كاتب الموضوع :
عاشقة الكتب
المنتدى :
الارشيف
- أتعتقد أن زواجهما سينجح؟!
غمغم "ناصر" بعبوس وهو مندمجٌ في القراءة:
- اممم، ما فهمته من والدي أنهُ زواج صوري ليس إلا.
- أعلم ذلك، ولكن الابتسامة لم تفارق وجه أخيك طيلة اليوم...
ابتسم "ناصر" وهو يذكر شكل أخيه الأكبر، ووجه "غدير" المرعوب التي ما فتأت أن أوقفت الإجراءات عدة مرات لولا إلحاح والده و"ندى".
- لا أدري، الله وحده يعلم ما إذا كان هذا الزواج سيستمر أم لا...
- ونعم بالله.
وعاد ليكمل قراءته، أما هي فأخذت تتطلع لخيطِ نشز من فستانها، محاولةً قطعه..
لكنهُ كان أملساً والخيط قصير أصعب من أن يُقطع هكذا!!!
ارتجفت أناماها لخاطرٍ مر عليها، خاطراً بات هاجساً بالنسبةِ لها..
تركت الخيط كما هو ونادت زوجها بصوتٍ هامس:
- ناصر...
- نعم..
تشجعت من ابتسامته الهادئة، اقتربت منه بإرتباك دون أن تنظر إليه مباشرةً:
- ما رأيك، أن..أن نذهب للمستشفى.
ترك ناصر الكتاب الذي بيده وهو يتطلع لها بتعجب:
- لماذا؟
- لـ..لإجراء فحص.
الدهشة تتسع في عينيه، لكنهُ سرعان ما فهمها، هو قد بدأ يلاحظ تلميحاتها لهذا الموضوع في الآونة الأخيرة.
- لا داعي لذلك..لازلنا في البداية.
- أعلم..لكن "ليلى" ابنة عـ...
- أعرف، قلتها لي من قبل، ولكن ما شأننا والآخرين، هذا الأمر بيد الله، وخوفك هذا لا مبرر له، حتى الطبيب سيقول لكِ ذلك.
نكست رأسها بأسى وانكسار.... تنهد من مرآها...
اقترب منها وهو يخاطبها بحنان:
- لا تبتأسي يا عزيزتي، اسمعي سننتظر شهراً آخر، إذا لم يحدث شئ، سنراجع الطبيب، هل ارتحتي الآن؟!
رفعت رأسها وقد تهلل وجهها وبان الفرحُ في عينيها، تطلعت إليه بحبٍ كبير، حبٍ جارف....
يا رب احفظ لهم سعادتهم!!!
=====================
الخروج الآن لوحدها بات خطيراً، في المرة المقبلة ستأخذ معها "ندى" أينما أرادت شيئاً، فالدنيا الآن لا أمان لها، لا أمان لها إطلاقاً!!!!
- لماذا تنظر إليّ هكذا..
- وكيف أنظر إليكِ؟!
- لاأدري..لكن..المهم نظراتك لا تعجبني.
- سأنظر كما يحلو لي، أتفهمين.
قالها بهدوء وهو يقترب منها شيئاً فشيئاً. تراجعت هي إلى الوراء بخوف حاولت أن تخفيه.
أجابت بحزم:
- لا أريد أن أفهم، وإذا كررتها سأضطر لأن أخبر خالي.
تطلع لها برهة بإستغراب ثم ضحك بقوة، سألها بإستهزاء:
- ستخبرينه بماذا؟! أن زوجك ينظر إليكِ!!!!!
- أنت لست زوجي...ألا تفهم. صاحت بحدة.
قبض على يدها وقد تلاشت تباشير الضحك من وجهه:
- بل زوجك رغماً عنكِ والورقة تؤكد ذلك.
حاولت أن تنزع تلك الأصابع القابضة على ذراعها ولكن دون جدوى.
صاحت بتقطع وقد خُطفت أنفاسها:
- قلتها بنفسك "على الورق" الورقة فقط من تجمع بيننا، لا شئ أكثر.
قرب وجهه من وجهها، حتى كادت أن ترى انعكاس صورتها في عينيه، رد بهدوء، بصوتٍ واطئ:
- هذا ما تتمنينه أنتِ أليس كذلك؟! لكن الوضع لن يبقى هكذا للأبد.
أنفاسه تحرق خديها، الاحمرار يتصاعد ليعمّ رقبتها، رمشت عينيها مراراً وتكراراً لعلّ الصورة تتضح، وبعد جهد أطلق سراحها فجأة..
ترنحت إلى الخلف وصدرها يعلو ويهبط من حدة الانفعالات التي اجتاحتها تلك اللحظة.
سألته بتقطع وهي تحاول أن تمسك بجمام نفسها:
- ماذا..ماذا تقصد؟!!
لم يجب واكتفى بالنظر إليها من جديد ولكن ببرود.
صاحت في وجهه:
- طلقني، أتسمع، طلقني.
قهقهته الجافة ترتفع، تتصاعد ولا تلبث أن تهوي، لكن أين؟!!
في أعماقها هي..هي وحدها...
نطق متشدقاً:
- وهل تزوجتك يا صغيرتي حتى أطلقك...
وقفت مشدوهة من عبارته للحظات، وكأن الزمن تجمد، كل شئ توقف، إلا صداه.
وحين فاقت من بهتانها، واستيقظت من خيالاتها، أخذت تنادي عليه...
لكنه كان قد سار عنها إلى غرفته، خياله تلاشى بين الأزقة، ضربت الأرض بقدميها لعلّ الدق يخفف دقات قلبها المرتاعة.....
القادم يبدو مخيفاً، غامضاً، مليئاً بالشوك، وقد بدأت أزهار الياسمين تبزغ من بين الحشائش!!!!!
===============
ماذا لدينا غير الاستسلام
وغير عزف نغمةِ السلام
الحربُ طالت بيننا حبيبتي
وآن أن أنام أو تنامي
عودي إلى طفولةٍ مُحتاجةٍ
للنوم في الهدوء والظلام
==============
(7)
استندت على الباب مغمضةً عينيها بقوة، الأصوات ترتفع وتعلو، وصوت صراخه يصمُّ الآذان....
عادت لتتحسس إكرة الباب كالعمياء لتستوثق من أنهُ قد قُفل بإحكام..
- كيف زوجتهما هكذا؟! هذا الزواج باطل..
- أبطله أنت إذا استطعت...
الحروف لا تُسمع الآن بوضوح، همهمة غير مفهومة هي التي طغت حول المكان، حيثُ اجتمع الرجال وأشباه الرجال!!!
أخيراً هدئت الجلبة، ربما خرج، لكن لا، ها هو صوته القبيح يعود من جديد:
- إن كنتُ قد قلتُ ذلك فمن خوفي أنا وأمها عليها ليس إلا، مسكينة لقد تركتها في البيت تبكي، ابنتها الوحيدة ولا تحضر عقد قرانها، لذا كان علي أن أتأكد...
ثم التفت إلى "عمر" وهو يبتسم له ابتسامته الصفراء اللزجة:
- مباركٌ عليك يا "عمر" عرفت أن تختار، انتبه لها!!!!
أيها ال****!!!
أرادت أن تصيغ السمع أكثر، أن تعرف ما رد عليه هذا الأخير، لكن صدى صوته لم يصل إليها بعد...
تنهدت وهي تسمعُ الأبواب تُصفق...
لقد انتهى كابوس!!
و بدأ كابوسٌ من نوعٍ آخر، أتراها تتخلصُ منه هو الآخر؟!!
ستحاول وبشتى الطرق، ولن تعدم أي وسيلة لذلك..
سمعت طرقاً خافتاً على الباب فاعتدلت في وقفتها، تساءلت:
- من؟
- هذا أنا.
- ماذا تُريد؟!
- أريد أن أحادثك قليلاً.
- قل، أنا أسمعك.
- افتحي الباب، ليس لائقاً أن أقف هكذا.
- ندى ليست هنا، و لن أفتح، أسمعت، لذا قل وخلصني.
صرّ على أسنانه، وهو يردّ عليها بصوتٍ كظيم:
- افتحي الباب وإلا كسرته على رأسك الفارغ.
- ما الفارغ إلا أنت، وإن كنت تجرؤ اكسره، سيأتي خالي وسيكسر رأسك...
- أخفتيني أنتِ بخالك..أم نسيتي أنهُ أبي أيضاً، ثم يا "حبوبة" أبي خرج هو الآخر..
صمتت وهي تسمع صوت تنفسه الغاضب، مرت ثواني قبل أن ترد بخوف:
- أنت تكذب، خالي لن يتركني مع...مع مثلك!!
صاح بإستنكارٍ أفزعها:
- مثلي؟!!
ثم أردف بغضب:
- حسابنا ليس الآن يا "غدير" سأجعلك تدفعين ثمن كل كلمة، كل عنادٍ عاندتيني إياه، كل شئ والأيامُ بيننا، أقسم بذلك.
ضربت الباب بقبضتها لعلها توقف الارتجاف الذي سرى في جسدها:
- طلقني ... طلقني، لا أريدُ أي شئ يربطني بك، أتسمع..
- هذا أبعدُ إليكِ من طيل السحاب...
وصفق هو الآخر باب غرفته المجاورة....
طلقني...
أخذت ترددها بهمس، وهي تنزلق لتصل إلى الأرض، إلى أدنى بقعة....
وضعت رأسها في حجرها و بكت بصمت....
ولكن من قال أن المصائب لا تأتي فُرادى؟!
غديـــــر..ماذا أقولُ لكِ؟!!
لا تعليق!!!
==============
وقفت أمام باب مكتبه عدة مرات، كلما همت أصابعها بأن تخدش خشبه أو تخدش وجهه!!! عادت لتضم يدها إلى جانبها من جديد...
وأخيراً، بعد عشر دقائق استجمعت شجاعتها وهي تردد كل الآيات التي حفظتها منذُ طفولتها، طرقته بخفوت فربما لا يسمعها وتعود إلى مكتبها، لكن صوته الجاف وأد أحلامها الخائبة.
- تفضل.
"أعوذُ بالله".
دخلت وبيدها الملف الذي أعطاها إياه بالأمس، لم يرفع نظرهُ إليها بعد، كان منهمكاً في توقيعِ أوراق..
تنحنحت لعل صوتها يخرج من احتباسه الأزلي كلما رأته.
- لقد راجعتُ الحسابات أستاذ.
- والنتيجة؟! سألها دون أن يرفع رأسه بعد.
- جميعها صحيحة.
حينها فقط رفع رأسه وأشار لها بأن هاتيه، مدتهُ إليه من بعيد، لكن يدها لم تصل إليه.
- اقتربي، لم أنتِ واقفة هكذا؟!
"أحقاً لا تعرف!!!"
تقدمت فتناولهُ منها، أخذ يتصفحه وهو يغمغم:
- إذن كل العمليات الإحصائية صحيحة؟!
- أجل.
وفجأة، ألقى الملف الذي بيده بقوة فأجفلت، وبقيت تنظر له بتعجب من نزوات غضبه الغريبة.
صاح في وجهها:
- صحيحة؟!! يا آنسة، هذا الملف قد تم مراجعته عدة مرات من قبلي وقِبل بعض الموظفين، واشتمل على 6 جداول إحصائية خاطئة، وتقولين جميعها صحيحة؟!!!
فتحت عينيها بدهشة على وسعهما ورددت دون تصديق، ودون أن تبالي بصياحه:
- لقد راجعته من قبل، وجعلتني أُعيد مراجعة ملايين الحسابات التي تحويه؟!
- كنتُ أريد أن أتأكد، ما إذا كان هناك شئ في العالم اسمه ضمير، دقة، أمانة.
العينان تكادان تخرجان من محجريهما واللسان ينطلق دون قيود، أخذت تهتف وهي تشير لوجهها:
- انظر..انظر لعيناي، كيف أصبحتا حمراوين، لم أنم البارحة إطلاقاً وأنا أراجع هذه الحسابات المطبوعة بآلة من العصر الحجري.
نظر إليها دهشاً من جرأتها وعفويتها في الكلام:
- وما شأني أنا إن نمتِ أم لا؟!
صاحت بتقطع وصدرها يعلو ويهبط بإضطراب:
- أنت..أنت..
- أنا ماذا؟ تكلمي.. سألها ببرود.
"أنت ****، نذل، جبان، أنت مزبلة التاريخ، بودي أن أخلع حذائي وأحطم جمجمتك".
عادت لتعض على نواجذها بقوة لبضع دقائق، ثم أفلتت شفتيها وهي تزفر بحقد:
- لاشئ يا.. يا أستاذ..
حدجها بنظرة هازئة وكأنه علم بأنها لن تقدر أن تنطق حرفاً.
فتح درج مكتبه، وأخذ يعبث فيه دون أن يحول عينيه عنها.
- أيمكن أن أنصرف الآن؟
- لحظة..انتظري.
وأخرج شيئاً ما:
- خذي هذه حسابات أخرى تخص بنك "......" راجعيها و افتحي هاتين العينين المكحلتين جيداً..
- هذا ليس كحلاً، هذه هالات سوداء من أوراق البارحة. قالتها ودموعها توشك أن تطفر من الغيظ.
لم يبالي بما قالته، تأمل بإهتمام تغير ألوان وجهها بالتدريج.
كانت تتطلع إلى الملف الذي لو تُرك له المجال لينطق، لأنًّ من ثقله!!
- هذا كثير!! هذا الأسبوع زواج إحدى قريباتي و.....
"يا رب تكثر عليك العقارب والأفاعي".
قاطعها وهو يعنفها:
- وهل نحنُ نلعب؟! هذا عمل، ما دمتِ لستِ نداً لهذا النوع من الأشغال لم أخذتِ تخصص محاسبة.
وأردف:
- أنا لا أحب التلكأ أو التبريرات الواهية للتهرب من العمل..ولا تُدخلي شؤونك الخاصة في العمل، مفهوم؟!
- ...................
- لم أسمع جوابك، أم أن كلامي لا يعجبك؟!
"لا يعجبني!! يا أخي أنت بأكملك لا تعجبني".
- مفهوم يا أستاذ. أجابت بذّل.
واستدارت لتعود من حيثُ أتت، تسبقها آلالاف الدعوات عليه طبعاً!!!
- يا آنسة..
- نعم؟!
- وجهكِ منتفخ...تنفسي ببطء، ليس جيداً لصحتك هذا الاحتقان.
وكادت أن تتعثر بالسجادة المبسوطة في مكتبه:
- انتبهي أثناء سيرك أو ارتدي نظارات ما دمتِ لا ترين جيداً...
وما أن خرجت من مكتبه حتى أخرجت الصرخة التي كانت قد كتمتها طويلاً,,,
ولكنها، لم تجد إلا الجدران وحدها لتتلقفها!!!
=============
- ماذا سترتدن في الحفلة؟ سألت "شيماء"
- أنا عن نفسي لا أملك ثوباً، سأطلب من والدي نقوداً لأشتري شيئاً جديداً.
- وماذا عنكِ "غدير"؟!
- أنا؟!
- أجل..
- أنا لن أذهب، لا أعرف أحداً، ماذا سيقولون عني؟! "أطرش في الزفة".
- يا عزيزتي، لقد بتِّ فرداً منا، يا حرم أخونا المصون.
حدجتها "غدير" بنظرة نارية، وعادت لتكتب شيئاً في دفترها..
لا أفهمه، لا أعرفه!!
من؟!!
قالوا عنهُ زوجي...
وأغلقت الدفتر بشرود...
- ماذا قلتِ؟! عادت "شيماء" لتسألها.
- امممم، لا أدري.
- ستأتين رغماً عن أنفك. ردت "ندى".
- لاأملك مالاً.
- والدي لن يبخل أبداً على ابنة أخته..
قاطعتها "شيماء" وهي تغمز عينيها:
- ولم عمي؟! الآن أصبحت في ذمة رجل آخر مسؤول عنها.
وضحكت الفتاتان و"غدير" تنظر لهما بحنق، ودثرت نفسها بغطاءها لعلها تهجع وتسلم من لسانهما.
"يا ليت!!"
==============
- ندى قومي، قومي..
- آ..آآه ماذا تريدين؟
- أريدُ أن أشرب كوب ماء.
- اذهبي واشربي.
وعادت لتتدثر في فراشها من جديد.
- ندى، أنا أخاف من الظلام، قومي معي.
من الظلام أو من ذاك الذي يترصدُ بك في الظلام!!
- أريد أن أنام..المدير ال****...
- أيُّ مديرٍ تتحدثين عنه؟!
لكن الأخيرة لم تجبها، فرأسها مثقل من حسابات الأمس واليوم، والمعادلات وعلامات الجمع والطرح تطنُ بجنون أمام عينيها كأزيز نحلة!!
تطلعت إلى النائمة بيأس....
أأنبأكم إحساسكم يوماً أن شيئاً سيئاً سيحدث إن فعلتم هذا الشئ، ومع ذلك تفعلونه؟!!
ارتدت "غدير" حجابها بيدٍ ترتجف، ها هي تفتح باب غرفتها ببطء كلصة تتسلل بين الأزقة....
صوبت بصرها إلى الغرفة المجاورة، كان الهدوء والظلام سيدا المكان بلا نزاع..
مشت على أطراف أصابعها....
اللهيب يتراقص والفراشة تهوي إليه رغماً عنها، تتراقص بخفة حوله، تفرد جناحيها الجميلين، وفي لحظةٍ ما، تسقط!!!!
أجل تسقط...
فأنى لجناحيها أن يتحملا قسوة تلك النار...
احذري يا غدير، احذري...
وصلت إلى هناك، كان مصباح المطبخ مولعاً، توجهت إلى الثلاجة وسكبت لها كأساً.
لم تنتبه إلى الظل الذي بقى واقفاً يتأملها وهي تزدرد الماء.
وحين همّت بإرجاع الكأس لمكانه، هتف بسرعة:
- انتظري.
والتفتت إلى مصدر الصوت، كان واقفاً بمحاذاة الباب وعيناه الخضراوان ترصدان تحركاتها...
على شفتيه ابتسامة، ماذا عنها هي؟!!
استندت بضعف بجانب الثلاجة، تنفسها بات سريعاً، متلاحقاً، ونبضات قلبها تدق بجنون...
لسانها يتثاقل، والصوت يخرج بخفوت، بتقطع:
- أنت..أنت ماذا تريد؟
رفع يديه إلى أعلى ببراءة موضحاً:
- أريدُ فقط كوب ماء.
- أنت تكذب، تعتقد أن خدعتك ستنطلي عليّ...
- كم أنتِ واهمة كثيراً بنفسك..هيا اعطني كوب ماء.
- لن أُعطك شيئاً.
- إذن سآخذهُ بنفسي..
صرخت مهددةً وهي تنكمش على نفسها:
- لا تقترب.
- اخفضي صوتك أيتها المجنونة.
الكأس يكاد يتحطم، يتلاشى بين أصابعها، الضغطُ على الكأس وفي الهواء يزداد، وإن كان الكأس من زجاج فما بين الضلوع أرق من أكسير..
عادت لتنكمش، لتنزوي بعيداً عنه، الصدرُ يعلو ويهبط بقوة، والامتقاع يلون وجهها بألوان شفافة، خالية من أي لون!!!
صاحت فيه بيأس:
- قل لي ماذا تُريد وخلصني.
- أريدُ كأس ما، لم لا تصدقين، ماذا في رأسكِ هذا؟!
رددت بشرود:
- تريدُ ماء؟!
- أجل ماء..ماء فقط، ليس في نيتي أي شئ آخر!!
تطلعت بداخل الكأس لثواني، ثم عادت لتنظر إليه، على وجهه علامات تساؤل، تعجب، تفكير!!!
حاجباه التصقا معاً بصرامة، وشئ ارتسم في عينيه، عادت لتسأله بصوتٍ شارد:
- تريدُ ماء؟!
- أجل ماء. أجابها متفحصاً.
فتحت باب الثلاجة من جديد، سكبت الماء في الكأس، ها هو يطفو ويلامس حافته.
مدتهُ إليه بيدٍ ترتعش، الماء قد بدأ ينسكب شيئاً فشيئاً على الأرض واليد لا تتوقف عن الاهتزاز...
تقدم منها ببطء، العينان الخضراوان تعكسان شيئاً غريباً، تكادان تنطقان:
لماذا؟!
مدّ يدهُ هو الآخر، تابعت هذه اليد الممدودة وهي تقترب ببطء، أنامله كادت تصل ولم يتبقى من الكأس إلا ثلثه!!!
وما أن مسّت أصابعه حافته حتى أسقطته، وانتثر زجاجه على البلاط..
شهقت وهي تلطمُ وجهها، أخذت تنظر بهلع إليه وإلى الزجاج، هزت رأسها بجنون نافيةً وهي تصيح بصوتٍ مبحوح:
- لم أقصد أنا..لم أقصد..
- لا بأس..لايـهم.
واقترب منها محاولةً تهدئتها، صرخت بجزع وهي تحمي نفسها بيديها:
- لا تضربني..
- لن أضربك..
لكنها لم تكن تسمع، لازالت تتراجع ويديها تغطيان وجهها برعب.
وأحاطها بذراعيه بقوة، رغم احتاجها، رغم ممانعتها، رغم الخدوش التي خدشتهُ بها!!!!
لازالت تقاوم، كلبؤة هي...
كلبؤة أم طيرٍ جريح؟!!!
هزها من ذراعيها بقوة لعلها توقف صراعها المحموم معه...
أجنحة الفراشة تتكسر، تذوي واللهب لازال مشتعلاً، لازال يتراقص بخفوت فوق ذُبالته...
عادت لتسأله بوهن من بين دموعها:
- ماذا تريد؟!
- قلتُ لكِ لا أريدُ شيئاً..
عاد ليضمها بقوة ليطفأ مقاومتها الأخيرة، فالجسد بات واهناً، أضعف من أن يقف صامداً أمام اللهب!!
بكت كثيراً على صدره، يدها لاتزال تهوي على كتفيه بهون، والشهقات لا تتوقف..
أيُّ زمنٍ توقف لتلك الصورة الفريدة....
أتراها ستتكرر؟!
صوت بكائها يخفت، يذوي كذُبالة الأمس، واليد تتوقف...
وهناك، في سمرة الليل، عينان تسمرتا:
- "عمر"..."غدير"!!!
نزعت "غدير" نفسها وهي تشهق من صوت الأب المستنكر....
أخذت تجول بصرها بين الأثنين بذهول، بتعجب، دهشةً هي من نفسها...
وحين أفاقت، ركضت إلى غرفتها وهي تتخطى صوت الأب المستنكر...
الريح تصفر في الخارج....
وقد بدت نجوم السماء قلوباً واهنة تنبضُ من بعيد....
وهناك في غرفةٍ ليست ببعيدة، انساب نشيج يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر!!!
ويبقى صوتُ الأب هو الفاصل...
تُرى ماذا تحمل الأيام القادمة لـــ:
غدير، عمر، ندى؟!!!
انتظروني....
لاأنااام...
أبعدتُ عنك سيدي فؤادي
فارجع إلى طبائعِ الاستبدادِ
اغضب وصح فلن يضجّ مسمعي
لأنني أسمعُ في حيادِ
الحبُّ مات بيننا لأنهُ
لا حُبّ بين العبدِ والأسيادِ!!
===============
(8)
أناملها تلامس شفتيها المرتجفتين وقد ارتكزت بإحدى يديها على سطح الأرض بضعف...
هي لا تصدق ما حدث للتو!!
كيف حدث ذلك؟!
هو السبب، ذلك الغشاش المخادع يخالني لا أعرفه، لا أفهمه، لكن لا...
لا وألفُ لا، سأحاربه....سأٌقاومه حتى آخر رمقٍ لي..
لأنني...لأنني أكرهه!!
أكرهه وكفى!!
امتدت أصابعها لخدها وهي تهزُّ رأسها، الدموع تملأ الوجه المعذب، تحفر في حناياه شيئاً، والخطوط تتضح لتكون معلَماً,,
السطور تُرسم، والوجه صفحة، يحتاج لمن يفهمه ويقرأه....
عادت لتهز رأسها غير مصدقة....
الحروف تتبعثر، والكلمات تتلاشى وتبتعد هناك، حيثُ لا قلم، لا حبر، لا سطور!!
همست لنفسها بخوف:
- و خالي، ماذا سيقول عني الآن؟!!
- ماذا سيفعل؟!
- رحماك يا رب رحماك....
نجوم السماء تتراءى من خلف زجاج النافذة، ها هي تنبض بقوة ووضوح، في نورها أمل وألم!!!
اتجهت لفراشها وهي تحيطُ نفسها بدثارها، لعلها تشعر بالأمان قليلاً، قلبها لم يتوقف عن الدق بعنف، بجنون...
أخذت تطمأن نفسها:
ما حدث كان كذبة، كذبة سقيمة من تخيلاتي...
لا بد أنني كنتُ أحلم، أتوهم...
ولكن....
كيف حدث ذلك أخبروني، كيف؟؟!!
الجبين لازال يتصفد عرقاً رغم الجو المكيف، وباب الغرفة المجاورة لم يُوصد بعد!!!
=================
- "غدير" انهضي..
- ............
- غدير!!
ردت دون أن تفتح عينيها، الصوتُ كان متعباً، راحلاً منذُ الأمس:
- ماذا تريدين؟!
- هيا افطري.
- لا أريد.
"لا أريدُ شيئاً، لا أريد أن أراهم، لا أريدُ أن أرى خالي".
- أيتها الكسولة!!
- أريدُ أن أنام.
"لم يصافحني الكرى منذُ الأمس، هو السبب، هو الغشاش، المخادع".
وعادت لتتدثر من جديد...
الهجوع نعمة، لا يقدرها إلا المحرومون!!
==============
- هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. تتمتعين بلباقة الحديث وتستفيدين من قوة إقناع مميزة تجعلك محط أنظار العديد من الأشخاص.
رفعت "ندى" رأسها عن الجريدة بزهو وهي تبتسم لصُحيباتها، ثم أردفت بخيلاء وهي تضم خصلة نشزت سهواً من حجابها للداخل:
- كم أحب "الأبراج" تشعرني بالتفاؤل.
- أنا لا أصدقها. ردت "جميلة".
"أكيد لن تصدقيها لأنكِ حقودة وحسودة، ولو كان طالعي اليوم سيئاً لقلتِ آميين!!".
- ندى، أقرأي برج المدير.. خاطبتها "أشجان".
- من أي برجٍ هو؟!
- من برج الحمل..
فتحت "ندى" عينيها دهشة في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن ضحكت بإستهزاء:
- الحمل؟!!! ظننته من برج "الثور"، برج "أم دويس"، برج "الله وأكبر عليك يا الظالم"...
ثم أكملت وهي ترفع الجريدة لأعلى:
- اسمعن "برج الوحش" ماذا يقول اليوم: تتجه إلى إقامة علاقات فوضوية. كن صادقاً مع نفسك واعطِ قلبك فرصة ليدق دقاته الحقيقية..
ولم تكمل، إذ غرقت في نوبة هستيرية من الطراز الأول:
- قلبه يدق؟! أشك..أشك إن كان لدى هذا الرجل قلبٌ أصلاً..
وألقت الجريدة ووجهها يتضرج احمراراً من شدة الضحك:
- مسكينــ .....
لكنها توقفت فجأة ما أن رأت وجه "أشجان" الذي تغير فجأة والتي راحت تدفن رأسها في الأوراق الموضوعة أمامها، ولم تفتها تلك الابتسامة الخبيثة التي لاحت على شفتي "جميلة"..
وبلا شعور صدت للباب، ورأتهُ واقفاً وقد ضمّ قبضته لجانبه وانحرف فمه بزاوية حادة...
وضعت يدها على فمها وهي تشهق وتسب نفسها في سرها ومن أخترع الأبراج ووضعها في الجرائد!!!
- أ..أ...أ.. هذا كان..كان برجي أنا. وابتسمت ببلاهة وهي تشير لصحيباتها كي يؤيدنها لكن أحداً منهن لم تنطق بكلمة.
ملامح وجهه الجامدة جعلتها تزدرد ريقها وتبتلع ابتسامتها البلهاء.
- تعالي إلى المكتب فوراً. قالها بصوتٍ آمر مليء بالوعيد.
وانصرف إلى الداخل..
- ماذا أفعل، أشيروا علي، ثم لماذا لم تخبروني، أشهد ألا إله إلا الله، منذُ زمن والنحس مكتوب على جبينك يا "ندى".
وأخذت تندب حظها العاثر و"أشجان" تحاول تهدئتها:
- لقد جاء على حين غرة، ثم لقد أشرتُ عليكِ بأن تتوقفي لكن صفحة الجريدة كانت تغطي وجهك بأكمله.
- ماذا يقول برجكِ اليوم: هذا الأسبوع يحمل لكِ الرضا والسعادة. قالتها "جميلة" بإستهزاء وتشفٍ، ثم أردفت:
- صدق تعالى حين قال "كذب المنجمون ولو صدقوا".
لم ترد عليها "ندى" بل أخذت تحدجها بنظرة نارية وهي تود لو تنقض عليها وتملأ وجهها بعلامات خضراء وزرقاء بدلاً من ألوان المكياج التي تصبغ بها وجهها كل يوم.
التفتت لأشجان وهي تسألها:
- ماذا أفعل الآن؟!
- أذهبي له الآن..
- ماذا؟!
وكأن أفعى لدغتها، أحنت جذعها لتحكم إرتداء لحذائها، قالت دون أن ترفع رأسها:
- أذهب إليه وهو في هذه الحالة؟!! مستحيل.
وسحبت حقيبتها والجريدة بعد أن جعدتها بغيظ:
- أنا سأعود إلى البيت الآن، بعد يومين لدي حفلة إحدى قريباتي و أريد أن أذهب هناك وأنا سليمة، مع السلامة.
- انتظري...
- قولي له معدتها آلمتها، أخاها عاد من السفر، دهستها سيارة، أي شئ...
وانصرفت عنهم وهي تهرول حامدةً نجاتها، تاركةً بركان الغضب ينتظرها هناك لوحده!!!
===========
سمعت طرقاً على الباب، عادت لتتدثر وتصمّ آذانها وتتظاهر بالنوم من جديد:
- "غدير" هذا أنا خالك افتحي الباب.
فزّت من فراشها وقد بدأت تقضم أظافرها دون شعور:
- غدير!!
- لحظة، لحظة، سأفتح الآن..
تلكأت كثيراً قبل أن تمسك إكرة الباب، طأطأت رأسها وهي تتحاشى النظر إليه....
جلس على الكرسي المقابل للمنضدة أما هي فاحتارت...
أتقف أم تجلس على حافة السرير، أم ترمي بنفسها من النافذة وترتاح من الموقف برمته!!!!
كان يتأملها، ويتأمل علامات الشعور بالذنب الذي أنطبعت على وجهها حمراء قانية...
الصمت بينهما طال، كلاهما سارحٌ بفكره، ولكن ما أصعب الانتظار..
الكلمات لا بد أن تُراق بسرعة، بسرعة، حتى يكون أثرها قاضياً مميتاً، ربما بعدها يلتأم الجرح دفعة واحدة!!
والنزف، النزف فلتكن حذراً منه، إياك أن تقترب منه، فغبار الأيام كفيلة بأن تثيره، وتجدد ثوب حزنه من جديد...
لكن المشكلة تكمن في نوع الجرح، أليس كذلك؟!
أهي جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!
طال الصمت وآن لهُ أن يقطع، والمجرم لا بد له أن يتكلم، أثمه يخنقه، يضيق عليه الخناق...
دعه يتحدث لعل مطرقة الضمير تتنحى عنه، فلقد أعياها وأثقل همها..
الحروف تخرج مترددة، مبعثرة، خجلة هي من نفسها:
- خالي، أنا..أنا...
لكنها لم تستطع أن تكمل، ماذا تريدونها أن تقول؟!
تنهد وهو يربت على ركبته:
- بعد الذي حدث البارحة لا بُد أن يتمم هذا الزواج.
- لا أرييييييد.
وانكبت على قدميه وهي تنتحب:
- لن أخرج من هنا حتى، سأحبس نفسي، ولكن لا، لا توافق يا خالي.
- لماذا يا ابنتي كل هذا؟! لماذا تتعبين نفسك وتتعبيني؟!
- أنا قلتُ لك، نحنُ..نحنُ مختلفان.
- لكنكما تزوجتما وانتهى الأمر، ليس من المعقول أن تبقيا هكذا للأبد.
- ..................
- ثم لا بد أن تتابعا حياتكما، كلٌّ له حق بأن يعيش..
- فليكمل هو حياته، أنا مرتاحة هكذا، فليطلقني، أجل يطلقني ويذهب كلٌّ في حال سبيله.
- ماذا تقولين؟! لم يمر أسبوع واحد على قرانك وتريدين الطلاق؟! وبهذا السن الصغيرة؟! لا حول ولا قوة إلا بالله.
"ليتني لم أوافق منذ الأساس، ليتني"..
- أنا أقبل بأي شئ إلا هذا، أتوسل إليك يا خالي، أتوسل إليك.
ودفنت رأسها بين قدميه، وهي تتشبث به بإستعطاف...
جثا للأرض وهو يمسحُ على شعرها، رفع وجهها المبلل بالدموع:
- لا تتوسلي يا ابنتي، وسيكونُ لكِ ما تريدين، ولكن اعلمي ستكون هذه آخر فرصة لكما، إن تكرر ما حدث بالأمس، سأبتُ في الأمر.
- حـــ....حسناً..
ربت على ظهرها لكي تقف على قدميها من جديد...
كان يتنهد كل حين وكأن شيئاً يضايقه، وكأن الأمر برمته لا يعجبه....
- هيا قومي لتتناولي إفطارك.
- لا أريد...ليس الآن.
"ربما لحين أن يذهب ذاك إلى عمله".
- طيب سأترككِ، ولا حاجة لأن تحبسي نفسكِ هنا.
هزت رأسها بإيجاب دون أن تؤمن فعلاً بإماءتها...
وما أن خرج وابتعدت خطواته حتى أوصدت باب غرفتها من جديد...
تنهدت هي الأخرى وهي تلهج بالحمد، لقد نجت بأعجوبة!!!
لكن تنهيدتها لم تكتمل، إذ سرعان ما سمعت صوت "عمر" يرتفع شيئاً فشيئاً، وكان يقول شيئاً عنها...
أخذت تدور في الغرفة بتوتر وهي تقضم أظافرها من جديد، وما هي إلا ثواني حتى سمعت طرقاً عنيفاً على الباب..
توقفت في مكانها وقد أخذ منها الخوف مأخذاً كبيراً...
- من؟!
- لا تتظاهري بالغباء.
- ماذا.. ماذا تريد؟
- أحقاً لا تعرفين!! صاح فيها بشراسة.
- قلتُ لك لا تتعب نفسك معي.
- أنتِ مجنونة.
- أجل مجنونة، أتريدُ الزواج بمجنونة؟!
- بودي ذلك كي أعالجك.
- أليس لديك كرامة، أقولُ لك لا أريدك، لا أريدك، أتريدني أن أصرخ عالياً علك تفهم.
- اسمعيني هذا الزواج سيكتمل شأتِ أم أبيتِ، وتوجد طرق كثيرة لإجبارك على ذلك..
- أنت شخص لا تُطاق.
- لديكِ 4 جدران في غرفتك، أليس كذلك؟!
لم تفهم مغزى سؤاله لكن أجابته بنعم.
- وباب أيضاً؟!
- نــ..عم..
- اضربي رأسكِ بأياً منهم.
وانصرف تاركاً إياها في حالة فوضى...
مستحيل، هذا الرجل مستحيل!!
وقطع صوت ندى خيالاتها...
- لحظة، لحظة.
ولجت إلى الداخل وهي تتنفس بسرعة:
- أعوذُ بالله..
نظرت إليا "غدير" بتساؤل:
- بعلك العزيز كان سيقطع رأسي منذُ قليل.
تجاهلت "غدير" كلمة "بعلك" وعادت لتستفسر:
- لماذا؟!
- لأنني سألتهُ كيف حالك!!
ثم أردفت وهي تلقي بنفسها على السرير:
- الإجرام تفشى في كل مكان، في البيت، وفي المكتب..
أخذت "ندى" تثرثر عما حدث لها اليوم، والأخيرة لا تسمع، كان ذهنها منصرف للذاهب منذُ قليل، في حديثه، في تهديده المبطن...
أتراها ستنجو فعلاً؟!
أتمنى ذلك.....
==============
|