليه بحنق من أسئلته السخيفة، ثم عادت لتصرخ:

- هيا أخرج...


وابتسم لها بإغاظة وهو يشير لها بعينيه الأثنتين..


تابعته إلى أن وصل الباب، لكنهُ تلكأ وعاد ليقول:

- لقد نسيتُ شيئاً..

- ماذا؟!


- أن أقول أنكِ تبدين جميلة جداً هذا المساء....


وانصرف!!!


وأُسقط في يدها....



"صدقني يا عمر، أنا لا أستحقك!!!!!"....




=================


علا كثيراً بيننا الغبارُ
وضيّع اليقين الاستكبارُ


فأنت لم تنجح أمامي مرةً
وكل يومٍ بيننا اختبارُ

ما عدتُ أدري هل أقول: يا أخي
بالحبّ أم أقول: يا جبّارُ!!!


==============
(9)



وصلت "ندى" وقلبها المخلوع يسبقها إلى الشركة، أخذت تفتح شنطتها كل حين لتتأكد من وجود العذر...


استقبلتها "أشجان" عند الباب بحرارة وهي تضربها على كتفها بخفة:


- لقد اشتقنا لكِ كثيراً، العمل ممل بدونك، هذه آخر مرة تغيبين فيها..

- ليس باليد حيلة، تعرفين كانت لدينا حفلة..


وتطلعت إلى "العقربة" التي كانت تحدجها بطرف عينها وهي تمطُّ شفتيها:


- لديكم حفلة أم خائفة مما جنتهُ يداكِ؟!

- أنا لم أفعل شيئاً لكي أخاف، أسمعتي؟!


- ولم وجهك مخطوف هكذا إذن؟!

- من رؤية وجهك السمج.

- ومن تحسبين نفسك؟! السفيرة عزيزة. قالتها بسخرية.



أمسكتها "أشجان" قبل أن تنقض عليها بأظافرها:

- ابتعدي عني، دعيني أؤدبها..

- أدبي نفسكِ أولاً..

- لا، هذا كثير..


وأفلتت من قبضة "أشجان" وهي تتوجه إليها كالسيل الهادر، غرست إصبعاً غاضبة في جبهتها وهي تقول بتهديد:


- لقد تغاضيتُ عنكِ كثيراً، ليس لشخصك فأنتِ بالنسبة لي لا شئ، ولكن احتراماً لذاتي لأن ليس من مقامي أن أُخاطب مثلك..


أبعدت "جميلة" إصبعها بقرف:


- و مثلك لا يشرفني أن تلمسيه.


- لأنكِ قذرة.


- أنتِ قليلة أدب.


ردت عليها ببرود:

- والدي رباني جيداً، ليس مثلك أخرج كل يوم أمام الرجال بهذا الوجه المصبوغ.


هرعت "أشجان" لتقف بينهما كي لا يتطور النقاش أكثر:

- أهدأن، هذا الكلام لا يجوز.


وتعالى صراخ الفتاتان وكلٌّ منهما تشتم الأخرى بقاموسها الخاص دون أن يبالين بصياح "أشجان" الغارقة بين دفتي بركان..


خرج المدير بعد أن وصل الأمر بينهما إلى تكسير المزهريات وتقذيف الأقلام!!


- ماذا يجري هنا؟! صاح بغضب.


- هي من بدأت أولاً. ردت "ندى" وهي تلهث.

- كذابة.


- أتنعتينني بالكذب؟!


- أصمتا كلاكما، ألا تخجلن من أنفسكن في هذا السن وتتشاجرن!!!


- هي من تفتعل المشكلات دائماً، انظر حتى أظافري تكسرت.



وقربت "ندى" يديها من وجهه وهو يطالعها بإستغراب:


- لقد دفعت 4 دنانير بأكملها من أجل "الم****ير". قالتها بحرقة.


وصمت مشدوهاً من تصرفاتها الخرقاء، ثم ما لبث أن قال بحزم:


- أنت ِتعالي إلى مكتبي.


- ولم أنا دائماً؟! صاحت بإستنكار.



حدجها بنظرة ما فأسبلت عينيها بذل...


"أيها الظالم"..


- هيا تحركي.

- سألحقك بعد قليل أستاذ. ردت بإستكانة.


- بل الآن، أم تريدين أن تهربي كالمرة السابقة.


صمتت "ندى" وهي تبتلع كل شئ، لسانها، قهرها، وابتسامة تلك العقربة الخبيثة.




سارت أمامه وكأنها سجينة، أوصد الباب خلفه فقرأت الفاتحة في سرها ونطقت الشهادتين !!!


جلس على كرسيه الوثير، وبقيت هي واقفة بذّل دون أن تفوتها نظراته المتفحصة...


أتاها صوته خالياً من أي تعبير:


- أيمكنكِ أن تخبريني لم غبتِ؟

- كنتُ..كنتُ مريضة، لحظة...


وأخذت تفتش في حقيبتها عن العذر، لكن يدها العمياء لم تره، تطلعت إليه بإرتباك وهي تقول بتلعثم:


- لقد أحضرته معي، صدقني..

- أريني إياه إذن..


وعادت لتفتش بعد أن بعثرت محتويات حقيبتها وهي تجثو على الأرض...


ولكن المصيبة العظمى أنها لم تجده أيضاً!!!


أين ذهب؟!


- لا أدري أين طار.. قالت بصوتٍ متباكِ.


- ربما أخذه علاء الدين في طريقه!! رد بسخرية.


- والله العــظ...


- لا تحلفي، على العموم كل شئ سيدون في تقريرك، الإهمال، اللعب وعدم اللامبالاة، كل شئ سيُحتسب عليك.


- لكن هذا ظلم، ظلم، أنا لم أفعل شيئاً، والعذر كان بحوزتي قبل أن أراك..



- أنا لا يهمني هذا الكلام برمته، أنا تهمني الوقائع الملموسة بيدي، أتفهمين؟!



"أنا لا أفهم إلا شيئاً واحداً فقط، هو أنك بإختصار ****ررررررررررررررر"..


ثم أخذ يعبث في الحاسب الذي أمامه تاركاً إياها تغلي ودموع توشك أن تطفر من عينيها.


- أتعرفين برنامج SPSS أم لا؟!

- أجل أعرفه. ردت من طرف أنفها.

- إذن خذي هذه البيانات وأدخليها بدقة، أسمعتي!!

- ماذا؟! لكنني لا أعرف.

- لقد قلتِ للتو أنكِ تعرفين هذا البرنامج.

- أ..أجل، لقد أخذته فصلاً واحداً و لكنني نسيته فأنا لم أستخدمه بعد ذلك في مقرراتٍ أخرى..


- بودي لو تقولين لي مرة واحدة فقط عن شيئٍ تعرفينه!!


أحست بالمهانة، بالإحراج فأن تُطعن في قدراتك لأمرٌ مهين، ردت بكبرياء:


- أنا أعرف أشياء كثيرة مثل...


لكنهُ قاطعها وهو يكمل بسخرية لاذعة:


- مثل قراءة الأبراج والفناجين أليس كذلك؟!

- .............

- ماذا عن قراءة العيون، أوصلكم هذا التكنيك أم ليس بعد؟!


" وصلنا تكنيك "مُت بغيظك" !!!"...


- أستاذ أنا أنا...

- اخرسي...


"إلى متى؟!! سأصابُ بالخرس بسببك"


"في المرة القادمة سأضع لساني في "المفرمة" قبل أن آتي إلى هنا"...


- وإن كررتها مرة أخرى وذهبتِ دون إخطاري بالأمر شخصياً سيكون لي معك تصرف آخر...


"فالتذهب إلى أسفل سافلين، هذا هو مكانك الذي تستحقه"..



وعاد ليعبث في درج مكتبه، مدّ إليها بقرص:


- خذي هذه نسخة من البرنامج وطريقة استخدامه، أقرأيها جيداً ثم طبقي هذه البيانات.


أخذت تنظر إلى يده الماسكة للقرص بحقدٍ أسود:


- ماذا تنتظرين؟!


"أنتظر أن تموت وأرتاح منك"..


وسحبته بحدة وهي تضغط عليه بعصبية:


- احذري، ما بك؟! وأشار بأصبعه إلى رأسه..



الصرخة في جوفها تتلاحق، تكاد تنطلق من حنجرتها وتهدم هذا المكتب بمن فيه..


خرجت بسرعة من المكتب دون أن تغلقه، وما أن وصلت لطاولتها حتى صاحت:



- انتظر، انتظر فقط حتى تسلّم تقريري، لن أتركك وشأنك، سأفرغ كل النيران التي في جوفي بوجهك، فقط انتظر علي..


وعادت لتضرب بيديها على سطح المكتب بقوة:


- ماذا قال لكِ هذه المرة أيضاً؟! سألتها "أشجان" بشفقة.


- لا أدري لم يعاملني هكذا لوحدي، لم لا يأتمر عليكِ أو على تلك "العقربة"؟!


- اخفضي صوتك كي لا تسمعك، إنها في الحمام تضمد جراحاتها..

- أجيبيني لماذا؟!

- لا أدري..



جلست "ندى" بغيظ وإحدى يديها أسفل ذقنها واليد الأخرى تكادُ تحطم القرص!!!



=============




- ألم أقل لكِ أنهُ سيقول مثل هذا الكلام؟!


- فلنذهب إلى طبيبٍ آخر، أنا لا أثقُ فيه.


- اسمعي، إن بقيتِ توسوسين هكذا فلن يحدث شيء، الطبيب قال لا بد من الاستقرار النفسي وعدم القلق.


- ما يقوله هراء في هراء، كلام المجانين هذا لا أصدقه.


رد عليها بغضب:

- العلم يقول هذا، لا تكوني عنيدة.


وخرجت من السيارة بسرعة و صوت "ناصر" يلاحقها..


وما أن وصلت إلى غرفتها حتى أوصدتها بالمزلاج، ألقت بنفسها على السرير وهي تجهش بالبكاء..


- شيماء افتحي الباب.

- .................

- ماذا تريدين مني أن أفعل أكثر من هذا؟!


رفعت رأسها المثقل وصاحت بتهدج:

- نذهب لطبيبٍ آخر.

- كلهم سيقولون كما قال هذا الطبيب.


- لا بأس المهم أن أطمأن.


تنهد "ناصر" بإستسلام وهو يرد:

- حسناً، سنذهب فب الغد.

- كلا، ليس غداً بل اليوم.


أخذ يضرب بيده كفاً بكف وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم:


- إن شاء الله، سيكون لكِ ما تريدين.


أنهضت نفسها وهي تفتح الباب، لكنهُ لم يدخل:


- سأستأنف عملي الآن، انتبهي لنفسك..


وقفل عائداً من حيثُ أتى، راقبت خياله الذي يتهادى من بعيد..

- أنا لم أكن قاسية معه وهذا من حقي!!


=============




كان الأب جالساً وبجانبه "ندى"، تخبره عن مديرها وإن كان معظم ما تقوله ملفقاً!!


أخذت "غدير" تضحك بخفوت وهي تشير لها: أيتها الكاذبة.


وتلك لازالت تواصل الحديث عن أمجادها التي يفتخر بها المدير وكيف حاول إقناعها بإلحاح بأن تعمل هناك بعد أن تتخرج لكنها رفضت!!!!



- أتصدق يا أبي، أحياناً أصرخ عليه وأقول له أفعل هذا وذاك، ويفعله دون نقاش!!


- لا يا ابنتي، لا بد أن تضعي بينك وبين رؤسائك حدوداً مهما كانوا طيبين.



وأخذ يُلقي عليها بالنصائح و "ندى" تهز رأسها بإيجاب وهي ترفع حاجبيها كل حين إيماناً بما يقوله، و "غدير" توشك أن تنفجر من الضحك المكبوت...


أما "شيماء" فكانت ساهمة، شاردة في حديث الطبيب الآخر، فلقد قال كما قال الأول:

- الاستقرار النفسي قبل كل شئ...


وقطع صوت الهاتف أفكارها، فرفعت السماعة التي بجوارها:

- آلو.

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام والرحمة.


ثم سرعان ما أندمجت في الحوار:

- ماذا؟! أيّ واحدةٍ تعنين؟!

- التي ارتدت ثوباً أسوداً.


- امممممم، لكنها متزوجة.


وحينها التفت لها الجميع وعلى وجوههم علامات التساؤل والاهتمام.


- لا بأس، لا.. ليس بكِ حاجة لأن تعتذري.

- ...............

- مع السلامة.


ووضعت السماعة وهي توجه خطابها لغدير:


- لقد خطبوكِ!!

- ماذا؟! صاحت "ندى".


- أيُّ حديثٍ هذا الذي تقولينه يا "شيماء"؟


- صدقني يا عمي، المرأة اتصلت وقالت نريدُ ابنتكم التي كانت ترتدي ثوباً أسوداً واعطتني اسمها أيضاً.


ارتبكت "غدير" في جلستها وهي تنقل بصرها بين وجوههم، قالت وهي تحاول أن تلطف الجو:


- كثيراً ما يحدث ذلك في الأعراس. وضحكت بقلق ضحكة مبتورة.


- ترى ماذا ستكون ردة فعل "عمر"، إن علم بالأمر.


وحينها أنقبض صدرها وهي ترد بسرعة:

- ليس هناك داعي لإخباره.

- أيتها الغبية، لا بد أن تخبريه حتى ترتفعين في نظره أكثر وأكثر. عللت "شيماء".



- ولكن كيف لم يخطبوني أنا، لقد صرفتُ الكثير على مكياجي وملابسي كي تلقطني إحداهن!! تساءلت "ندى" بصوتٍ مسموع.


- بلا شك خالوكِ مجنونة، وهل يوجد فتاة عاقلة تصافح 400 مدعو وهي تنتقل كنحلة من طاولة لأخرى. ردت عليها شيماء.


- ألآ تفهمين، كنتُ أفعل ذلك كي أتأكد من أن الجميع شاهدني!!! ردت بغباء.



لم تلتفت "غدير" لحوارهما، كان همها ذاك الذي يخاطبها بحدة:


- كلا يا ابنتي، أنا لا أرضى لإبني بالمهانة، وأيُّ رجلٍ في العالم، أياً كان لا يرضى بأن يُطعن في كرامته.


- خالي، هم لو كانوا يعلمون أني من مذهب آخر، ما كانوا سيخطبوني..


- وإن يكن!! إلى متى سيستمر هذا الحال، لا أحد يعرف بهذا الزواج.


- خالي، أفهمني أنا..


- يكفي يا ابنتي، وأنا منذُ البداية لم أكن مرتاحاً لهذا ولكنني مررتُ الأمر، لكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فلا أقبلها لنفسي وأولادي.


- خالي...


لكنهُ قاطعها:


- أعتقد لم يتبقى على شهر "محرم" إلا 3 أسابيع، لذا جهزي نفسك بسرعة لأن زواجكما سيُشهر وعلى الملأ.



ونهض وتركها بعد أن أخذ منها شيئاً...


سلب منها روحها!!!

ماذا يتبقى من الجسد؟!



أتعرفون ما معنى هذا؟!


ما معنى أن أتزوج؟!


معناه أن أنتهي، أن أضيع...


في بدايتي نهايتي...


أم في نهايتي بدايتي؟!


أم ماذا؟!!



خالي!!! ماذا تقول؟!



يا روح هيمي، هيمي في ملكوتك..


ولتنثري جناحيك...


ما عاد هناك المزيد من الوقت...


الفراشات ولت، والغربان بدأت تحوم...


يا روح هيمي، الظلال تنتشر...


ولن يتبقى في السماء نجمة...


ها هي الغربان تعود...

ولكن!!!


روحك ما جرى بها الآن؟!!


أيّ جناحين متكسرين تلك التي تطوينهما...



لذا ارحلي بعيداً..بعيداً...


حيثُ لا نجوم، لا أحد!!!



تطلعت إلى "ندى" و "شيماء" بوجه غائم، لكأنها تطلب منهما أن تلحقا به، أن يحجم عن قراره!!!



أن تُخبراه أن الفراشة بلا جناحين، بلا روح!!!


لكنهما كانتا تتجادلان دون أن تنتبها لخطاب العيون الموجه إليهما...



الجو يبدو كئيباً، مظلماً، والقلب لا يتوقف عن الخفقان، وجميع الحواس مُستثارة، متيقظة على أهبة الاستعداد للسفر، للرحيل!!!!


لا، مستحيل، لا لالالالا...


جمعت يدايها بجانب صدرها، تنفسها بات سريعاً، متقطعاً، وشعور بالغثيان يرافقها كل حين...


الشعور بالإختناق يتصاعد، لكأن الأوكسجين نفذ من هذا المكان، والأظافر بدأت تُقضم، لم يتبق منها شئ!!!


وتوقف الزمن برمته، توقف بعد أن لاح صاحب تلك العينين الخضراوين بقامته الطويلة عند باب المجلس...



وما أن رأته "شيماء" حتى هتفت:


- "عمر" صدق أو لا تصدق؟!

- ماذا؟

- لقد خطبوا زوجتك منذُ قليل!!

- ماذا؟


وصدَّ لغدير التي سرعان ما أن طأطأت رأسها للأرض حيث هوت الروح!!!


أما هو فتحولت ملامح وجهه الدهشة إلى الغضب وهو يستمع لإعادة الحديث الذي دار بين أسلاك الهاتف.


- لمَ لم تقولي لها أن لديها ابنة خال عازبة حتى تأتي و تخطبني؟!!!!!


أخذت "ندى" تقاطعها كل حين بهذا السؤال الملح والأخيرة لا تُجيبها.



- أنتِ سعيدة بلا شك؟! وجه خطابه الغاضب لتلك الغارقة في اللاشئ...


أصابعها تقبض على الأريكة بتوتر، والصوت يحتبس، ضاع هو الآخر مع الحواس..


لالالا، مستحيل، مستحيل...


وقال شيئاً جعل حواسها تستيقظ، تعود لتنشب أظافرها من جديد ولكن في قلبها!!!



و رفعت رأسها بسرعة لترى طيفه الغاضب يبتعد حيثُ غرفته...


فزت من مكانها وأخذت تهرع إليه وهي تناديه، لا بد أن تفعل شيئاً لا بد، وهو القادر على حسم الموضوع....


أجل، لا بد!!!



كلهم انصرفوا ولم يتبقى إلا "ندى" و "شيماء"...


كانت هذه الأخيرة تتنهد بإستغراب من تصرفات "غدير"، لكن تنهيدتها قطعها صوت صياح "ندى":



- يا ناااس أريدُ أن أتزوج أنا الأخرى، ظلم في كل مكانٍ ظُلم!!!!


نهضت هي الأخرى مفزوعة وهي تردد في نفسها:

- كلهم مجانين، لا حول ولا قوة إلا بالله...



==============



- عمر، عمر انتظر. صاحت وهي تحاول اللحاق به.


استدار لها وقد دكنت عيناهُ الخضراوين:


- ماذا تريدين؟! أن يكتمل طابور خطّابك!!


- ما حدث كان إلتباساً ليس إلا، تعرف أنا...


لكنهُ قاطعها بصوتٍ غاضب جعلها تجفل:

- هذا الموضوع انتهى، وكان من المفروض أن ينتهي منذُ زمن، أتفهمين.


- قلتُ لك نحنُ لا نليق ببعض... أخذت تردد ذلك وهي تضرب بقدمها الأرض.


- أعذارك الواهية هذه ضعيها تحت وسادتك قبل أن تنامي!!!



وأراد أن يدخل غرفته فاستوقفته من جديد، وهي تقول له بتوسل:


- لننسى كل ما حدث، لنكن كالسابق أقارب فقط، أرجوك.


أمسك يدها وهو يهزها بعنف:


- تريدين أن أنسى أنكِ زوجتي؟! أن أنسى أنكِ لا تبعدين عني إلا مسافة باب واحد!!!


حاولت أن تسحب يدها وهي تصرخ:

- لا تُعد علي هذا الكلام....يا أخي أنا لا أطيقك، أنا أكرهك، أكره أن أراك حتى..


- أولاً أنا لستُ أخاكِ أنا زوجك، ثانياً حبك لي أو كرهك لا يهمني في شئ..


- أليس لديك ذرة إحساس واحدة؟!


- إحساس؟!! أنتِ آخر من يتكلم عن المشاعر يا قالب الثلج، انظري لي جيداً، انظري لوجهي، أأخلو من الإحساس..


- ..............................


- واجهيني إن أستطعتِ، لا تفتأتين أن تدفني رأسكِ كالنعامة.. قالها بشراسة.



تحاشت نظراته وهي تحاول أن تتمسك بأي شئ، أي شئ...


- أتعلم، في شهر محرم لا أرتدي إلا السواد، ما ستراه هو أسود في أسود..

- .......................


- وربما أمدده حتى "صفر"، تعرف لدينا وفيات كثيرة في هذا الشهر أيضاً.


- ....................

- لم لا ترد؟! أيعجبك هذا؟!!



- افعلي ما تشائين، أنا لستُ ديكتاتورياً. رد ببرود.


- كما أنني فاشلة في كل شئ، حتى البيض لا أعرف كيف أسلقه.


- المطاعم كثيرة والحمد لله، هل انهيتي سخافاتكِ أم لا، أنا متعب وأريد أن أنام.



نظرت إليه دون تصديق وهي تعضُّ على أناملها دون وعيٍ منها:

- أنت مخلوق من ماذا؟!

- من ماء وطين مثلك.



وترك يدها فجأة فكادت أن تهوي لولا أن أمسكت بالجدار..



انسابت دمعتها حارة شقية حائرة في ظلمة الليل، لا تدري إلى أين سيجرفها التيار معه...



لا تدري إلى أين؟!!



- لماذا تركتني يا أبي، لماذا؟!!

.
.
.
.
.
.
.
.
.

الطبول تدق، وصداها يكاد يصمُّ الآذان...


وقد بدأ ثوب العرس يُحاك...



وآن للشمعة أن تُظهر ذُبالتها قريباً!!!



انتظروني...



لاأناام..

إني خيرتكِ فاختاري
ما بين الموت على صدري

أو فوق دفاتر أشعاري

اختاري الحب أو اللاحب
فجبنٌ ألا تختاري

لا توجدُ منطقةٌ وسطى
بين الجنةِ والنارِ!!


(نزار قباني)


=============

(10)



تقلبت على وسادتها، وهي تحاول أن تمنع صوت ضحكاتهم من أن تصل لأذنيها....


لحظتها دفنت رأسها بقوة في الفراش وهي تحيطه بيديها النحيلتين...


لا تريد أن تسمع شيئاً، أي شئ!!!


هم لم يسمعوها حين بكت وتوسلت، حين جثت أمام أقدامهم واحداً تلو الآخر كي يوقفوا هذا الزواج...



بل تركوها وساروا، لم يعبأوا بها، وقالوا وهم يلوون أنوفهم:


"دلع بنات!!!"..



كلا كلا ليس دلعاً البتة، فأنا لم أعرف في حياتي معنى "الدلع"....



الوسادة تتراخى والعينان تُسبلان بوهن فقد أضناهما البكاء وجافاهما الكرى...



ضاع كل شئ، كل شئ، ولم يتبقى من الزمن إلا الغد!!!!



ها هم قد وضعوا فستانها الأبيض في خزانتها وأغلقوها كما أغلقوا حياتها وربما للأبد...



لازالوا يضحكون وهي تبكي...أيُّ مفارقةٍ عجيبةٍ تلك!!



الأصوات تتضح، تتعالى في حبور، وكان أقواها صوت الأب...


الفرحة تكاد لا تسعه، فإبنه الصغير عاد أخيراً من غربته وابنه البكر سيتزوج غداً، أيُّ سعادةٍ تلك التي تغمر قلبه الآن...



امتدت يدها النحيلة إلى قلبها هي الأخرى، قلبها الذي انفجع، بات كليلاً الآن، لا أحد يبالي به، لا أحد...


حتى هو ترك المنزل، وبات في شقتهما المستقبلية!!!


قالوا: ليس فئلاً طيباً أن يرى الرجل عروسه قبل ليلة زفافه...


تركوه يذهب قبل أن أقنعه، قبل أن أثنيه عن قراره!!!


لماذا يا خالي لماذا؟!


ماذا فعلتُ كي تفعلوا بي هذا؟!!


ألا زلت تضحك، وأنا لوحدي أنزف هنا....


لا أريد أن أتزوج...



لا أريد أن أرتدي هذا الفستان، خذوه، لا أريده...



كنتُ قانعة بقدري، راضية بنفسي، لم يا خالي لم؟!



ماذا أفعل الآن، أخبروني؟!



يقولون غداً عرسي، عرسي أنا!!!!


رحماك يا رب رحماك...




الشجن ينطلق من ذاك الرأس المثقل بالهموم، بالآلام...


والأظافر لم يتبقى منها شئ!!!


وقد بدأت خيوط الفجر تشتبك مع ظلمة الليل المتواري في الأفق، في نقطةٍ بعيدةٍ هناك...



ولا بد للشمس أن تظفر، فأنى لضياء القمر أن يقاومها؟!!



=========




الحركة تدبُّ في المنزل بنشاط، و "ندى" لا تتوقف عن الصياح:

- لقد تأخرنا عن "الصالون"، هيا انهضي.


- هيا يا "غدير"، ناصر ينتظرنا منذُ زمن في السيارة.


- لا أريد قلتُ لكم لا أريد.



وعادت لتبكي بصمت ووجها مدفون في وسادتها، جلست "شيماء" بجانبها وهي تمسح على شعرها بحنان:


- صدقيني، أنا أعرف شعورك تماماً، بل هو شعور يخالج كل عروس..


"أنتِ لا تفهمين، كلكم لا تفهمون".


ردت ندى وهي تمطُ شفتيها:

- لو كان عرسي أنا ما كنتُ بكيتُ أبداً، بل لظللتُ أقفز من السعادة..


قالتها بصوتٍ حالم، لكن صوت "شيماء" قطع عليها أحلامها:


- أنتِ حالة خاصة تختلف عن بنات خلق الله!!


لم تبالي "ندى" بما قالته هذه الأخيرة وأردفت بتساؤل:


- تعتقدين لو وضعتُ إعلاناً في الجريدة "أريدُ عريساً" سأجد من يقبل بي؟!!!!


- أكيد، ومن يرفض أن يأخذ مجنونة؟!


زمّت فمها بإستياء وهي تصيح:

- لا أحد يحس بي هنا، كلكم متزوجون، حتى "غدير" ستتزوج، أخشى أن أبقى العانس الوحيدة في هذا المنزل مع أبي نبكي على الأطلال...


ثم أخذت تضرب على صدرها وهي تولول:

- سيذهب شبابك وجمالك سدى يا "ندى"...


دمعت عينا "شيماء" من شدة الضحك على منظر تلك الأخيرة، حتى "غدير" توقفت عن البكاء هنيهة وأفلتت ابتسامة صغيرة من شفتيها.


- أضحكوا علي، سنرى من سيبكي غداً. صاحت.



وكأن كلماتها كانت كافية لأن تمسح تلك الابتسامة الخاطفة و تعود لواقعها المر، اهتزّ جسدها من جديد وأخذت تبكي بصوتٍ مرتفع...



تطلعت الفتاتان لبعضهما البعض بإستغراب، أمسكتها "شيماء" من كتفيها وهي تحاول تهدئتها:


- اذكري الرحمن واغسلي وجهك، هذا لا يجوز، هيا انهضي.


لكنها لم تتوقف بل أخذت تتشبث بقوة بعمود السرير.


- ندى ساعديني لنذهب بها إلى الحمام، ستدمي عينيها هكذا من كثرة البكاء.


صرخت فيهما بصوتٍ مبحوح وهي تقاوم:


- اتركوني، لن أذهب، لا أريد أن أتزوج، أتوسل إليكم.


وذهبت توسلاتها أدراج الرياح....


كانت من الوهن بحيث أوشكت أن تسقط عدة مرات...


- ماذا بك؟! لم تفعلين بنفسكِ هكذا يا "غدير"، انظري لوجهك أهذا وجه عروس... سألتها "شيماء" بألم.


غطت وجهها بكفيها وهي تهزُّ رأسها و تشهق:


"أنا لستُ عروساً، لستُ كذلك"!!!!


لكن صوتها أحتبس في حلقها تلك اللحظة وأطاعتهم بإستسلام....


ماذا يستطيعن أن يفعلن؟!

لا شئ!!!


================



الدقائق تمرُّ بطيئة كسلحفاةٍ كسول تأبى أن تُغير من مكانها، لكنها لا تقدر أن تغير مسار القدر!!!



النجومُ قد زينت السماء ببريقها الفضي وتركت إحداها تهوي سهواً هناك، في مكانٍ ليس ببعيدٍ على الأرض...



جثة هي بلا روح، أينما قالوا لها شئ هزت رأسها وفعلته، بريق عينيها أنطفأ والعينان تأفلان كأفول الشمس لحظة مصافحة الغروب،،،



ها هم يطلبون منها أن ترفع رأسها وتبتسم...



ابتسمت وهي تطالعهم وعلى وجهها علامة استفهام:



"أيكفي هذا، أم هل من مزيد؟!"...


- انظري لنفسك في المرآة، تبدين مذهلة...



وتأملت صورة تلك الفتاة التي أشاروا لها في المرآة، إنها تكاد لا تعرفها، من هذه؟!



الصورة غائمة، مهشمة، محطمة هي...




وضعت كلتا يديها على المرآة لكأنها تود أن تخفيها، أن تهرب بها إلى البعيد...



الصورة بقيت، والروح ذهبت بعيداً بعيداً...



ساعدتها "شيماء" لتنهض فحركتها باتت ثقيلة والفستان يعيقها، يكاد يخنقها....



الشفتان ترتعشان والوجه منطفئ...



لا أحد يجيد القراءة هذه الأيام، ها هم يسوقونها وهي تمشي بإستكانة...



ماذا بعد ذلك، أجيبوني؟!!



ضمت يديها في حجرها وهي تنظر للطريق من نافذة السيارة...



النجوم في السماء لازالت تنبض بوهن، والنجمة الحمراء المسماة بالدب الأكبر تكاد تغطي على الجميع....



أسرها منظرها، مدت يدها التي ترتجف لأعلى قليلاً لكأنها تودُّ لو تصل إليها وتلامسها، أو ربما لتذهب معها إلى هناك!!!



حتى الطريق للحفل كان طويلاً، مرهقاً ومعذباً، والنجمة الحمراء لازالت بقوتها، لازال شعاعها الأحمر نابضاً...



وتوقفت السيارة فجأة، كان "ناصر" و زوجته يتحدثان وهي تسمع بلا حياة...




القلب ينزف، ينزف صديداً، كل ما فيها استُنزف، لم يبق إلا القليل...



فتحت "شيماء" الباب وهي تحاول مساعدتها على الخروج، كانت تنظر إليها بذهول، عينيها الذاويتان تتطلعان لحنايا وجهها....




"ألا تفهمين؟!"...



الرسائل لا تصل، والبريد ضاق ذرعاً بحملها...



اتصلت "شيماء" بندى لتخرج من الصالة وتساعدها في حمل فستان العروس....




وتهرع تلك لتلحق بالركب، كلاهما تمسكان شيئاً، إحداهما اليد والأخرى الفستان...



ماذا عن القلب الدامي؟!!




الطبول تدق والفرقة لا تتوقف عن الغناء،،،



الدقات تتوالى بقوة، بصوتٍ يكاد يصمُّ الآذان...



الدم يجري بقوة هو الآخر، يساير الهواء والماء والمطر والموت!!!!



- ابتسمي، وجهك يبدو شاحباً..



وتبتسم مرةً أخرى ابتسامةً ميتة!!



هي الآن آلة، تنفذ ما يقولونه، دائماً تسمع وتطيع...



وهناك في نهاية الممر، وقف بقامته الطويلة ينتظرها...



وقف صاحب تلك العينين ببدلته السوداء كسواد الليل المظلم...



المظلم هنا وهناك!!!



تلفتت يميناً وشمالاً كلٌّ بجانبها، صدت للأمام...



وهو أيضاً...


أين المفرُّ إذن؟!!!



الطريق مسدود، والثغرات تُملأ....



ها هي شيماء تمسك بيدها وتمدها لذاك الأخير...



تناول تلك اليد النحيلة، ضمها إلى يده..



لكنها كانت باردة لا حياة فيها....




شدها بقوة لعل الحرارة تعودُ إليها وتنظر إليه...



رفعت رأسها فتقابلت بعينيه...



إنها تجيد القراءة جيداً، ليست مثلهم...



في عينيه شوقٌ قديم، حب، وحنان...



أخفضت رأسها لكأنها لا تريد قراءة المزيد، دارت بجذعها قليلاً فلقت "ندى" و "شيماء" يتهامسن وهن يبتسمن ويشرن إليهما.



أشارت لها "شيماء" بأن أكملي المسير...



رفعت "غدير" إصبعها المرتجف وهي تشير لنفسها بتساؤل، فهزت لها "شيماء" رأسها بالإيجاب...



أغمضت عينيها بألم، الطريق إلى الموت بات وشيكاً، والشريط يُفلت و لم يتبق من الخيوط إلا القليل...



- هيا يا "غدير". أتاها صوته دافئاً وهو يضغط على ذراعها بخفة.



التفتت إليه بسرعة، تأملته من جديد وعاد الحديث القديم....



وضعت أصبعها من جديد على جيدها لكأنها تستفهمه هو الآخر...




هز رأسه وهو يبتسم لها مطمئناً، أخفضت إصبعها و فمها يرتعش بيأس...



الإثنان يتقدمان، والطبول تدق بعنف، الحواس ضاعت، هامت هي الأخرى..



أخذت تطالع المدعوات بعينين لا تريان، كان يهمس لها بالكثير مازحاً ومعلقاً لكنها أيضاً لا تسمع!!!



وأخيراً جلسا وبقيت هي هادئة، ساكنة في مكانها...



يده لا تزال مشتبكة بيدها علها تبعث الحياة فيها....



ولكن ماذا بعد نفخ الرماد، لاشئ، لاشئ....


اقتربت منها "ندى"، وهمست في أذنها شيئاً...


كانت قد طلبت منها أن تبتسم كي تلتقط لها "المصورة" صوراً...



آه نسيت، لطالما نسيت أن تركّب ابتسامتها على شفتيها!!!


أطاعت وهي تحدق في الحاضرين...



وتساءلت في نفسها بذهول: إلامَ ينظر هؤلاء؟!



لكن حضور "شيماء" وبيدها تلك العلبة الحمراء قطع عليها لحظة تأملها....



فتحت العلبة أمامهما، كانت عبارة عن طقم من الذهب الأبيض المطعم بالألماس...


أشارت إلى "عمر" بأن يُلبسها الخاتم....



وعاد ليبحث عن أصابعها التائهة فالتفتت إليه وهي تطالعه بتعجب هو الآخر...



الخاتم ينزلق بسرعة في الإصبع النحيل، تأملت ذلك الطوق الصغير، لا تدري إلى متى سيبقى مُطوقاَ لإصبعها؟!!



أعطتها "شيماء" خاتماً آخر فضياً وهي تشير بأن تُلبسه عُمراً....


تطلعت إلى ذاك الأخير بألم، بضياع.....


يدها لا ترى و لا تتوقف عن الاهتزاز، تأبى أن تُدخل هذا الخاتم....



نظرت إلى "شيماء" بعجز وكأن لسان حالها يقول:


"ألم تفهمي بعد؟!"..


- ساعدها يا "عمر"... ردت "شيماء".


"آه، لم تفهم"...



أمسك "عمر" بيدها وأخيراً دخل الخاتم....


شدّ على يديها من جديد و ترك إحداها تهجع بين يديه....



أطرقت للأرض تناظرها بعينين غائمتين، خاويتين من كل شئ، كل شئ إلا النجوم!!!!



و لاح طيفها يتهادى بين الحضور، بعباءتها حضرت هذا المساء...



لكنها لم تكن لتراها أليس كذلك؟!!



اقترب منها "عمر" وهو يهمس في أذنيها:


- أمك وصلت...



رفعت رأسها ببطء تتأمل تلك القادمة من بعيد...



غريبة!!!



لم تأتي باكية بل كان على وجهها تباشير الفرح!!


أخطأتي!!


دائماً تخطأين وتعكسين الأدوار...


الليلة يحق لكِ أن تبكي...


أن تندبي نفسك وحظ ابنتك العاثر!!!



وهرعت إليها لتضمها ، لكنها أدارت وجهها بضيق للناحية الأخرى منتظرةً أن تفكها من عناقها!!!


- مبروك يا ابنتي...


الآن عدتِ، عدتِ بعد أن أنتهى كل شئ...


وأخيراً تركتها لتبارك لعمر....



بقيت هي واقفة ورأسها مائل ناحية الغرب، حيثُ لا تشرق الشمس أبداً!!!



أجلستها "شيماء" فأخذت تمسح على جبينها بإعياء...



تابعتها بطرفها وهي تنزوي في زاوية ليست ببعيدة وعلى وجهها تلك النظرة الشفافة!!!



الحفل لازال مستمراً رغم خفوت حركة البشر والفرقة لا تتوقف عن الغناء....


- هيا، لنخرج..


كان هذا صوته، أفاقت من ضياعها لتتطلع إليه وعلى وجهها إمارات التساؤل..


- أجل، سنذهب الآن.



أشاحت وجهها بذعر ناحية الغرب حيث تجلس "شيماء"، شدتها من ثوبها المنفلت من عباءتها.


- ماذا تريدين؟!


لكنها لم تقدر أن تنطق واستمرت في الشد بقوة..



تقدمت منها وهي تحاول أن تسمع ما تحاول شفتاها أن تنطقان به لكنها صمتت فجأة وبقيت تنظر لها بيأس....



همست لها في أذنيها وهي تساعدها على الوقوف:


- اذكري الرحمن ولا تقلقي.


وضعت يدها على عنقها وهي تبحث بعينيها عن شئٍ ما، عنها هي؟!


نطقت بتقطع:


- أين..أين أمي؟!!


- لا أدري ربما ذهبت.


وعادت لتجول ببصرها التائه حول المكان...


ذهبت؟!!


دائماً تذهب وتذهب وتذهب و....


تتركنني....



تطلعت إلى "عمر" ، إلى عينيه العميقتين وهي تهز رأسها بقوة..


- ماذا بك؟! سألها.


فتحت فمها لتنطق وهي لاتزال ممسكةً بشيماء...


ماذا تقول له؟!


- سأبقى..سأبقى هنا. قالتها بإستعطاف.


رفع حاجبيه بإستغراب ثم سرعان ما لانت ملامح وجهه:


- أنا متعب الآن، سنعود مرة أخرى!!


ماذا يخالني هذا الرجل؟! غبية؟!


وسارت معه بإستسلام بعد أن دفعتها "شيماء" بخفة وأصوات الزغاريد تسبقهما...


الطبول تدق، تدق بقوة طبول الغجر إبان إشعال الحطب، والرماد ينثر في كل مكان...


ها هي تكاد تتعثر في مشيها وهو يسندها بجانبه كل حين...


أين المفرُّ أين؟!


قبضت على كم "الجاكيت" وهي تهزه بوهن:


- أريد أن أذهب إلى البيت..


- الآن سنذهب.


- كلا أريد أن أذهب لبيت خالي وليس إلى هناك.



لكنه لم يسمعها هو الآخر وأكمله طريقه وهي تبكي بجانبه بصمت...


وصلوا إلى نهاية الممر، حيثُ الباب مفتوح، والأب ينتظرهم هناك...


ضمها إليه وهو يمسح على رأسها، فزادت من تشبثها به...


لماذا يا خالي لماذا؟!!


تهدج صوته وهو يحاول أن يرفع رأسها لأعلى:


- لا تبكي يا ابنتي..

ثم التفت لإبنه وهو يوصيه بحزم:


- انتبه لها يا ابني...


- سأضعها في عيني..



وأفلتها الأب فضاعت من جديد، الطريق إلى السيارة يبدو قصيراً هذه المرة، وهي لا تتوقف عن شد كمه:


- عمر..عمر. أخذت تشهق ببطء.

- ماذا؟

- أريد أن أعود.

- صدقيني غداً سآخذك إلى هناك.

- عمر..


لكن صوتها ضاع من جديد دون أن تكمل، تنهد بتعب وهو يساعدها في الدخول بفستانها الثقيل:


- لا بأس..لا بأس..


وتحركت السيارة دون أن تترك شدّ كمه، لعله ينتبه لها أو يفهمها....



أمواج السراب تتلاطمُ من بعيد، وقد بدا شعاع نجمة الدب الأكبر خطاً متعرجاً يرنو إلى السماء...


أخذت تحدق فيه من النافذة ويداها تتراخيان....


التفت إليها متعجباً من هدوئها المفاجئ لكنه قال: هذا أفضل!!!



الليل طويل، طويل، والوقت يراوغك، يخدعك، والأيام لا تخبئ أحداً أليس كذلك؟!



ها هم قد وصلوا.....



أوقف مكابح سيارته وهو يتوجه لبابها ليفتحه، رفعت رأسها إليه بألم، عيناها تنضحان بالكثير، ولكن يبدو أن الإرسال بات مشوشاًً هذه الأيام...



أمسك بيديها فعادت لتقبض عليهما بقوة وهي تهز رأسها ببطء...


افهمني...



لكنه لم يفهم، لم يفهم هو الآخر!!!



سارت معه بإستسلام، توشك هي على السقوط، على التعثر دائماً...


- انتبهي...


بعد ماذا؟!



وفتح باب الشقة تاركاً إياها تدخلُ أولاً بقدمها اليُمنى....


كل شئٍ يبدو جديداً لم يُمس، الطلاء، الأثاث، والبلاط!!


ورن هاتفه معلناً عن وصول رسالة، قرأها ثم غمغم:


- سأذهب دقيقة فناصر بالأسفل قد جلب لنا العشاء.


لم تعلق و جلست على الأريكة مطرقةً رأسها للأرض وهي تسمع خطوات حذائه تتهادى على البلاط المصقول....




وعاد سريعاً، عجيبٌ أمر الوقت، كيف يتلاعب بنا هكذا!!



وضع الأكياس على الطاولة الصغيرة أمامها، قال وهو يشيرُ لها بابتسامةٍ هادئة:


- ادخلي الغرفة تلك لتغيري ملابسك ونتناول العشاء أم تريدين أن أُريك الشقة أولاً؟!


- لا أريد. ردت بخفوت.


- لا تريدين ماذا؟! العشاء أم مشاهدة الشقة؟! حددي بدقة.


رفعت رأسها حينها وهي تدعك ثوبها بعصبية...أتراهُ يسخر منها؟!


- لا أريدُ شيئاً. صاحت.



"آه عادت من جديد لعدائيتها".



جلس على الكرسي المقابل لأريكتها وهو عاقدٌ ذراعيه وحاجبيه معاً!!


- بودي أن أفهمكِ مرةً واحدة فقط أيتها المخلوقة من لاشئ، أجيبيني ماذا تريدين بالضبط؟!


- أنا لا أريدك.


- ماذا؟!



نظرت مباشرة إلى العينين الخضراوين المشتعلتين وردت بحدة:


- قلتُ لك ألف مرة أنا لا أريدك، لا أريدك لكنك لا تفهم.



- هذا الحديث أنتهى أمرهُ منذ زمن ولم يعد مجدياً الآن.. رد ببرود.



وقفت وهي تسندُ نفسها بيدها على الأريكة:


- كلا لم ينتهي، لم ينتهي. وأخذت تصرخ بهستيرية وهي تضرب بقبضتيها على ثوبها الفضفاض.



وفزّ من مكانه حتى كاد ظله أن يسقط عليها، أجفلت في بادئ الأمر وأوقفت حركتها، لكنها لا بد أن تقول شيئاً، لابد!!




قبض على إحدى يديها وهو يهزها بعنف لعلها تعودُ إلى صوابها:



- اسمعي لقد تحملتكِ كثيراً بتصرفاتك الغريبة وحديثك السخيف ودموعك البلهاء وليس بي صبرٌ لأتحمل المزيد، أسمعتي؟!



سحبت يدها منه بصعوبة وهي تترنحُ للخلف:


- مريضُ القلب تجرحه الحقيقة أليس كذلك؟!


- إذا كان هناك مريضاً ما في هذا المكان فهو أنتِ..



وسكنت برهة وهي تطالعه بعينين غائمتين، ردت بتهدج وهي تهزُّ رأسها نفياً:


- أنا لستُ مريضة، أنا قلت لهم لا أريد أن أتزوج، لا أريد أن ألبس هذا الفستان لكنهم لم يسمعوني..




وغطت وجهها بكفيها الصغيرين وهي تجهش بالبكاء بمرارة، تقدم منها وقد هدأت ثائرته قليلاً من منظرها، أبعد كفيها يضمهما بحنان بين يديه....



- آسف، لم أقصد أن أعاملكِ هكذا...



وأشاحت بوجهها لتخفي دموعها أو ربما لتهرب من عينيه!!



لكنه لم يسمح لها بالهرب أو الإفلات...



أحاطها بذراعيه، وكانت هي تبحث عن الأمان، عن شئٍ تستندُ عليه في زمنٍ بخل بالحب والسلام...



بكت على صدره وتكررت تلك الصورة الفريدة، ولكن من منا يحتفظُ بصوره كاملةً؟!


الصور تومض وتنطفئ كبروقٍ سماوية يكادُ سناها يخطفُ عقلها، لبّها، روحها الباقية....



لا تريد أن تضعف هي...



في بدايتي نهايتي...


أم في نهايتي بدايتي، أجيبوني إن كان عندكم الإجابة!!!



لا بد أن تقاوم هذا الضعف، لا بُد...



وانتزعت نفسها منه بإنهاك وهي تحاول تهدئة دقات قلبها المضطربة،،،،


رفعت يدها المرتجفة بجانب فمها لكأنها تود أن تخفف من وطأ كلماتها التي ستلقيها عليه بعد قليل...



الكلمات تصل لطرف لسانها وتقف عنده بإرتعاش، وتتبعثر...



أراد أن يقترب من جديد، لكنها صدته بيديها وهي تتراجع إلى الوراء بتثاقل...



الكلمات لابد لها من الخروج، لابد أن تفرض سيطرتها في هذه الحظات:



- أنت لا تفهم، أنا لا أريدك، أنا أحبُّ رجلاً آخر وتخيلتهُ أنت!!



الزمن توقف تلك اللحظة، أم أنعدمت الأشياء؟!



أم يا تُرى كان كابوساً، أضغاث أحلام؟!



لماذا يا "غدير" لماذا؟!



وهوى بصفعةٍ قوية على وجهها كادت أن تطرحها أرضاً، وسرعان ما أمسكها قبل أن تسقط لا لكي يحميها ولكن ليشدها من شعرها، من بُصيلاته، من جذوره!!!



- أعيدي ما قلته؟! صرخ في وجهها بشراسة وهو لا يتوقف عن الشد.


لكنها لم تستسلم، صاحت بصوتٍ مختنق وهي تحاول أن تبعد أصابعه المنغرزة في شعرها دون جدوى:




- أحب رجلاً آخر... أحبه، أحبه.




وتردد صدى الصفعة الأخرى في أركان الشقة المظلمة، وهوت هي على الأرض بفستانها الأبيض تُقبل بلاطه....



الصور لا تلبث أن تتكرر، والأدوار تتبدل أليس كذلك؟!



الصمت يخيمُ حول المكان ما خلا صوت أنينها المتقطع وصوت أنفاسه المتلاحقة الثائرة بجنون...



وقف برهة وأفكارٌ كثيرة تحتدُّ بصدره الله أعلم ما هي.....



مرر أصابعه في شعره الأملس بعصبية ونظرةٌ قاتلة ارتسمت في عينيه اللتان دكنتا وبات لونهما أسوداً تلك اللحظة...



خاطبها بصوتٍ أفح:


- أجيبي أيتها ال****ة من هو وإلا قتلتك..


- .....................


- أجيبي وإلا قسماً ستباتين هذا المساء في قبرك.



لكنها لم ترد، فجثا للأرض ماداً يده بعزمٍ جديد، أحست به فحركت أصابعها المرتجفة لاشعورياً لتحمي شعرها الذي تقصف وترسبت بعض خصلاته بين يديه....



وارتفع صوت أنينها المتقطع بعد أن أطبق يده الثقيلة على عنقها بعنف مغيراً اتجاهه، وقال بقسوة وهو يقرب وجهها المعلّم بأصابعه من وجه:


- من هو؟!


- ............


- من هو؟!


وصرخ صرخةً جعلت جسدها بأكمله يرتعد، أنكمشت وهي تحاول أن تمد يدها وتغطي وجهها الذي شحب رُعباً وبات لونه يحاكي جلد الأموات..


- ألن تنطقي؟!


- .............


- ألا تقولين؟


- ....................


- تخفين هويته؟!


- ................


- ستتكلمين رغماً عنكِ أيتها ال****ة والأيام بيننا، وأقسم سأُحيلها كلها إلى جحيم.



وأفلتها فجأة فسقطت على فمها...



سال الدم أحمراً، قانياً بلون شعاع نجمة الدب الأكبر!!!



ها هو خيطه الضعيف يجري على البلاط، يبلله، ربما ليمنحهُ تذكاراً خاطفاً!!



صفق باب غرفته بقوة بينما هي لاتزالُ على الأرض تأن!!!!



============




توقفت "ندى" أمام مرآتها وهي تطالع نفسها من كل جانب وفي مختلف الوضعيات!!!


وعندما تأكدت من نفسها و جمالها!! دخلت إلى الحمام لتزيل آثار المكياج وتغير ملابس الحفل...


ألقت نفسها على السرير وهي تتنهد...


الغرفة باتت خاويةً على عروشها، وعادت هي إلى وحدتها من جديد بعد أن غادرتها "غدير"...


سحبت لها "دباً" كبيراً ووضعت عليه رأسها بدلاً من وسادتها علهُ يخفف وحشتها ولو قليلاً....



أغلقت عينيها بتعبٍ وإرهاق كي تنال لها قسطاً من النوم، فغداً لا بد أن تذهب للعمل مبكراً وإلا كان لها المدير بالمرصاد!!



وفي الجانب الآخر، كانت "شيماء" واقفةً في منتصف الصالة ، تنتظر أن يلحق بها زوجها ويبدو أنها نسيت أن "وليد" عاد إلى هنا، وأنهُ احتلّ غرفة "عمر" بعد أن تزوج هذا الأخير...



خلعت وشاحها وسمحت لتسريحة شعرها أن تتحرر من ضغطه وضغط الجو الحار....



سمعت صوت حركةٍ خافتة خلفها فالتفتت وعلى وجهها ابتسامةٌ ساحرة:



- ناصر ....



وقطعت جملتها قبل أن تكتمل وقد صُدمت من ذلك الطيف الذي يطالعها بإنبهار!!!



وانتبهت لنفسها فارتدت وشاحها بسرعة من جديد وتنحنح هو الآخر معتذراً عن دخوله المفاجئ هكذا....


تابعته وهو يلج إلى الغرفة المجاورة لغرفة "ندى"، وبعد دقائق عاد "ناصر" ليفيقها من صدمتها ويأخذها معه...



.
.
.
.
.
.
.
.



وكانت أول صفعة..


أول نظرة....


دائماً هناك الأولى، أليس كذلك؟!!


انتظروني..




لاأناام....


أشكو من الظلم الذي ألقاهُ
وظلمُ من أحببتهُ أبقاهُ


وكلما زاد اضطهادي عندهُ
تبسّم القلبُ فما أشقاهُ

الاضطهادُ كاللهيب فهو إن
أحرق قلب عاشقٍ نقاهُ...


===========

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 04:39 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

(11)



أمالت بكرسيها إلى الجدار وهي مندمجة في قراءة الرواية التي بين يديها....



كانت "أشجان" تثرثر في أشياء كثيرة لكن أذنيها لم تكن لتعمل تلك اللحظة، فقط عيناها اللتان تكادان تلتهمان تلك الحروف الصغيرة المنحوتة على الورق الباهت....



ودخل بعد أن ألقى التحية حاملاً معه حقيبته السوداء:

- السلام عليكم.


- وعليكم السلام. ردّ الجميع.



رفعت عينيها عن القصة لترد هي الأخرى بخفوت ثم عادت من جديد لتتبع السطر الذي توقفت عنده.



ومرّ خاطفاً أمامها لكنهُ سرعان ما عاد أدراجه ووقف أمام مكتبها يدقه بأصابعه.



الظل الواقف يمنعها من الإكمال والدق يحدث بلبلة في ذهنها، وضعت القصة في حجرها ونظرت له بتساؤل، فلا تدري أي تهمة سيلقي عليها اليوم!!!


- ماذا تقرأين؟!


- قصة. ردت ببراءة.


- أريني إياها.



ومدتها إليه وهل تستطيع أن ترفض؟!


وقبل أن تصل إلى أصابعه أرجعتها بسرعة إلى الخلف وهي تبتسم له بإرتباك وقد انتبهت لنفسها وللقصة!!!



- إنها لا تناسبك، أنصحك ألا تقرأها. ضحكت بغباء.



وأطبقت فمها بعد أن رأت تلك النظرة المجرمة على وجهه.


- هاتيها. قال بصوتٍ آمر.


فوضت أمرها لله وأعطتها إياه وسط نظرات "أشجان" الراثية لحالها..



وما أن وقعت عيناه على الغلاف حتى رفعها عالياً وهو يصيح:


- أهذا ما تقرأينه؟! قصص مراهقين!!


رمشت عينيها عدة مرات وهي تتمنى أن يخفض القصة كي لا يروا الصورة أو عنوانها..


"غرام وانتقام"!!!!



لمَ لم تختار عنوان آخر "محترم" بعض الشئ، لكن المشكلة أن كل روايات "عبير" هكذا، أليس كذلك!!!


"فضحتني يا رب تنفضح بين خلقه"...


- كم عمرك؟! صرخ في وجهها.


"ولم هذا السؤال المحرج؟!"..


- أ..أ.. ثمانية عشر عاماً.



وانطلقت ضحكة صغيرة من فم "أشجان" لكنها سرعان ما دفنتها بين الأوراق.


نظرت إليه من طرف عينيها...


آه، لم يصدقها هو الآخر!!



فتحت فمها لتعلل بتلعثم:


- أتصدق، كثيراً ما يخالونني في الإعدادية، انظر لوجهي أبدو صغيرة أليس كذلك؟!



قالت ذلك وهي تشير بيديها لوجهها وهي تكاد تخرج المرآة من حقيبيتها لتستوثق من نفسها وتُريه!!



تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وهو يصرُّ على أسنانه:


- سألتكِ سؤالاً محدداً فأجيبي عليه.


- عمري اثنان وعشرون عاماً. ردت وهي تلوي فمها بعبوس.



وقبل أن يفتح شفتيه قاطعتهُ مستدركة بسرعة:


- هذا بالتاريخ الانجليزي، لكن بالعربي لم أكمل بعد اثنان وعشرون، لازلتُ واحد وعشرون عاماً..



وعادت لتبتسم بزهو لأنها صغرت عاماً لكن ابتسامتها لم تكتمل، يكفي نظرة واحدة إلى وجهه لتجعلك تُصاب بالمغص.



أخذ يضرب بالقصة الذي ثناها على الطاولة بنفاذ صبر، قال:


- ألا تخجلين من نفسك في هذا السن وتقرأين هذه السخافات.



"لااااا هذا كثير، ماذا يخالني هذا الأحمق، ثم ما قصدك في هذا السن؟! تخالني بعمر جدتك؟!"..



- هذه حرية شخصية. ردت وقد وضعت كلتا يديها على خصرها بعصبية.



تطلع إليها من علو وقد ارتسمت على وجهه الدهشة من حركتها، لكنه سرعان ما صاح:


- حرية شخصية في بيتكِ هناك وليس هنا، هذا المكان للعمل وليس لقراءة القصص الفاسقة!!


- كنتُ أقرأها في وقت فراغي، لم يحن بعد وقت بدأ العمل. زمت فمها.


تطلع إلى ساعته ثم نظر لها بشزر:


- الساعة الآن التاسعة والربع يا آنسة.



- كانت التاسعة إلا عشراً، لكنك من ضيعت وقتي كنتُ سأُنهيها في العشر دقائق المتبقية.



- ضيعتُ وقتك؟! سألها بغضب.



وكأنها انتبهت لكلامها الذي تمادت فيه، فأسبلت رموشها بذل بسرعة محاولةً أن تُنزل أي شئ من عينيها، لكن يا لعناد عينيها!!


نكست رأسها وهي تقول بإستعطاف:


- أستاذ، البارحة..البارحة أخي تزوج ابنة عمتي، وكانت تنام معي في الغرفة والآن ذهبت، وأنا فتاة صغيرة تعرف ذلك والكل يشهدُ بهذا!!!



ثم أكملت وهي تزدرد ريقها وتلون من نبرة صوتها:


- و..و رومانسية والطبيب الذي أخذت منه العذر بذلك اليوم قال لي ليس جيداً أن أكبت مشاعري فأنا صغيرة، قلتُ لك ذلك من قبل أليس كذلك؟!


ورفعت رأسها قليلاً ليؤكد أو يفند سؤالها، لكنه كان يطالعها وعيناه مفتوحتان على أوسعهما...


عادت لترمش عينيها ببراءة وأردفت:

- وهذه القصص تفيدني، فمثلاً أبكي بعد قراءة القصة، تعرفني حساسة ورومانسية، وابنة عمتي تزوجت البارخة بأخي و....


- يكفييييييييييي.


وصرخ فجأة فأجفلت في مكانها وهي لا تعرفه سبب صراخه، وضعت أصبعها الأيسر في فمها وهي تطالعه بتعجب.



"يبدو أنه جنّ!!"


- لم أطلب منكِ أن تحكي لي قصة حياتك التافهة كقصتك.



وأردف وهو يلقي بالقصة في القمامة المجاورة لطاولتها بتهديد:



- هذا سيكون مكانها الحقيقي، وسأمر كل يوم لأتفقدها وإن تحركت شبراً واحداً سأُلقيكِ بدلاً منها، أتسمعين؟!



"ستلقيني أنا في القمامة؟! أنا "ندى" بنت "محمد" ألقى في القمامة؟! ماذا عنك يا "عنتر"؟! المحرقة تناسبك أليس كذلك؟!"



ودخل إلى مكتبه وهي تتابع طيفه وتتخيل أنها تخنقهُ بأصابعها، التفتت للفتاتين إحداهما تبتسم بتشمت والأخرى تبتسم أيضاً!!!



قالت وهي تحركُ كتفيها بلا مبالاة:



- كنتُ سأردُّ عليه لولا أنه ذهب، تعرفون..يخافُ مني!!



"الآن نحنُ في الصباح، لازال الوقتُ مبكراً على الأحلام!!"..



وجلست على كرسيها تطالع قصتها بحسرة!!



تُرى ماذا حدث بجاكلين الآن؟!!




===========



فتحت عينيها بإضطراب وهي تحاول أن تتجنب الضوء الشارد الذي انسلّ إلى هذا المكان عُنوةً من زجاج النافذة الكبيرة....



حركت أصابعها بتعثر لتصل إلى نحرها وتقبض عليها...


الإحساس بالضيق، بالإختناق يتصاعد، والوجود أسود رغم شعاع النهار!!!



كانت مستلقية على الأرض بفستانها الأبيض، مررت عينيها الذاويتين على حاشيته فعادت إليها ذكرى ليلة البارحة...



صدرها بدأ يرتفع ويهبط بسرعة وهي تجول ببصرها حول المكان، حول الفراغ، حول السكون المطبق وهي تطالع باب تلك الغرفة حيثُ يقبع ذاك الذي في يديه مصيرها...


وضعت كفها بوهن على جبينها، أزيزٌ قوي يطنّ برأسها، جسدها متهالك من شدة التعب، ومن كثرة البكاء..


لكنها لا بد أن تقوم، أن تُنهض نفسها قبل أن ينهض!!!


و عاد الإختناق ليغلفها من جديد، ليزيدها تقريحاً ويشلّ حواسها رعباً...



استندت بيديها بتثاقل على البلاط لكن قواها الخائرة لم تسعفها، ربما كان ذلك بسبب ثقل الفستان أو ثقل أثمها أو خيال يده الثقيلة التي تلوحُ لها كل حين!!



أفلتت يديها وهي تشعر بالعجز...


العجز!!!


شعور مقيت، مميت، يحطمك، يحيلك إلى هشيم، إلى لاشئ....


ولكن منذُ متى كنّا شيئاً حتى نتحول إلى لاشئ؟!



أسندت رأسها على الأريكة القريبة منها وهي تغمض عينيها بقوة، فهذا أقصى ما تستطيعُ فعله حتى الآن!!


وسمعت حركة خافتة، كان هذا صوت إكرة بابٍ يُفتح...


انتفضت في جلستها تلك فعادت لتنكمش وودت تلك اللحظة لو تختفي خلف الأريكة أو تتحول إلى جماد، إلى سراب، إلى ذرة غبار لا تكاد تبين!!!



آه، ليت المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غُلابا....



لاح لها طيفه بقامته الطويلة واقفاً عند الباب وبصره مصوب نحو البقعةِ التي افترشتها دثاراً على الأرض...


أخفضت رأسها، لا تريد أن ترى وجهه، ملامحه، عيناه!!!


نحنُ في البعيدِ أفضل، أفضل بكثير...


آه لكنهُ لا يرضى بالبُعد ولا بالسلام...


في أيِّ عالمٍ نحنُ نعيش وفي أي زمن؟!


أليس بزمن الموت والورود؟!


في الزمن الذي تعانق فيه الياسمينة أشواك "الورد المُحمدي"؟!



دنا منها شيئاً فشيئاً وهامتهُ عالية أما هي فلا تزال تطأطأ، لازالت تلامسُ الأرض والطين!!!



أيُّ مسافةٍ تلك التي تفصلُ بينهما الآن؟!


بحجم الثرى وطول الثريا!!!


نظر إليها من علو، بحدة وقدمه تدوسُ على تلابيب فستانها الأبيض...


الصوتُ ينطلق بارداً، ساخراً، مليئاً بالقسوة والإزدراء:


- ما بالُ العروس العاشقة نائمة هنا؟!


- .......................


- أنمتي جيداً أم أن خيالاتك حوله سرقت عينيكِ لذة النوم؟!


- .....................


- ما بك لا تنطقين، أكلُّ هذا خجلاً من حبك الفياض؟!!


ونزل بمحاذاتها فأخذت ترتجف وهي تدفن رأسها في الأريكة....


لكن صوته عاد أكثر بروداً، السم يجري في أوتاره، والسم ينفذ، يخترق الروح والقلب معاً، فما أقسى الكلمات، ما أقساها...


- هذه الدموع والنظرات المرعوبة ما عادت تؤثر في، لذا لا تمثلي المزيد.


- .................


- الآن فهمتُ لم كان زوج أمك يضربك، لا بد أنهُ عرف بإنحلالك الأخلاقي، ربما لهذا قال لي ذلك اليوم المشؤوم حين أخذتك: انتبه لها، وأنا الأحمق كنتُ في خبر كان..


- ..................



- ويبدو أنهُ فشل في ذلك، وقد حان دوري يا عزيزتي لأسيرك على الصراط، ألا توافقيني الرأي؟!



رفعت رأسها والألم يعتصر وجهها من كلماته، من قطرات السم!!


تطلع هو إلى سحنتها المبللة، إلى عينيها الذابلتين، وتوقف كثيراً عند فمها المتورم في نهاية زاويته اليسرى.



تجهم وجهه فجأة ثم قال بعد برهة بتوتر:


- اذهبي وغيري ملابسك..



عادت لتنكس رأسها فتهدل شعرها المبعثر على كتفيها...


مرت لحظة صمت ودون شعور مرر أصابعه في تلك الخصلات الطويلة ليزيحها عن وجهها، التفتت إليه بسرعة فانتبه لنفسه ويده!!!



سحب يده وهو يدير وجهه بعيداً عنها وقال بصوتٍ مصرور:


- اغربي عن وجهي فوراً..


وحاولت أن تنهض باضطراب لكن محاولاتها باءت بالفشل من جديد، إن استمرت على هذا الحال ستتحطم بلاشك...



وقف وعادت نظرة السخرية ترتسم في عينيه الخضراوين، مدّ يده إليها، أخذت تطالعه بتردد لكنها ما لبثت أن مدت يدها النحيلة لتستند عليه وأخيراً وقفت على قدميها..



وترك يدها بإمتهان وهو يخاطبها :



- حقيبتك في الغرفة الأخرى..



أسرعت الخطى إلى حيثُ أشار، استندت على الباب وهي تتنفس بعمق، أوصدته خلفها ثم تحركت للسرير....


كان بودها أن تستلقي، أن تغفو، لكنها عادت وفتحت تلك الحقيبة الكبيرة واستخرجت لها شيئاً لترتديه، لتتحرر من هذا الثقل...



غسلت وجهها بالماء وهي تربت بخفة على جلدها علّ لون الحياة يعود إليه من جديد....


وأخيراً أمسكت بدثارها وهي تقبض عليه بتعب، وقبل أن تضع رأسها على الوسادة وترتاح، سمعت طرقاً على الباب.


ردت بوهن:

- من؟!


- من تعتقدين؟! حبيب القلب!!


غطت رأسها بدثارها، لا تريد أن تسمع المزيد، كفاك...


- أعدي لي شيئاً أنا جائع.


- أنا متعبة، أريدُ أن أنام..


- صحيح؟! ألم يكفك نوم البارحة بأكمله!! سألها بإستهزاء.


وطفرت الدموع من عينيها بعجز، إنه يتقصد تعذيبها، إهانتها، جرحها...


لكنها من بدأت وعليها أن تُكمل...



انتشلت نفسها بصعوبة وهي تبعد دثارها وتهمهم بخفوت بأنها ستأتي...


وسمعت صوت شخصه يبتعد ففتحت الباب، لكنها لم تعرف أين تذهب...


أين هو المطبخ؟!


أطلت برأسها للصالة فلم تره فقررت أن تبحث عن المطبخ لوحدها...


وما أن استدارت على عقبيها حتى لقته أمامها!!!!


شهقت وهي تضع يدها على صدرها و تتراجع إلى الوراء من رؤيته المباغتة..


- ماذا؟! أخفتك؟! لم أكن أعلم بأني مخيفٌ لهذه الدرجة!! قالها بتأسف زائف.



ثم صمت وهو يتأملها ببطء من رأسها لأخمص قدميها، ناداها آمراً:


- تعالي إلى هنا...


لكنها بقيت مستندة على الجدار وهي تهزُّ رأسها ببطء، عيناهُ تبدوان غامضتان، مخيفتان أحياناً!!



وما أن شرع بالإقتراب حتى حاولت الهرب لغرفتها لكنهُ كان أسرع منها، أمسكها من زندها وهو يضغط عليه، صاح في وجهها بغضب:


- أنا لا أحب أن أكرر كلامي مرتين، حين أقول شيئاً تنفذينه مباشرةً أتفهمين؟!


هزت رأسها بجنون بالإيجاب لكنهُ زاد من ضغطه فصرخت من الألم:


- أريد أن أسمع الإجابة أم أن لسانك لا يعرف إلا أن ينطق الحقارة فقط.


- ح..حسناً، فقط..أترك..أترك يدي..

أردف بتساؤل وهو عاقدٌ حاجبيه:


- والآن ما هذا الذي ترتدينه؟!


تطلعت إلى نفسها بحيرة وشفتها ترتجف:


- مـ...ماذا؟!


- اللون الأزرق لا أحبه، وما لا أحبه أنا لا تحبينه أنتِ!!!


تطلعت إليه بشرود دون تصديق فهزها لتنتبه له وهو يردد:

- لم أسمعك، قولي لا أحبه.


- لكنني أحبه. صاحت بهمس مرتعش.


أطبق على عنقها وهو يقرب وجهها من وجه حتى كادت أن ترى صورتها المرتجفة في عينيه المشتعلتين، قال بتهديد، بموتٍ زاحف:


- أنتِ لا تريدين أن تستثيري شياطيني اللعينة هذه اللحظة أليس كذلك؟!


هزت رأسها بخوف وهي تردد:


- لا...لا أحبه، لا أحب هذا اللون.


وترك عنقها فهمّت بالدخول لغرفتها من جديد، صاح فتجمدت في مكانها:

- أين تذهبين؟!


تطلعت إليه إرتباك وهي تشير لنفسها:


- سأغير ملابسي...


- ليس الآن، اذهبي واصنعي لي "فطوراً" أولاً..


- أين المطبخ؟ سألته بوجل.


- هناك.



وما أن وصلت هناك حتى استندت على الباب وصدرها يعلو ويهبط بهلع..


لقد فقد صوابه هذا الرجل!!


أكان يقصد اللون فعلاً؟!


وانصرفت لتصنع الشاي وهي تسقط كل الأشياء من يديها من شدة التوتر...


فتشت في الثلاجة عن أطعمة جاهزة، أخرجت جبناً وشرعت في قلي البيض...


وضعت الإفطار في "صينية" متوسطة الحجم....


كان جالساً في الصالة واضعاً قدماً على أخرى فوق الطاولة، وبيده جهاز التحكم عن بعد، يقلب القنوات...


ودون أن يلتفت إليها قال:

- ضعيه على الطاولة.


لكنها لم تتحرك وبقيت تنظر له بتساؤل، وحين أطالت في وقفتها، رفع بصره إليها وهو يحدجها:


- ماذا؟! ألا تسمعين؟ أأصبتِ بالصمم أيضاً؟!


- كيف أضعها وأنت..أنت قدميك على الطاولة..


- أعتقد أن هذا الأمر لا يحتاج إلى ذكاء خارق، أبعدي قدمي..



و كادت "الصينية" أن تسقط من يديها، لولا أن تشبثت بها جيداً في اللحظة الأخيرة...



أن تُجرح، تُسب، تُضرب، أمرٌ أعتادتهُ من صغرها ولكن فليقف عند هذا الحد، فهي لا تسمح لأحد، أي أحد أن يمتهن كرامتها.


وعادت كبرياءها لتعود للصدارة وتدوسُ على الألم، على الخوف...


ردت بشموخ:


- أنا لستُ خادمتك..


وحنت جذعها لتضعه على الأرض لكنها توقفت في نصف حركتها بعد أن رأت ساقيه الطويلين أمامها، أرخت يديها وأكملت إلى أن وضعتها على الأرض بتصميم...


ودارت دون أن تلقي عليه نظرةً حتى...


وبقيا هكذا واقفان بلا حركة، بلا صوت....


الهواء يرفلُ بالغبار، بشرارٍ متطاير والصمت أبلغ من الكلمات أحياناً!!


أتاها صوته من الخلف بعد أن أخذ قسطاً من الزمن:


- أنتِ محقة أنتِ لستِ بخادمة...أنتِ لا شئ...


و غاب البريق الشامخ من عينيها، أنطفأ، وحل محله الإنكسار، بقايا الحطام...


كم من السهل أن تكسرنا الكلمات، تشطرنا شطراً، فيبقى الجرح نازفاً ويد الجراح عاجزة عن تضميده....



- خذي هذا الإفطار أو كليه فأنا لا أريده!!!


النجمة تأفل، تهوي إلى القاع، تتعفر في التراب وتفقد بريقها، ضياءها الأزلي...


تأملت "الصينية" بعينين لا تريان، فقدتا بريقهما هما الأخرتين، ها هما تغيمان الآن، سحقهما ذاك الأخير وذهب..


آه ما أقسى الكلمات....


عادت لتنحني من جديد، حملت "الصينية" ووضعتها على الطاولة ثم توجهت إلى غرفتها...



القلق يكتسحها، والتعب يحطم بقايا خلاياها...


ما تعيشه الآن هو كابوس، كابوس كريه، لكنها ستحاول أن تتخلص منه...


أجل ستفعل ذلك...


أخذت تمسح على جبينها وهي تضغط عليه بأصابعها بقوة:


أحقاً سأنجح!!


قولوا بلى، أرجوكم..


أرجوكم...


وألقت نفسها على الوسادة وهي تجهش بالبكاء بصمت...



==========



النهار لا يلبث أن ينطوي سريعاً...


كصفحةٍ من الجريد هو....


ويأتي الليل بغيومه، بنجومه، برعوده!!!



لماذا يا "غدير" لماذا؟!



إن تبحثي بين سطور الورقِ
عما أردتُ قوله تحترقي

لا تقرأي إلا الجلي واتركي
عنكِ الخفي واسلمي من أرقِ

إن الحروف كالبحار من يخض
غمارها مهددٌ بالغرقِ


===============



تابع>>> (11)



سارحة في جلستها تلك، ويدها أسفل ذقنها، عيناها الشاردتان ترفّان وتمسان الهواء البارد المنبعث من جهاز التكييف...


كان يسرّح شعره استعداداً للخروج وهو يخاطبها من خلال المرآة، ناداها بعد ذلك عدة مرات علها تنتبه إليه...


رفعت رأسها ناحيته وهي ترفع حاجبيها بتساؤل:


- شيماء!!


- ماذا؟!


- ألن تذهبي معنا؟


- بلى، سآتي.


- هيا إذن ارتدي عباءتك، سيدمدم أبي إن تأخرنا.


نهضت وهي تسحب خمارها من الشماعة ببطء، اقتربت من زوجها وهي تدعك شيئاً علق بذيل الخمار.




- ناصر، لم لا تستشر أخاك في أمرنا؟! لقد درس الطب في السويد وبالتأكيد طرق العلاج هناك متطورة أكثر من هنا.


تطلع إليها بتعجب ثم سرعان ما قال عابساً:


- "وليد" لم يصبح طبيباً بعد حتى أستشيره.


- لم يتبق عليه إلا سنة واحدة ويتخرج.


عاد ليبعثر شعره من جديد في اتجاه آخر دون أن يعلق.


- ناصر!!

- ........

- ماذا قلت؟!

- أقول ماذا؟!


وتطلعت إليه بنفاذ صبر وقد تركت ما بيدها:

- أنت لا تأخذ الأمر بجدية أبداً.


حدجها بنظرة نافذة، لكنها لم تلن وبقيت على وقفتها الجامدة تلك..


رد بصوتٍ غاضب:


- ماذا تريدين بالضبط؟! أن أخاطب ذلك الغر وأستشره في...


قاطعته بسرعة:

- هو ليس غراً وإن كان على مظهره، فأنت تعرف أن معظم من يسافر للخارج يتغير..


- أنا لا أثق فيه أصلاً، حتى الدراسة أشك بأنه قد درس طب..


- وماذا كان يفعل إذن؟!


- لا أدري، لكنني لم أحب أن أقلق والدي بشكوكي هذه.


- أنت تتوهم، لقد آراني أنا وندى شهاداته للعام الماضي وكانت بتقدير "امتياز".


صمت برهة ثم تنهد مستغفراً:


- حتى وإن كان كذلك فسنستشر طبيباً حقيقياً وليس متدرباً.


- وماذا فعل الأطباء الحقيقيون؟! ليس لديهم إلا كلمة: اصبروا..اصبروا.. رددت بسخرية مريرة.


- وهذا بالفعل ما ينبغي علينا فعله، فليس بنا عيباً والحمد لله.


- وماذا ستخسر إذا سألته؟! أم أنت تغار منه لأنه أصغر منك ولديه شهادة جامعية!!



تعابير الوجه تجمد، و تتلاشى تلك الخطوط الدقيقة المحفورة في حناياه...


الألم يرتسم في المقلتين، ينعكس في العدستين الزجاجتين الصغيرتين...



خرج من الغرفة بهدوء، أما هي فتهاوت على الكرسي بتثاقل....



غطت وجهها لكأنها خجلت من فداحة ما قالته...


باتت تلقي الكثير من الكلام في الآونة الأخيرة..


دون حساب، دون حذر...


ليست من الدرر، ليست كذلك أبداً...



كلنا نشرب من هذه الكأس ولكن حذارِ، حذارِ من الانغماس حتى الثمالة!!!!




أتاها صوت "ندى" من أسفل ينادي عليها، يستعجلها للذهاب ويفيقها من خواطرها التعسة.....


ارتدت حجابها وهي تشعر بالضيق، ووصلت إلى حيثُ كانوا مجتمعين...


انقسمت العائلة إلى سيارتين، الأب ووليد وندى في سيارة و ناصر وشيماء وهدوءهما العاصف في سيارة أخرى...


=============



خرجت من غرفتها بتعثر وهي تتطلع لنفسها كل حين...


لقد اتصل خالها وقال أنهم سيأتون هذا المساء...


ارتدت بنطالاً من الجينز الأخضر الباهت، وقميصاً زيتوني اللون تنتهي أطرافه بقصات غريبة ذات طابع غجري...


مشت إلى الصالة دون هدى وهي منكسةٌ رأسها بقلق...



كان واقفاً أمام النافذة يطالع المارة والسيارات، وما أن سمع وقع أقدامها الخافتة حتى التفت إليها...


رفعت رأسها هي الأخرى ببطء فالتقت بعيناه....


وتضرج وجهها احمراراً مما رأته!!



كان يرتدي بدلةً بمثل لون قميصها وقد بدت عيناه منسجمة تماماً مع ما يرتديه..


كلاهما خضراوان!!!



حاولت أن تشيح وجهها وتطالع أي شئ، أي شئ، لكن تلك النظرة المرتسمة في عينيه عادت لتأسرها وتجبرها على النظر إليه من جديد!!



وتحرك هو من مكانه أما هي فبقيت متجمدة، واقفة بلا حراك، قدماها لا تتزحزحان عن البلاط!!



أصبح في مواجهتها مباشرة، عيناه تطوفان بحرية في قسمات وجهها المرتبكة في خجل غريب..


الزمن يتوقف هو الآخر، يتوه، أو ربما يحاول أن يختلس لحظات، لحظات فقط ويحتفظ بها في علبته!!!



ضاعت هي الأخرى...


عاجزة، حائرة من عينيه المتشابكتين في غموض، إعجاب، شوقٌ دفين....


أسبلت عينيها بضعف ومشاعر غريبة تمزقها، تُحيلها لأشلاء، ويظل بقاياها فتاتاً تذروه الريح والهمسات!!!


لا تريد أن تغرق في هذا المحيط البلوري، هي منارة هكذا هي، والمنارة إما أن تغرق أو تبقى صامدة حتى النهاية!!


أتاها صوته أجشاً هامساً:


- سيفدون الآن!!


- .............


- سيفدون الآن؟! كرر عبارته من جديد.



رفعت وجهها باضطراب وهي تحاول أن تتحاشى عينيه:


- وإذن؟! سألت بهمس.


- وليد و ناصر سيحضران أيضاً، أتريدين أن تخرجي أمامهم هكذا؟!



ها هي تطفو، تضيع بلا منارة بلا قشة!!



والصخب يعلو هنا، هنا بين الضلوع حيثُ يتوسد القلب بلا حول، بلا قوة!!!



استدارت لتعود إلى غرفتها وترتدي وشاحاً....


الطريق إلى هناك بدا طويلاً، متعباً، مؤلماً رغم قصر المسافة..


جلست على كرسيها بوهن وهي تحاول أن تتجنب تلك الغصة بصدرها، بحلقها..


الصراع النفسي منهك، مميت حتى النخاع...


سمعت أصوات التهاني والترحيب تتزاحم جملةً مع بعضها البعض و تقترب...


ارتدت وشاحها وهي تمسح عينيها بعجل...



وما أن فتحت الباب حتى أطلت "ندى" بوجهها الضاحك، عانقتها على الفور دون أن تترك لها المجال لتتنفس.



- لقد اشتقتُ لكِ كثيراً، الغرفة مظلمة بدونك..



عادت الابتسامة الضائعة لترتسم على شفتيها :


- وأنا أيضاً... كثيراً..


- اتركيها يا "ندى" أريد أن أسلم عليها أنا الأخرى. صاحت "شيماء".


- انتظري، أريد أن أسألها عن سبب جمالها المفاجئ مرةً واحدة، أعترفي أي نوعٍ من الكريمات تستخدمين، شانيل أم ديور؟!


ضحكت "غدير" وقد تورد خداها:


- لم أستخدم شيئاً صدقيني.


- إنها عروس، والعروس تكون مشرقة دوماً هكذا، ولكن ما أدراكِ أنتِ؟!


تطلعت لها "ندى" بحنق أما "غدير" فاكتفت بالإبتسام ببهتان، ردت عليها بعصبية:


- غداً عندما أتزوج إن شاء الله لا أريدك أن تزوريني في الصباح، أسمعتي؟!


- ومن هذا تعيس الحظ الذي سيجني على حياته بيديه ويأخذك؟!


- ربما المدير. ردت "غدير" بسرعة.



زمت "ندى" شفتيها بغضب وهما تضحكان عليها بصوتٍ مرتفع، مدت يدها وقرصت "شيماء" في ذراعها فصرخت الأخيرة متوجعة أما "غدير" ففرت من أمامها إلى الداخل وهي تصيح بتهديد وتضحك في آنٍ واحد:



- قفي مكانك، سأنادي خالي، كنتُ أمزح، نددددددددى..


وأخذت تجريان في الغرفة وهما تقذفان بعضهما بالوسائد.


وبينما كانت تحاول الوصول للباب اصطدمت بشئ!!


كان هو...


- أجل، أمسكها يا "عمر" سأقتصُ منها.



وبحركة دفاعية أحاطها بذراعيه وهو يرد على "ندى" بتهديد:


- كلا، هذه زوجتي إن اقتربتِ منها كسرتُ يدك.


- هكذا إذن؟!



وعبست في وجهيهما وهي تندب حظها العاثر:

- كلهم لديهم من يدافع عنهم إلا أنا..



نظرت إليه مشدوهة وقد مستها كلماته في الصميم، انتبه لها وهي تتأمله فعاد البريق البارد ليطوح نظراه وصوته من جديد:



- أبي يريد أن يسلم عليكِ.


هزت رأسها بالإيجاب دون أن تنطق، أبعد ذراعه عنها فأحست بالبرد والضياع!!!



أخذت تختلس النظرات إليه من جديد وهو بجانبها بقامته الطويلة...



إنها لا تفهمه، لا تفهمه أحياناً!!!



وقطع عليها خالها تفكيرها وهو يصافحها ثم يقبل جبينها ويجلسها بجانبه...



بارك لها "ناصر" و "وليد" وأعطياها هدية فأخذتهما شاكرة.


كانت تستمع إليهم وتبتسم بخفوت، كثيراً ما تتلاقى بعينيه فتضطرب وتعود لتعبث بما في يديها.


وحانت لحظة الإنصراف فقال "عمر":


- أبقى يا أبي وتعشى معنا.


تطلع إليه بعتاب وهو يسأله:


- جعلتها تطبخ منذُ اليوم الأول؟!


ابتسم في وجه والده:


- العشاء لا، سنطلب لنا جميعاً من أحد المطاعم.


- بالهناء والشفاء يا ابني، لكننا تأخرنا والبيت خالٍ دون رقيب.



تسمع حديثه وهو يتحدث وكأن شيئاً لم يكن، كزوجٍ سعيد هو!!!



غاب الرجال بالأسفل ولم يتبق إلا هي و"ندى" و"شيماء".



اعتراها الخوف فجأة من ذهابهم، أخذت تتطلع لصاحبتيها بتوتر وهما يمازحنها وتتشاجران دون أن تفقه ما تقولانه..




وحين تحركتا للإنصراف، وقفت هي الأخرى:


- أين ستذهبان، لازال الوقت مبكراً.


- الساعة التاسعة وأنا أنام مبكراً تعرفيني. ردت "شيماء".


تطلعت "غدير" إلى "ندى" بتوسل خفي:


- أبقي معي هذا المساء.


- لا بأس، ليس لدي مانع، سأستأذن من والدي أولاً.


لكن "شيماء" سحبتها معها والأخيرة تصيح:


- مع السلامة سنذهب الآن، لا عليكِ من هذه المجنونة.



و بدأ قلبها يدق بطريقة غريبة، بقوة، بجنون، تطلعت إلى حيث انصرفوا، إلى حيثُ خرجوا كلهم، كلهم دون استثناء!!!



أرادت أن تعود لغرفتها، لكن جسدها خانها مرةً أخرى، لم حين نأمره أحياناً يرفض الانصياع، تُرى ماذا يحدث للجهاز العصبي حينها، أيصاب بالركود أم ماذا؟!!



نظرت إلى القدمين اللتين انتصبتا أمامها، رمشت عينيها عدة مرات ثم صدت للأمام...



عيناه تتقدان شرراً و وجهه مظلم كسمرة الليل حين هجوعه...



فتحت شفتيها لتقول شيئاً لكنها أمسكت، بدت مبلدة الحس تلك اللحظة...



كيف يتغير الإنسان بين عشيةٍ وضحاها!!



ماذا حدث يا ترى؟!


وقطع السكون بصوتٍ قاسٍ مليء بالترهيب:


- ماذا قلتِ لشيماء؟!



ازدردت ريقها وهي تحاول أن تُخرج صوتها الذي احتبس في حنجرتها، ردت بإرتجاف:


- لم أقل لها شيئاً.


أمسكها من يدها بعنف وهو يصيح في وجهها:


- لاتكذبي..


- والله العظيم لم أقل شيئاً. ردت بتباكِ.


- تخالينها حمقاء مثلك!!


- لم أقل شيئاً..لم أقل شيئاً. وأخذت تجهش بالبكاء دون أن تعي ما يقصد...



كانت خائفة من نفسها أو ربما منه!!


أفلتها وهو يحدجها بإزدراء :


- لا تملكين إلا البكاء، أهذا ما تجيدينه؟!


وضعت باطن كفها على فمها كي تأد دمعتها وهي تسير إلى الخلف.



- أين تذهبين؟!


- أنا..أنا.....و اختفى صوتها المبحوح.



هز رأسه نافياً وهو يعقد حاجبيه:


- أنا من أقول متى تنامين ومتى تنهضين!! اجلسي.


وتطلعت إليه برجاء من بين غلالة دموعها الصامتة لكنهُ صمّ أذنيه عن نداءها اليائس...



جلست على الأريكة وهي مطرقة، وبقي هو واقفاً ووجهه محول للجانب الآخر...



ومرّ زمنٌ طويل وهما على هذه الحالة، وأخيراً نطق وبدا صوته لها بعيداً، غريباً، قادماً من كوكبٍ آخر!!!


- لا بد أن نتكلم في موضوعك، تعرفين، ذاك الذي تحبينه!!


رفعت رأسها بسرعة وكأن أفعى لدغتها لكنها سرعان ما أشاحت وجهها ونكست للأرض.



أردف وقد تغيرت نبرة صوته:


- لم تخبريني من هو، وأعتقد من حقي أن أعرف، ألا ترين ذلك؟!



وجهه ينضح بالعذاب، بالألم،بليلٍ سرمدي...


تساقطت دموعها بلا توقف وهي تكابد لوعة اجتاحتها تلك اللحظة..



- أنا لا أريد أن أرى دموعاً، أنا أريد أن أسمع فتكلمي...



الطعنات تتوالى والألم أكبر من أن يحتمل، لكنها من بدأت أليس كذلك وعليها أن تكمل...



الحروف كلما حاولت تجميعها، تنفلت، تتشتت، تنسل من ذاك الخيط الدقيق الذي يربطها معاً...



تحاملت على نفسها وهي تقول بجهد، بتقطع:


- هو..هو..


وصمتت وعيناها تسألانه قبل أن تلقي الرصاصة:


"لم تعذب نفسك وتعذبني"..


لكن عيناه كانت متوقفتان على شفتيها تنتظران منها الإفصاح، فليجرف السيل كل شئ، لا يهم، بعد ذلك لا يهم!!



- هو ابن..جارنا.



عاد الصمت ليخيم من جديد، وإن كان صمتاً مشحوناً برعود، ببروق، بأشواك...


- ولم لم يتقدم لكِ ليخطبك؟!


آه، لازال مصراً، لازالت السكين لا تتوقف عن القطع...



- لازال طالباً في الجامعة و..وظروفه لا تسمح له بالزواج حالياً.. ردت بشرود، دون حياة.


- آها، هكذا إذن؟!



وتغير صوته فجأة وبدت عيناه قاسيتين، سوداوتان!!!


- وماذا فعل بعد أن علم بأنكِ تزوجتِ الآن، وأن العصفورة قد طارت...


أفاقت من شرودها و أجفلت من مرآه، من صوته، وصمتت ترمقه بإرتياع..


صرخ بغضب:

- أجيبي..


غطت وجهها بيديها لكنه تقدم منها وأبعد تلك اليدين النحيلتين...



ثم أخذ يهزها كي تجيب، صاحت في النهاية بيأس:


- لا أدري..لا أدري.



قال بإجرام:


- عدتِ للكذب مرةً أخرى، لو تعلمين كم أكره الكذب والكذابين!! لا بد أنه كان بينكِ وبينه اتصال أليس كذلك؟! أو ربما كنتما تتقابلان ونحنُ لا نعلم؟!!!


- كلا، كلا، كلا...



وأخذت تجهش بالبكاء بمرارة وهي تصيح بلا دون توقف..


لكنه لم يرأف بحالها أو بحاله!!!


السكين لابد أن تقطع مرةً واحدة وبنفاذ أليس كذلك؟!


الموت البطئ ليس جيداً على الإطلاق، ليس مريحاً أبداً...



- إذن كيف تعارفتما وتكونت قصة حبكم الجميلة؟!أخبريني ربما غفلتُ عن بعض طرقكم الجديدة!!




وضعت يديها على أذنيها وهي تصرُّ على شفتيها بألم...



- لا تختبري صبري يا "غدير" وإلا قسماً قتلتك لا محالة.



دفنت رأسها في الأريكة وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:


- طلقني وارتح مني..



وكأنها ذرت الملح على الجرح النازف، ذاك الذي لازال طرياً، غضاً، لازال يسيلُ عبيطاً بقوة زخات المطر وبتموجات السم!!


امتدت يده لتطبق على عنقها بعنف ويديرها إليه، قرب وجهها المرتعش من وجهه حتى انسابت دموعها المالحة على يده....



ردّ بصوتٍ غائب عن الوجود، خالٍ من أي شئ إلا الفناء!!


- تريدين أن أطلقك كي تتزوجينه بعد ذلك..


- ................


- لكن هذا أبعد لكِ من طيل السحاب والموت أقربُ لكِ مما تريدين، طلاق ولن أطلقك وسأفعل ما أريده وسأتزوج عليكِ بدل الواحدة ثلاث.



- كلاااااااااااا.



وأخذت تصيح بجنون وهي تضربه بقبضتها المنفلتة:


- طلقني، طلقني، أنا لا أحبك لا أريدك.



تطلع إليها بإزدراء وهو يقول بسخرية قاسية:


- يا عزيزتي الحب بات شيئاً لا أؤمن به، غير موجود على الإطلاق في قاموسي.


أوقفت حركتها وهي تمسح وجهها بذراعها أو ربما لتخفي عينيها كي ترد بشكيمة!!


رفعت صوتها بتصميم وهي تقاوم تلك الأنفاس التي لا تلبث أن تجثو على صدرها، أن تضيق عليها الخناق...



- الحب موجود، حقيقي لأنني..لأنني أحبه هو، أسمعت؟!



وما أن رأت يده ترتفع لتهوي حتى دفنت رأسها بسرعة في صدره لتحتمي به منه!!!!!



تشبثت به بقوة بأصابعها المرتجفة وهي تتوسل إليه بكلمات غير واضحة...


سكن هو الآخر وإن بقيت يده معلقة في الهواء...


عيناه تجوبان هذا الرأس المندس، المرتعد خوفاً من يده الثقيلة....


الشجن ينطلق من تلك التي تكاد تغفو من شدة التعب، من كثرة التعب...





أرخى ذراعه، وأمسكها من كتفيها ليزيحها عن صدرها لكن سرعان ما استيقظت حواسها و انقضت عليه من جديد لتحتمي به منه من جديد!!!



- أنتِ ماذا تريدين؟! أن تذبحيني.. صاح بألم، بعذاب، بصوتٍ خافت وهو يهمس في أذنيها.



وأخيراً أبعدها عنه بضعف...

العذابات تتوالى...


و مصاعب تستعمر القلب كفوهة بركان ..


صراعات قلب و عقل..


فمن المنتصر ؟!
هل أنتِ يا حبيبتي حبيبتي؟
أم أنتِ يا حبيبتي مصيبتي؟!

أريدُ أن أقول فيكِ غزلاً
وأن يضوعَ فيك طيبُ طيبتي

لكن هواك غربةٌ فكيف لي
أن أصنع الأفراح من تغريبتي؟!!


=============


(12)




كانت واضعةً قدميها على الطاولة بإستهتار وهي تثني إحدى الأوراق بأناملها وتترنم بأحد الألحان...


فلا غرو، فاليوم هو الثاني بعد سفر المدير المفاجئ إلى "قطر"...


ومرّ في ذهنها خاطرٌ خبيث فابتسمت....


مدت يدها لحقيبتها وأخذت تعبث بها قليلاً وأخيراً أخرجت شيئاً...



نهضت من مكانها و توجهت لمكتب صاحبتها وهي تسألها بنعومة مصطنعة:


- "أشجان" متى سيعود المدير من سفره برأيك؟!


- لا أدري، ربما بعد أسبوع..


- امممم سنشتاقُ له كثيراً!!!!


ولوت فمها بقرف وهي تغطي جانب من وجهها الأيمن بيدها..


ثم أردفت بدلع:



- خذي هذه "علكة"، ذكرتك وأنا في المحل واشتريتها خصيصاً لكِ، تعرفينني لا أنسى من أحبهم أبداً...



والتفتت إلى "جميلة" التي كانت تطالعها بحنق، فبادلتها ابتسامةً عريضة وهي ترمش عينيها ببراءة:


- عذراً لا أملك قطعةً أخرى، سأكتب ملاحظة في المرة القادمة، تعرفين مشاكل الذاكرة هذه الأيام!!


وعادت لتخاطب "أشجان" من جديد وهي تعبث بخصلتها النافرة من حجابها:


- هل سمعتي أغنية "نانسي" الجديدة؟!



ولكزت إحدى عينيها ففهمتها "أشجان" وضحكت بخفوت..


ردت عليها والضحكة تملأ شفتيها:


- أي أغنية؟!


- أخصمك آه.


- هذه أغنية قديمة على ما أعتقد..


لوت "ندى" فمها وهي تعلّق بعتاب:


- ماذا جرى لكِ، ألم تعلمي؟! لقد أجرت على كلماتها بعض التعديلات!!


- يجوز... ردت وهي تهز رأسها بإيمان.



- المهم سأسمعك إياها.



و تراجعت بخفة إلى الوراء لتقف في المنتصف دون أن تأخذ موافقتهم!!!!


أخذت تتنحنح في البداية وهي ترمقهما بإبتسامة، ثم شكّلت يدها على هيئة "ميكرفون" وهي تنحني:


- تصفيق حار أولاً يا بنات لصاحبة الصوت العذب...شكراً شكراً.


وأعادت خصلتها إلى الداخل لتطربهم بصوتها الصداح!!



أخصمك آه

أسيبك لا


وجوّه الروح حتفضل "مديري" إلا آنه بهوااه!!!


يا لي بهواك مجنني يا لي بالشغل دايماً "متعبنيييييي"!!


..........................................


وانفجرت "أشجان" على طاولتها والدموع تطفر من عينيها لكنها استمرت بالغناء وهي تتحرك بجانب "جميلة" لتصطدم بها عمداً:


- أخ، لا تقفي أمام إبداعي، يا للغيرة القاتلة.


ومدت لها لسانها وهي تميل بجذعها وتسحب "أشجان" من يدها لتشاركها الرقص:



- تعالي وارقصي معنا، فساعات الحظ هذه لا تعوض. نادتها بسخرية.


خرجت "جميلة" من المكتب ومعها أوراقها وهي تنظر لهما شزراً...


- هههههه، ستخبر المدير بكل شئ بعد أن يعود.


ردت "ندى" وهي تحرك كتفيها بلا مبالاة:


- لا عليكِ منها، سأكذّب كل ما ستقوله، هيا أنا سأغني مقطعاً وأنتِ تُكملين.


- موافقة.



- أخصمك آه. ودارت حول نفسها.


- أسيبك لا...


- وجوّه الروح حتفضل "مديري" إلا آنه بهوااه!!!



وتبادلت الفتاتان المكان وهما تصفقان بأيدي بعضهما...


- يا لي......



وجمدت الفتاتان فجأة بمكانيهما وبعد أن أستوعبتا الشئ الواقف أمامهما صرختا بصوتٍ كاد أن تتهدم له أسقف الشركة....



خبأت "أشجان" وجهها المتضرج احمراراً من الإحراج بكفيها أما "ندى" فكادت أن تتعثر بحذائها المخلوع وهي تركض حافيةً كالصاروخ إلى الحمام...



أغلقت الباب خلفها وهي تصفع وجهها دون شعور:


- يا إلهي، الفاتحة، الفاتحة على روحك يا "ندى"!!


وسمعت طرقاً عنيفاً على الباب فهوى قلبها تحت قدميها...


أخذت تصيح بتوسل:


- ليس ذنبي أنا، "نانسي عجرم" من غنت هذه الأغنية!!


- افتحي الباب واخرجي من هنا..



- ستصرخ علي أعرفُ ذلك.



- افتحيه وإلا كسرته على رأسك.. صرخ بصوتٍ هادر.



- أريدُ أبي، أريد أن أعود للبيت، أخوتي مرضى، و أنا مريضة أيضاً، أصبتُ بالجدري، سأُعديك!!



ورفعت صوتها بتباكٍ وهي تقرص خدها أمام المرآة وتطالع نفسها بإعجاب في آنٍ واحد!!!


- سأعدُّ حتى الثلاثة إن لم تخرجي سيكون حسابك عسيراً. قال بتهديد.


عادت لتصيح بإستعطاف:


- أنت لا تصدقني، تريدني أن أشتري لك هذا الشريط وأسمعك إياه؟!


- قسماً بــ...


- لحظة لحظة سأخرج.



عادت لتربت على خدها وهي تدور في مكانها:



ماذا أفعل، ماذا أفعل!!


وفتحت ماء الصنبور، واختلست منه قطرات وضعتها في عينيها وهي تصرُّ عليها وتقرص خدها من جديد...



- اخرجي فوراً. صرخ بنفاذ صبر.




أمسكت إكرة الباب ببطء وهي تسمع الدماء تجول بقوة في رأسها وتعطله من الخوف...



وأخيراً فتحته وهي مطأطأة رأسها بأقصى ما تصل إليه حتى كادت رقبتها أن تنكسر من هذا الإنحناء القسري!!



كانت ترى حذائه فقط، هذا ما استطاعت مشاهدته!!



ازدردت ريقها وهي تقول بخفوت وذل:


- أستاذ، أستاذ لم أكن أعلم بأنك ستعود اليوم..


- حقاً!! أعتذر إن كنتُ قد قطعتُ عليكِ الحفل أنتِ وصديقتك!! رد بسخرية لاذعة.


- أستاذ أنا..أ...


- اخرسي أتخالين هذا المكان مرقصاً؟! أليس بكِ ذرة حياء واحدة، ألا تخجلين من نفسك؟!


"لا تبدأ بالغلط، سكتُ عنك كثيراً أيها السخيف!!!"..



- أستاذ، الطبيب الذي أعطاني العذر ذلك اليوم قال...


قاطعها بإستهزاء:



- ماذا قال هذه المرة أيضاً؟! أن ترقصي وتغني كي تعالجي جنونك!!!


غطت وجهها بكفيها وهي تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها من الإحراج..


- أ..أ...أ وعادت تتأتأ.



- اصمتي، كم مرة قلتُ لكِ لا أريد أن أسمع صوتكِ البشع هذا.


- أنا صوتي بشع؟! رفعت يدها عن وجهها وهي تصيح بإستنكار.



حدجها بنظرةٍ نارية فعادت لتزم فمها ووجهها منتفخ، أخذ يتأملها من رأسها لأخمص قدميها بإمتهان ثم توقف عند قدمها الحافية، كانت بلا حذاء!!!



تطلعت إلى حيثُ ينظر فصعقت وهي تتراجع للوراء بسرعة....


أخذت تردد بتلعثم وعلى فمها ابتسامة بلهاء:


- حذائي، أين ذهب؟! لا بد أنهم سرقوه، تعرف هذه الأيام كل شئٍ يسرق، وحذائي غالي الثمن، اشتريته بــ....


وعاد إليها المغص من جديد من ملامح وجهه المكفهرة...


- اليوم لن تخرجي من هنا، ستبقين هنا حتى المساء تعملين..


- مع "أشجان"؟!


- كلا لوحدك. رد بحسم.


رفعت أصبعها بإستنكار وهي تشير لـ"أشجان":


- هي أيضاً فعلت مثلي، هذا ظلم..


شهقت "أشجان" لكنها لم تبالِ بها وأخذت تنظر إليه بغضب:


- هي لم تكن كذلك أبداً وأنتِ من خربتها..



ضربت على صدرها وهي تصيح في وجهه:


- أنا خربتها؟! يا قليل ال...



وتقدم منها وقد أسودّ وجهه، سألها بصوتٍ مصرور:


- قليلُ ماذا؟! أكملي...


عادت لتنطق والحقد يملأ عينيها:


- يا قليل ال..ال...


وصمتت وهي تنظر للأرض كأنها تبحث عن شئ ثم صدت له وهي تطالعه:


- ال...الشعر!!



وتحركت عضلة صغيرة في زاوية فمه في شكلٍ أشبه بضحكة، لكن وجهه سرعان ما عاد لجديته وغموضه.



- في المرة القادمة لا تنسي أن تحضري معكِ "دفّاً" ربما تحتاجينه..




"أحتاج لمقص كي أقص لسانك الكريه هذا"...



وسار عنها إلى مكتبه وهي تتابعه بعينين لا تريان..


أخذت تخاطب نفسها بأسى:


- سيحبسني هنا حتى المساء، كيف سأتحمله!!



وأخذت تدق الأرض بقدمها الحافية دون شعور..


اقتربت منها "أشجان" وهي تربت على كتفيها:


- لا عليكِ، هو يومٌ واحدٌ فقط...



- بودي أن أعرف لم يكرهني أنا بالذات، دائماً أنا أنا أنااااااااااااااااااااااااا.



وأخذت ترفع من صوتها، فسحبتها هذه الأخيرة وهي تكمم فمها:


- اخفضي صوتكِ، تريدينه أن يسمعكِ من جديد ويمسح بكِ الأرض.


- دعيه يسمع، أنا أريده أن يسمع، يخالني أخافُ منه، ألا يعرف من هي "ندى"؟!



تطلعت إليها "أشجان" بإشفاق وهي تهز رأسها:


- أجل هو يعرف هذا جيداً...



- ثم ما ذنبي أنا إن كانت "نانسي" اللعينة تختار هذه الكلمات الخرقاء، أأنا من قلتُ لها ذلك؟!



- !!!!!!!!!!!


- ثم أين ذهب حذاااااااااااائي؟!



و أخذت تصرخ بهستيرية وهي تدور حول المكان وتلقي بالأشياء من حولها:


- سرقوووووووووه...



جلست "أشجان" على مكتبها وهي تطالع صاحبتها بخوف..


"يبدو أنها فقدت عقلها"...



==========

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 07:53 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية