لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > قسم الارشيف والمواضيع القديمة > الارشيف
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الارشيف يحتوي على مواضيع قديمة او مواضيع مكررة او محتوى روابط غير عاملة لقدمها


 
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-05-07, 04:45 PM   المشاركة رقم: 6
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

(12)



أوقفت قلمها عن الكتابة فجأة وهي ترهف السمع للصوت القادم من بعيد...


لحظة!! هذا ليس بصدى صوته...


ربما كان ذلك صدى أنفاسها هي، أو صدى خواطرها التي باتت تأرقها منذُ يومين!!!


منذُ آخر مساءٍ جمعهما معاً...


أين هو ؟! و أين ذهب؟!


وعاد القلق ليعتريها من جديد، فأزاحت دفترها عن جانبها وفتحت باب حجرتها لتخرج...


أخذت تدور حول الشقة ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم ولكن دون أن ترى له أثراً في هذا المكان....


أمن المعقول أن يتركها هنا لوحدها؟!!


كلا، كلا هذا ليس من شيمه البتة...


وتطلعت إلى غرفته بوجوم، هذا هو المكان الوحيد الذي لم تطرقه بعد...



أتراهُ يحبس نفسه فيها كما تفعل هي؟!


توقفت أمام باب غرفته بتوجس، لكنها استجمعت شجاعتها أخيراً وطرقتها بخفوت....



لا إجابة، لا صوت، لا صدى!!


زادت من دقها وهي تنادي عليه:

- عمر!!


ليس هنا أيضاً...


وانقبض صدرها وهي تقف في مكانها بحيرة، أرادت أن تعود إلى حيثُ كانت من جديد لكن شيئاً استوقفها...


أمسكت إكرة الباب وأدارتها فانفتح شيئاً فشيئاً...



أطلت من تلك الفرجة الضيقة وهي تجول ببصرها حول الغرفة التي لم تطأها قدماها من قبل.....


وفتحت الباب على مصراعيه...


كانت واسعة، فسيحة، جدرانها مطلية بلونٍ مشمشي فاتح...


ولجت إلى الداخل، وبلا شعور أخذت تتفقد محتوياتها وتجمع تلك الملابس المبعثرة على الأرض...


كان فيها شيئاً منه، شيئاً لم تستطع تلك النافذة المفتوحة أن تتخلص منها رغم هبات النسيم التي تعبث بحرية في تلك الستارة.....



ربما كانت رائحة عطره المميزة، أو غموضه أو حتى قسوته!!


عادت لتحني جذعها وتلتقط فرشاة شعره الملقاة على الأرض....



وضعتها على طاولة الزينة لكنها توقفت طويلاً أمامها وقد جذبتها تلك الصورة الصغيرة المحاطة بإطارٍ نحاسي مُذهب....


أمسكتها بيديها الصغيرتين وهي تمرر أناملها النحيلة عليها....


تأملت صاحب الصورة، وجهه، عيناه، وكل خلجةٍ من خلجاته...


ولاح طيفُ ابتسامةٍ باهتة على شفتيها وهي تلمس عيناه!!


لم تعرف حتى الآن مِن مَن اكتسب هذا اللون؟!


أتراها ستعرف يوماً أم لن تجرؤ على سؤاله حتى؟!


وطمست الصورة بيدها وهي تضمها إلى حجرها بقوة وألم...



هبات النسيم لازالت تدور بحرية، تجوبُ الستار والزوايا والزمن!!!



لكنها تقفُ عاجزةً عن اختراق الجنان، عاجزةً أن تمنحه شيئاً من الراحة والطمأنينة والسكون....



- ماذا تفعلين في غرفتي؟!



ورفعت رأسها فجأة بذعر منتشلةً خواطرها، لتجد صاحب الصورة واقفاً ويده مرتكزةً على الباب...


تراجعت إلى الوراء وهي تخفي ما بيدها خلفها بخوف...



كان ينظر لها بتعب وقد بدا الإرهاق على وجهه الأسمر ما خلا ذلك البريق القاسي الذي بات يلوح في عينيه في الآونة الأخيرة...



- أأعجبتكِ غرفتي؟!


- ..................


- ربما تودين الإنتقال إليها؟!! سألها بسخرية مؤلمة.



أطرقت للأرض وهي تهزُّ رأسها نفياً ببطء...



خيم السكون المتوتر عليهما من جديد، لكن صوته الهادر أجفلها:


- إياكِ أن تأتي إلى هنا يا "غدير"، إن أردتِ أن تسلمي مني..


ثم أردف وهو يصيح:


- اخرجي من هنا فوراً...



وانكمشت في مكانها وهي تعضُّ على نواجذها بقوة....



لازالت مطرقة، لازالت هاوية، لازالت ضائعة هنا و الصورة لازالت بين يديها!!!!


وابتعد عن الباب وهو يتقدم منها بغضب من وقفتها هكذا بلا حراك....


أمسكها من ذراعها المنثني وهو يصرخ في وجهها:


- لقد عُيل صبري منكِ، أنا لستُ قديساً، لستُ قديساً أتفهمين؟!



لكنها لم تكن لتسمع، كان همها أن تتراجع إلى الوراء....


انتبه إلى يديها المعقودتين، فسألها بحدة:


- ماذا تخفين خلفك؟


نظرت إليه بإضطراب وهي ترد بتقطع:


- لا...لا شئ..


- كم مرة قلتُ لكِ أنا لا أحبُّ الكذب!! أريني ما بيدك..


- "عمر" أرجوك......


وذهبت توسلاتها أدراج الرياح، هناك خلف الستار!!!



أمسكها من ذراعها وهي تجاهد بيأس:

- إنها..إنها..


وسحبها من يدها دون أن يستمع لما تقوله، وسكن فجأة وهو يطالع صورته دهشاً...


مرر بصره بينها وبين الصورة بتساؤل:

- لماذا؟!


لم تحر جواباً، كل ما أرادته هو أن تفر من هنا، من أمامه...


لكنه وقف أمامها بالمرصاد وعاد ليسألها بإصرار:

- لماذا؟!


أطرقت للأرض وهي تحاول أن تلملم نفسها، أن تجمع أشلاءها...


وكلما حاولت أن تمسكها، أن تقبض عنق الزجاجة أفلتت وسالت قطرات الماء....


- أنا..أنا...


- أنتِ ماذا؟!


- لاشئ..لا شئ. رددت بصوتٍ لا يُسمع.


تطلع إليها بنفاذ صبر وهو يمرر أصابعه في شعره بتوتر....


ثم نظر إلى الصورة وما هي إلا دقيقة حتى ألقاها على الأرض بعنف...


الصورة تهوي والزجاج يتحطم، يتبعثر ناعماً، بقطعٍ صغيرة لا تبين...


وضعت أناملها المرتجفة على فمها لتكبح صرخة استنكار كادت أن تنطلق رغماً عنها...


وأشار بيده إلى الباب فخرجت كالبرق ولوعةٌ دفينة تسبقها...


ألقت بنفسها على سريرها وهي تجهش بالبكاء، ضربت وسادتها بقبضتها وهي تهمس:


- ليس ذنبي..ليس ذنبي أنا!!



===========



- اذهبي هو ينتظرك، أليس هذا ما تريدينه!!


- ناصر، ألا زلت غاضباً؟! إذا كنت لا تريد فلن أذهب.


نظر إليها بفتور ثم تنهد:


- أنا لستُ غاضباً..


اقتربت منه وهي تضع يدها على كتفيه:


- إذن تعال معي.


أبعد يدها عنه بضيق:


- أنا أخبرتهُ بما لدي، ليس لدي المزيد لأقوله..


نظرت إليه بعبوس ثم سرعان ما خرجت من غرفتها...


تطلع إلى الباب المفتوح وتنهد...



ثم عاد ليتصفح كتاب "رؤية قرآنية للمتغيرات الدولية" للدكتور محمد جابر الأنصاري...


أخذ يقلبه برهة ثم سرعان ما قلبه على الصفحة التي توقف فيها مسبقاً..


لا يدري ما يمزقه أكثر!!!


هموم العالم القابع في دوامة، في بقعةٍ سوداء ضئيلة، في ماءٍ آسن يرفل بالجبن والعار والتبعية!!


أم همومه مع هذه الزوجة العنيدة!!!


كلاهما صداع، صداع مقيت...



دقت باب غرفة الجلوس لتجدهُ جالساً بإنتظارها وفي يده لفافة تبغ سرعان ما سحقها على الطاولة الزجاجية الصغيرة!!!


حركت يدها في الهواء لتبعد رائحة الدخان الكريهة بإشمئزاز عن محيطها...


وبعد أن ألقت السلام جلست على الكرسي الذي يقابله...


وابتسم لها معتذراً:


- آسف إن أزعجتكِ الرائحة، إنها عادة سيئة اكتسبتها في الغربة!!


- لا بأس. ردت مجاملةً.


- طيب لنبدأ الجلسة، أخبريني أولاً ماذا قال لكما الطبيب.


- ألم يخبرك "ناصر"؟


- بلى، ولكن أحب أن أسمعه من جديد منكِ، فأنتِ تعرفين أن النساء يذكرن تفاصيل قد يغفلها الرجل وقد تفيدنا في موضوعك..


وعاد ليبتسم لها، فحكت جبينها بتفكير:


- لقد أجروا لنا فحصاً أكلينيكياً، وقال الطبيب أن كلانا سليمان من هذه الناحية، لكن القلق النفسي هو من يحولُ ذلك وسماه بالاضطراب السيكو...


وتوقفت عند هذه الكلمة بتلكأ محاولةً نطقها بشكلٍ صحيح:


- آه، السيكوسوماتيك”psycosomatic” أي الاضطراب النفس جسمي..


- لم أفهمها صراحةً..


- هذا اضطراب ينشأ من وجود عامل نفسي كالضغوط أو التوتر أو القلق مما يؤثر على وظائف الجسد الفسيولوجية فيصاب الشخص مثلاً بآلام عضوية، أمراض القلب، صداع، إمساك، عقم وهكذا...



وشهقت بصوتٍ مرتفع وهي:

- عقم!!


- أجل، بل أسوأ من ذلك، إذ قد يصل الصراع النفسي الذي يعيشه الفرد إلى اصابته بالسرطان والعياذ بالله و هذا ما أثبتته آخر الدراسات الأجنبية.


وأخذ يشرحُ لها وهي تستمعُ له بإنصات واهتمامٍ شديد...


- على العموم أنتِ لازلتِ صغيرة وأمامك المتسع لتنجبي بدل الطفل عشرة...


قال ذلك وهو يتأمل وجهها البرئ بإعجاب لم يخفى على عينيها...


تململت في جلستها بضيق وهي تهمهم بردٍ غير مفهوم.


وانتبه لنفسه وعاد ليتكلم بلغة الطب من جديد:

- اعطني فحوصاتكم السابقة لأطلع عليها.


- تريدها الآن؟!


- ليس الآن تحديداً، ولكن في أقرب فرصة، فأدواتي المخبرية ستصلُ بعد يومين أو ثلاثة من الخارج.



نهضت وهي تشكره منصرفةً فعاد ليسحب لهُ سجارةً أخرى....



نفث دخانها ببطء وصورة قوامها الممشوق ماثلة بوضوح أمام عينيه الصغيرتين!!!



=======


- خذي..


- ماذا؟!


- أعطها المدير.


تطلعت "أشجان" للملفات وكأنها تنظر لأفعى و سرعان ما رفعت يدها نافيةً وهي تقول:


- آسفة، أنا لن أذهب إليه، هذه ملفاتكِ أنتِ ولا أريده أن يصرخ علي.


- لن يفعل شيئاً لكِ.


ثم اقتربت منها وهي تهمس لها بتوسل:


- أرجوكِ، ألا يقولون: الصديق وقت الضيق.


- سأساعدك في أي شئ ولكن إلا في هذا.


كتفت "ندى" ذراعيها وهي ترفع حاجبيها عالياً:


- لم تفعلي لي شيئاً قط، دائماً أنا، أنسيتِ ذلك اليوم حين تعطلت سيارتك وأوصلتك إلى منزلك!!


شهقت "أشجان" وهي تردد دون تصديق:


- أتمنين علي بتلك التوصيلة؟!


مطت "ندى" شفتيها:

- كلا، ليس هكذا، تعرفين هذا ليس من خصالي، أحببتُ أن أذكرك ليس إلا..


ثم أردفت بصوتٍ واطئ:


- ماذا سيضرك، ارميها على مكتبه وانقذيني..


- أنا لا أحب المشاكل، ولا أستطيع الرد عليه مثلك.


- وأنا لا أطيق رؤية وجهه.


- قولي لـ"جميلة" ربما تساعدك..


- يا لخفة دمك!!


واستدارت متجهة للمكتب وهي تتأفف، طرقت الباب فجاء صوته البارد:


- تفضل..


- إذا كنت مشغولاً سأعود!!


- ادخلي.


زمت شفتيها وهي تتمتم بشئٍ ما، وولجت إلى الداخل...


وضعت ما بيدها على الطاولة مباشرة وهي تخاطبه بسرعة:


- الملف الأحمر والأزرق لشركة "الصائغ" للمقاولات، وهذه رسالة وصلت لك من بنك "البحرين والكويت" ربما كانت ديون أو ضرائب لم تدفعها أفتحها إذا كنت تريد أن تعرف...


ثم استدركت وهي تلوي شفتيها:

- إذا شئت طبعاً..


واستدارت لتعود إلى مكانها لكنه استوقفها:


- هيه أنتِ انتظري.


- نعم.

ودوّن شيئاً ما في ورقة صغيرة وهو يخاطبها:


- غداً أريدك أن تذهبي إلى هذه الشركة لتخلصي معاملاتنا معهم، وخذي معكِ "جميلة" فقد سبق أن تعاملت معهم.


- أنا لن أذهب معها..


- لماذا؟!


- نحنُ لا نكلم بعضنا..



ردّ بحزم:

- الأمور الشخصية ليس لها علاقة بالعمل في هذا المكان، أتفهمين!!


- سأطلب من "أشجان" أن تذهب بدلاً عني.


- أنا قلتُ أنتِ وانتهى الأمر فلا تجادليني. صاح في وجهها.


- لماذا تكرهني، ماذا فعلتُ لك؟!


- أكرهك!! ومن أنتِ كي أكرهك أو أحبك!!


رفعت أصبعها في الهواء بتهديد:


- إذا كنت تحبني فهذه مشكلتك لوحدك، لو سمحت أنا صغيرة ولا أريد أن تتفتح عيناي على مثل هذه الأمور!!!


فتح هو عينيه بدهشة...


و من قال الآن أنهُ يحبها!!!



ثم أردفت بإنزعاج:



- ثم هذا مكان عمل كما تقول، و من المشين أن تتحدث إلي هكذا، ماذا لو دخل أحدهم وسمعك تقول هذا الكلام!! تريد أن تتشوه سمعتي؟!!



ثم زفرت وهي تشيح وجهها وتحرك أصابعها في الهواء...


- أعلم أنني جميلة وملفتة للنظر لكن هذا لا يجوز، لا يجوز إطلاقاً!!!!



الدهشة تكبر وتمتد لتشد تعابير وجهه بأكملها...


وحين أفاق من صدمة كلماتها، ضرب بقبضته على مكتبه بقوة، فقفزت في مكانها وهي تلم أصابعها بخوف:


- تعالي إلى هنا، اقتربي...


- ماذا..ماذا تريد، كنتُ أمزح معك، لا يجوز..يجوز...أشر برأسك يجوز أو لايجوز؟!


- أأنتِ بلهاء أم ماذا؟!


وأكمل بغضب:


- ماذا تعتقدين نفسكِ أيتها السخيفة الفارغة من أي شئ!!


"أنا سخيفة، أنا فارغة، سامحك الله!!"


ولكن لا ترد على السفيه جوابا أليس كذلك؟!


اسمعني إذن أيها السفيه....



أسبلت عينيها بتذلل كعادتها في تلفيق قصصها الدرامية، ولم تفته هذه الحركة أبداً...


عبّرت بإستكانة:


- صدقني أستاذ، عندما كنتُ صغيرة كان بودي أن أصبح ممثلة، لكن كلهم وقفوا في وجهي، حتى المعلمات في المدرسة كن يطردنني من المسرح ويقلن عني فاشلة...


وغطت وجهها بكفيها وهي تخرج صوتاً أقرب للبكاء، وتطالعه بعينها من تلك الفرجة الضيقة التي تخللت أصابعها...


وأكملت وهي تنهنه:


- وتكونت لدي عقدة، ليس مثل عقدة "أوديب" و "الكترا"، لا بل أخطر...


ورفعت يديها عن وجهها وهي تسأله فجأة بحماس:


- أتعرف عقدة "أوديب" و "الكترا"؟!!


فغر فاهه وهو يحملق فيها بريبة من تغير حالها...


- أنا أعرفها جيداً، هذا فتى اسمه "أوديب" كان يكره والده لأنه ينافسه في حب أمه، تصور ترك نساء العالم وأنا!!! وأحب أمه ذلك المجنون!!!


وأخذت تضحك بأريحية وهي تضرب ظهر الكرسي بيدها وبعد أن هدأت، أردفت:


- أما "الكترا" فهذه فتاة كانت واللهُ أعلم، تعرفني لا أحبُّ أن أغتاب، لكن هم من قالوا عنها ذلك، المهم كانت هي الأخرى تحب أمها، كلا، بل كانت تحب والدها وتكره أمها، أرأيت مجانين كهؤلاء؟!!


وعادت لتضحك بهستيرية وقد نست نفسها...


نظر إليها بذهول وعلّق وكأنهُ يخاطب نفسه:


- ما المجنون إلا أنتِ أيتها المجنونة...



لكن كلماته تلك لم توقفها بل زاد ذلك من ضحكها وهي تلوي على نفسها وتسعل دون توقف....


تسللت ابتسامة صغيرة عنوةً إلى شفتيه من منظرها لكنهُ سرعان ما أخفاها وقال بجمود:


- بإمكانك أن تنصرفي الآن يا آنسة.


وخرجت من مكتبه بعد عناء متعب من أجل أن تقفل فمها، وما أن فتحت الباب حتى استلمتها "أشجان" وهي تسحبها:


- أخبريني، ماذا جرى؟! لم كل هذا الضحك مع المدير!!


- أتعرفين "أوديب" و "الكترا"؟! سألتها بأنفاس مقطوعة.


- لا...



وكلما همت بأن تنطق كلمة عادت لتقهقه من جديد بصوتٍ مجلجل ودموعها تطفر من عينيها..



- ندى، تكلمي من هم هؤلاء؟!



ولكن لا حياة لمن تنادي....



==========



غطت وجهها بصفحة الجريدة العريضة وهي تحاول أن تتحاشى ذاك الظل الذي بات يحاصرها أمامها وفي أحلامها!!!



عيناها مفتوحتان تتابعان تلك الحروف الصغيرة المطبوعة في جملٍ وعبارات لم تفقه منها أي شئ، وكيف لا، وهو واقفٌ هكذا منذُ 10 دقائق!!



الصفحة لم تقلب بعد وأطرافها بدأت تتجعد بلا رحمة بين أصابعها...


وكلما كادت يدها تهوي على حجرها استماتت بقوة لتظلّ مرفوعة، فلا تدري أي صفحةٍ طُبعت على وجهه هذا المساء!!


ولكن لا بد لها أن تقرأ شاءت ذلك أم أبت ، ها هي يداه تمتدان لتخطفا الجريدة وتكورانها بأكملها...


ضمت يديها إلى حجرها ونكست رأسها كأنها تنتظر العقاب.


- ماذا أعددتِ للعشاء؟! سألها ببرود.


- لاشئ.


- لاشئ؟! صاح بغضب.


انكمشت في مكانها وهي تردُّ بإستعطاف:


- لم أجد شيئاً في الثلاجة لأطبخه.


- ولم لم تخبريني من قبل؟!


- أنا لا أراك..


- بإمكانكِ أن تتصلي على هاتفي.


ردت بإنفعال:

- لا أعرف رقمك.


- أليس لديكِ لساناً لتسألي!!


- أنت تريدُ معاقبتي على أي شئ أليس كذلك، اضربني إن كان يريحك هذا..


وغطت وجهها بكفيها وهي تبكي من العذاب، من الألم، من هذا الشجار اليومي الذي لا ينتهي....


مدّ يده بسرعة واضعاً إياها على رأسها لمدةٍ طويلة فارتفع صوتُ بكاءها و بدأ جسدها يهتز...


ثم حرك أصابعه ليمسح على شعرها برفق:


- انهضي سنتناول العشاء في الخارج..



وهدأت فجأة فقد خالته سيخلع شعرها كما حدث في المرة السابقة..


رفعت وجهها إليه وهي تمسح عينيها دون تصديق...


طالعها بنظرةٍ عميقة قبل أن يستدر:


- هيا لا نريد أن نتأخر...


وتركها تتابع طيفه يتهادى لينزح إلى الأسفل...


إنها لا تفهمه، لا تفهمه أحياناً...


انساقت هي الأخرى إلى غرفتها دون تفكير لتغير ملابسها....




وانتابتها السعادة دون أن تدري مصدر ذلك، ألأنها ستخرج من هنا لأول مرة أم لأنها ستخرج معه أم ماذا؟!



وجدته ينتظرها في سيارته، فولجت إلى الداخل وانطلقا معاً...


لم يتحدث كلاهما ولم تسأله أين سيذهبان، واكتفت فقط بالنظر إلى النافذة...



الكونُ يبدو فسيحاً في المساء وقد ألقى بظلاله على الجميع مانحاً إياهم شيئاً من الألفة ودفء النجوم...


أخذت تعبثُ بعباءتها بعد أن أتعبها النظر إلى الفضاء، ثم راحت تختلس النظر طويلاً إلى الجالس بجانبها بصمت....



الليلُ يضفي الكثير ويخفي الكثير أيضاً!!


ولكن من الصعب أن تحدق عن كثب أليس كذلك؟!



وأرادت أن تحول وجهها للنافذة من جديد لكنهُ التفت لها في تلك اللحظة وكأنهُ أحسًّ بنظراته المحدقة به...


وتشابكت نظراتهما برهة فتضرج وجهها احمراراً لأنهُ أمسكها متلبسة بتهمة النظر إليه!!



أزاحت بصرها إلى يديها المنقبضتين، فأتاها صوتهُ لاذعاً كالسوط!!


- ماذا؟! تقارنين الأصل الصورة!!


وعنّفت نفسها على فعلتها المشينة كما أسمتها وهي تدعو أن يتوقف عن السخرية بها...



وأخيراً أوقف مكابح سيارته.....


انتظرها ريثما تخرج بينما هي تتطلع إلى اللافتة المعنونة بمطعم "الأبراج"...


وتقدمها خاطفاً وهي تحاول اللحاق بخطواته السريعة بين الممرات حتى كادت أن تتعثر عدة مرات.


التفت إليها وهو عاقدٌ حاجبيه:


- ماذا بك؟!


- انتظرني أنا لا أعرف هذه الأماكن، لم أدخلها قط..


وارتجفت أهدافها وهي تقاوم دمعةً مُرة علقت بأطرافها.....


لا تدري لم أحست بالخوف وهو يبتعدُ عنها بخطواته، وحين اختفى طيفه فجأة بين الأزقة كادت تصرخُ ذعراً...


نكست رأسها بألم فانسابت دمعتها شفافة ملساء، انحدرت حتى ذقنها...


انقبض وجهه فجأة وضاقت عيناه وهو يرد بخفوت:


- آسف ...


ومدَّ يدهُ إليها فتناولتها وهي تتشبثُ بها بقوة أدهشته...



وجلسا حيثُ أشار النادل متقابلين...



سألها محاولاً الترفيه عن دموعها التي لا تفتأ أن تنزل على وجنتيها:


- ماذا تريدين أن أطلب لكِ؟!


- لا أريدُ شيئاً..


- امممم، تريدين "سزلنج دجاج"، هذا طبق لذيذ...


- ...........


- أم تريدين "شاومين" مشكل؟! هيا قرري..



وهزت كتفيها بأن لا تدري وقد بدأ مزاجها يتغير من رؤيته يخاطبها هكذا بلا تكلف...


ومرت دقائق قليلة سرعان ما أُحضر فيها الطعام وعاد الصمت ليخيم حول المكان ما عدا قرقعة الصحون...


لم تأكل الكثير واكتفت ببعض لقيمات...


- ألم يعجبكِ الأكل؟


- بلى، لكنني شبعت والحمدُ لله.


وضمت يديها إلى جانبها وهي تتأمله، تراقب طريقة أكله، حركاته، شعره!!!


خاطبها دون أن يرفع عينيه عن الطبق:


- لا تنظري إليّ هكذا، نحنُ في مطعم!!



- أنا لم أكن انظر..انظر إليك.. ردت بإنفعال.


- أجل!!


- أ..أ سأذهب إلى الحمام لأغسل يدي.


- أتعرفين أين يقع؟!


- ســ..سأسأل.


- انتظري سآتي معك، لقد انتهيت.



وسبقته في الخروج وقلبها يدقُّ دون هدى، بإضطراب....


ماذا أفعل أنا يا ربي!! يبدو أنني فقدتُ عقلي!!!


ودخلت إلى الحمام لتغسل يديها ووجهها علها تفيق من انجذابها المغناطيسي له.....


وأخذت نفساً عميقاً وهي تخرج لكنها لم تجده...


وابتعدت عن دورة المياه لتقف في نهاية الممر متجنبةً ازدحام الوافدين إلى هناك..



وانسلّ المنديلُ من يدها فحنت جذعها لتلتقطه، لكنها لم تكمل إذ سرعان ما التقطتهُ يدٌ أخرى أسرع منها وناولتها إياه...


- تفضلي...


تطلعت إلى الرجل الواقف قبالتها وعلى وجهه ابتسامة هادئة...


- شكراً.


وأخذته منه فهمهم:


- لا شكر على واجب.


وبقيت في مكانها واقفة تنظر للساعة بتوتر والرجل يتأملها بإهتمام:


- أتنتظرين أحداً، أتريدين مساعدة، أنا في خدمتك!!


هزت رأسها بسرعة وهي ترد بخوف:


- كلا، أنا لستُ وحدي، معي ..ز..وجي.


- أهاا..



ومد هذه الكلمة بتفكير، فأخذت تتلفت حولها وما أن صدت للأمام حتى رأتهُ قادماً باتجاهها...


ابتسمت له بارتياح لكنها سرعان ما وأدت ابتسامتها...


كانت عيناهُ تشتعلان وقد بدا وجهه مظلم، منطفأ، ومسحة من الإجرام تلوحُ في حناياه وهو ينقل بصرهُ بينهما...


تراجعت إلى الخلف بفزع وهي تهزُّ رأسها نافيةً كي لا يفسر ما يراهُ خطأ...


ها هو يقترب بثبات، بقوة...


أخذ صدرها يعلو ويهبط بقوة وشفتاها ترتجفان، وأفلتت من فمها صرخة ذعر:



- كلاااااااااااااااااااااااااا

لكن الصرخة اختنقت قبل أن يتردد صداها!!!!


مازال القلب يشتعل..
أصابهُ ظمأ الراحة و الاستقرار..
غارقٌ في لجلل حروفٍ هوت كالنار على الأسماع...
الحجارة تدقُ بعضها البعض والشرارة لا تلبث أن تتولد عنوةً رغم أنف الرياح...
الهديرُ لازال مستمراً وعاصفةٌ هوجاء قادمة على قيد أنملة...
و اعتراف يكاد يمزق حبل مودة مازالت معمرة بحب دفين
فمتى يحط الاعتراف
رحاله
على شواطي الحقيقه ؟؟

(13)

أحاط خصرها بذراعه وهو يشدها إليه بقوة، نظر إلى الواقف أمامه وهو يسأله بجمود:


- نعم!!

- لا...لا شئ يا أخي.


وابتعد الرجل وهو يغمغم معتذراً...


أما هي فبقيت جامدة في وقفتها تطالع الفراغ بعينين لا تريان وذراعه لا تزال تطوقها...


صرّ على أسنانه، وبصوتٍ كظيم همس:


- سيري أمامي فوراً وبهدوء.


وأفلتها بإزدراء دون أن تنبس ببنت شفه، دون أن تتحرك، بصرها ينظر للبعيد، إلى الأمام، إلى لا شئ!!!


وانتبهت لأصابع يدها التي أخذت ترتجف دون توقف....


روحها معلقة بين جنبيها، فوق فوهة زجاجة مهشمة، وقدماها ثقيلتان لا تتزحزان ولا تستجيبان لنداءه المتكرر لها....


أخذت تطالعه وتطالع يديها لكأنه تستفهمه وتستفهمهما معاً عمّا حدث!!!


تُرى ماذا حدث؟!


عاد ليدمدم وهو يسحبها من ذراعها بفظاظة....


هوى قلبها، ماج تحت الأقدام الثقيلة وانزوى هناك في زاوية مظلمة، غير مرئية...


لازالت عاجزة عن الحراك لوحدها، عن النطق، فقط زخات الدماء التي تنبض في عروقها بقوة، بسرعة شلت باقي الحواس...


ووجدت نفسها داخل السيارة دون أن تشعر، ها هي تسمع هدير محركها ينطلق....


الهدير يعلو، يطغى على الأسماع، والأشياء تتماهى أمام عينيها، تبدو صغيرة، صغيرة جداً، كتلك النقط المتوهجة التي نراها على قمم الموج قُبيل الغروب...



وأدار مقود السيارة حول "الدوار" فجأة فارتطم كتفها بالباب، أمسكته بيدها الأخرى وهي تغمض عينيها بتعب...


الدموع تنساب حارة، دفينة على الوجنتين، ها هي تصل لأسفل الذقن وتتجمع بتؤدة...


"ليت الطريق إلى المنزل بعيداً، بعيداً". رددت في نفسها.


الصمتُ قاتل، مخيف، ملئٌ بالرعود والمطر!!!


الكلام أفضل، أفضل بكثير، تحدث وقل شيئاً، أي شئ...


والتفتت إليه في نصفِ التفاتة ويدها تقبض على صدغها...


بدت عضلات وجهه مشدودة وفمه مزموم، وعيناه، إنها لا ترى عيناه!! بهما تستشفان حالته، بماذا يفكر الآن؟!!


عضت على نواجذها لتمنع صرخة ارتياع انطلقت من الداخل، إنها تخافه، تخافه أحياناً!!!



تشابكت أناملها معاً في عقدة، كتلك العقدة التي تعتمل بصدرها تلك اللحظة، أخذت تنظر بزيغ إلى النافذة والعقدة تكبر وتكبر لتصبح بحجم كرة الثلج....


لم تستطع الصبر أكثر، الصمت أصعب من أن يُحتمل، وقد بانت معالم شقتهما عن كثب..


نادتهُ بإرتجاف، بصوتٍ لا يكادُ يُسمع:

- عمر!!


- صه، أصمتي.



انخلع قلبها، إنه يأبى أن يعود ليستقر، لا يلبث أن يتردى، يهوي إلى الأعماق، حيثُ لا تدري!!



بكت بصوتٍ متقطع، بصوتٍ مسموع علّها تنفس عما بداخلها أو ربما لتستعطفهُ منذُ الآن!!!


ولكن لا حياة لمن تنادي، أليس كذلك؟!


توقف الهدير وتوقفت السيارة وتوقف خافقها هو الآخر!!!


أمسكت بمقبض الباب لكأنها تسميت في منعه من أن يُفتح، لكن يدها أوهن من أن تمنع أو تحتج...


نظرت بعجز إلى الباب المفتوح وإلى ذاك الواقف أمامها بعينيه الداكنتين!!


وسارت دون أن تنتبه لخطواتها، بدا الطريق وعراً أو ربما خالياً من الوجود أو ربما كانت هي بلا قدمين!!


وما أن ولج إلى الداخل حتى تجمدت هي عند الباب لكنهُ قبض على يدها رغم صياحها.


صرخ وهو يدنو من وجهها وهي تحاول الابتعاد:


- من هذا، تكلمي؟!


- لا أحد، لا أعرفه، لا أعرفه. ردت بجنون.


وأجهشت بالبكاء لكنهُ لم يرحمها ولم يرحم دموعها، هزها بعنف لتنظر إليه من جديد:


- بكاءك لن يجدي نفعاً معي لذا أتركي ألاعيبك بعيداً عني وخاطبيني جيداً وإلا حطمتك..


- يدي.. يدي تؤلمني. صاحت بألم.


- لم تري شيئاً بعد يا غدير!!


توسلته بصوتٍ ضعيف من بين شهقاتها:


- لا أعرفه أقسمُ لك، لقد سقط منديلي وناولني إياه.


نظر إليها بإستهزاء وعلى فمه ابتسامة قاسية:


- يا للشهامة، ولم أنتِ دون بقية النساء؟!


- لم يكن هناك أحدٌ غيري. ردت بإندفاع.


- وبالطبع لم تشاءا أن تضيعا هذه الفرصة الثمينة أيتها ال.....


- كلا، أرجوك لا تقلها، أنا لستُ هكذا، لستُ هكذا.


وأخذت تنتحبُ بين يديه بحرقة وهي تردد بصوتٍ مبحوح.


أتاها صوته بارداً، بعيداً، بلون الرماد...


- تريدين أن أصدقك بعد الذي رأيتهُ بأمّ عيني!!


- قلتُ لك لم أفعل شيئاً، هو من أتى و...


وصرخ في وجهها فخانتها قدماها:


- ماذا؟! كنتِ تريدنني أن أتأخر أكثر، أن أنتظركما حتى تنهيان أحاديثكم ال****ة!!


- قلتُ لك لا أعرفه، صدقني.


وارتمت تحت قدميه وهي تمرغ وجهها ودموعها في يده بلا توقف...


ومرّ زمنٌ طويل سادهُ أنينها المتقطع، كساهُ بثوبه، بلونهـ بترابه، بزمهريره!!!



حدجها من علو وهو يخاطبها ببرود:


- تريدين أن أصدقكِ؟


- أجل، أجل. رددت بإستعطاف.


- إذن وافقي..


- أوافق على ماذا؟! سألتهُ بلهفة.


- لا أخالك ساذجة لهذه الدرجة!!


ورمقها بنظرة ما فأخذت تطالعه بإستفهام وقد نسيت ألمها...


بقيت تنظر إليه هكذا لبرهة حسبتها دهراً دون أن تتغير تعابير وجهه...


و لكن سرعان ما أن تغيرت تعابير وجهها هي بإمتقاع...


ابتعدت عنه لا إرادياً بفزع وهي تتمسك بظهر الأريكة:


- كلا، أنا، أنا...


وطأطأت رأسها للأرض ودموعها تتساقط بغزارة دون أن تحر جواباً.


- لقد صدق ظني إذن!!

رفعت بصرها إليه بإرتياع وأناملها على شفتيها المرتعشتين تمنعاها من الصراخ.


"ماذا!!"


- تحافظين على نفسك من أجله أليس كذلك؟!!


- .........................


واسودّ وجهه فجأة وهو يقول:


- أقسم وأنا لا أقسم إلا لماما أن ما تتمنينه لن يحصل، هي مجرد أيام يا "غدير" أيام فقطٌ بيننا..



شعرت بالدوار ينتابها، كانت على الهاوية، على شفا حفرة من الجحيم...


استندت بجذعها على الأريكة لعل الرعدة تتوقف وتتوقف أنفاسها التي انتفضت...


وبعد جهد استنفرت حواسها وهي تضغط على مخارح ألفاظها بصعوبة:


- ط..طلقني، هذا أفضل لي و...لك أرجوك!!


وعادت لتبكي بتقطع...


عقد حاجبيه فبانت عيناه أكثر حدة، أشدّ قسوة:


- أتخالينني سأطلقك أو شيئاً من هذا القبيل يوماً ما؟!

- ...............................


ضرب كفاً بكف وهو يعلق بجفاء:


- أنتِ واهمة يا عزيزتي، فهذا من آخر المستحيلات.


- ....................


- يبدو أنكِ لا تعين ما أقولهُ أبداً، حبكِ له أفقدكِ صوابك وحكمتك، تعالي واقتربي هنا لأسمعك!!


ترنحت في وقفتها وهي تهز رأسها بضعف...


- أنتِ لا تسهلين الأمر على نفسك!!! لا تضطرني إلى فعل شئٍ لا أريده. صرخ بتهديد.


- ع...ع-مر، عمر. نادته بألم.


- لا تنطقي اسمي على لسانك مرةً أخرى، أنتِ تثيرين اشمئزازي.


- ع..مـــر. وأخذت تشهق وهي تغطي وجهها بكفيها وقد جثت على الأرض.


وأراد أن يخطو للأمام ليقول شيئاً لكنهُ عاد ونكص وخرج من البيت بأكمله!!!



وغاب القمر تلك الليلة......



=========

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 04:51 PM   المشاركة رقم: 7
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

دخلت "ندى" إلى المكتب وهي تسب وتشتم وتمسح جبينها المتصفد عرقاً، وما أن رأتها "أشجان" حتى هرعت إليها وهي تصيح:


- لماذا فعلتِ ذلك يا "ندى"؟!


- أف، ماذا فعلت!! ردت بنفاذ صبر وهي تلقي بنفسها على الكرسي وتغمض عينيها بقوة.


- المدير قلب المكتب على رأسي بحثاً عنكِ وقد اتصلتُ بكِ عدة مرات لكن دون جدوى.


- أوه نسيت أن أشحن البطارية. وضربت على جبينها بخفة وهي تردف بسرعة:

- ألديكِ شاحن الآن؟!


- أنتِ في مصيبة وتسألين عن الشاحن؟! سألتها بإستنكار.


- مصيبة!! أعوذُ بالله، ما هذا الفأل السئ، أنا لا أحب التشاؤم في....


ولم تكمل عبارتها إذ سرعان ما حولت بصرها إلى تلك الأصابع التي تدق على سطح الطاولة من الخلف بغطرسة.


رمشت عينيها ببراءة وهي تقول:


- السلام عليكم يا أستاذ..


- .............


- أنا ألقيت السلام فلي 69 حسنة، وإذا رددت أنت تحصل على حسنة واحدة فقط، ألا تريد حسنات!!!


قاطعها وهو يزمجر في وجهها بغضب:


- كيف تركتها لوحدها في الطريق؟!

ازدردت ريقها وقد جفلت من نبرة صوته:

- من تقصد؟!


- أقصد "جميلة" فلا تتغابي..



"أنا غبية!!! ماذا عن اختبار "وكسلر" الذي طبقته على نفسي ونتج أني ذكية، من منهما الصادق؟! بالطبع الاختبار، إنهُ يريد أن يشكك في ذكائي ليس إلا هذا الغبي!!"



واستجمعت شجاعتها وهي ترد عليه بإندفاع وقد لوت فمها:


- لقد كذبت علي، قلتُ لها منذُ البداية ادفعي ديناراً واحداً ثمن البنزين ووافقت، وحين أتممنا العمل أخرجت لي 500 فلس، تصور!! قالت لي إن هذا ما تملكه فقط تلك الكاذبة البخيلة...


- أتتركينها في الشارع وفي عز الظهيرة من أجل 500 فلس؟!!


شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تقول:


- وهل تعتبرها قليلة!! من أين لي ثمن البنزين كل يوم؟! أنت لا تعطيني راتباً رغم كل ما أبذله من جهد ومشقة في العمل حتى أنكسر ظهري، ووالدي فقير، نحنُ فقراء، لا نملك مالاً كثيراً كالذي في محفظتك!! تريدني أن أسرق؟!!


تطلع إليها بصدمة ثم ما لبث أن أخرج محفظته من جيب بنطاله وهي تراقبه:


- خذي هذه الـ 500 فلس المتبقية.


صاحت بإستنكار:


- 500 فلس!! أريد ديناراً كاملاً، تخالني أخذتُ منها شيئاً، لقد ألقيتُ حفنة النقود التي أعطتني إياها من النافذة!!


وبان على وجهه عدم التصديق فردت بمراوغة:

- أ..أ سأعطيها إياها بعد أن تعود، فمهما كان النقود نعمة من عند الله.


وتناولت منه الورقة الحمراء لتدسها في حقيبتها وهي تدافع عن نفسها بإيمان:


- لا تخالني مادية، أنا أكره النقود، إنها تحرق يدي!!


وابتسمت ابتسامةً عريضة...


نظر إليها من رأسها لأخمص قدميها وكأنهُ يقيم بعوضة فشعرت بالمهانة وابتلعت ابتسامتها.


- أين هي الآن؟!


ردت عليه والحقد يشعُ من عينيها:


- إنها بجانب محطة البنزين في منطقة "........" تشم رائحة البترول!!!


لم تبالي بنظرة الاستهجان التي اتسمت على وجهه وأردفت وعيناها تضيقان:


- ماذا أفعل لها؟! هي قالت لي أنها تحبُّ رائحته، أنت لا تعرفها مثلي، إنها من ذلك النوع المدمن على هذه الروائح، أحياناً أراها تجلب صمغاً وتشمّه وهي جالسة تحت الطاولة، أنا أخافُ منها، خذها مني نصيحة: أطردها وارتح منها.



- حقاً!!! لقد قالت لي كلاماً آخر، قالت أنكِ هددتها إن لم تدفع ستلقينها إما في "الصخير" حيثُ لا أحد هناك أو ستلقين بها في المحطة المليئة بالعمال الهنود.


- أنا خفتُ على الجمال الموجودة في "الصخير" أن تموت عندما تركبها تلك السمينة ثم هي كاذبة فلا تسمع لها بل صدقني أنا. ردت بإنفعال.


- أنتِ لا جدوى منكِ إطلاقاً في أي شئ، هيا قومي معي لنجلبها.


- من؟! أنا!!


- أجل أنتِ.


ضربت على صدرها وهي تصيح:


- تريدني أن أذهب معك في السيارة لوحدنا؟!! لو علم والدي سيذبحني لا محالة، و "عمر" و "وليد" سيسلخان جلدي وسأصبح مشوهة...


وأخذت تتخيل شكلها بعد الذبح والسلخ فصرخت بلا شعور:


- كلا، كلا مستحيل، ليس أنا، ليس أنا.


وانتبهت لنفسها وهي تصرخ، وأخذت تتلفت حول المكان فرأت "أشجان" وهي تغطي وجهها بالملف المهتز بين يديها..



تطلعت بإرتباك إلى المدير الذي كان يحدجها بنظرة شك وارتياب، فابتسمت له ببلاهة وهي تعلل بصوتٍ منخفض:


- كنتُ أقصد من هذا الكلام أنني من عائلة محافظة ليس إلا..


- بإمكانك أن تلحقيني بسيارتك.


- سيارتي نفذ منها البنزين، كم مرة قلتُ لك ذلك.


وأطبقت فمها وهي ترى وجهه يظلم فجأة فأطرقت للأرض بإستكانة...


- سأنتظرك بالأسفل. ردّ بحسم.


مطت شفتيها لفترة طويلة ثم زمته وهي تتابع طيفه الذي اختفى بسرعة..


تنهدت وهي تخاطب "أشجان":


- يا له من رجلٍ مريع!! الناس الآن باتت لا تبالي بالأخلاق!!


- وهل ستذهبين معه فعلاً؟!


- سأذهب، أتحسبينني أخافُ منه!! ردت بلا مبالاة.


ثم أخرجت مرآتها الصغيرة من حقيبتها وبعد أن استوثقت من منظرها زفرت وهمت بالإنصراف لكنها توقفت بعد بضع خطوات:

- أشجان..


- نعم!!


- لديكِ رقم هاتفي؟!


- أجل.


- وتعرفين الطريق إلى منزلنا؟!


- أجل أعرف.


- أنا أرتدي الآن سلسلة فضية بإسمي في حال قُطعت جثتي.


- لا حول ولا قوة إلا بالله.



ثم بدأ صوتها يتهدج:


- "أشجان" سلمي على أبي وأخوتي وقولي لهم أنني من حرقتُ القفص وهرّبتُ طيور الكناري!!!



وبكت الفتاتان وهما تتعانقان وقد اندمجتا في تلك اللحظة المأساوية.


وتركتها "ندى" بعد أن حملتها الأمانات الثقال!!! وحين نزلت وجدتهُ ينتظرها، فركبت في المقعد الخلفي.



أدار محرك سيارته مع أنغام "بحرين أف أم" فانتابها الذعر فصاحت:


- هيه أنت، أنا لا أسمع الأغاني الآن، لقد قاطعتها، من يسمعها لا يسمع ريح الجنة، لا أسمعها، لا أسمعهاااااااااااااااااا.


واستدار إلى الخلف وهو ينظر لها بإستنكار من هذا الزعيق المفاجئ..


وتمتم بشئٍ ما لم تسمعه وهو يوقف المسجل، فعادت لتستند على مقعدها وهي تتنهد بإرتياح، لكن السكون سرعان ما خيم حول المكان فاستفز حواسها، أخذت تتلفت في مكانها وهي تفتش عن جريدة، قصاصة ورق، أي شئ لكنها لم تجد أياً منهم، كانت السيارة نظيفة تماماً!!!



حنت بجذعها إلى الأمام وهي تصيح بالقرب من أذنيه:


- حر، حر،حرررررررر، أنا لا أستحمل الحر، شغل المكيف، الكريمات التي وضعتها على وجهي قد سالت.


وأوقف مكابح سيارته فجأة حتى كادا يصطدمان بالسيارة التي تسير أمامهم..


تراجعت إلى الوراء بسرعة وهي تسمع صوت سبابه وكلماتٍ لم تسمعها قط في حياتها من قبل...


أغلقت إحدى عينيها وهي تتلقى صراخه كالرشاش:


- أنتِ ماذا أيتها الحمقاء الغبية؟! لقد كدتُ أرتكبُ حادثاً بسببك، ألا تعرفين أن تتحدثي بهدوء!!


مدت فمها بإستياء وهي تتأفف بصوتٍ منخفض:

- ماذا كلامي لا يعجبكِ؟!

ردت بتذمر:


- بل يعجبني، كل شئ يعجبني، العمل يعجبني، سيارتك تعجبني، "جميلة" تعجبني، الطريق يعجبني، كل شئ!!!


وهزّ رأسه بإستنكار وهو ينظر إليها من مرآة سيارته...



فتحت حقيبتها وأخرجت لها "علكة" مضغتها بتأنٍ لعلها تهدأ، لكن العلكة تلكأت بين أسنانها وهي تتذكر حوادث اختطاف فتيات قرأتها في الجريدة عن أرباب العمل وبقي مصيرهن مجهولاً حتى اليوم...



اختلست النظر إليه من المرآة لتستوثق من منظره، أيبدو من هؤلاء؟!



وتخيلته بلحية كثة وشارب طويل ذكرها بمجرمي الأفلام الهندية التي تُدمن على مشاهدتها ليالي الخميس فارتاعت..



أخذت بلا شعور تدق زجاج النافذة بقوة بأصابعها وهي تصيح:


- افتح النافذة، لا يجوز، سيدخل لنا الشيطان.


وبهت الرجل في مكانه، واستدار لها دون أن يوقف محرك سيارته وقد بدا وجهه محتقناً...


رد بصوتٍ مصرور وقد طفح الكيل منه:


- أنا الآن من سيفتح النافذة ولكن لألقيكِ منها أيتها الشيطانة المجنونة!!


- أنت "شِيطان سنداباد" الذي أراد قتل "شاروخان".... لا... مستحيل...


وأخذت تصيح بإنفعال فأوقف سيارته في زاويةٍ ما وهو في حيرةٍ كبيرةٍ من أمره..


"عمن تتحدث هذه المجنونة!!"


- تريدين أن أوقف لكِ سيارة "أجرة" كي تطمئني ؟!


- كلا.


- تريدين أن تخرجي من السيارة؟


- كلا.


- تريدين أن أتصل بذويكِ؟!


- كلا.


- ماذا تريدين إذاً؟!


- سُق بسرعة كي نصل.


قالت ذلك وهي تمسح دموعها بطرف خمارها، فعاد ليقود والصدمة تعلو وجهه من تصرفاتها الغريبة، إنها ليست طبيعية البتة!!!


- هيه، أنت!! نادته بحدة.


وشعر بالخوف لأول مرة منذ أن ركبت معه.


- إذا وصلنا إلى هناك فلا أريدها أن تجلس بجانبي، دعها تجلس بجانبك أنت!!



وزمت فمها بتكبر وهي تعقد ذراعيها وتنظر للنافذة وكأن شيئاً لم يكن...


"غير معقول..غير معقول!!!!!" ردد في نفسه.



==========



تقلبت "شيماء" على فراشها وهي تضغط بوسادتها الأثيرية على رأسها علها تبعد طيف أسئلته المحرجة الذي ما فتأ يسألها عنها ظهر هذا اليوم....



ورغم ممانعتها إلا أنهُ ألح وأصر بحجة أن العلاج يقتضي ذلك!! كم كرهته تلك اللحظة وشعرت بالمقت ناحيته...


وحين سلمته ظرف الأشعة وفحوصات الأطباء السابقة تعمد أن يمسك يدها، أجل لم تكن بالصدفة، كان يقصدُ ذلك وعيناهُ الخبيثتان تشهدان بذلك....



كيف يجرؤ على ذلك، كيف؟!!!


لن أذهب إليه أبداً مرةً أخرى، أبداً، أنا لا يهمني الأطفال، لا يهمني إلا ناصر....



ولكن!!!!!



و دفنت رأسها في وسادتها بعد أن أرخت قبضتيها و بكت بصمت...
(14)


لاح هلالُ محرم كقاربٍ وحيد تائهٍ في لجة لا متناهية من الظلمات....


بدت السماء شاحبة، مائجة كمحيطٍ في عينيها السوداوين...


ابتعدت عن النافذة وهي تتنهد، وجلست على حافة السرير تنظر للباب بإستغراق...


أتجرؤ؟!!


و وقفت على قدميها بتصميم...

توجهت إلى غرفته و رفعت أناملها لتخدش بابه...

وقبل أن تطرقه انفتح على مصراعيه ولاح لها صاحب العينين الخضراوين..

تبخرت شجاعتها وهي تتراجع للوراء، أخفضت يدها وضمتها خلف ظهرها وهي تطرق للأرض.


قالت بسرعة وبصوتٍ هامس:


- أريد أن أزور خالي إن لم يكن لديك مانع.


وعادت لتتنهد وكأنها أزاحت حملاً ثقيلاً عن صدرها...


وانتظرت رده لكن لا جواب...


وأخيراً رفعت رأسها إليه بتوجس....


كان يجول ببصره حول ملابسها المكونة من قميص وبنطالٍ أسودا اللون ما خلا من ورود بيضاء صغيرة ناعمة زينت حاشيته...


خشيت أن يطلب منها أن تغير ملابسها كما حدث في ذلك اليوم، لكنها لن تقبل هذه المرة، هذا من معتقدات مذهبها بل من صميمها ولا يحق له أن يفرض رأيهُ عليها...


و رفعت نظرها إليه بتحدي لكن عيناه بدتا حينها خاويتان من أي تعبير، سأل بجمود:


- الآن؟!


- أ...لا، بل في الغد، كلهم يجتمعون يوم الجمعة.


وأوصد غرفته ولم يعلق وكأن في صمته الإجابة، فشعرت بالإحباط دون أن تدري السبب..


وسار عنها وهي تتابع خياله، فنادته بإنكسار :


- عمر!!


التفت إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل:


- نعم؟!


ولم تدر ما تقول وحين أحست بطول صمتها أردفت:


- أريدُ أن أذهب هناك طيلة الأيام العشرة من محرم.


- لا مانع لدي حتى لو بقيتِ لديهم للأبد !!!


وصفق الباب خلفه...



===========


أينما رأته تحاشته وأخذت تمكث ساعاتٍ طوال في غرفتها على غير العادة، حتى أن "ناصر" لا حظ ذلك...


- ما بك؟!


- لاشئ..


- هل أنتِ مريضة؟! أتريدين أن أذهب بك إلى الطبيب؟


- قلتُ لك ليس بي شئ.


ونهضت من سريرها لكأنها تريد أن تثبت ذلك...


ابتسمت ابتسامةً باهتة و هي تقترب منه، وجلست على الكرسي بمحاذاته....


سألته بلطف:


- ماذا تقرأ؟!


- كتاب..


- ألا تسأم من قراءة هذه الكتب، أنا أفضل قراءة المجلات..


وأطبق ما بيده وهي يقول بتفكير:


- كيف أقولها لكِ يا عزيزتي، ولكن من المعروف- واعذريني- أن النساء رؤوسهن فارغة!!


- أنا رأسي فارغ!!


و مدت يدها لتضربه على صدره لكن قلبها لم يطاوعها فمست كتفه وكأنها تمسُّ ريشة، ردت بعتاب:


- هذا وأنا زوجتك وأمامك تهينني!!


- أبداً هذه ليست إهانة وإنما حقيقة..


وضحك بخفوت، أما هي فنظرت إليه بغضب في بادئ الأمر ثم ما لبث أن تلاشى وهي تراه يبتسمُ لها معتذراً:


- كنتُ أمزح معك..


- لا تتعب نفسك فلن أسامحك. ردت بدلع.


- هيا "شيووم" أنا آسف.


- تريدني أن أسامحك؟!


- هذا جل ما أتمناه.


- إذن أحضر لي هدية.


- فقط؟!


وأشار بأصبعه إلى عينيه وهو يقول لها بحنان:


- لو طلبتِ عيني فلن أتأخر..


نظرت إليه بحبٍّ جارف تجاوز حدود المكان والزمان...


كيف أغفلته، كيف سهت عنه، كيف لم تقدِّر ذلك القلب الذي طالما أغرقها بحنانه، بدفئه...


كيف تناست هذا كله في ذروة رغبتها بطفل!!!


وأخذ يتحدث و يعلق ضاحكاً وهي لا تسمع فقط تراقبه، تتأمله، هذا هو زوجها، أمسها ويومها ومستقبلها..


هو كل شئ بالنسبةِ لها، كل شيء...


وانتبه لشرودها فعلّق:


- بمن أنتِ سارحة الآن، أعترفي؟!


- لن أخبرك.


- إذن سأكمل قراءة كتابي.


- كلا، انتظر، كنتُ أفكر بك..


- ألم أقل أن رأسكن فارغ!!!


وابتسم، ولم تغضب هذه المرة بل أخذت تنظر إليه من جديد بحنو وهو يقلب الصفحات التي بين يديه...


أي خطيئةٍ كانت سترتكبُ بحقه؟!!!



============



بدا النهار صحواً، خالياً من الضباب ومن النجوم!!


الوقت يمر بطيئاً كسلحفاة كسول، حتى تلك الأشعة الذهبية المنتشرة في الأفق لا تلبث أن تتغلل لجسدك، تمنحك سمرة وشيئاً من الاكتئاب!!!


والحديث بينهما بات مقتضباً لكأنهما أصمان لا يتعاملان إلا بلغة الإشارات!!


الحياة هكذا لا تُطاق وقديماً قالوا: "جنة من غير ناس، ما تنداس"...

إنها تفضل الجحيم الذي يذيقها إياه على صمته، فعلى الأقل تحس بالحياة تدبُّ فيها، تشعر بأنها كيان موجود، وليس حطاماً رُكن على الرف...


أم تراه ذلك السادي قد صيرها مع الأيام "ماسوشية"!!!

و وصلا، وما أن توقفت السيارة حتى ترجلت منها دون أن تنتظره، ودفعت الباب الذي كان نصفه مفتوحاً...

ولجت إلى الداخل وابتسامة كبيرة على شفتيها وما أن رأتها "ندى" حتى هتفت بإسمها وهرعت لتعانقها...


وشعرت بالسعادة تغمرها وهي تراهم مجتمعين كلهم عدا، عدا "شيماء"!!!

وسألت عنها:

- أين هي؟!


- إنها تستيقظ متأخرة هذه الأيام..


والتفتت إلى خالها وهو يمد يدهُ إليها:


- اقتربي يا ابنتي، أريدُ أن أراكِ عن كثب، فلا أدري إلى متى يريد ابني "العاق" أن يخفيكِ عنّا!!


وجلست بجانبه وهي تطرق رأسها خجلاً...
- أخيراً أحضرتها هنا.. ردّ الأب بعتب.


- زوجتي ولا أستطيع الاستغناء عنها...


ورفعت رأسها بسرعة لتراه يبتسم وهو يصافح أخوته...

إنه يجيد هذه التمثيلية جيداً...

دور السعيد!!

هي ليست مثله، لا تُجيد التمثيل لا هنا ولا هناك!!!

وتقدم من والده فسقطت عيناهُ عليها وسرعان ما تلاشت الابتسامة عن شفتيه...

انسحبت بهدوء، إلى الوراء، إلى لا مكان!!!

ووقف خالها ليعانقه وهو يربت على ظهره وهو يمازحه:

- لقد أصبحت نحيلاً...

والتفت إلى "غدير" وهو يسألها بلوم:

- ألا تطعمينه يا "غدير"؟!

وبدت وكأنها أخذت على حين غرة من سؤاله، بانت علامات الذنب على وجهها حمراء مهينة والعيون ترصدها لتتلقف إجابتها..

ماذا تقول لهم، أنهُ يأمرها بأن تعدَّ له طعاماً كل يوم وحين يجهز يرفض تناوله وهكذا دواليك!!

عضت على شفتيها دون أن تنبس ببنت شفه وهي ترمش عيناها بسرعة كأنها تريد أن تجعل منها ستاراً يحجبها عن الآخرين....

وأحست بيدين دافئتين على كتفتيها فسرت في جسدها رعدة كالتيار...

التفتت إليه خلفها و بلا شعور وضعت كفها على إحدى يديه، تستمد منها الأمان!!

وضع يده الأخرى على يدها وهو يضغط عليها بخفة:

- أنا و زوجتي أحرار، كفاكم فضولاً!!

وعادت الضحكات والهمهمات لتسري في المكان....


وابتعدت اليد هي الأخرى!!!

=========



- لم قلتِ له أنني من أريدُ ذلك؟!


- لم يكن ليأبه بي لو طلبته بإسمي، ثم ألم تقولي أنكِ لا تملكين قطعاً سوداء كافية في خزانتك!!


- أنتِ مستحيلة!!


- كفي عن الثرثرة، إنه ينتظرنا.


وتناولت "ندى" حقيبتها وهي تدفع "غدير" أمامها...


لم يكن "المجمع" بعيداً فسرعان ما وفدوا هناك...


سارت الفتاتان معاً يتبعهما "عمر" بصبر...

كانت "ندى" تقفز من محل لآخر وهي تجر "غدير" من يدها و تلقي عليها محاضرة عن الموضة وخطوط الأزياء!!!

- "ندى" لقد تعبت، فلنسترح هنا..

لكن الأخيرة لم تكن تسمعها، كانت تصوب عينيها بدهشة في زاوية ما...


- ماذا بك؟!

- تصوري من هنا!!!

- من؟!

- المدير!!! قالتها بصوتٍ عال.


- أخفضي صوتك، "عمر" وراءنا، ثم أين هو لا أراه.


- ذاك الذي يحتسي القهوة في "لاميزون دي كافيه".


- يوجد عشرات الأشخاص هناك، كيف لي أن أعرفه!!

- تعالي سأريكِ إياه عن كثب...


- ماذا عن "عمر"؟


استدارت "ندى" إلى ذاك الأخير وهي تشير إليه بأن يأتي:


- أخي العزيز سنذهب إلى ذاك المحل، صدقني هذا آخر مكان سندخله.


- كم مرة قلتِ ذلك!!


- عمر!!


- لقد تأخر الوقت، هي 5 دقائق إن لم تنتهي أخذتُ زوجتي وتركتك هنا..


- هي من تريد أن تذهب إلى هناك وليس أنا.



لكزتها "غدير" في ذراعها وهي تخاطبه بخجل:


- إنها تكذب، لم أقل ذلك.


ونظر إليها وعلى شفتيه وميض إبتسامة صغيرة لكن "ندى" قطعت عليهما المشهد وسحبتها معها وهي تخاطبه من بعيد:


- انتظرنا هنا، لن نتأخر.


و اختبئتا خلف عمودٍ كبير، قالت بصوتٍ منخفض:


- ذاك هو، الذي يعبث بـ"اللاب توب"، حتى في المجمع لا ينفك عن العمل!!


- آه، هذا هو المدير إذن، لا بأس به!!


- لأنكِ لا ذوق لكِ، هذا أفظع وأسمج رجل عرفته بعد "براد بيت"!!


- من هذا براد بيت؟!


- جارنا الذي يسكن في البيت المجاور!!


- هيا لقد تأخرنا، "عمر" سيغضب.


- لا عليكِ منه، ما دمتِ معي فلن يقول شيئاً...


واستدارت "غدير" إلى حيثُ تركاه، كان مندمجاً في حديثه مع أحد الأشخاص...


أحقاً ما تقول؟!!


وتأملته في وقفته تلك وقد نست ما حولها

بالفعل هو لا يرد لها أي طلب، ليتهُ يبقى لطيفاً هكذا للأبد!!


- انظري...


وضحكت "ندى" بخفوت:

- يبدو أنها أفلتت من شرطة الآداب..

ونظرت "غدير" إلى حيثُ التفًّ الناس حول شقراء طويلة، ملابسها كانت حدِّث ولا حرج!!


- كأني قرأتُ مرة قانوناً ينص بالحد الأقصى لطول "التنورة"... علقت "ندى".


- إنها فاتنة جداً..


- أنا أحلى منها!!!!

ثم أردفت:

- اسمعي دعينا نذهب لأحد حراس الأمن ونبلِّغ عنها..


- هذا أحدهم، قد انضمّ مع المتفرجين!! ربما كانت نجمةً سينمائية؟!


- ليست كذلك، أنا أعرفهم كلهم.

وصدت للجانب الآخر وما لبثت أن شهقت بصوتٍ عالٍ:

- انظري كيف يطالعها قليلُ الأدب، عديم التربية..


- من؟!


- ومن غيره!! المدير...


- وما شأنكِ أنتِ؟!


- ما شأني؟! أهذا سؤال تسأليني إياه، هذا مديري، مديري أنا ألا تفهمين؟!


وتابعت بحرارة:


- ثم، أنسيتِ نحنُ نعمل معه ومعظمنا فتيات، إذا تفتحت عيناهُ الآن على هذه المرأة فربما ستتفتح عيناهُ علي وهذا هو الاحتمال الأكبر!! ثم على بقية الفتيات!!!!


- !!!!!!!


- سأفضحه، سأخبر كل من معنا في العمل عن سلوكه المشين!!


- أين ستذهبين أيتها المجنونة؟!


- ألا ترينه، يكادُ يقفُ لها كلما مرت بجانبه، اتركيني سؤأدبه، سأريه من هي "ندى"..


وأفلتت من قبضة "غدير" وهي تمشي كالسيل الهادر...

و وصلت إلى طاولته وهي تدقُّ الأرض بقدمها اليمنى، قالت بصوتٍ مصرور:


- ألا تخجل من نفسك؟! رجل في مركزك وسنك ينظر لهذه الأشكال...


وأجفل من وجودها المفاجئ أمامه هكذا...



ضربت يداً بيد وهي تردد:


- رجال آخر زمن، آخر زمن، تتظاهرون أمامنا بالشرف والأدب وحين نغفل عنكم ولو لثانية أظهرتم وجهكم الحقيقي..


- ......................



- وأنا أتعب نفسي يومياً أمام المرآة ولم تقل لي شيئاً مرةً واحدة حتى لم تكن تنظر إلي!!!


- .....................


- أتعرف كم أتكبد في بداية كل شهر وأنا أتبضع في السوق كي أشتري شالاً بلون حذائي..


ورفعت قدمها قليلاً لتريه حذائها الزهري:


- ألا تراه جميلاً؟!! ألا يعجبك ذوقي؟!


أخذ يطالعها مصعوقاً دون أن توقف لسانها...


- ثم ماذا بها كي تنظر إليها دوني أقصد دون الفتيات المحترمات، أتعتقد أن عينيها فعلاً زرقاوان، كذابة، كذابة، ثم كذابة، تلك عدسات ملونة، كلها صناعية محقونة بـ"البوتكس" و "الكيلاكوجين"، أما أنا فمحلية مائة بالمائة...




ثم استدركت وكأنها تذكرت شيئاً ما:



- ماعدا رموشي، فلقد سقطت من العقص واستخدام الماسكرا والسبب أنت!!!



وصاحت بصوتٍ عال:


- أجل أنت، لا تنظر إليًّ هكذا، قالوا رموش العين تذبح وسقطت رموشي كلها وأنت كالجمل في مكانك...



- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!



- أرجوك لا تبرر ولا تكلمني، ما بيننا قد انتهى والسبب عيناك الفارغتان، أرجوك يكفي لا تحاول معي..



ولوت شفتيها بقرف وهي تعطيه ظهرها وبقيت هكذا برهة ثم عادت لتستدر وعيناها نصف مغمضتان:

- وداعاً..



وسارت عنه كما جاءت وآلالاف الشياطين تتراقص أمام عينيها حتى أنها تجاوزت "غدير" دون أن تشعر....


ولم تنتبه لها "غدير" هي الأخرى، كانت عيناها شاردتان في "عمر" الذي يبدو أنه تناسى وجودها ووجود أخته وأخذ يحدق في تلك المرأة الشقراء كبقية الرجال...


وغاص قلبها، شعرت بأنها تهوي وتعود لتطفو مرةً أخرى على رمالٍ لا قرار لها...


وأشتعل شئ في صدرها، شئ غريب، غريب ومهين في آنٍ واحد!!



وتمنت لو أنها لم تأتي إلى هنا، بل الأسوأ أنها تمنت لو أن زوجها لا يملك عينان!!!!


وقبضت على حقيبتها بقوة وهي تقاوم الاضطراب الذي يعتمل بداخلها، حزينة وغاضبة، ثائرة وخامدة، كنبعٍ فوار في بركةٍ آسنة كانت هي تلك اللحظة....



وسمعت صوتاً يناديها فالتفتت لندى:


- أنتِ هنا وأنا أبحثُ عنكِ في كل مكان...


- .....................


- لم تسأليني ماذا فعلتُ به!! لقد أدبته!!


"يا لحظك، ماذا عن ذاك؟!!"


- تصوري لم ينبس ببنت شفه، يبدو أنهُ خجل من نفسه...


- ....................


- أتعتقدين أنهُ سيقول لي شيئاً في الغد عما فعلتهُ اليوم، لا أتصور سيفضح نفسه حينها..


ثم أردفت بقلق:

- لقد صرختُ عليه، ولكن إذا واجهني سأنفي كل شئ، سأنفي حتى أنني رأيته بالمرة!!


- ما رأيك يا "غدير"؟!


- لم لا تتكلمين؟! أين عمر؟!!


"إنهُ هناك لم يخفض عينيه عن تلك المرأة ولو لبرهة، نسيني منذُ أن رآها"..



- لقد رأيته، هيا تأخرنا فلنذهب بسرعة قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه..



"ماذا بعد ذلك؟!"...



وسارت معها بإنكسار و بشئ من خفي حنين ووصلوا إليه دون أن ينتبه، مسّت "ندى" كتفه وهي تقول بعجل:


- هيا، لقد انتهينا من الشراء..


- لا أرى في أيديكما شيئاً..


- سنأتي يوماً آخر، لم تعجبنا بضاعتهم!!!


والتفت إلى "غدير"، كانت تطالع الأرض دون أن تسمع ما يقولا..


خاطبها بقلق:


- ما بك؟!


- ..........


- غدير!!


ورفعت رأسها وهي تنظر لعينيه الخضراوين بألم:


- لا شيء..


- هيا بنا إذن..


وركب الثلاثة السيارة صامتين، كلٌّ سارح في خطى أفكاره....


وما أن نزلت "ندى" حتى عاد ليخاطبها من جديد:


- ما بك؟!


- قلتُ لك ليس بي شيء. صاحت بعصبية.


رفع حاجبيه بدهشة ثم هزّ رأسه وهو يتابع القيادة..


و مدّ يده ليضغط على زر المسجل وكانت نشرة الأخبار...


وانقطت النشرة فجأة فطالعته بحدة وهي تقول:


- رأسي يؤلمني، لا أريدُ أن أسمع شيئاً!!!


وما أن وصلا حتى خرجت بسرعة دون أن تغلق الباب، لحقها وكانت بإنتظاره!!!

ألقت بحقيبتها على الأرض، فسألها بإستنكار:


- ماذا جرى لكِ هذا المساء!!


- ماذا جرى لي أم ماذا جرى لك أيها المحترم!!!


- أنا لا أفهم شيئاً مما تقولين..


انفجرت في وجهه وهي تنظر له بإزدراء:


- تخالني لم أرك كيف تنظر إليها؟!


- عمن تتكلمين؟!


- عن تلك المرأة التي لم تبعد ناظريك عنها منذُ أن دخلت..


- أنا لم أرى أحداً ولم التفت لأحد.


- لا تكذب..


- انتبهي للسانك..


- بالطبع ستنكر، فهذا طبعكم دوماً، الغش والخداع يجري بدمائكم..


- لا يهمني إن صدقتني أم لا... ردّ بنفاذ صبر.


- لم لم تذهب إليها أو ربما أخذت رقمها دون أن أدري!! وغطت وجهها وهي تبكي بصمت.


وأمسكها من ذراعها وهو يصرخ بشراسة:


- قلتُ لكِ لم أفعل شيئاً.


- أنت كاذب..


- اخرسي..


وانكمشت في مكانها وهي تغمض عينيها بقوة...


أردف وهو يصيح:

- وحتى لو كنتُ أنظر إليها فعلاً فهذا من حقي!!


فتحت عيناها وهي تردد كلامه بإستنكار:


- من حقك؟!


- أجل من حقي..


- أنسيت أنك متزوج؟!


- حقاً، لم يخبرني أحد بذلك من قبل!! قالها بسخرية.



وهدأت ثائرتها قليلاً وهي تفرُّ بنظراتها للأرض...


وأردف وهو يتأمل تعابير وجهها بإنتباه شديد:


- وليكن بمعلومك أنني أفكر جاداً بالزواج بأخرى.


ورفعت وجهها الذي أحتقن فجأة وهي تردد دون تصديق:


- ماذا؟!


- ما سمعته يا عزيزتي..


- كلا، لن تتزوج، لن تتزوج. صاحت بجنون.


- آسف، لم تتركي لي خياراً آخر، لا تقلقي لن أطلقك، سأبقيكِ على ذمتي معززة ومكرمة هنا أو عند والدي إذا شئتِ!!



أسمعت عن الدجاجة التي ترقص ألماً؟!


وكأنّ مسّاً أصابها من كلماته التي رنّت في أذنيها كالسندان، أخذت تضربه على صدره بما تبقى لها من قوة، كانت تشهق بتقطع وهو واقف بلا حراك ينظر لها بإهتمام...


أمسكت ياقة قميصه بكلتا يديها وبكاءها يرتفع:


- لن تتزوج أسمعت!!


- أمنعيني إن استطعتِ. ردّ بهدوء.


مسحت أنفها وهي تقول بتهديد:


- سأخبر خالي، سأخبره بما تودُّ فعله.


وبرقت عيناه بغضب:


- أتخالينني طفلاً كي تهددينني بوالدي؟! لا تضطرني أن أفعلها والآن!!


- لن تقدر، لن تجرؤ... صرخت.


ورفع أصبعه في الهواء بتصميم:


- والله العــ....


وضعت يدها بسرعة على فمه بإرتياع قبل أن يكمل...


نظرت إلى عينيه بتوسل ودموعها تذرف بملوحة وبمرارة تمرغ بها قلبها...


لكن عيناه قالتا شيئاً آخر، لا زالتا صلبتان، لم تستجيبا لتوسلها الصامت...


وتهاوت يدها إلى جانبها بضعف وكادت أن تهوي هي الأخرى لكنهُ أمسكها فدفنت وجهها في صدره وهي تنشج بصوتٍ خافت كنشيج الميازيب في مواسم المطر!!



حينها فقط أطبق عينيه بألم...



"سامحيني يا عزيزتي، كان لا بد أن أقول هذا، ليس من أجلي فقط بل لأجلك، لا زلتِ صغيرة ولا تفهمين!!"..




==========




- "جميلة".."ندى" كفاكما. صاحت "أشجان" بيأس.



لم تبالي "ندى" بصياحها وأردفت وهي تغرز أصبعها في جيد "جميلة".



- اشكري ربكِ لولاي لكنتِ جثةً مجهولة الهوية!!


- لولاكِ أم لولا خوفك من المدير لأنهُ حينها كان سيطردك شرّ طردة.



شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تضع كلتا يديها على خصرها:


- سيطردني؟! كم أنتِ واثقةٌ بنفسك، يا عزيزتي المدير لا يقدر أن يستغني عني ولو للحظة واحدة، وكل طلباتي لديه أوامر، أتسمعين!!



ضحكت "جميلة" بجفاء وهي ترد بسخرية:


- لا يستغني عنك؟!! لا أدري من تلك التي يمسح بها الأرض يومياً وكأنها ذبابة، لا شي!!


- أخرسي يا مدمنة "الحشيش".


- أنا مدمنة "حشيش"، أشهدي عليها يا "أشجان" أمام المدير عندما يأتي، وأمام الشرطة لأني سأشتكيكِ بتهمة القذف والتشهير العلني.


كتفت "ندى" ذراعيها وهي تعلق بإستهزاء:


- أخفتني، بُصيلات شعري ستسقط رعباً من تهديدك.


وأردفت بصوتٍ مصرور:





- أنتِ ومديرك والشرطة تحت حذائي هذا ولو أنكم لا تساوون فردةً واحدةً منه!! وبإشارة واحدة من أصبعي سفرتكم إلى بلادكم لأنكم لا تبدون "بحرانيين" مائة بالمائة، لا بد أنكم من المجنسين!!!



وشعرت بلكزة خلفها فأخذت تحكُ ذراعها وهي تتابع:


- لا تنظري إليّ هكذا أيتها البلهاء الغيورة، أجل غيورة لأنني أجملُ منكِ وأصغر سناً والكل يحبني حتى مديرك المغرور وإن أظهر خلاف ذلك!! لو رأيته البارحة كيف كان يلاحقني في المجمع لكنني...


وعادت اللكزة أقوى من السابق فاستدارت للخلف وهي تتأفف:


- ماذا لقد حطمتِ ذ.....


ولجمت لسانها وفمها مفتوح تطالع الخيال الذي ظهر أمامها فجأة بذهول، وحين استوعبت شخصه صرخت صرخةً قوية زلزلت المكان...


وقطعت صرختها وهي تغطي وجهها بكفيها و تدورُ في مكانها كالعمياء...


وداست على قدم "أشجان" دون أن تدري ولم تعتذر رغم صراخ تلك الأخيرة، كانت الصدمة قد شلت حواسها وهي تستعيد في مخيلتها ما قالته عنه..



- قفي مكانك.. صاح فيها بغضب.


وجمدت في مكانها كتمثال وكفاها لازالا يحجبان وجهها.


- ويدكِ أيضاً أبعديها!!


وامتثلت لأمره وعيناها نصف مغمضتان، فبان لها ذقنه ورقبته فقط...



بللت شفتيها وهي تقول بهمس:


- أبي صدمته شاحنة البارحة و و..زوجة أخي ستلد، أجل ستلد اليوم!!!


- .................


- برأيك ماذا ستنجب ولداً أم بنتاً، حقيقةً أنا أفضل البنات، ماذا عنك؟!



وحاولت أن تبتسم لكن وجهه المكفهر حطم معنوياتها فازدردت ريقها وهي تقول بتقطع:


- أنا..أنا مريضة، الطبيب شخص حالتي وقال أنني أعاني من شئ غريب لم يكتشفوه بعد، أتصدق!!! سترك يا رب...



وقضمت أظافرها وهي تردد هذه العبارة في سرها بحرارة..



ورفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً:


- هل سمعت هذا الخبر: حزب الله قرر قصف "تل أبيب"..


- ....................


- خبر قديم، أعرف...


- آه، حلا شيحا تطلقت من زوجها، لكن ربما لا تعرفها.


وتوقفت عن القضم وهي تقول بتباكِ:


- أريدُ أن أذهب للحمام.



وأرادت أن تخطو إلى البعيد قليلاً لكن جذعه كان لها بالمرصاد..



وأشار إلى مكتبه فكادت تخر مغشياً عليها وهي تندبُ حظها العاثر:


- غداً، غداً إن شاء الله سآتي مع والدي لنحل الموضوع.


وبكت في خاطرها بصمت، وسمعت صوته يسخر بقسوة :


- والدك في المستشفى الآن، أنسيتي؟!



أدارت وجهها المضطرب في وجه "أشجان" الذي بدا صغيراً جداً، بدا ضبابياً!!!


ثم التفتت لجميلة كان وجهها جامداً هذه المرة، لم ترى ابتسامتها الشامتة على شفتيها!!


حتى هي تشفق علي، سترك يا رب!!



وسارت إلى الأمام وقد مرًّ في ذهنها صورة معزة صغيرة ذبحها والدها بجانب بيتهم عندما انتقلوا إليه لأول مرة، وبعدها قاطعت اللحوم، رفضت أن تأكله لبضع سنوات لكن الوجبات السريعة حلت لها تلك العقدة...



"مسكينة أيتها المعزة"!!! رددت..
(15)



دخلت إلى مكتبه قبله و صوت الباب يُصفق خلفها بعنف..


صرّت عينيها و أذنيها بقوة...


و أخذت تدعو في سرها و تنذر عشرات النذور كي تسير الأمور على خير!!


جلس على مقعده الوثير وأصابعه تدقُّ على سطح الطاولة...


كانت الدقات تزحف إلى رأسها ببطء وقوة كدقات المطرقة على المسمار...


واستمرّ الدق هكذا وبدا سيد المكان تلك اللحظة...


فتحت إحدى عينيها المزمومتين بتوجس لتستشفّ معالم وجهه، لكنها لم ترى شيئاً!!!


لم ترى غضبه، غطرسته، أوداجه التي تنتفخ كلما رآها!!!


فقط كان يطالعها بإزدراء!!


فتحت كلتا عينيها وهي ترمشهما بسرعة وقد بهتت من نظرته تلك...


و رأته يسحب ورقة من على المنضدة و يكتب فيها بسرعة...


و هوى قلبها....


أرادت أن تتقدم لعلها تسترق شيئاً مما يخطه بيده، لكن رجلاها تجمدتا من الخوف...


تحركت شفتيها بإضطراب و أخيراً سألتهُ بصوتٍ غائب:


- ماذا..ماذا تكتب؟!


- ..................


- تكتبُ شيئاً عني، صح؟!!


- ..............


- صدقني، أنا لم أقصد أن أقول شيئاً مما سلف، أصلاً أنا لم أقل شيئاً!!!


- ...............


- هي من تحرضني، هي من تدفعني لقولِ ذلك، إنها تستخدم جهازاً ما بالتنويم المغناطيسي، لا أعرف اسمه، يجعل شفتاي تتحركان بما لا أعلم، إنها "ساحرة"!!!



ورفع رأسه حينها لها فأسبلت عينيها وهي تتظاهر بالإستكانة و الضعف...


لكنها سرعان ما سمعت جرة القلم تعود من جديد...



"لا فائدة من هذا الظالم، لا فائدة منه!!!"



عادت لتقول بإستعطاف:



- أرجوك، لا تضيع مستقبلي، أريد أن أتخرج هذا العام...


- ...........................


- أعدك أنني سأحسن سلوكي، سأتوقف عن الكذب، عن التمثيل، سأصادق "جميلة" أيضاً إذا شئت!!


- ..........................


- لا تكتب عني شيئاً، أنا لا ذنب لي، أنا خلقني الله هكذا، لكنني سأتغير، سأتغير بصدق...


- ........................



- إذا علم والدي سيمرض، سيتقطع شمل عائلتنا، هم بحاجة لي، كلهم يعتمدون علي، أيرضيك أن نشحذ؟!!



و انطلق صوت بكاءها ليرتفع وهو لا يتوقف عن الكتابة!!!



أخذت تطالعه بحرقة وعيناها تكادان تقفزان من محجريهما من بروده...


- أليس لديك إحساس؟!


- ....................


- لقد أذليتُ نفسي لك أكثر من اللازم!!


- ...................


- حتى البكاء بكيت، ماذا تريدُ أكثر من هذا؟!


- ....................


- قلتُ لك توقف، توقف عن الكتابة!! صاحت بتهديد.


- اصمتــــــــــــــــــــي....



وصرخ بغضب وهو يلقى القلم الذي بيده في الهواء...


تابعته بفزع وهو يتدحرج على الأرض ويصل لأصابع قدمها....


نقلت بصرها بين القلم وصاحبه وهي تقول بخوف:



- أستاذ أنا....


- قلتُ لكِ أغلقي فمك، عندما أتكلم لا أريد أن يقاطعني أحد، صوتك هذا لا أريد أن أسمعه، مفهوم؟!!



هزت رأسها بذل...


- أنا للآن لا أعرف أنتِ ماذا بالضبط!! أنا لم أصادف في حياتي العملية و التي ناهزت الاثنا عشر عاماً موظفة مثلك!!



- بالطبع مثلي أنا لا يوجد، أتصدق!! الكثيرات يقلدنني ولكن أين الثرى من الثريا!! وأشارت لنفسها بحماس وقد نسيت نفسها.



تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وبدا كما لو كان يصارع شيئاً يودُّ قوله..



- أعوذُ بالله بالشيطان الرجيم..


- أنا شيطان؟!! سألته بإستنكار.


- اخرجي، اخرجي فوراً من هنا. صرخ بنفاذ صبر.


- لم تصرخ علي دائماً، ماذا فعلتُ لك؟!!


- ألا تفهمين ما يقال لكِ من الوهلة الأولى؟! أأنتِ صماء؟!


- حسناً سأخرج، لكن ماذا عن هذه الورقة ؟! كتفت ذراعيها.


- تريدين أن تعرفي ما بها؟!! سأل بتشفٍ.



عادت لتهز رأسها بسرعة..



مدّ الورقة إليها فأخذت تقرأها بنهم وعيناها لا تتوقفان عن الرمش، وبعد برهة امتقع وجهها وهي تطالعه...



صاحت بصوتٍ عال:

- ماذا؟!


- هذا أقل شئ تستحقينه!!


ردت بحقد:


- أستحقه؟! كل هذا لأني قلتُ عنك كلمتين!!



- تعترفين بذلك أيضاً يا قليلة الأدب..




- أنا قليلة الأدب يا حيوان!!!!



ووضعت يدها على فمها وهي تشهق بصوتٍ مكتوم....


تمنت أن تموت، أن تنشق الأرض وتبتلعها، أن يصاب المدير بالصمم لحظتها!!


ربما لم يسمع، لم يسمع!! أخذت تكرر في نفسها..


و تراجعت إلى الوراء وهي ترى وجهه يُظلم، يكفهر...


أخذت تتأتأ بإرتجاف:


- لا..لا تفهمني بشكلٍ خاطئ، هذه نظرية علمونا إياها في المدرسة.


- ......................


- أنت حيوان وأنا "ندى" و الناس حيوانات، ألم يقل "داروين" الإنسان حيوان ناطق!!!!


- ......................


- إذا كنت لا تصدقني سأحضر لك كتاب "الفلسفة" غداً.


- إذن اسمعي يا "حيوانة" منذُ الغد، لا بل منذُ اليوم سيطبق القرار، عملك هنا ينتهي الساعة التاسعة مساءاً ، وما أن تبدأ الفترة الثانية حتى تأتي إلى مكتبي كل يوم لأعلمك وأدربك فلدي أكوام من الملفات لا بد أن أنهيها، وأنتِ من فصيلة الحيوانات وتحتاجين للتدريب كي تفهمي!!!


- ....................


- تريدين أن أكرر عليكِ الكلام أم يكفيكِ هذا؟!


- ....................



- أريد أن أسمع جواباً، يكفي أم لا؟! صرخ بغضب..



و ألقت الورقة بسرعة من يدها وفرت من أمامه وهي تبكي بمرارة...


و تلقفتها "أشجان" في الخارج وهي تربت على ظهرها بحنو...


- هدئي من نفسك، هو دائماً هكذا. قالت بصوتٍ منخفض.


نزعت نفسها منها وهي تصرخ:


- هو ****، ذاك هو..


- "ندى"!!


وأشارت إلى "جميلة" بحركة خفيفة لكنها لم تبال واستمرت في صياحها:


- تخيلي ماذا يريد أن يفعل بي؟!!


- ماذا؟! سألت "جميلة" ببراءة.



فما كان منها إلا أن أزاحت "أشجان" عن طريقها وهي تقترب والشرار يتطاير من عينيها...



وضعت "ندى" أصبعها على فمها وهي تردد بتهديد:



- أصمتي، أنتِ السبب، أنتِ السبب في كل شئ..


تراجعت "جميلة" إلى الوراء بخوف وهي تنظر "لأشجان" بإستنجاد.



- "ندى" كوني عاقلة.



استدارت إليها وهي تعود للبكاء:


- عاقلة!! سيحبسني لديه كل يوم حتى المساء، كل يوم، كيف سأتحمله!!


- تحلي بالصبر، لم يبقى الشئ الكثير على فترة تدريبك. أخذت تواسيها.


صاحت بوعيد:


- لكنني سأجعله يندم، يندم على اللحظة التي وضع فيها هذا القرار، والأيام بيننا...



واتجهت لمكتبها والفتاتان تراقبانها بوجل وما أن استقرت عليه حتى طالعتهما بجمود وهي تعضُّ على شفتيها بقوة...


وتلكأ لسانها كثيراً قبل أن ينطق:


- أأنا من فصيلة الحيوانات؟!!


وعادت لتنفجر في البكاء من جديد...


==========



تطلعت إلى نفسها في المرآة بقلق وهي تعيد تصفيف شعرها ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم!!!



إنها تكره أعمال الزينة، تمقتها، تشعر بأنها تقيدها، تجعلها مصطنعة، كدميةٍ مشدودة!!!



و مرت صورة "الشقراء" أمام عينيها فعاد الغضب الأعمى ليمزقها من جديد، ليفقدها صوابها ويأجج النار التي لا تلبث أن تتقد في صدرها كل حين...



وألقت فرشاة شعرها بيأس...


إنها لا تستطيع أن تكون مثلها، ليس في هذه الفترة على الأقل!!!


ولمَ تحاول ذلك أصلاً؟!!


لم يا "غدير"، ماذا جرى لكِ، بتّ تكشفين أوراقكِ له وهو يستمتع بذلك...


يفتعل معكِ المشكلات ليذكركِ بها وبتلك التي ينوي الزواج بها، ثم يترككِ تحترقين وهو يبتسم!!!



ماذا جرى لكِ أيتها الغبية، إلى أي مدى ستجركِ حماقتك، أوراقك لا بد أن تدفنيها كما تدفنين دفترك وتهيلين عليها التراب وتصمتي، تصمتي للأبد!!!


غرزت أصابعها كأنها تودُّ أن تُفيق نفسها من هذا الكابوس المريع، الكابوس الذي يقضُّ مضجعها ويحيل لياليها سواداً حالكاً لا نجوم فيه...


جلست على حافة السرير مطرقةً رأسها....


الأفكارُ تعصفُ بها كدوامة، كدائرة مفرغة لا قرار لها، ها هي تسمع صوت باب حجرته...


سيخرج، سيخرج منذُ الصباح، دائماً يخرج ولن يعود إلا متأخراً...


وتريدونها بعد ذلك أن تصمت!!!



ألقت نفسها على السرير وجسدها يهتز بصمت...


ماذا جرى لكِ يا غدير، ماذا جرى؟!!!



==========



سكبت لها عصير البرتقال وهي تنظر للخارج من نافذة المطبخ مستمتعةً بإرتشافه على جرعات...


حين يتحد الصباح مع الهدوء ينفرزُ في ذاتك شيئاً ما، شيئاً لا تعرف كنهه، لا تستطيع وصفه...


شئ جميل وشفاف، شئ يشبه الصفاء، يشبه النقاء، يلامس سريرتك، يهزُّ أوتارها فينبعث منها هدوء، راحة، سكينة عجيبة....


ما أجمل الصباح، وما أروع زقزقة العصافير حين تدغدع مسمعك!!!


وبقيت هكذا مأسورةً بجمال المنظر، بروعة الشمس والشجر والعصافير!!



وبقي هو واقفاً عند الباب يتأملها بغموض...


وكأنها أحست بإحساس الأنثى بتلك النظرات، فاستدارت للخلف....


- صباح الخير.


وصمتت فترة قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفض و حاجباها معقودان:

- صباح النور.


ووضعت كأسها الذي لم تتمتع بإحتساءه بأكمله بجانب الحنفية، ومرت بجانبه لكنه لم يتزحزح عن الباب.


- لو سمحت!! قالت بإستنكار.


تنحى قليلاً وهو يعلق:


- يبدو أنكِ نسيتِ موضوعنا!!


- أي موضوع؟! سألته بشزر.


- موضوع الفحص!! لقد وصلت أدواتي المختبرية منذُ أسابيع...


- أنا و زوجي "ناصر" لا نفكر حالياً بالأطفال. ردت بحزم.


تطلع إليها بتثاقل وهي تبادله نظرة كراهية لم تفته..


- كما تشاءان، وإذا غيرتما رأيكما فأنا موجود..


مرّت من فرجة الباب دون أن تجيب عليه...


صعدت السلم وأحساسها بالقرف منه يتصاعد...



يا لهُ من رجل يُثير الغثيان!!!



===========




قفزت مذعورة من صوت صراخه....


أغلقت باب غرفتها خلفها وهي تتلفت بحيرة ماذا تفعل وأين تختبئ، فلا تدري أي شيطانٍ ركبهُ اليوم؟!!!



لم تجد إلا الفراش ملاذاً، اختبأت فيه وهي تغطي نفسها، حتى إذا جاء ظنها نائمة وانتهى اليوم على خير!!!!



كم هو جميل أن نحلم، وكم هي صعبة أن تتحقق الأحلام....



دفع باب غرفتها وهو يصرخ:



- غدييييييييييييييييير...



تقدم منها وهو يهزها:



- أنتِ، ألا تسمعين قومي، كيف تنامين في الظهيرة؟



أبعدت الغطاء عن وجهها وهي تسأله بتقطع:


- أ..أ..ماذا، ماذا حدث؟


- أين قميصي الأخضر؟



رفعت كتفيها بخوف بأن لا تدري.


حدجها بغضب وهو يزمجر:


- اذهبي وابحثي عنه فوراً.


- حـ..حسناً.


- هيا قومي، ماذا تنتظرين؟


وفزّت من جلستها ودمدمته تصل لأذنيها:



- لا أدري لم تزوجت؟! ويقولون الزواج راحة!!!



اتجهت للغسالة، فتشت بسرعة وهو خلفها لا يزال يدمدم.


- ليس هنا..


- اذن أين ذهب، كيف اختفى هكذا فجأة؟!


- ألبس لك شيئاً آخر.


- لا أريد إلا هو.


- لا تصرخ علي، لستُ أنا من ضيعه.


- صه، أصرخ كما أشاء في بيتي، أم لديكِ اعتراض يااا آنسة؟!



وشرد ذهنها قليلاً...


لم يريده هو بالذات!!!!



- يبدو أننا لن ننتهي من أحلام اليقظة اليوم، هيا...



دفعها أمامه حتى غرفته، و بقي هو واقفاً عند الباب وهي تبحث في خزانة ملابسه:



- ملابسي مكوية، إذا تجعدت أو لم تعيديها لمكانها ستضطرين إلى كيها من جديد.



نظرت إليه والغيظ يكاد يفتتها، ودت لو تقطعه هو وملابسه!!!



أي أسلوبٍ بات يتبعه معها هذه الأيام!!


كيف انتقلت الدفة إلى يده؟!!



كله بسببها، تلك الشقراء الفارغة..


- لم أجده، ليس هنا..


- ابحثي جيداً...


وجالت ببصرها حول الغرفة وتوقفت عند طاولة الزينة...


رفعت إليه القميص والدهشة تعلوها:


- كان هنا أمامك ولم تره؟!!



- لو كنتُ رأيته لما ناديتك، أعطنيه.


لقد سلبت عقلك، أصبحت لا ترى الآن!!!


لا تراني ولا ترى ما يدور حولك...


تطلعت إليه بألم وهي تسأله بمرارة:


- أين ستذهب ؟!


- وما شأنكِ أنتِ!!


- أريد أن أذهب معك، أنا لا أخرج أبداً من هنا..


- كل ليلة أوصلك إلى بيت خالك..


- و أين تذهب حينها؟!


- ومنذُ متى تسألين!!


- منذُ اليوم سأسأل..


- أذهب للمكان الذي يحلو لي، ولعلمك أنا لا أحب التدخل في خصوصياتي..



- هذه ليست خصوصياتك وحدك، أنت تريدني أن أبقى جاهلة عمياء لا أعرف شيئاً عما يدور من ورائي!!!


- وما الذي تعتقدينه يدور وراءكِ يا آنسة؟! سألها بسخرية.


- لا تنادني هكذا. صاحت بغضب.


- اسمعي أنا متعبٌ الآن من العمل، ولا طاقة لي للشجار.


- إذن ابقى في البيت.


- لقد وعدتُ أصحابي بالقدوم.


- أصحابك؟!



أخذت تكررها و هي تضحك بجفاف:


- لا تقل لي!! كل هذا الصياح والبحث المتحمس عن القميص، كل هذا من أجل عيون أصحابك!!


- أفهميها كما تشائين، وسواء صدقتِ أم لا فأنا رجل أهتم بمظهري الخارجي في كل الأحوال!!


- أنت كاذب منافق، غشاش. صاحت بإنفعال.


- غدير!! صرخ بتهديد.


- لا تنطق اسمي على لسانك، أنا أكرهك، أكرهك.


- اخرجي الآن قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه!! رد بصوتٍ غاضب.


كان صدرها يعلو ويهبط بإختناق، والثورة تدبّ في أعماقها كإعصار يريد أن يجرف كل من يقف أمامه بجنون...



- أخرجي، أريد أن أغير ملابسي..


الأفكار تطحنها والوسواس الخناس لا يلبث أن يتراقص أمام عينيها، لا يلبث أن يهمس أذنيها بكلمات، باتت هاجسها الأخير...



تطلعت فجأة إلى الكأس الموضوع على المنضدة ودون شعور تناولته:


- ارتده الآن، سيبدو لائقاً!!!


وانسكب الماء على القميص وعلى جزءٍ من ثيابه...



تطلع مصدوماً إلى نفسه ولها لثانية، وبلا شعور مدّ يدهُ هو الآخر!!!




ورنّ في الغرفة صوت صفعة قوية استقرت على الخد مباشرة دون سابق إنذار..



رفعت أناملها المرتجفة إلى خدها لتتحسسه، لتتحسس السياط الذي كوى جلدها...



رفع يده إلى شعره بتوتر كما لو كان في حالة اعتذار...



ترقرقت الدموع من عينيها وهي تنظر إليه وتهزّ رأسها دون تصديق...



صفعها من أجل قميص؟!!



كلا، ليس من أجل قميص، بل لأجلها، لأجلها هي أياً كانت...




و هرعت إلى غرفتها وهي توصدها خلفها بالمزلاج...



وانزلقت أسفل الباب، على الأرض وأجهشت بالبكاء...



=============




دقت الباب عدة مرات ورغم أنها سمعت كلمة "أدخل" إلا أنها كررت الطرق وبصوتٍ أعلى!!!



وانفتح الباب على مصراعيه فحدجت الواقف أمامها بحقد ودخلت مباشرة وفي يدها ملف أبيض اللون..


و سمعت الباب يُغلق بعد لحظة فعاد الألم بقوة إلى معدتها...



- اجلسي. ردّ ببرود.


لكنها بقيت واقفة كالتمثال دون أن تنبس ببنت شفه!!



عاد إلى مقعده وهو يعبث بأدراجه دون أن يحول عينيه عنها..


- ستبقين واقفة هكذا إلى متى؟! ردّ بنفاذ صبر.



لا جواب!!!!


وانتفخت أوداجه وهو ينظر إليها بغضب وهي تكتفي بالرمش فقط!!!


وضع يديه بتصميم على سطح المكتب واستطالت قامته في وضع الوقوف...



اهتزَّ الملف الذي بيدها ونظرت إليه من طرف عينيها وما هي إلا ثانية حتى هرعت إلى الكرسي لتجلس عليه!!



عاد إلى مقعده وهو يتنهد...



وقال بعد قليل:



- سنبدأ في جرد حسابات "المخازن الكبرى" أولاً، أنتِ ستقومين بـــ.....



و توقف عن الكلام وهو يراقبها...



كانت تضع قدماً على أخرى وتتصفح الملف الذي بيدها بتمعن، وفي كل حين ترفعه حتى يلاصق وجهها وهي تحرك رأسها!!!


- هل أنتِ مختلة عقلياً؟! سألها بإرتياب.


- .........................


- ماذا في يدك؟!


- ..................


- لم لا تتكلمين؟! أأصيب لسانك بالشلل!!!


- ................


وضرب بقبضته على الطاولة:


- أعطنيه، لعنةُ الله على الشيطان!!



وتطلعت إليه ببلاهة وهي تشير إلى الملف بإصبعها..

- أجل، أريدهُ هو، جيد أنكِ تفهمين!!



ولمعت عيناها ببريقٍ ما سرعان ما أطفأته...


رفعت الملف عن حجرها وهي تمسكهُ لأعلى....


حركت يدها ناحيته لكنها سرعان ما أنحرفت بسرعة وأفلتته على الأرض!!!


فتحت فمها بدهشة وهي تهزُّ كتفيها كأن لا دخل لها، وهو جامدٌ في مكانه، مصعوق!!!



أمالت بجذعها وألتقطته ومدت يدها لتمسح جبينها وهي تلهث من التعب!!!



ثم زفرت وعادت لتشير إلى الملف بإصبعها....


ولم يُجب....


فعادت لترفعه إلى أعلى، إلى أقصى ما تستطيع وهي تنظر للملف بتفحص، ولوت فمها كأن شيئاً لم يعجبها فيه فأسقطته!!!


التفتت إليه وفمها مفتوح، عيناه تكادان تخرجان من محجريهما من منظرها...


عادت لتنثني من جديد وتلتقطه و تمدهُ ناحيته!!!


أطرق رأسه قليلاً وكأنهُ في حالة تفكير عميق...


ثم وقف فجأة فقفت هي الأخرى وهي تمدُّ الملف بأطراف أناملها، لكنهُ لم يأخذه بل دار نصف دورة حتى أصبح بمواجهتها...


وقبل أن تستوعب سحب الملف من يدها ولفه بأصابعه وهوى به على كتفها ...



صاحت وهي تتراجع إلى الوراء وتمسك كتفها:


- أ تضربني أيضاً؟!!


- لأن الحيوانات هكذا، لا تفهم ولا تتكلم إلا بالضرب!!


- والله سأخبرُ والدي عنك والشرطة..


- تخبرينهم بماذا؟!


- أنك مددت يدك علي.. صرخت وهي تدقُ الأرض بقدمها.


- وأين شهودك؟!


شهقت دون تصديق...


- أنت لا تطاق، لا أريد أن أعمل معك..



- اذهبي للوزارة الآن لتغيري مكان تدريبك إن كنتِ تقدرين.



أخذت تندب حظها العاثر وهي تصيح بحرقة:


- أنا لا دخل لي، أريد أن أعود للبيت، كلهم عادوا إلى بيوتهم عداي أنا، كلهم يتناولون الغذاء وأنا جائعة، كلهم نائمون الآن وأنا أعمل وأعمل وأعمل وفي النهاية أُضرب ويُقال عني أني من "الحيوانات"!!!


- إذا أنهيتِ جرد كل هذه الملفات سأُعيدك إلى مكانك.


- أحتاج لسنة كاملة كي أنهي أوراق الزبالة تلك. ردت بإشمئزاز.



تطلع إليها بشزر وهو يصرُّ على أسنانه:



- اسمها أوراق العمل وليس أوراق الزبالة، كفي عن التحدث بسوقية..


- أصبحتُ سوقية أيضاً؟!! وأخذت تصيح.


لم يبالِ بصياحها وأردف:


- ثم كلما عملتِ بجد وإخلاص ونشاط حقيقي ستُنهينها في أسابيع..



"أنا لا أقدر أن أتحملك يوماً واحداً ما بالك بأسابيع!!"



- هيا عودي لمقعدك لنبدأ وكفي عن تصرفاتك الخرقاء!!



"اصبر علي فقط، لن أكون "ندى" إن لم أجعلك تعضُّ أناملك ندماً لأنك وضعتني معك في مكانٍ واحد!!!"




==============



أحنت جذعها لترتدي نعليها ولم تشعر إلا بيد تمس ظهرها...


رفعت رأسها فوراً بوجل...


- آسفة إن أخفتك، كيف حالك يا ابنتي..


وابتسمت "غدير" ابتسامةً كبيرة وهي تصافخ المرأة بحرارة:


- أنا بخير، كيف حالكِ أنتِ؟!



- الحمد لله على كل حال..


ثم هتفت بسرعة:


- ماذا عن والدتك، هل أبلت من مرضها؟!!


- أمي؟!! تساءلت بدهشة.


- أجل والدتك، كانت مريضة وعلى فراشها المسكينة حين زرتها آخر مرة.


"أمي مريضة!!"


وشعرت بالإثم يعقد لسانها...



الغصة ترتفع، تتضاعف جرعتها، و الذنب يبدو جلياً ونظرات المرأة تشهد على ذلك...



" مريضة وأنا لا اعلم!!"



أرجوكِ اصمتي، ومنذُ متى كنتِ تسألين، ألم تتوقي إلى الفكاكِ منها ومن صورتها المهشمة الضعيفة!!!



ألم تريدي الخلاص، النسيان، أليست هي أول بصمة سوداء في حياتك، أليست هي السبب يا "غدير"؟!!


لم السؤال إذن؟!!


هي أيضاً لم تبالي، حضرت عرسك وخرجت وكأن ليس هذا بزفاف ابنتها...



ربما منعها، ربما جاءت خلسة وعادت قبل أن يكتشف غيابها ذاك السكير!!



لا... لا تبحثي لها الأعذار..



لا أب لكِ، إذن لا أم لكِ!!



هكذا هي المعادلة منذُ الأزل!!


وتجاوزت المرأة والكلمات تطنُّ في أذنيها كدبيبُ نحلة...



المصائب لا تأتي فرادى أبداً، تأبى إلا أن تأتي كلها وعلى حين غرة...


مريضة!!!



وماذا في ذلك، كلنا نمرض وهي كبرت في السن!!



ماذا بعد ذلك؟!!



ستموت!!!



كلنا سنموت اليوم أو غداً، لا فرق!!!



لم الحزن إذاً، لم الرثاء؟!!



دع الخلق للخالق وسر في طريقك وحدك واصمت...



اليوم وغداً ووراء الشمس ستسير وحدك، اعتد منذُ اليوم ولا تنظر للوراء...



مريضة!!!



ماذا تريدونني أن أفعل؟!



أزورها مثلاً!! أهذا ما تريدونه؟!!



كلا لن أفعل، لن أفعل أسمعتموني، لن أفعل...



لا أريد العودة إلى هناك، لا أريد أن أذكر أي شئ، أي شئ...



ربما كان رابضاً هناك وأنا تقتلني رؤيته..



أنا لا ماضي لدي، كله ضاع، تمزق، ألقيته خلف ذاكرتي..


خلف الشمس!!!


ماذا تريدونني أن أفعل ها؟!!



قلتُ لكم لا، لن أزورها، لن أفعل...



أمي أنا مريضة!!!!


هراء!!!

من قال ذلك؟!!



و وصلت لشقتها بذهنٍ غائب...



الأنورار مطفأة والسكون يتراقص بخفة حول المكان...


مدت أناملها لتتلمس مفاتيح الكهرباء...



لتضيء المكان وشيئاً من روحها الهائمة، المنغمسة في الظلام...



لم يعد حتى الآن وربما لن يعود!!!



هذا أفضل، أنا لا أريد أحداً، فليذهبوا كلهم للجحيم!!!



وأنا من وراءهم!!!



وألقت بنفسها على سريرها وهي تدفن وجهها في وسادتها التي طالما تشربت دموعها، امتصت آلامها، همست لها بأسرارها وحدها..


ما أوفاها هذه الوسادة!!!



و تركت لنفسها العنان وهي تجرُّ الدثار عليها...



لم الحياة هكذا دوماً؟!!



كحركة المد والجزر...



ترفعك حيناً وتهبطُ بك حيناً آخر...



لم هذا الكلام يا "غدير"، منذُ متى وكنتِ تقدمين آراءك عن الدنيا!!



أعترفي، جاهري بما في جعبتك...



هي السبب، هي، لم تمرض، ولم تأتي تلك المرأة لتخبرني بذلك؟!


استغفر الله، أتعترضين على أمر الله...



يا عزيزتي: لا يُغني حذرٌ من قدر...



أنا لا أشعر بالأسى حيالها، لا تهمني، ألا تفهمون، لذا لا تصدعوا رأسي بهمساتكم تلك...


صه، صه، صه أنا لستُ أكذب، أنا قلبي مات، مات منذُ زمن، مات وكان من الأحق أن يأدوه منذُ ولادتي، كان لا بد أن يدفنوه أو يدفنوني!!!



بلا قلب أنا أفضل، بلا قلب أنا أعيش!!!!



أمي ماتت، ماتت منذُ زمن وكفى...


ماتت وانتهى أمرها بالنسبة لي!!!



ثم يأتي هو...


إذا تواجدت هي، فتش عن "هو"!!



ذلك الكاذب، القاسي، صفعني لأني كشفته، فهمته..



تريد أن تتزوج، فلتتزوج إلى الجحيم أنت ومن تريدها!!



فقط كفّ عن ترديد ذلك على مسامعي...



لا تخالوني أغار، لا تخالوني أحبه...


ما لكم تنظرون إليّ بريب؟!



قلتُ لكم لا أحبه ألا تفهمون، مثلي أنا لا يعرف الحب، ومثله لا يستحق أن يُحب ذلك الغشاش!!!



ولكن انتظر....


قبل أن تتزوج بأخرى، طلقني فأنا لم ولن أريدك...



أتسمع، طلقني، تخالني سأبكي عليك إن أخذتها وطلقتني؟!!



ذاك ما أصبو إليه، ذاك جلُّ ما أتمناه....



لن أذرف عليك دمعةً واحدة، ولن أغضب، بل سأدعو لك ولها بالتوفيق...



قلتُ لكم كفو عن التطلع إلي...




أنا لا أبكي لا عليها ولا عليه!!!



أنا لا أحمل في قلبي شيئاً...



لا أحمل إلا شقائي!!



وأجهشت بالبكاء وهي تعصر الوسادة بيديها...



ولم تنتبه أنهُ كان مستنداً منذُ زمن على الباب، يشاهد الجسد المهتز من تحت الدثار، يسمع تلك الشهقات المنفلتة رغم الوسادة المحيطة بها، يشاهد هذا كله و هو يقف ساكناً!!!



وانطلق الصوت بعد برهة بهدوء، بخفوت كخفوت ذلك الضوء الشارد من القمر عبر زجاج النافذة...


- غدير!!!


وتوقف الرأس عن شجنه فجأة وكأن الصوت وحده كان كفيلاً بتجميده!!!

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 04:54 PM   المشاركة رقم: 8
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
Wink

 

(16)



كل شيء ساكن، كل شيء يصيغ السمع لصوت أقدامه على الأرضية!!


سقطت ظلاله عليها، شعرت بثقلها، بوطئتها كما لو كانت تتغلل عظامها، تسري في جسدها كالتيار!!!


لكنها لم تُزح رأسها، لم ترفعه، لازالت الوسادة الأثيرية تحتضنه، تحيطه كسياج!!!


وجلس على حافة السرير فاهتزَّ قلبها في عرشه...


- غدير!!!


لا صدى، لا صوت، لا إجابة!!



وضع يده برفق على كتفها وهو يردف بهدوء:


- أعلم أنكِ مستيقظة، فلا تتظاهري بالنوم!!


كفت عن التنفس، أم لعل الهواء انعدم، تلاشى، تسرّب كذلك الضوء الشارد الذي تسلل للغرفة دون استئذان!!




- أريد أن أعتذر عما بدر مني ظهر هذا اليوم...



وعادت لها ذكرى الصفعة، ذكرى الإهانة، ذكراها هي!!



من أين جاء؟!


دفعت يده بعيداً عنها دون أن تنظر إليه وهي ترد بصوتٍ مبحوح:


- ابتعد عني..


تنهد وبعد برهة صمت قال:


- أنا آسف، لم أكن أقصد، أحياناً لا أتمالك أعصابي..


- لا أريد أعتذارك، لا أريدُ شيئاً منك، من فضلك أنا متعبة..



وتهدج صوتها، اختنق في حنجرتها لكنها جاهدت كي يبقى موؤداً، في طي الكتمان...



- أرجوك لا تبكي، أقسم أني نادم على ذلك..


رفعت رأسها بسرعة، بأنفة لتواجهه:


- أنا لا أبكي.


- لا تكفين عن الكذب أبداً!! وهذه الدموع التي تغرق وجهك!!


- أنا عائدة للتو من "المأتم".. أجابت بعصبية.


- ومن أوصلك إلى هناك؟!


- وما شأنك أنت؟!


- غدير!!


- أنا لا أحب أن يتدخل أحد في خصوصياتي كما لا تحب أنت، أسمعت؟!


- ما هذا الكلام الأحمق!!


- هذا كلامك أنت!! و منذُ اليوم سأفعل ما يحلو لي، أنا لم يعد يهمني شئ، أي شيء!! أخذت تصيح.




جرها من ذراعها عنوة للأمام حتى بات وجهها قريباً من وجهه...



تلاقت عيناهما معاً، شعرت بأنها حطام، هشيم، يذوي بسرعة، يتردى في العاصفة ويتهاوى بضعف..



نسيت كل غضبها، كل العذاب الذي سببهُ لها فقط وهي تغوص في عينيه...



أيضحك علي؟!



لاحت ابتسامة ضئيلة على شفتيه وهو يهمس:



- يبدو أن الغيرة أفقدتكِ صوابك!!



صرخت وهي تحاول أن تسحب يدها وتبتعد وقد أصابتها كلماته بالهلع.


- اترك يدي.



أردف دون أن يعبأ بصياحها و بأنفاسها المتقطعة:



- تهربين، دائماً تهربين، لم تخافين من نفسك؟!


هزت رأسها نافية وهي تردد بإختناق:


- أنا لا أفهم ما تقول!!



أمسكها من كتفيها وهو يهزها :



- انظري إلي، صارحيني، أفهميني كيف تحبين آخراً وتغارين علي؟!!



- أنا..أنا...أغار؟! كلا، كلا..



ونزعت نفسها وهي تضمُّ يديها نحو صدغها بخوف....


- كاذبة لا تُجيد الكذب!!


- أنا لا أكذب، ولا أريدك أن تكلمني، أخرج من هنا..



أخذ يتأملها بنظرة عميقة وهي تشيح وجهها بإضطراب دون أن يستقر على جهةٍ محددة...


- كف عن التحديق بي هكذا.. صاحت بصوتٍ مبحوح.



- ستخبريني بكل شيء يا "غدير" يوماً ما، أجل أنا واثق من ذلك..



- ليس لدي شيء لأخبرك إياه ألا تفهم؟!



- سنرى!!!



ثم أردف بثقة عجيبة:


- سنستأنف حياتنا كأي زوجين، وأنا مستعد أن أنسى الماضي، أنسى كل شئ ونبدأ من جديد...




"الماضي ننساه!!! كيف لي أن أنسى؟!"



وتطلعت إليه والخوف يغزو قلبها، لم هو واثقٌ من نفسه تماماً هكذا؟!



لكن لا، لا يستطيع لا هو ولا غيره أن يجبرها على شيء، حتى الكلام!!!



- والآن من أعادك إلى هنا؟!



أجابته دون شعور:


- ناصر.


- لمَ لم تقولي لوالدي؟!!


- .....................


- غدير!!


- هاا. ردت بشرود.


- لمَ لم تقولي لوالدي؟


- خالي ينامُ مبكراً..


- لم لم تتصلي بي، أتخالينني سأرفض؟!


- أنا لا أجدك لا في البيت ولا على الهاتف. ردت بألم.


- ستجديني إذا شئتِ أن تجديني!! وابتسم بحنان...



رفعت رأسها إليه والعذاب ينضح من وجهها...



تلك النظرة العميقة في عينيه والصوت الحالم...



لم هذه الثقة، أجبني؟!



ألا تعرف أن "عمر" و "الغدير" لا يجتمعان أبداً؟!!



هكذا هم منذ الأزل، هكذا كتب التاريخ!!!




وأين نحنُ والتاريخ، أين نحن وما خطهُ الزمن!!





وقطع صوته خيالاتها، بعثرها، وضعها بعيداً هناك، في أقصى المكان...




- غداً سأوصلك، وكل ليلة تقريباً قبل أن أسافر..




أتراها سمعته يقول "سيسافر" أم أن ذهنها قد ارتحل، سافر هو الآخر مع خيالاته، اختبأ في تلك العينين العميقتين!!



- تسافر!!



وتطلعت إليه بكل جوارحها، تطلعت إلى عينيه، شفتيه، إلى خلجات وجهه لعلهُ يكذب ما تسمعه، يفنده، أو يأخذ روحها معه!!!



- أجل سأسافر...



- ستسافر!! عادت لتكرر دون تصديق.


- لقد اتفقتُ مع الرجل ولم يبقى إلا أن أذهب هناك!!



- لمَ و أين؟! و غاب صوتها عن الوجود...



- إلى سوريا بعد 5 أيامٍ، أما لمَ فأنتِ تعرفين!!!



سوريا!!!



ورأته، إن كانت ترى اللحظة!!



رأتهُ يميل عليها ويمسك وجهها بين يديه وهي جامدة، ذاهلة عما حولها...



طبع قبلةً طويلة على جبينها ثم همس:



- تُصبحين على خير يا عزيزتي!!!




ونهض وهو يغلق الباب خلفه بخفوت!!



أبقي في العقل شيء، أم أن الجنون أصل كل الأشياء!!!



وضعت خدها على الوسادة ببطء وهي تغمض عينيها...



إنها تريد أن تنام، لا تريد أن تفهم شيئاً و لا أن تذكر شيئاً!!



ستنسى كل شيء وتنام، فغداً لا بد أن تستيقظ مبكراً وترحل!!!



أجل ترحل....



و مدت أصابعها المرتجفة لتتلمس جبهتها الدافئة، أبقتها هكذا طويلاً ربما لتتزود من حرارتها في أيام شتوية قادمة!!!



وانحدرت دمعة.....


تراقصت بخفة على خديها، ولمعت كذلك الضوء الشارد من النافذة!!!!



=============



كانت يدها اليمنى موضوعة أسفل ذقنها وهي تراقب المدير بعينين تنعسان كل حين....



" ألا يسأم هذا الرجل أبداً؟! أهو آدمي فعلاً أم آلة!!! لا يتوقف عن العمل لحظة، بالطبع يريد أن يكنز أكبر قدر من المال، لا بد أن حسابه يحوي عشرات الآلاف من الدنانير!!


عشرات الآلاف؟!! بل ربما وصل إلى مليون دينار، ومع ذلك لا يقدرني ولا يعطني شيئاً، ألا يعلم أنني مفلسة، ماذا سيضره لو أعطاني 100، 200، أهذا كثير؟!!"


ولكن...


"ما جاع فقير إلا بما متع به غني"، وأنى لهذا الظالم أن يشعر بي...



وتنهدت بصوت مرتفع لعلهُ يسمعها!!!



يا ربي ملل فظيع، إنه لا يتكلم جملتين كاملتين معي...



كم اشتقت للثرثرة مع "أشجان" ، حتى "العقربة"، أرجوكم لا تصفوها هكذا!!!


كم أفتقدها، افتقد الشجار معها، قالب الثلج الموضوع أمامي حرمني من كل شيء...



حتى العطور والمكياج الخفيف حُرمت منها بسببه، تعرفون أنا بدون شيء ألفت النظر ماذا لو وضعت شيئاً؟!!!



آه، مشكلة، كل شيء مشكلة، ولكن هذا المدير أكبر مشكلة في حياتي!!!




أنا معتادة على النوم ظهراً في هذه الساعة، دماغي تبرمج على هذا، لا أستطيع أن أقاوم النعاس، لكن أخاف أن يصرخ علي كما حدث بالأمس، جعل قلبي يقفز في مكانه ولم أعد إلى طبيعتي إلا بعد أن أفرغت زجاجة مياه معدنية كاملة في جوفي!!!!



كدتُ أموت بسببه، كل شيء يحدث بسببه، كان سيقضي على شبابي، قضى الله على الشيطان وعليه!!!!



و عاد النعاس ليُداعب عينيها بخفة ورأسها يتثاقل وهي تقاوم....



وأحست بشيء يدغدغ أصابع قدمها فأخذت تحركها بضيق...


ويبدو أن هذا "الشيء" كان مصراً على إزعاجها و حرمانها هو الآخر من النوم ولو للحظات!!!


حنت جذعها وهي ترمش أهدابها المتثاقلة بخمول...


تطلعت إليه وهو يتحرك بحركاتٍ عشوائية وكأنهُ يبحث عن أمرٍ ما...


رفعت رأسها بسرعة إلى المدير المنهمك في عمله بصدمة ثم صدت للأرض بنفس السرعة...


و ندت من فمها صرخة قوية وهي تبتعد عن الكرسي وتنفض ملابسها كالمجنونة...



أجفل المدير في مكانه، ترك ما بيده وتقدم منها:



- ماذا؟!


- صرصار، صرصار ركب على ثيابي. صرخت بفزع.


- أريني..



- تريدني أن أريك ثيابي؟!! صاحت بإستنكار.



- أنا قلتُ هذا؟! سأل بدهشة.



أردفت من علو وهي تحك قدمها بفعل القشعريرة:



- من تظن نفسك؟! أبي، أخي، زوجي لا سمح الله!!!



ونظر لها بنظرة لو كانت تنطق لسطرت:



هذا من آخر المستحيلات!!



ثم هزّ رأسه وتوجه إلى مقعده وعاد لينهمك في عمله تاركاً إياها تغلي...



نظرت إليه دون تصديق وهي توشك على تقطيع نفسها...



"مستحيل، هذا ليس من البشر إطلاقاً، إنهُ لا يحس، بارد كالثلج!!"



- أين تذهب؟! ابحث عنه واقتله...



- لا شك أنهُ مات الآن بعد هذا القفز كله!!!



فغرت فاهها والقشعريرة تقطع أوصالها كلها....



- مات في ثيابي!!!!


- يجوز..



"الصرصار مات في ثيابي أنا؟!!"



تقدمت منه بغضب وهي تضرب الطاولة بيدها:



- أنا لن أبقى في هذا المكان المليء بالحشرات!!


- .............................


- اليوم صرصار، غداً أفعى والله أعلم ماذا أيضاً!!


- ..........................


- أريد أن أعود لمكتبي.



- قولي هذا منذُ البداية.. ردّ بهدوء دون أن يرفع ناظريه عن الأوراق.



- والآن؟!


- أجلسي مكانك واعملي. ردّ بحزم.


- ماذا؟!


- كما سمعتِ يا آنسة. وعلت نبرة صوته.


- أنت ظالم، ظالم.. أخذت تصيح بحرارة.


- أبكي هناك، لا أريدُ إزعاجاً!!!



وتوقفت عن الصياح وهي تعضُّ أناملها دون شعور....



- عودي لمقعدك، لا أحب أن أرى أحداً واقفٌ على رأسي..



- لا، مستحيل، مستحيل...



وانفجرت في الصياح وهي تجلس على كرسيها رغماً عنها...



ولكن....



لا حياة لمن تنادي!!!



=========




استندت على الباب بتعب وإحدى يديها ممتدة لضغط الجرس منذ فترة ليست بقصيرة...




الرياح تعصف وتنثر الغبار حولها و القشة تتمايل بعودها النحيل، ما لها والحضور هنا، مالها وعكس التيار!!!



أخفضت يدها، باتت ترتعش كثيراً ولا تجدي أي نفع والجو عاصف لا تحتمله...



وانتابتها قشعريرة فالتصقت أكثر بالباب....



مال هذا الباب لا يُفتح!!! لطالما كان يفتح ويُغلق في وجوه الناس في اللحظة ذاتها!!!




ما بالهُ الآن أوقفَ حركته تماماً؟!!



أتعود من حيث أتت؟! ومن أين أتت أصلاً؟!



حيث يُجهز ضريحها بصمت، حيثُ يرفع نعشها بهدوء ويُطاف به بين الزوايا، لا تخافوا سأُضع قريباً في لحدي!! إنها مجرد أيام...بضعة أيام ليس إلا، ألم يقل هو ذلك!!!




الرياح تهدر بلا رحمة والباب لا يُفتح وهي تستكين على خشبه بخنوع....



وسمعت حشرجة القفل فكادت تسقط.....



أمسكت الجدار أرادت أن تلتحم به أو تختفي!!!




و تعلقت عيناها على الشبح الواقف أمامها....



كان قصيراً و ممتلئاً...


لازال قصيراً ولكن أين ذهب الجسد؟!!



أخذ يتأملها كما تتأمله لكنهُ كان أسرع منها...



سرعان ما تجاوز الدرجات الرفيعة وغاب بهدوء مع الرياح، في نفس الاتجاه!!!!



ولجت إلى الداخل وعيناها تسقطان سهواً على المكان، حيثُ عاشت سنين حياتها...



خلعت نعليها ومشت حافية على الرمال كعادتها في باحتهم الكبيرة...



وأحست بالراحة لأول مرة منذ أن وطئت هنا، راحة قديمة، بعيدة كالنجوم...



وانساقت إلى شجرة اللوز الضخمة المزروعة بتحدي، ضاربة بمحاولات "حميد" في قلعها عرض الحائط....



لا أخضر ولا يابس!!



ماذا يريد إذن؟!!



غريب أن تُثار الذكرى، كل الذكرى من مجرد النظر...



أما نحتاجه هو ومضة، ومضة صغيرة فقط لينفتح الصندوق، صندوق الذاكرة؟!!



أم أن الأشياء مخزونة هكذا في كل الحواس؟!!



و تركت الجذع، لطالما تركته، وأخذت تبحث عنها...



عن "هي"!!



ولم تدخر جهداً في البحث عنها....



كانت هناك، لطالما كانت هناك تطبخ وفي كل الأحوال!!!



- السلام عليكم...



وبدا لها أن والدتها لم تسمع صوتها الخافت فعادت لتلقي بالتحية من جديد لعلها تلتفت...



و سقطت الملعقة الكبيرة، تهاوت كما تهاوت تلك المرأة الخمسينية على الأرض!!!!



القلب الجزع يدمي، يتقطع هو الآخر وتلك المرأة تناديها، تفتح ذراعيها الرخوين لها.....



منذُ صغرها وهي لا تُجيد لغةالإشارات، لم تفهم معنى أن تُحِب و تُحَب، إنها لا تعرف كيف أن تُعبر عن مشاعرها لأحد، هكذا هو قلبها مغلفٌ بجمود!!





وانساقت لها رغماً عنها، رغماً عن جهلها بالإشارت، رغماً عن قلبها الجامد!!!!



ارتمت في حضنها وهي تتشبث بها بقوة والأخيرة تمسح على رأسها وتحيطها بذراعه الآخر....


رفعت وجهاً أضناهُ السهر، قرحهُ البكاء:


- سامحيني، لم أكن أعلم أنكِ مريضة..


- أنا بخير منذُ أن رأيتك..


وسكتت كلتاهما، لم تعتد قط على الكلام معها بأريحية، أم أن البعد ألقى قيوده على الأم وابنتها!!!


أشارت إلى القدر الذي يغلي:


- ماذا تصنعين؟! رائحته لذيذة. وابتسمت ابتسامةً باهتة.


- "بحاري دجاج"، وجبتك المفضلة، لا بد أن تذوقيه أبقي حتى الغذاء.. قالتها بلهفة.


تلاشت الابتسامة على الشفتين، لم يتح لها أن تستقر أكثر، لا بد أن ترحل...


- لا أستطيع..


ثم أردفت لتبعد مخاوفها:


- كيف حالك وحال "مجيد"، لقد رأيتهُ للتو...


عاد الوجوم ليعتلي وجهها، ليستقر في أخاديده، ليسطر للناس قصة كانت يوماً ما أحد أبطالها...




- أخاكِ الصغير صار سكيراً، صيرهُ والده سكيراً مثله..



"وماذا كنتِ ترتقبين من بذور تلك الثمرة؟!"


- كل يوم فضيحة، كل يوم تأتي الشرطة لتسأل عنه والجيران بدأو يشتكون...


ووضعت طرف خمارها على فمها وبكت بصمت...


البكاء بصمت، سمة مشتركة بيننا!!


و قدر الأم لا يختلف عن ابنتها أحياناً، أليس كذلك!!!



أمسكت كفيها معاً وهي ترد بتهدج:


- اطلبي الطلاق منه ودعينا نعيشُ سوياً.



رفعت الأم رأسها وفي وجهها طيف استسلام، يلوحُ دوماً على وجوههن، بل هو جزء منهن:


- ليس بعد هذا العمر يا ابنتي..


- ستتركيني مرةً أخرى. صاحت بلوعة.


- أنتِ معك زوجك، ماذا تريدين بي؟!



ونكأت الجرح، لا زال ينزف صديداً، لازال يتقيح...




- زوجي!! أنا لا زوج لي، ليس لي أحد!!



ودفنت نفسها في حجرها وهي تجهش بالبكاء..


وعاد دفاع الأمهات للصدارة، سألتها بوجل:


- ما هذا الكلام يا ابنتي؟! غدير، تكلمي..


- سيتزوج يا أمي، سيتزوج... رددت بخفوت.



- كيف؟! لم يمر على زواجكما أسابيع!!!



وصمتت تغالب عبراتها وهي تنظر لها بألم، بعذابٍ أزلي...


- غدير ماذا حدث بينكما؟!


- أنا لا أستطيع يا أمي، لا أقدر..



- لا تستطيعين ماذا؟! أجيبي..



استرسلت وكأتها تخاطب نفسها كالخيال:


- سأموتُ حينها، سأتدمر!! ليس من أجلي بل من أجله...



- عم تتحدثين؟!



عادت لتغوص في تلك العينين الحانيتين، ابتسمت بمرارة:



- أنتِ لا تفهمين، لم تفهميني يوماً...




ونزعت نفسها منها انتزاعاً وهي تنظر لساعتها، وقفت بتعب، حدجتها بنظرة حزينة قبل أن تستدر:



- انتبهي لنفسك..




وغادرت قبل أن تسمع صرختها المدوية...




أتُراها فهمت؟!!!



=============





- وما ذنبي أنا؟!


- ذنبك أنه زوجك!!


- وهو أخوكِ أيضاً..



أردفت بحنق:


- ماذا لو ذهبت إلى "السينما"، لم يرفض هذا المعقد..


- "ناصر" ليس معقداً..


- ومتخلف أيضاً!!


- سأخبره بما قلته عنه.


- اخبريه، انا لا أخاف منه ولا من أحد، العيش هنا أصبح لا يطاق، لا أكاد أهرب من السجان الذي في المكتب، حتى أُصدم بآخر هنا!!! لم تنغصون علي حياتي؟!!!



- ما الأمر؟! من الذي ينغص عليكِ حياتك؟!!


والتفتت الفتاتان إلى الصوت القادم، ابتسمت "ندى" ابتسامةً كبيرة وهي تخاطب "شيماء" بتزلف:



- أنا ليس لي أخ إلا "عمر" وهو أكبر منه وكلماته هي التي أنفذها بالحرف الواحد!!



وهرعت إلى أخيها وهي تمسكه بدلع:


- كيف حالك يا أخي؟!


- ماذا تريدين؟!


- "عمور"!! نادته بعتب.


- نعم؟!


- أريد أن أذهب للسينما.


- لا.

شهقت:


- لماذا؟!



- ليس لدينا نساء يذهبن للسينما!!




وابتعدت عنه وهي تصيح بغضب:


- ولم تذهب أنت؟!


- أنا رجل!!


- كل ما تفعلونه أنتم حلال في حلال، ونحنُ أي شيء نريده حرام في حرام..


- اذهبي وشاهدي الأفلام في التلفاز، لم يمنعك أحد.


- أريد أن أشاهدها في السينما، لقد وعدتُ صديقتي "أشجان"..


- اعتذري منها.


- هذه المرة الثالثة التي اعتذر لها، ماذا أقول لها؟! قالت بإستعطاف.


- قولي لها الحقيقة، أخوتي غير موافقين.


- تريد أن تهتز صورتي في أوساط المجتمع الراقي، سيضحكون علي!!


- هذا الموضوع انتهى بالنسبة لي فلا تتعبي نفسك.



- متخلف آخر!! كلكم متخلفون، معقدون!! تمتمت بحقد.


- ماذا قلتِ؟! سألها.


- أقول متى أتزوج وأرتاح من هذا السجن ومنكم!!


- ألا تخجلين من أحد!!


صاحت بإستنكار:


- حتى الخجل تريدونني أن أخجل رغماً عني!! كل شيء بالاستبداد، بالديكتاتورية!! أين منظمة "حقوق الإنسان" لتأخذكم؟!!


- لا حول ولا قوة إلا بالله...



و سار عنها .....



ندت من فم "شيماء" ضحكة، فنظرت إليها "ندى" بغيظ:


- صدقيني، حينها سأذهب إلى السينما كل يوم، صباحاً وظهراً ومساءاً.


- وأفرضي أن زوج المستقبل لم يقبل هو الآخر؟!


- أتمزحين!! هذا أول شرطي كي أوافق عليه...


وركبت الدرج وهي تفكر ماذا تقول لأشجان!!!

(17)




خرج من بيت والده وهو يُدخل هاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين في جيب بنطاله...



ساق سيارته على عجل وهو يضرب يده اليسرى على رجله بقلق...



ما بالها لا تكف عن الرنين ولا تُجيب حين يتصل!!!



ووصل بسرعة حيثُ أفواج من النسوة يزدلفن من ذلك الصرح الكبير ذي القبة الخضراء...



عجيبة تلك القبة بنصلها الفولاذي الصاعد للسماء في خشوع، وقد تدلى منها هلال صغير بدا كثغر طفلٍ يبتسم على استحياء..



و عاد يتطلع في الوجوه التي تعترضه علّه يلمحها في ذلك الزحام...



وميزها رغم سمرة الليل، بعودها النحيل، بخمارها الذي تجعل طرفه يتدلى على جانب وجهها وتزيحه كل حين دون شعور....



ضغط على بوق السيارة عدة مرات ليُعلمها بقدومه، فالتفتت إليه برهةً خاطفة ثم عادت لتخاطب تلك الفتاة الواقفة بجانبها...



و لمَ هذه الضجة التي افتعلتها، وهذا الرنين ما دامت الآنسة لم تُكمل أحاديثها بعد؟!



و ابتسم بتهكم، كم هي مكشوفة تلك الصغيرة، تُحاول أن تستفزه، تعانده، ولكن...



على هامان يا فرعون!!



عاد صوت البوق ليرتفع فصافحت "غدير" الفتاة ثم توجهت للسيارة حاملةً في يدها بعض الأشياء...



ودخلت دون أن تنظر إليه أو تنبس حتى ببنت شفة...



تطلع إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل مصطنع، ثم هزّ رأسه وأدار محرك السيارة من جديد...



وانتشرت رائحة الورد لتضوع المكان بطيبها، لتمنحها شيئاً من العذوبة، شيئاً من الجمال...



وأدارت إحداها بين يديها بشرود وهي تنظر لأوراقها التي لم تتفتح بعد..




وامتدت يد لتختطفها من بين يديها، حينها فقط دارت إليه..


- شكراً!!


- هذه ليست لك. ردت بحدة.


- حقاً!! لا تنطلي علي حركاتكن!!



وقرّب الزهرة من أنفه وهو يشمها بعمق، فشعرت بالغيظ، تصرفاته في الآونة الأخيرة تكادُ تُصيبها بالجنون!!



- انتبه، للورد أشواك!! علقت بسخرية.


- ما دامت من يدك، فأنا لا أُبالي بشيء.. قالها بحرارة و عيناه تشعان دفئاً غريباً..



صدت للنافذة و قد عاد الإضطراب ليعتمل صدرها من جديد...


لمَ هذا الكلام؟!


لم تفتأ تقول لي ذلك؟!


ألست مسافراً إليها؟!


ألن تتركني وتذهب إليها؟!


أم قطعتين في الجيبِ أفضل؟!


كاذب، غشاش آخر!!!



و كادت تصرخ في وجهه بذلك لولا أن توقفت السيارة، وشكرت ربها أنها توقفت و أمسكت أعصابها التي باتت تنفلت لأدنى كلمة وبدون سببٍ ....



وتركت باب السيارة مفتوحاً فناداها:



- على رُسلك!! انتظري..



ولم تتوقف وأكملت طريقها مباشرة إلى غرفتها وهي تصفق الباب خلفها وتوصده بالمزلاج..


وسمعت دق الباب بعد وصولها بدقائق..



- من؟!


- من تعتقدين في رأيك؟!


- ماذا تريد؟!


- خذي لقد نسيتِ أشياءك؟!


- أيُّ أشياء؟!


وانتبهت أنها عادت بيدين خاويتي الوفاض، ولامت نفسها على إهمالها وسرحانها، أيُّ زلةٍ سيحملها إياها الآن؟!



وفتحت الباب قليلاً وقد عم الاحمرار وجهها وعنقها:


- تفضلي..



وسحبتها من يده دون أن تترك له مجالاً ليضيف المزيد...




سمعته يغمغم بالخارج فعادت لتفتح الباب:



- انتظر..


- ماذا؟!


- خذ.



وتطلع إلى الشمعة البيضاء الممدودة إليه بتساؤل:



- ما هذا؟!


- شمعة..


- أعرف، ولكن لمَ، ماذا أفعلُ بها؟!


- أطلب أمنية و احتفظ بها، وإذا تحققت أعطني "المكتوب"..



تطلع إليها بشك وهو يقول:



- أليست سحراً أو شيئاً من هذا القبيل؟!



وحدجته بنظرة نارية فأخذ يبرر مازحاً:



- أقصد ربما لكي تمنعيني من السفر!!



- سفرك أو عدمه لا يهمني بشيء!!



وصفقت الباب في وجهه بغضب...



ماذا يظنُ نفسه؟!



لم يذكرني برحيله كل حين...


ألا يعلم بأنهُ يقتلني حينها ألف مرة..



لماذا يا "عمر" لماذا؟!!



===========




طافت "شيماء" حول الفناء الخارجي وهي تسمع جلبةً خفيفة....



وجدت عاملان آسيويان يحملان علباً كبيرة و "وليد" ينهرهما ليحملوها بالشكل الصحيح...



"ألم يقل أن الأجهزة وصلت منذُ أسابيع!!!"...تساءلت في نفسها.



وانزوت قليلاً كي لا تكون في مرمى البصر وأخذت تتابع عملية النقل بإهتمام....




- هيا أحملوا معكم العلب الفارغة والأكياس للخارج!! أمرهم بعجرفة.



وانصرف العاملان وخرج هو على أثرهم دالفاً من الباب الاحتياطي...


وبعد أن استوثقت من انصراف الجميع، سارت بفضول نحو المخزن الكبير الذي أحتله بهدف تحويله إلى مختبر لتجاربه!!!



وأطلت من بين قضبان النافذة لكنّ الشبك المعدني الناعم كان يعوق الرؤية بوضوح، فتنهدت بإستسلام..



وأرادت أن تعود من حيث أتت لكن عيناها سقطتا فوراً على إكرة الباب...



وأدارته دون أن تتوقع شيئاً، ولكن يا لدهشتها فقد كان الباب غير مقفلاً!!



وهزت كتفيها وهي تفتحه شيئاً فشيئاً....



كان المكان مليئاً فعلاً بالأجهزة المفتوحة فعلاً و أخرى لازالت في علبها تنتظر المشرط...



وتوقف بصرها حول جهاز X-Rays يقابله سرير صغير قد تناثرت أدوات لم تعرفها حوله...



وولجت للداخل تفحص كل ما تصادفه بتمعن، خاصة تلك الملفات المركونة على أحد الرفوف بعناية..



وأخذت تتصفحها بتعجب وهي تحاول أن تقرأ ما فيها بصعوبة، إذ كان الخط متشابكاً على عادة الأطباء...



- ما هذا!! سميرة، سميحة؟!!



وجلست على حافة السرير بعد أن أبعدت الأدوات بحذر وعيناها تحاولان أن تفك الطلاسم المكتوبة كما سمتها!!!



أيأتي له مرضى؟! ولكن أين ومتى؟!



ربما كانت ملفات قديمة منذُ أيام دراسته بالخارج!!



و مطت شفتيها بلا مبالاة وهي تعيدها لمكانها...



وألقت نظرةً أخيرة للمكان لتتأكد من أن كل شيء في محله ثم أغلقت الباب خلفها بخفوت...


وسارت في الممر دون أن تنتبه لتلك العينان اللتان لاحظتها منذُ أن وصلت بإنتصار!!!!




===========



- هيه أنت!!


- .................


- يا عديم الضمير، يا عدو الإنسانية!!


- ماذا تريدين؟! صرخ بغضب.


- أريد أن آكل، أنا جائعة، كم مرة قلتُ لك ذلك؟!!



- وماذا أفعلُ لكِ؟!


- أريدُ "بيتزا"، اشتر لي "بيتزا"... وضربت منضدتها بكلتا يديها وهي تصيح.


- وهل تريدينني أن أخرج من العمل كي أشتري لسيادتك بيتزا؟!


- أنا قلتُ لك اخرج؟! ألم تسمع بإختراع اسمه "هاتف"؟!



وزفرت وهي تقول بصوت منخفض لا يُسمع:



"غباء، لا أدري بدوني كيف كانت ستسير الشركة!!"...



ورفع سماعة الهاتف بإستسلام فصاحت بعجل:



- انتظر، لم تسألني ماذا أريد؟!



وأردفت دون أن تتيح له الفرصة ليسأل:



- أريدُ بيتزا، ليس من المعجنات الموجودة هنا، بل إما من "سيزر" أو "بيتزا هت"..


- .................


- بالخضار ، وبدون "المرتديلا"!!!


- ...............


ورفعت أصبعها في الهواء بتحذير:



- حجم كبير لو سمحت ، ولكن انتبه سآكلها لوحدي، إذا كنت تريد اشتر لك أخرى، أنا لا أحب أن يشاركني أحد في طعامي!!!



- حجم كبير؟! لن تستطيعي قطعاً أكلها..


- بل أستطيع.. ردت بثقة.



وسألها بريبة:



- أرأيتها من قبل، أتعرفين كيف يكون حجمها؟!



وشعرت بالإهانة من تساؤلاته، فعاد لتضرب الطاولة بغضب:


- تخالني جئتُ من البادية!! ليكن في علمك أنا كل أسبوع أذهب للمطعم والسينما، خصوصاً السينما، أذهب لها كل ليلة ، كل ليللللللللللللللللللللة!!!



وأخذت تصيح بصوتٍ عالٍ، والمدير ينظر لها بإستغراب..



ووقفت فجأة من مكانها وكأنها تذكرت شيئاً و هي لاتزال ترمقه بنظرة عدائية:



- أيعجبك هذا؟! لقد فورت دمي الآن، خلاياي العصبية احترقت بسببك ، اشتر لي عصير برتقال..



- !!!!!!!!!!!!!!



- و احضر لي ....



- ماذا تريدين أيضاً؟! سلطة خضار؟! خبز بالثوم؟! سألها بحنق.



- اممممم، لم أكن لأقول هذا، أنا لا أحب أن أثقل على أحد!! ولكن إذا كنت تشتهيها فلا بأس!!



وعادت لتسترخي في مقعدها وعلى شفتيها ابتسامة عريضة تترقب وصول البيتزا...



===========



توقفت أمام باب غرفته وهي تطالع بألم تلك الحقيبة الكبيرة الموضوعة على السرير...



كان يتحرك بحماس وهو ينقل ثيابه داخلها، وتوقف فجأة وكأنهُ انتبه للتو من وجودها الذي ناهز النصف ساعة ربما!!



- لم أنتِ واقفة هكذا، تعالي وساعديني!!!



و لم ينتظر إجابتها، سرعان ما سحبها للداخل...



و بقيت جامدة بلا حراك وهي تمسك دمعتها خشية أن تغدر بها غيلةً أمامه...



كانت تتقطع من الداخل، وصرخة مرة في حلقها لا تلبث أن تحتج، وهي تكافح لكبح جماحها كي لا تنطلق...



أما تشعر بنزيفي يا هذا؟!!



وعاد الألم ليعتصرها بقوة دون أن تجد له منفذاً لتنّفس عنه...




أخذت تطالعه بيأس، بعذاب، لكنهُ لا يرفع رأسه، لم يعد يرى أحداً إلا نفسه...




لقد نسي كل شيء، كل شيء و أولهم أنتِ يا "غدير"!!!



وأفاقت على صوته...



- لم تسأليني متى سأعود؟! سألها بلوم.



- فالتبقى طوال عمرك هناك، لا يهمني.. ردت بصوتٍ متهدج.



- سأسافر لأسبوعان فقط، أتخالينها تكفي؟!!!



بل يكفي ما تفعله بي، يكفي...




- ألا تعلمين أين وضعت ربطات العنق خاصتي؟!


- في جهنم...



وانفجر ضاحكاً وهو يبحث في أدراج خزانته:



- خسارة، كانت غالية الثمن، سأشتري لي في الصباح أخرى جديدة..



ثم أردف وهو يتأملها بإهتمام:


- جهزي لنفسك حقيبةً صغيرة كي تبقي في بيت والدي لحين عودتي.


- لن أجهز أي شيء ولن أذهب لمكان. صاحت بغضب.


- ستبقين في الشقة لوحدك؟!


- لا شأن لك بي حتى لو مُت، أتفهم؟!



وغطت وجهها بكفيها وهي تبكي بمرارة...



ولم تشعر إلا بيدين تطبقان على كفيها بحنان، ضمهما إلى يديه وهو يضغط عليهما برقة:



- إياكِ أن تقولي هذا مرةً أخرى، ألا تعلمين بدونك أضيع..


- ها أنت ستسافر بدوني و... صمتت من الألم.


- بودي أن آخذك، لكنكِ لا تنفعين!! أتقبلين أن تكوني شاهدة على العقد؟!!



وسحبت يدها منه ولم تشعر إلا بها تمتد في صفعة على خده..



تطلع لها مصدوماً وهي يمسكها من معصمها بقوة ، لكنها لم تخف ولم تجفل، كانت تستمد من جرحها النازف شجاعة، تجعلها تواجه اليوم وغداً وبعد سنين!!




- أيتها المتوحشة!!


- لا يهمني رأيك بي، أريدك أن تطلقني قبل أن تسافر، لا أريد البقاء معك بعد اليوم، أتسمع؟!


- لم أكن أعلم أن فراقي سيؤثر عليكِ بهذه الدرجة!!!



وفي حركة لم تتوقعها منه تلك اللحظة، رفع يدها التي صفعته إلى شفتيه وقبلها!!!



و فجرت تلك الحركة البراكين الكامنة بداخلها، زلزلتها من الأعماق، زادتها ألماً، ضاعفت لوعتها....



سحبت يدها منه وهي تصيح في وجهه:



- أنا أكرهك، أكرهك، ارحل، لا أريد أن أراك ..




وهرعت لغرفتها تبكي نفسها، خيبتها، وذاك الذاهب في الغد ...



==========



- كليها كلها والآن!!


- سأحمل البقية إلى المنزل. قالت بإستعطاف.


- كلا، بل الآن. ردّ بحزم.


- معدتي ستنفجر، لا أستطيع..


- أنتِ من قلتِ تريدينها بهذا الحجم، تحملي نتيجة طمعك.


- إذا كان على ثمنها أيها البخيل فسأدفع لك.. صاحت.


- لا أريد ثمنها، وستأكلينها رغماً عنك.


- لن أفعل.


- بل ستفعلين.


- لن أفعل وأرني كيف سترغمني.


- تتحدينني؟!


- وأتحدى من هو أكبرُ منك!!


- إذاً لن تخرجي من هنا، وستباتين الليلة في المكتب!!



و تطلعت إليه بخوف لأول مرة، أجاد هو فيما يقوله!!



- أنت لا تعني هذا، أليس كذلك؟! سألته بإضطراب.


- أنا لا أمزح أبداً.


- أبي..أبي سيتصل إذا تأخرت، وأخوتي سيأتون وسيحطمون رأسك..



وسحب حقيبتها الموضوعة على الطاولة..


- ماذا تفعل بحقيبتي، ألا تخجل من نفسك؟!



وأخرج هاتفها المحمول دون أن يعبأ بإستنكارها:



- الهاتف وقفلته، أريني كيف سيتصل بك أهلك؟!



و ازدردت ريقها الجاف وهي ترمش عينيها بسرعة...



أخذت تردد بتقطع:


- إن...إن شاء الله، سآ...سآكلها، فقط لا تُغضب نفسك!!



وأمسكت القطعة الخامسة وهي تشعر بالغثيان، وقبل أن تفتح فمها، خاطبته بتوسل:


- تفضل، كل معي، لذيذة، لا تُقاوم!!!



وأمسكت معدتها بتعب وهي تنظر لوجهه الجامد...



وكادت الدموع تطفر من عينيها وهي تمضغ قطعاً صغيرة وتتوقف كل حين...



- ماذا تنتظرين؟!


- لا أستطيع، سأتقيأ..


- لا مانع تقيأي ثم أكملي البقية!!!



وأسقطت القطعة وهي تضع يدها على فمها وتنثني إلى أسفل..



- هيا، كفي عن التمثيل!! صاح بقسوة.


ردت بصوتٍ محتقن:


- سأموت، إن لبدنك عليك حق!!



- ما شاء الله وتعرفين الأحاديث النبوية؟!


- أتخالني كافرة؟! صاحت فيه بإستنكار وقد نسيت ألم معدتها.



ودقّ الطاولة بأنامله بتهديد:


- ستأخريني وتأخرين نفسك...



ورفعت رأسها بعد أن قرصت خديها بقوة، أسبلت عينيها وهي تقول بوهن:



- لا أستطيع، معدتي لا تحتمل، رشاقتي هي سبب تعاستي، ما ذنبي أنا؟!!



ورفعت صوتها بتباكٍ وهي تفرك عينيها دون أن تنظر إليه...



- ابكي حتى الغد، ستأكلين يعني ستأكلين..



- ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء يا عديم الرحمة!! صاحت من بين دموعها الشحيحة.



- إلى متى سأنتظر؟! صرخ بنفاذ صبر.



أمسكت القطعة بإحدى يديها بإستسلام واليد الأخرى تمسح وجهها...



وبقيت تنظر لها بتقزز والغثيان يكاد يُصيبها بدوار، وقربتها من فمها، وما كادت تفعل حتى انثنت من جديد وهي تصيح من الألم..



- بطني يؤلمني، سأموت...



ثم رفعت رأسها بصعوبة وهي تخاطب ملامحه التي باتت أكثر جموداً:



- لن آكلها، لن آكلها أسمعت، تريد أن تحبسني، لا يهمني، لن آكل شيء.



ووضعت رأسها على الطاولة و بكت...



وسمعته يبتعد ويعود أدراجه، ثم قال بصوتٍ رخيم:


- أتمنى أن تكوني قد استفدتِ من درس اليوم وهو: لا للطمع!!!


- .....................


- موعدنا في الغد بإذن الله مع درس جديد أيتها التلميذة النجيبة!!


- ...................



- يمكنك أن تعودي إلى البيت الآن!!!



واستقامت في جلستها تلك وهي تنظر له بشزر:




- ليتني أقرأ خبر وفاتك في الجريدة أيها المجرم!!


- .....................


- سأخبر الجميع عنك، سأخبرهم كلهم عن أعمالك السوداء مثلك!!! رددت بصوتٍ مبحوح.


- ......................


- لن أعود إلى هنا، لن أعمل معك وإن كان على الشهادة فخذها، لا أريدها، أفضل أن أنسحب من الجامعة بأكملها ولا أبقى معك دقيقة يا شبيه هتلر، أيها الظالم النازي!!



وسحبت حقيبتها ونعليها وخرجت بدموعها ودعواتها عليه!!!




===============




هبّت من نومها مذعورة....



تلفتت حولها وصدرها يعلو و يهبط في اضطراب...



فلم تلقى إلا الظلام الدامس يكتنفها، يحيطها من كل جانب...



غرزت أصابعها في شعرها الأسود علها توقف الأفكار المستعرة بجنون في ذهنها...



كان كابوساً، ما رأتهُ كان كابوساً...



عمر لن يسافر، لن يسافر، ولن يُحضر معه تلك الشقراء!!!



أمسكت جبينها الملتهب بين راحتيها، كان مبللاً!!



من أين جاء كل هذا الماء؟!!!



أبعدت الغطاء عنها بوهن و توجهت إلى الحمام لتغسل وجهها...



المرآة...


ما أقساها!!!



عيناها تبدوان حمراوتان كأنهما لم تذوقا النوم منذُ شهور...



و الوجه شاحب، فقد بريقه، سرقتهُ الأيام!!



تخلل الماء البارد بين أصابعها وهي ترشح وجهها ببطء لعلها تُزيح شيئاً من عياءه، من همومه، من كوابيسه الذي تلاحقه في كل مكان...



لم يتبقَ من الأيام إلا غداً، غداً فقط!!!



واحد، اثنان، ثلاثة، أربع، خمسة...


ما أسهل العد!!



وما أقسى الحياة!!!



وسمعت صوتاً خافتاً يهمس في أذنيها بكلمات:



دعي الأيام تمر هكذا ولا تُبالي، ماذا ستجنين أكثر؟!!



ماذا بإمكانك أن تفعليه أو تقدميه؟!!



لا شيء..



إذن اصمتي، اصمتي وكفي عن البكاء والأنين...



لطالما كنتِ وحيدة، لطالما تركوكِ وحيدة، لمَ العويل إذن؟!



لأنهُ "عمر"...



"عمر"!!!




أصص ما هذا الكلام؟! ما هذه النبرة الضعيفة، لم أعهدك هكذا من قبل يا "غدير"!!!



"عمر" أهذا من رفضته في البداية، من حاربتي لئلا يتم بينكما الزواج؟!!




ما بينكما انتهى، كان لا بدُ أن ينتهي منذُ زمن، لأن ليس بينكما أي شيء أصلاً!!



لكنني، لكنني.....



ماذا؟! عدنا للنبرة الضعيفة...




في كلتا الحالتين أنتِ خاسرة، في كلتا الحالتين ستخسرينه!!!



تدثري جيداً يا "غدير" وانسي!!



انسي "عمر، انسيه....



الأفكار تكاد تعصف بها، تزلزلها ، تهدم كل الحواجز الذي بنتها منذُ سنين طويلة....



لم يتبقى شيء على الغد...



ها قد اختلطت خيوط الفجر بنجوم الظلام...



ها قد تشابكتا، اتحدتا معاً في رقصة سرمدية...






أتراهُ سيسافر؟!


أتراها ستتكلم؟!


أم أن الفجر سيبقى هكذا في حالة احتضار؟!

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 05:00 PM   المشاركة رقم: 9
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

(18)



تلكأت "ندى" عند باب الشركة وهي تضع أصبعها في فمها بتوتر...


أأدخل أم لا؟! ماذا سيقول عني عندما يراني قد عدت!!


سيقول رغماً عن أنفها عادت وسيبدأ في التشمت والسخرية مني...


تعرفونه حقود، يغار مني لأني أفضل منه!!!


ثم سيصرخ في وجهي أمام "أشجان" و "جميلة" و سيشير لي بإصبعه لأتوجه إلى مكتبه وكأني نعجة من نعاجه الهاربه!!!


كلا، ثم كلا، أنا "ندى"، تعرفون من هي "ندى"؟!! هيبتي وكرامتي هي أغلى شيء عندي!!


سأعود لمنزلي وأنام خيراً لي من رؤية وجهه السمج، وسأمر على المستشفى في طريقي وآخذ لي عذراً من هناك، تعرفون معدتي لاتزال تؤلمني منذُ البارحة بسبب المجرم!!


وابتعدت عن مدخل الشركة وهي سارحة في أفكارها تلك، ولفت انتباهها صوت بائع جرائد يُدلل على بضائعته المتنقلة..


حرفت مسارها عن موقف السيارات واتجهت ناحيته...



- اعطني صحيفة "الأيام"..


- تفضل "مدام"!!


- "مدام"؟! أنا مدام يا قليل الأدب!!



وسحبت منهُ الجريدة وهي تنظر له بشزر، تطلع لها "الآسيوي" بخوف دون أن يدري فيمَ أخطأ!!


وقلبت الجريدة بسرعة حتى وصلت إلى صفحة "الوفيات"!!


مررت عينيها بسرعة على الأسماء ثم زفرت بصوتٍ مرتفع، وخاطبت العامل بإستفهام:



- كم سعرها؟!


"كل الجرائد بنفس السعر!!"


- 200 فلس.


- ماذا؟! لا أريدها، صفحاتها مجعدة، لا بد أن كثيرين قرأوها بالمجان قبلي!!


- أنت أول نفر قرأها دون أن يدفع!!


- لا تكثر الكلام "بابو".. وطالعته بتهديد وهي تُردف:


- أنا يسفر أنت بلادك إذا عصّب.


- ماما، أنا عندي جنسية "بحريني"، أنا مثل أنت "سيم سيم"!!



وشهقت "ندى" وهي تضرب على صدرها:


- أخذت الجنسية "بابو"؟!


- يس مدام، و اسمي أصبح "محمد"، انظر..



وأخرج لها بطاقته المدنية فقرأتها عن كثب وهي تهزُّ رأسها أسفاً...


زمن!!!


ومطت شفتيها وهي تردد بصوت خافت:


- الآن أنا و "بابو" بحرينيين!! كيف تركب هذه؟!



هزت رأسها بلا مبالاة ثم أخذت تطالع عناوين الكتب المعروضة...


مغامرات اللص الظريف "أرسين لوبين" – أشياء لا تنسى – فنون الطبخ و ....



"كيف تُسقطينه في شباكك!!"..



وسحبتهُ على الفور وهي تتصفحه باهتمام شديد...


- مدام، ادفع أولاً قبل أن يقرأ..


- سأدفع، سأدفع، انتظر قليلاً، ولا تقل لي مدام وإلا صفعتك!!


و تراقصت ابتسامة شيطانية على شفتيها وهي تتخيل أشياء!!!






التفتت للبائع وهي تسأله بلطف:



- أيمكنني أن أستعيره "بابو"، سأعيدهُ لك في الغد كما هو!!!



- لا ماما، غير ممكن.


و هبت في وجهه صارخة:

- وكم ثمنه؟!


- 3 دنانير. ردّ بخوف.


وأخرجت محفظتها من حقيبتها الصغيرة وهي تخاطبه:


- أنت بحريني الآن صح؟!


- يس ماما. أجاب بفخر.


- أما سمعت بالقانون الجديد؟!



- لا ماما.


- إذا اشترى بحريني من بائع بحريني لا بد أن يخفضه ديناراً كاملاً!!!



- !!!!!!!!!!!!!!!



- خذ، هذان ديناران ولا تجادلني وإلا!!


وضربت على جبهتها بخفة:


- نسيت، لديه جنسية!!



وسارت عن البائع المذهول وهي تنظر للكتاب بحماس، و نشاطٌ كبير يدبُّ بداخلها..



- اليوم، موعدنا اليوم!!!



وابتسمت بشيطنة...



==========



يتجاهلني
يعنفني
بصمته
بنظراته
و شيء ما يلف سكون عبراتي
هل أحبه؟!!


هل يعقل أني أتلمس ملامح وجوده
في قلبي
و برودة اللحظة تجتاح أطرافي
و تلك النار تستعر في جوفي
و أنا مثل ما أنا
ذهول و هذيان
يلفني
و أتدثر ببقايا همسه


هل يعقل؟!!
أني وقعت في قاع الردى
و كل ما يلفني هنا ظلام
و هيام


إلى متى؟!!
أتأبط الكتمان
و ألوذ بالحرمان
عن ظل و حنان


إلى متى؟!!
أسير في بوتقة الجنون
أنا و الطعون
و قلب خائف مجروح
مازلت أهذي
و أهذي
و كل أوراقي مكشوفة



ترى متى ينار لي درب المدى
دون دمع على خد الأسى
و دون ألم يتردد مع الصدى
وحدي
أنا
من غيرك من أكون؟!!

(بقلم المبدعة: دمعة الأيام)




و انسابت دمعة شفافة امتزجت مع الحبر الأسود، تماهت معه، و أخفت معالم حروفه...


مدت أناملها النحيلة لتمسحها و تُصلح ما يمكن إصلاحه...


لكن قطرة أخرى عنيدة سقطت فانهمرت البقية كرذاذ المطر في مواسم الصيف...


أول الغيث قطرة، أليس كذلك؟!



أغلقت دفترها قبل أن يجرفه السيل، ففيه الماضي و بدونه لا ماضي لها!!!



وأجالت ببصرها حول الفراغ بسكينة تناقض تلك النار المستعرة في جوفها...



بدا لها المكان مظلماً رغم أن شمس الأصيل كانت شاخصة بشموخ في قلب السماء..



لا أحد هنا، لا أحد...


فقط أنا والسكون..


والظلام!!!


وسمت صوت ضحكة مخنوقة فالتفتت بسرعة نحو الستارة بخوف..


ضغطت بشدة على مرفقيها وهي ترتعد..


وعلت الضحكات أكثر، ارتفعت..


همست لنفسها بصوتٍ مرتجف:


كلا، كلا، أنا لا أسمعُ شيئاً...


هذا صوت الريح..


أنا أتخيل..


إنها كوابيس، أضغاث أحلام...



نحنُ لازلنا في الليل، أليس كذلك؟!



وأنّت بصوتٍ متقطع وهي تضع يدها على فمها..


عمر، أين أنت؟!


لا تتركني، لا تذهب....




و دفنت نفسها في وسادتها لعل الأصوات تبعد أو تخفت قليلاً!!!


يا ليت!!!



===========



قلبت صفحات المجلة بملل...


الحيارة رتيبة، مملة، خانقة، لا جديد فيها..


لو أكملت تعليمها لربما شغلت نفسها قليلاً..



ولكن مجموعها في الثانوية العامة لا يؤهلها لدخول الجامعة، وحتى لو أهلّها فلن تذهب، إنها تكره الدراسة ولا تطيق لها صبراً!!!


ماذا عن العمل؟!


ومن سيقبلها بشهادتها البسيطة!! الدنيا كدرجات السلم، متى ارتقيت رقتك درجة حتى توصلك للقمة، ومتى ما دنوت ألقتك أسفل سافلين، و في كلتا الحالتين أنت ساقط!!


ستسقط من علو أو دنو، هكذا هي الحياة!!!



لو كان لديها شيئاً آخر يشغلها، شيئاً آخر!!!



وتجسد ذلك الشيء على صفحات المجلة!!!



أخذت تطالع صور الأطفال بشوق ولهفة وهي تمرر أصابعها على شعرهم، أعينهم الصغيرة، وتتخيل أنها تقرص تلك الخدود الممتلئة كالندى!!!




وابتسمت بألم وهي تضمُّ الصور إلى صدرها بقوة حتى تجعدت صفحاتها...



وانفتح الباب فجأة:


- عزيزتي ســ .....


وسكت وهو يطالعها بتساؤل لكنها سرعان ما أغلقت المجلة و مسحت عينيها وهي تصطنع المرح:


- ماذا تريد؟!


وحدجها بنظرة متفحصة لطالما سبرت غورها...


- ما بك؟!


- لاشيء، ليس بي شيء.


وعادت لتبتسم ولكن دون حياة، تقدم و تناول المجلة من يدها رغم اعتراضها ولم يتصفح كثيراً، كانت الورقة المجعدة واضحة للعيان....


رفع بصره إليها فاضطربت في وقفتها وكأنها ارتكبت اثماً..


تنهد وهو يضع المجلة على المنضدة...



خاطبها بعتب:


- ألن تكفي عن التفكير بهذا الموضوع، ارحمي نفسك..



ردت بصوتٍ غائم:


- لا أستطيع، ليس بيدي يا "ناصر"..


أجلسها وهو يشدّ على يديها بمواساة...


نظرت إليه بحزن وهي تردف:


- ربما لن أنجب طفلاً أبداً، ربما كنتُ عاقراً..


- صه ما هذا الكلام يا "شيماء"!!


- هذا ما يتهامس به الجميع في وجودي، لو رأيتهن كيف يتغامزن وهن يبتسمن بشماتة..


- لا تبالي بما يقلنه، كلام الناس لا يهمني البتة، لا يهمني أحدٌ سواكِ...


- لكنك تريد أطفالاً، أنت قلت لي ذلك منذُ بداية زواجنا..


- ....................


- أرأيت؟! ردت بألم.


- هذه أمنيات كل رجل مقبل على الزواج!!


- وأنا لا أستطيع تحقيق هذه الأمنية..


- كفي عن هذا الكلام، ليس بكِ شيئاً، السببُ ليس منكِ، اصبري حتى يأذن الله..


- ربما لن تصبر أنت، وستفعل كما يفعل بقية الرجال وتتزوج من تنجب لك!!!



- أنا لستُ متخلفاً، ولو عرضوا علي نساء العالم بأجمعهن ما اخترتُ غيرك...



و تطلعت إليه...



عيناهُ صادقتان، تنطقان بالحب، بالوفاء...


"أي زوجٍ رائعٍ أنت يا ناصر...


أأستحقك فعلاً؟!!"..



وابتسمت في وجهه وهي تغير الموضوع:


- لم تقل لي ماذا كنت تريد؟!


- ماذا كنتُ أريد!!! فعلاً ماذا كنتُ أريد؟!



وأخذ يهمهم بتفكير ثم قال فجأة وكأنهُ تذكر:


- أجل، كنتُ أريد أن أقول لكِ ....و ابتسم بهدوء وهو ينظر لها بعمق.


- ماذا؟!


- أني أحبك..



وكانت دعواها أن:



"يا رب احفظه لي"....



==========



ابتسمت "ندى" ابتسامةً شيطانية وهي تُذكّر نفسها بالخطوات التي حفظتها عن ظهر قلب منذُ الصباح...


حملت الكيس الكبير بيدها وكادت تدفع الباب بقدمها كعادتها لكنها أمسكت ووبخت نفسها على هذا التصرف بشدة!!


"انتبهي!!"


و طرقت الباب برقة وهي تنعّم صوتها :


- أأدخل أستاذ؟!


وخُيّل إليها أن الرد تأخر أكثر من المعتاد!!



وأخيراً أتاها الصوت الجامد:


- تفضلي..



فتحت الباب دون أن تنظر لجهةٍ محددة وجلست على مقعدها المعتاد في نهاية الزاوية..



فتشت في حقيبتها سريعاً وأخرجت ورقة قربتها من أنفها لتتأكد من بقاء رائحة عطر "كوكو شانيل" فيها ونهضت على الفور..


وتمهلت في خطاها وهي تمشي على استحياء حتى وصلت إليه:


- أستاذ هذا عذر غيابي لهذا الصباح، و قد أعطاني إياهُ الطبيب ليومٍ كامل بعد تناولي لبيتزا مسمومة البارحة!!! ومع ذلك قررتُ أن آتي رغم مرضي لأني لا أحتمل الفراق عنك، أقصد فراق العمل!!


- ............................


- لا تنسى أن تشمّ العذر بعد أن تقرأه!!!


وقرصت خديها ليُحمّرا وهو يطالعها مبهوتاً فحدجته بنظرة مسبلة وسارت عنه..



و جلست على كرسيها وأخذت تعبث بالكيس الكبير...



أمسكت مزهرية زجاجية شفافة ووضعتها على الطاولة بصوتٍ مسموع فالتفت المدير وفي وجهه تساؤل لكنه سرعان ما هز رأسه باستخفاف وأكمل عمله...



أخرجت باقة كبيرة من الورد الأحمر المخملي، فكّت رباطها والابتسامة الشيطانية تتراقص على شفتيها...



صفت الأزهار بعناية داخل المزهرية الزجاجية وهي تطالع المدير بطرف عينيها بخبث..



عدت للعشرة في سرها ثم نهضت من جديد...


سحبت زهرة ندية العود ووضعتها خلفها وهي تقترب من طاولة المدير، أحنت رأسها فجأة وهي تدسُ أنفها في الورقة التي بين يديه...



وأجفل من وجودها أمامه هكذا لكنها نظرت إليه وهي ترمش عينيها ببراءة ووضعت الزهرة الحمراء أمامه واستدارت!!!



أخذ يحدق في الشيء الذي وضعته بذهول ثم التفت إليها فلم يرى إلا الملف يغطي وجهها تماماً!!!!!


أزاحت "ندى" الملف قليلاً بعد بُرهة فوجدته يعود للكتابة وهو يحكُ شعره!!!!



وكادت تصرخ من الفرح:



"هذه أول إشارة، لقد نجح الطعم لأستاذ "كمبيوتر" بدأ يحك شعره وهو يفكر بي، ولكن...


ماذا لو كان في شعره قمل!!!!!!"



ولوت فمها بتقزز...


"لا بد أن أتأكد، سأحاول من جديد".. خاطبت نفسها بتصميم.



ونهضت ساحبةً معها زهرةً أخرى فرفع بصره إليها في نفس اللحظة فغضت وهي تلقي بالوردة بسرعة من بعيد وتفرّ إلى مكتبها...



وحجبت وجهها بوجل وحين أزاحته رأته يرصدها فوضعت يدها على فمها قبل أن تصرخ وأدارت كرسيها لتقابل الحائط!!!



ومرت 10 دقائق تقريباً وهي تنظر للحائط الأصم حتى كلّت عيناها، تلمست خلفها بيديها وسحبت لها ورقة...



" لو كان غاضباً لصرخ علي، ثم السكوت علامة الرضا، أليس كذلك؟!



وعادت لوضعها الطبيعي مختبئة كالعادة، فتحت إحدى عينيها...


كان قد توقف عن الكتابة وبقي ينظر للزهرتين بتمعن...


وتهللت و أمسكت نفسها عن القفز وسط المكان..


وسمعت صوته الهادر يناديها دون أن يُبعد ناظريه عن الورد:



- تعالي إلى هنا يا آنسة..


"إنهُ يناديني، سيعترف لي، لقد سقط في الشباك أخيراً!!!



وهرعت إليه من فورها حتى كادت تتعثر!!!!

تطلع إليها من رأسها لأخمص قدميها ثم سأل بجفاف:



- أيمكنكِ أن تخبريني ماذا ترمين من وراء هذه التصرفات الخرقاء؟!


- ...................


- ألن تعقلي أبداً؟!


- .................


وصرخ بغضبٍ ثائر:


- خذي هذه الورود وانصرفي لعملك...



وشعرت بأن أحداً سكب على رأسها ماءاً بارداً...



"أهذا ما ناداني من أجله!!"...



تطلعت إليه بإنفعال وهي ترفع أصبعها أمام عينيه:



- أنا لا آخذُ شيئاً من غريب!! ماذا أقول لو سألني والدي عن مصدرها؟! أأقول له أنك أعطيتني هذه الورود الحمراء!!! أتريده أن يعلقني من النافذة!!



وتطلع إليها بدهشة لكنها لم تبالِ وتابعت:


- كف عن حركات المراهقين هذه، هذا عيب يا أستاذ، عيب أتسمع، عمرك في الثلاثين وتحضر لصغيرة مثلي، سريعة التأثر وروداً!!!



وفغر فاهه والدهشة تتسع....



- وأيُّ لون؟! لوناً أحمراً، أتعرف عمّا يعبر هذا اللون؟!


- !!!!!!!!!


- لم لا تقلها مباشرة بدلاً من اللف والدوران!!


- أقولُ لكِ ماذا أيتها المجنونة؟! صاح بغضب.


- وكيف لي أن أعرف ما يدور في ذهنك الخبيث!! تحضر لي وروداً حمراء وتكتب لي رسائل معطرة تضعها في ملفي، ماذا تسمي كل هذا؟!!


- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!



و زفرت وهي ترفع كتفيها بإستنكار:


- لا أدري متى سأسلم من المعاكسات التي لا تنتهي، أينما أسير، أينما أتواجد تلاحقونني!!!


- ........................


- و بعد هذا الاكتشاف الذي اكتشفته عنك، تبين لي أنه لا يصلح بنا أن نبقى معاً في مكانٍ واحد، أنا أخافُ على نفسي!!



واحتقن وجهه فبدا داكناً وهو يصرخ بغضبٍ مكتوم:



- ابتعدي عني قبل أن أخنقكِ!!


- لا تصرخ علي، وليكن في علمك بعد كلامك هذا وتصرفات المراهقين التي فعلتها قد سقطت من عيني، لذا لا تتعب نفسك فلن أقبل الزواج بك!!!



وضرب بقبضته على الطاولة فركضت إلى كرسيها بخوف..



- مجنونة، مجنونة!!!


- أنا أسمعك!! ردت بتهديد.


وعقدت ذراعيها بغيظ وهي تدمدم:



"مؤلف كاذب، كيف تسقطينه في شباكك!!!



ألقيه في البحر!!



أين ستُفلت مني يا "بابو"!!"



============



ربما رحل، رحل ولم يحفل بي البتة، كم كان متلهفاً للذهاب و كأنهُ سيلقى الجنة!!!


كلهم يرحلون، يرحلون تباعاً...


الأب يرحل، الأمُ ترحل، والزوج يرحل!!!



تركني هنا وحيدة مع الظلام، مع السكون، مع الوحشة...



يا لقسوته، يا لظلمه، ويا لحرقة قلبي!!!



تركني وذهب، من لي بعد اليوم، من؟!



وتهاوت على كرسيها بوهن تحاول أن تلملم شعثها، أجزاءها المبعثرة، روحها المنفلتة من جسدها، الهائمة بلا هُدى...



وسمعت طرقاً خافتاً على الباب فرفعت رأسها بضعف...


وتراءى لها أن الباب يُفتح وأنهُ واقفٌ الآن أمامها يطالعها بثبات...


تلمست جبينها بأناملها المرتجفة بإعياء...


أنها تحلم، تتخيل، باتت تسمع وترى أشياء غير موجودة أصلاً في الآونة الأخيرة!!



لا بد أني جننتُ، ها أنا أهذي به من جديد...



"عمر" سافر ، منذُ الغروب، لا بل منذُ زمن..


سلب روحي و رحل...


لم يعد يُريدني، أنا لا أنفع!!



و طفرت الدموع من عينيها بحرارة وهي تطالع الخيال الواقف بصمت..



رفقاً بي رفقاً، أنا لا أحتمل...


يكفيني سأصاب بالجنون..



وكادت تصرخ، لكن صوتها اختنق، احتبس، ضاع في جوفها، تسرب كما تسربت الأيام الخمسة من بين يديها في غفلةٍ منها...



أجبني أأنت أنت أم أنك وهم، سراب؟!


ألازلت هنا؟!


ما بالك صامت، تنظر إليّ هكذا، لا بدّ أن بي شيئاً، لا بد أني فقدتُ رشدي؟!



لا تسألني من أنا؟!


أنا لا أعرفُ نفسي، بتُّ لا أعرفها إطلاقاً...


لستُ غدير، لستُ هي، ولكن بالله عليك قبل هذا أخبرني، أجبني:


ألازلت هنا؟!



وانفجرت في البكاء بهستيرية وقد بلغ منها السيلُ الزبى...


بلغ أقصاه، وهي لم تعد تحتمل، إنها أوهن من أن تحتمل المزيد...


وبدا لها أن الخيال يتململ في وقفته بتوتر...



- غدير!! ناداها بصوتٍ هامس.



النبضات تضعف والحواس تتلاشى، تتبدد، و الجسد الواهن لا يتوقف عن الارتجاف..



رفعت بصرها إليه وهي تنظر له كالحلم، دون تصديق!!



و نطقت أخيراً بصوت مبحوح، خافِت، عُيل من كثرة البكاء:



- أما زلت هنا، لمَ لم ترحل؟!


- ..................


ورفعت أصبعاً باتجاه الباب سرعان ما تقهقر وانثنى وهي تردف:


- اذهب، إنهم يستعجلونك، ربما تنتظرك بنفسها في المطار!!!


- .........................



- لمَ تنظر إليّ هكذا، أنا لا أبكي لأجلك، بل أبكي أمي، أمي مريضة، ستذهب هي الأخرى، ستموت، أنا أعرفها جسدها لا يتحمل المرض!!


وتهدج صوتها وهي تقبض على صدغها بإختناق:


- ليس لي أحد، من أحبهم لا بد أن يذهبوا، يتركوني ويذهبون...


وضاع الصوت من جديد وصدرها يعلو و يهبط بإضطراب..


ورفعت رأسها بسرعة وكأنها استوعبت شيئاً ما للتو، صاحت فيه بحدة:


- إلا أنت، أنا أكرهك، أكره أن أراك حتى..


- وأنا أعشقك أيتها العنيدة، أعشقك حتى الموت.


- اخرس، لا تقل لي هذا الكلام..



- وأنتِ أيضاً وبنفس القدر ، أليس كذلك يا غدير ؟!



وضعت يديها على أذنيها وهي تصيح بقوة:


- ارحل من هنا..


- كيف أرحل دون أن أودعك!!


وتقدم منها فصرخت بجنون وهي تتراجع عن كرسيها:


- لا تقترب مني أبداً، أنت تفقدني أعصابي..


- لن أقترب ولكن مدي يدكِ إلي ، صافحيني ربما تكون المرة الأخيرة!!!


و ضمت يديها خلفها وهي تستمر في التراجع دون شعور، بلا حواس!!!

الأخيرة؟!


أقال الأخيرة؟!


أسمعتموه؟!!


لن يعود إلى هنا!!!


سيبقى هناك!!
جثت على الأرض قبل أن تهوي وهي تمسك بحافة السرير، قدماها أوهن من أن تحملاها، أوهن من أن تحمل ذلك القلب المعذب...


اقترب منها و وضع يده على كتفها بقلق :


- هل أنتِ بخير؟!



أجابت بصوتٍ ضعيف، غائب عن الوجود:


- لن أسامحك ما حييت..



وضمها إليه بقوة حتى تلاشت أنفاسها وهو يهمس في أذنها:


- سأشتاقُ لكِ كثيراً...



و حاول أن يبعدها، لكن أصابعها كانت متشبثة بقميصه...


وأراد إزاحة تلك الأنامل القابضة عليه، فانتبهت وصاحت بإرتياع:




- كلا، لا تتركني، لا تسافر أرجوك..



- لا بد لي من ذلك!!



ردت بإندفاع وهي تنتحب:


- سأفعل أي شيء تريده، أي شيء..



- أي شيء؟!



ونظرت إليه بعينيها اللتان بدتا كمحيط لا متناهي من الدموع..


ارتمت على صدره من جديد وهي تصيح بيأس:


- أجل أي..شيء..


وانخرطت في بكاءٍ مرير...



ربت على ظهرها برفق وهو يفكر بشرود..



- اسمعي، لا أستطيع التراجع الآن، سأسافر وأنهي أموري ثم أعود...



رفعت رأسها بسرعة:


- ماذا؟!


- هدئي من روعك لا بد أن أمهّد لهم، لا بد من التبرير فأنا أعرف الرجل جيداً، كلانا نعملُ معاً!!


- أنا لا يهمني ذلك، اتصل واعتذر له. وأخذت تصيح.


- إنهُ ينتظرني الآن في المطار.


- أنت تكذب علي..


- أنا لا أكذب أقسمُ بالله، ولكن لا بُد من إنهاء بعض الأمور!!



- ..........................


- لقد أقسمت!!!


- ..........................


- سآتي بسرعة حين تسنح لي الفرصة، صدقيني..



مسحت عينيها وهي تخاطبه:


- عدني أنك ستعود لوحدك!!


- أعدك..


- وأنك لن تتزوج أبداً..


- أعدك..



وابتسم في وجهها فأطرقت وجهها بإضطراب..


ثم أمسكها من ذراعها وهو يُنهضها من على الأرض:


- هيا، لم يتبق شيء على موعد الرحلة، أين حقيبتك؟! لقد تأخرت!!



واتجهت لخزانتها لتحمل معها بعض الأشياء لمنزل خالها ريثما يعود...




في أي هاويةٍ أسير!!



لا يهم، لا شيء يهم من بعده...



المهم أنهُ سيعود، قال لي سيعود، لن يتزوج، لن يتزوج أتسمعون!!



ماذا أريدُ أكثر من هذا !!!



ولكن !!!
(19)




رفعت بصرها نحو السقف وهي تتابع حركة المروحة الرتيبة.....


لقد مرّ أسبوعٌ كامل منذُ أن سافر و اتصل خلالها 4 مرات...


في المرةِ الأولى لم تكن موجودة أما في المرات الثلاث فلم تدرِ ما كانت تقول له!!


كانت تبقى صامتة معظم الوقت وهي تستمع له وكأن قد أُسقط في يدها!!


وحين يهم بوداعها وإغلاق السماعة تكاد تصرخ: انتظر!!


لكن لسانها يخونها من جديد وترد بصوتٍ خافت: مع السلامة...


وتعنف نفسها بعد ذلك طوال الوقت وهي تشعر بالندم..



أنها لم تعتد بعد، لازالت خائفة، خائفة من القادم...


وتنهدت بعمق وهي تنظر ليديها المتشابكتين في حيره...




"سأخبره، لا بد أن أخبره قبل كل شيء...



ولكن ماذا أقول له!!


ربما لن يصدقني..


لن يصدقني؟!!


"عمر" سيصدقني، أليس كذلك؟!


أنا لم أفعل شيئاً، لا شيء...


سأخبره على الهاتف عندما يتصل، لا أستطيع مواجهته، لا أستطيع...


أجل سأخبره و ليحدث ما يحدث!!


عمر لن يتركني، لن يتخلى عني، عمر يحبني، هو قال لي ذلك"..


و شدت الدثار حولها بإحكام لعلها تُبعد تلك الهواجس التي تنتابها وتؤرق مرقدها كل حين...



يا رب لطفك، لطفك فقط...



=========



- كلا، كلا، لا تقلق، الأمور تسير على ما يُرام!!


وأخذ يضحك بأريحية وهو ينقل سماعة هاتفه الجوال لأذنه اليُسرى:



- سأعود قريباً، بعد شهرين ربما، أجل..


و انخفضت حدة الصوت في موجة أشبه بالهمس الخافت!!


كانت تحتسي عصير البرتقال المفضل لديها وهي تُصيغ السمع لحديثه بفضول...


أغلق هاتفه وهو يجر كرسياً و يخطف شطيرة موضوعة على الطبق....


- عذراً إن أزعجتك، صباح الخير!!


- صباح النور. تمتمت.


- كيف حالك وحال ناصر؟! سألها بصوتٍ عادي.


- نحنُ بخير، الحمد لله...


وصمت كلاهما صمتاً ظاهرياً ثم نطقت بعد دقائق:


- سترجع إلى السويد؟


- أجل.


- ومتى ستعود؟!


- بعد أن أتخرج، لم يتبق إلا عام واحد كما تعرفين. وابتسم بهدوء.


- اها. ردت بشرود.


وأردفت:

- بالتوفيق إن شاء الله.



ووضعت كوبها على الطاولة وقبل أن تهم بالإنصراف التفتت نحوه:


- "وليد" أيمكن أن.....


- ماذا؟! تفضلي. سأل باهتمام.


تطلعت إليه بصمت لمدة ليست بقصيرة ثم هزت رأسها ببطء وهي ترد:



- آه، لاشيء، لاشيء، شكراً على كل حال.



و توارت عن الأنظار...


وبقي هو على مقعده يلتهم شطيرته بنهم، سحب كأسها وسكب له عصيراً!!!


تمتم بصوتٍ منخفض:



- مسكينة أنتِ يا "شيماء"!!



وارتشفه و ابتسامة ثقة كبيرة تعلو شفتيه...



ثم أخرج سجارته ونفث دخانها بإرتياح....



=========



- ألا تفهمين العربية حين أكلمك؟!


- ..............................


- هيا انهضي.. صرخ بغضب.


- لن أنهض، ولن أتحرك شبراً من هذا المكان، أتسمع!!!



ووضعت يدها أسفل ذقنها من جديد وهي تنظر له بتحدي..


صاح بنفاذ صبر:


- هذه المرأة سيدة أعمال!!


- سيدة أعمال أم رئيسة التنظيفات!! أنا لا يهمني، ما يهمني أنها امرأة وأنا لا أستطيع ترككما لوحدكما، ضميري لا يسمح لي بذلك!!!


- كفي عن هذه الترهات واغربي عن وجهي في الحال و إلا..


- وإلا ماذا؟!


- سأنادي حارس الأمن الواقف في الخارج مع الكلب!!



وما أن ذكر لفظة "الكلب" حتى أصابها الفزع فاعتدلت في جلستها مذعورة وهي تحاول أن تتمالك نفسها...


خاطبته بتباكٍ:


- أنا أعرف، لم تقتنيه إلا لتُخيفني، لكنني لا أخاف، نحنُ نربي في بيتنا القطط و الكلاب وحتى الأفاعي!!!


- .........................


- ثم ماذا سيُضيرك لو بقيت هنا ها؟!! أريد أن أتعلم، أنا لم أرى في حياتي سيدة أعمال من قبل..


- يكفي ثرثرة..


ودقّ سطح مكتبها بتهديد...


- سأنصرف الآن ليس خوفاً من تهديدك، ولكن لأن، لأن، أجل لأن أسعد لحظات حياتي تلك التي لا أراك فيها!!


أجابها بقسوة لاذعة:

- ويستحسن لو تغادري المكان برّمته و تعودي لمنزلك فلستُ محتاجاً لخدماتك النفيسة هذا اليوم!!



وخرجت وهي تجمع أغراضها بغضب...


"يطردني من أجلها وأنا توسلتهُ البارحة كي أعود للبيت بحجة مرض والدي ولم يسمح لي"...

وجلست على مكتبها القديم والغيظ يفتتها...



وسمعت وقع خطواتٍ ثابتة لكعبٍ عالٍ فالتفتت إلى الباب و بقيت تحملق فيه!!



كانت امرأة في عقدها الثالث تسبقها رائحة العود النفاذة، كستنائية الشعر، خمرية البشرة وإن لم يخفي لونها ذلك المكياج الصارخ الموضوع بإتقان...


اقتربت منها المرأة برشاقة وهي تُبعد خصلات شعرها الطويلة إلى الوراء...


خاطبتها بتكبر:


- أين مديرك؟!


"لم تلقي عليّ السلام حتى!!"..


- في الداخل.. ردت مبهورة الأنفاس.


و ولجت إلى حيثُ أشارت لها..


وما هي إلا ثانية حتى ضربت "ندى" على صدرها وهي تخاطب نفسها:


- هذا المحروم إن رآها فلن ينظر في وجهي بعد اليوم!!!


"لا بد أن أفعل شيئاً، لا بد من الهجوم على العدو!!"


ولم تستطع الجلوس على الكرسي، أخذت تدور حول المكان لمدة ربع ساعة دون أن تهتدي لشيء وتوقفت فجأة..


هرولت إلى المطبخ الداخلي وأعدت كوبا "نسكافيه" بدون سكر!!


طرقت الباب بخفة قبل أن تسمع الإذن بالدخول وعلى فمها ابتسامة حقودة...


أخذ المدير يطالعها مصدوماً من وجودها حتى الآن وبدا على وجهه التوجس!!


- أحضرتُ لكما "نسكافيه" ليبلل حلقكما الذي لاشك جف من كثرة الكلام!!


و وضعت "الصينية" على الطاولة و استدارت نحو المرأة...



نظرت إليها و هي تصيح بإعجاب:


- واو شعرك رائع، صبغتهُ رائعة، في أي صالونٍ صبغته؟!



وأخذت تمسح عليه والمرأة تطالعها بخوف..



- ما بالكِ لا تُجيبين يا جدتي، أنتِ في عمر جدتي صح؟! أراهن أن عمرك في الستين لكنها عمليات التجميل !!



ثم مطت شفتيها بعبوس وهي تخاطبها:


- ثم كيف تخرجين أمام الملأ بدون حجاب، هذا عيب، حرام، ألا تعلمين أن كل شعرة شيطانة يا شيطانة!!


وشدت شعرها بقوة فصرخت المرأة من الألم..


- آسفة، آسفة لم أقصد. وتراجعت وهي تضع يدها على فمها ببراءة.


- اخرجي من هنا. صرخ المدير بغضب.



ثم التفت للسيدة وهو يعتذر:


- أعتذر منكِ سيدتي، لكن هذه الفتاة ليست طبيعية تماماً!!


- وما دامت كذلك لم لاتزال تعمل لديك، شيء غير معقول إطلاقاً!!


قالت ذلك وهي تُعيد ترتيب شعرها بضيق.


- أعتذر لكِ سيدتي من جديد..


وسكتت المرأة على مضض، ثم التفت إلى "ندى" وهو ينظر لها بشزر..



زمت فمها بغضب مماثل وهي تحدجه بحقد، وخرجت وهي تصفق الباب..


"أنا غير طبيعية!! و يقول هذا أمام تلك المتعجرفة!!


وعادت لتجلس على مكتبها وهي تضربه بقبضتيها...



ومرت ساعة كاملة وهي على هذه الحالة وأخيراً انفتح باب المكتب الرئيسي وقبل أن يلوح أحدهما اختبأت أسفل طاولتها..


- سعدتُ بلقائك سيدتي.


- هذا من دواعي سروري، سنكون على اتصال دائم مع شركتكم.


- وأنا من جهتي سأباشر بالعقد منذُ اليوم..


- إلى اللقاء إذن..


- إلى اللقاء.



"ألن ينتهيا من أحاديثهما السخيفة؟!! ماذا جرى له اليوم مدير الغفلة!!"



وسمعت صوت كعبها يتهادى على الأرض مبتعدة فهبت من مكانها واقفة..


- لحظة. هتفت "ندى"..


أجفلت المرأة وجمدت في مكانها.


- سيدتي، سيدتي، أعتذرُ عما بدر مني. قالتها وهي تنكس رأسها بإنكسار.


- .................


- أرجوكِ سامحيني. وسحبت يدها لتقبلها.


- يكفي، سامحتك.


- فعلاً!!


- أجل.


- أيمكنني أن أسألكِ سؤالاً بحق الصداقة التي جمعتنا اليوم؟!!


تنهدت المرأة بإستسلام:

- تفضلي..


- الظلال الذي في عينيكِ جميلٌ جداً، أتعلميني طريقته؟!!



و ابتسمت المرأة بخيلاء وهي تُجيب:


- هذا ظلال "السموكي"، ولستُ من وضعته بل أخصائية تجميل خاصة بي..


- حقاً؟! أهذا ما يسمونه "سموكي"، لا أصدق، يا لحسن حظي، أريني..



ووضعت أصابعها على الفور على جفني المرأة بعشوائية وهي تمسحهما والمرأة تصرخ...


وانفتح الباب فجأة على وجل و أطل المدير بقلق:


- ماذا يجري؟!


- غبار دخل في أذني أقصد عيني سيدة الأعمال!!! لقد تأخرت عن البيت، مع السلامة وخذها للطبيب...


وجرت بإرتياع للباب الخارجي وما أن لامسها الهواء حتى انفجرت ضاحكة وهي تحمد الله أن غداً الخميس..



- سينسى، بعد يومان سينسى!!


==========

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
قديم 24-05-07, 06:42 PM   المشاركة رقم: 10
المعلومات
الكاتب:
اللقب:

البيانات
التسجيل: May 2006
العضوية: 4668
المشاركات: 93
الجنس أنثى
معدل التقييم: عاشقة الكتب عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 16

االدولة
البلدUnited Arab Emirates
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
عاشقة الكتب غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : عاشقة الكتب المنتدى : الارشيف
افتراضي

 

أأخبرها هذا المساء، أم أُبقي الأمر مفاجأة!!


كلا، لن أخبرها، أريدُ أن أرى الفرحة الممزوجة بالدهشة جلية في عينيها السوداوين عندما تراني...


معشوقتي الصغيرة تخالني سافرت لأتزوج!!


أتزوج!!


تكفيني هي بجنونها وعنادها لأعزف عن نساء العالم برّمته وأنتظرها هي!!


كثيراً ما وددتُ خنقها بيدي هاتين لكنني أُحجم!! وكيف لي أن أخنق قلبي؟!


كيف سأعيش حينها؟!!


أعلم بأني آذيتك كثيراً يا صغيرتي، صدقيني رغماً عني، ولكن أقسم بأن أعوضك عمّا فات و سأنسى الماضي وكل شيء من أجلك وحدك، و من أجل أن أراكِ سعيدةً تضحكين...


كيف تغلل حبها هكذا إلى روحي، ومنذُ متى؟!


لا أدري، حقيقةً لا أدري...


ربما منذُ أن رأيتها أول مرة و قد أُغمي عليها، أو حين سكنت معنا في البيت فسكن معها قلبي، أو ربما حين تزوجتها وأفقدتني عقلي أو ربما كان حبي لها منذُ الأزل!!



أجل، منذُ الأزل...





إني لأجزم بأني أحبها حباً قديماً، حباً مُعتقاً، حباً يذكرني دوماً بلحظات الصبا، حين أرتع في الطُرقات في مواسم المطر لأتنسم عبق التراب، عبق الندى، عبق تلك اللحظات العجيبة...


أيُّ رجلٍ عاشق صيرتني يا "غدير"!!


وتخالينني بعدها سأتزوج؟!!


إنه العمل، وكم كرهت العمل لحظتها طالما سيبعدني عنكِ...


وابتسم وهو يعقد ذراعيه خلف رأسه....


لا أعلم كيف صدقتني حينها، ربما كانت الغيرة من أطاشت صوابها...


ولكن لم يبق الشيء الكثير...


لم يتبق إلا الغد، الغدُ فقط من يفصل بيننا!!



سأتصلُ لها هذا المساء ولكن لن أخبرها، أعدكم بذلك...



أريدُ أن أسمع صوتها، كم اشتقتُ لها كثيراً، كثيراً...



==========



- ماذا تصنعين؟!


- بسبوسة أعددتها بنفسي!! أجابت بفخر.


- بسبوسة!!


- أجل.


- تبدو لذيذة.


- انتظري، لا تلمسي شيئاً!


- لماذا؟!


- لازالت ساخنة..


- أريدُ أن أتذوق فقط.


- ابتعدي إذن، أنا سأقطعُ لكِ.


وأمسكت "ندى" السكين وهي تنظر لبسبوستها بإعتزاز وقطعت قطعة..


- هذه صغيرة جداً!!


- أخافُ عليكِ من السمنة!


وقضمت "غدير" القطعة بتؤدة وهي تستطعمها وما هي إلا دقيقة حتى ألقتها وهي تضع يدها على فمها بغثيان..


- طعمها كالبيض الفاسد!!


- ماذا؟!


و أخذت "ندى" قطعة وقربتها من أنفها ثم صاحت بإستنكار:


- رائحتها عادية أنتِ تتوهمين، تأكدي...




وما أن قربتها من "غدير" من جديد حتى انتابت تلك الأخيرة نوبة غثيان حادة، جرت من فورها إلى المغسلة..


اتجهت لها "ندى" بفزع وهي تضع يدها على كتفها وتهزها بخوف:


- ماذا بك؟! لم أضع شيئاً غريباً في الأكل، أقسمُ لكِ..


صاحت بتقطع وهي تمسك معدتها بقوة:


- آه، ابعدي يدكِ، رائحتها.......


و عاودتها النوبة أعنف من ذي قبل و "ندى" تنظر إليها بعينين مذعورتين وهي تتراجع إلى الوراء...


وأخذت "غدير" تتنفس بعمق وهي ترشح وجهها بالماء، وتمالكت نفسها بعد مرور دقائق ثقيلة والتفتت لتلك الأخيرة معتذرة:


- يبدو أنني متعبة قليلاً، سأذهب لأرتاح، آسفة..


وأرادت "ندى" أن تساعدها على السير لكنها أمسكت خشية أن تتقيأ من جديد..


وبقيت تتابعها بقلق حتى غاب خيالها في الغرفة...


رمشت عينيها مراراً وتكراراً وهي تتذكر ما وضعته في الخلطة من محتويات..


" طحين، سكر، زبدة، حليب، بيض"


بيض!!!


كان طازجاً، صدقوني، أنا كسرته بنفسي و الخادمة فعلت كل شيء!!"


وعادت إلى المطبخ و تناولت قطعة وهي تتمتم بتعجب:


- ليس بها شيء، إنها طيبة المذاق!!


وتوقفت في الصالة وهي تنظر للغرفة المغلقة بتفكير...


و فجأة شهقت بصوتٍ مرتفع وكأن الإلهام هبط عليها:


- غدير حامل؟!!


وما أن فاقت من صدمة الاكتشاف حتى صاحت بفرح:


- سأصبح عمة، سأصبح عمة أخيراً..


وأخذت ترقص جدلةً حول المكان دون أن تنتبه لتلك الواقفة من بعيد...


تلك التي كانت تتمزق، تتفتت كورقة خريفية أفلتت من غصنها اليابس...


هزت "شيماء" رأسها ببطء و هي تعتصر الألم من قلبها عصراً..


"حامل!! غدير حامل!!"


وأصابتها هذه الجملة بشظية أدمتها، جعلتها تنزف، تتقرح من الداخل، الجرج يُنكأ ببطء و قوة والألم يشتد، يعصف بكيانها، ويهزها حتى الأعماق!!


ها هي العبارة ترنُّ في أذنيها من جديد بوقعٍ غريب، وتخترق الصدر مباشرة، إلى هناك، بين الضلوع!!


وهرعت للسلم بجنون وقلبها يترنح بين ضلوعها، الوجود أسود، مظلم لا أمل فيه...


أوصدت الباب خلفها و التفتت لذاك الجالس بهدوء و بيده كتاب..


أخذت تهدأ نفسها الثائرة دون جدوى ثم نطقت بهيجان:



- زوجة أخيك حامل.


رفع رأسه لوجهها الغاضب بتساؤل:


- من؟!


- ومن غيرها؟! غدير.. صاحت بحسرة.


- آه، مبروك. و صمت بحيرة.


- أهذا ما لديك فقط؟! مبروك!!


- ماذا تريدين مني أن أقول!!


- أنا لا أريدك أن تقول شيئاً، أريدك أن تتحرك كباقي خلق الله!! صرخت بإنفعال.



نهض على قدميه وهو يُلقي بالكتاب على الأرض بنفاذ صبر:


- فعلتُ لكِ كل شيء، لم نترك طبيباً إلا وذهبنا إليه، ماذا تريدين أكثر!!


- فلنسافر، لنتعالج في الخارج..


- نتعالج!! أأصبتِ بالجنون، لم نكمل عام ولا حتى نصف عام على زواجنا ونسافر لنتعالج!!!


- غدير و عمر لم يمر على زواجهما سوى شهر واحد و ها هي ستُرزق بطفلٍ قبلي..


و أفلت الصمام من يدها، أجهشت بالبكاء بمرارة وغصاتها تتلاحق...



وبقي واقفاً بتردد وهو يتطلعُ لها...


- شيماء... ناداها بألم.


صاحت من بين دموعها:


- اخرج من هنا، أنت لا فائدة منك، لن تحس بي أبداً، أبداً..


وخرج من الغرفة والحزن يعصف به...


أيّ حالةٍ وصلت إليها زوجته!!


أكلُ هذا من أجل طفل!!


أنا لا يهمني الأطفال، أنا يهمني أنتِ، أنتِ فقط لكنكِ لا تفهمين...



"زوجة أخي حامل!!"


ليوفقهما الله، ماذا تريدين مني أن أفعل!!


أن أشتمهما، أن أحقد عليهما لأنهما سينجبان ونحنُ لا؟!!


ماذا تريدين مني بالله عليكِ أخبريني!!


تريدين أن نسافر؟!


ومن أين لي المال لأسافر وحتى لو وجدت، فسأطرد من عملي طرداً نهائياً من كثرة الإجازات التي آخذها من أجل البقاء معك، كي لا تبقي وحيدة، كي لا تفكرين!!!



أأنا لا أحسُّ بك؟!


أرجوكِ أرحميني لقد تعبت، كفي عن التحدث عن الأطفال، بتُّ أكره سيرتهم!!



وتطلع إلى السماء بحزن وهو يتساءل:


لم الحياة هكذا كظلمة هذا الليل و لكن بلا نجوم!!


بلا نجوم؟!!


=======



خرجت من غرفتها مسرعة و هي تسمع صوت الهاتف يرن بتواصل و قد عاودها النشاط بعد أن غفت قليلاً وأراحت جسدها المتعب...



لا بد أنه هو، لقد حفظت مواعيد اتصالاته جيداً، في الساعة الثانية عشر تماماً!!


وخفق قلبها بشدة لذكراه، وقفت ليس ببعيدٍ عن "ندى" وهي تنصت بخجل لحوارهما...


- أهلاً أهلاً، كيف حالك الآن؟!


- كم مرة سألتني هذا السؤال؟!


- أريدُ أن أطمئن على صحتك ليس إلا!!


وزفر وهو يسألها بنفاذ صبر:


- أين غدير؟!


- من "غدير"؟!


- زوجتي..


- ومتى تزوجت!! سألتهُ بإستنكار.


- ندى، سأصفعك..


- كيف؟! ستخرج لي من سلك الهاتف!!



وضحكت بأريحية و "غدير" تشير لها بأن تعطيها سماعة الهاتف لكنها لم تبالي..


- سأعطيك إياها ولكن بشرط!!


تنهد بإستسلام:


- وما هو شرطك؟!


- تشتري لي هدية، هدية محترمة تناسب مقامي المرموق في العائلة والأوساط الإجتماعية المعروفة، تعرفني أنا...


- كفي عن الثرثرة وناديها وإلا قسماً عدتُ هذا المساء و ذبحتك..


- حسناً، حسناً، لا تغضب، أعوذُ بالله..


- إلى متى سأنتظر؟!


- ستأتي الآن لا تقلق، تعرفها بطيئة الحركة، ليست في مثل رشاقتي!!


و نظرت لها "غدير" بتوعد فمدت لها لسانها بلؤم ثم صاحت بسرعة وكأنها تذكرت شيئاً ما:


- ذكرتني، نسيت أن أخبرك!!


- ماذا؟!


- لن تصدق..


- ماذا؟! كرر بنفاذ صبر.


- مبروك، زوجتك حامل!!!!
(20)



- آلو، آلو!!


- ..................


- لقد انقطع الخط!! يبدو أن المفاجأة ألجمت لسانه!!!!



وتهاوت "غدير" على الكرسي الذي بجوارها وهي تحملق في المكان بعينين فارغتين من كل شيء...


من كل شيء!!


التفتت لها "ندى" وهي تمط شفتيها و تُردف بلا مبالاة:


- لا تقلقي سيعاود الاتصال من جديد، كان متهلفاً للحديثِ معكِ..


"ماذا تقول هذه؟!"


و رفعت رأسها إليها وهي تنظر لها دون تصديق، خاطبتها بصوتٍ خافت يرتجف:


- لم قلتِ له ذلك؟!


- ماذا؟!


- لم قلتِ لهُ أني حامل، لم فعلتِ ذلك بي؟! سألتها بلوعة.


- لكنكِ كذلك. أجابت بتردد.


- أنا لستُ حاملاً!! صرخت بإختناق.


- لقد رأيتكِ تتقيأين عندما........


قاطعتها وهي تقبض على صدغها و تهز رأسها بألم:


- رائحة البيض لا أطيقه، يُثير فيّ الغثيان منذُ الصغر!!


- حسناً، لابأس، كان سوء تفاهم ليس إلا. علقت "ندى" بإضطراب.


- سوء تفاهم!! تقولين سوء تفاهم؟!! رددت بذهول.



- عمر لن يغضب، سأقول له أن الحمل كاذب، لا تفعلي بنفسكِ هكذا..


- عن أي حملٍ كاذب تتكلمين، ، عمر سيطلقني، سيتركني بسببكِ أنتِ..


- كلا، عمر لن يتركك لخطأ تافه كهذا، أنتِ تبالغين. ردت بتهدج.


- أنتِ لا تفهمين شيئاً، لا تفهمين.



وغطت وجهها بكفيها وهي تشهق بالبكاء...


جثت "ندى" بجانبها و هي تشدها من ثيابها:


- قولي لي ماذا أفعل، سأفعل أي شيء.


رفعت "غدير" رأسها بضعف و نظرت لها بتوسل:


- اتصلي له، أخبريه، قولي له أنكِ تمزحين..


هرعت "ندى" للهاتف وهي تعيد الضغط على الأزرار عدة مرات...


وبقيت على هذه الحالة عدة دقائق، ردت بصوتٍ خافت وهي تتطلع إلى "غدير" بإرتباك:


- لا يُجيب، لا بد أنها الخطوط ....



وخيم الصمت حول المكان.....



كانت تنقل بصرها بشرود بين ندى و يدها وسماعة الهاتف !!!



وتمهلت عند سماعة الهاتف طويلاً....



خاطبتها بصوتٍ أثيري كالحلم و هي تضم يديها إلى صدرها:


- كنتُ سأخبره وكان سيصدقني...


- ..............................


- هو يعرف بأني أحبه و لا أحبُّ غيره...


- .............................


- لقد اشتريتُ له هدية، قميص أخضر بلون عينيه!!! كنتُ سأسأله من أين اكتسب هذا اللون بعد أن يعود...




- ولكن ليس بعد الآن أليس كذلك؟! ليس بعد الآن..



و نظرت إلى "ندى" وكأنها انتبهت للتو من وجودها، صاحت بألم:



- كلهُ بسببك، أنتِ السبب..



وانسابت دموعها وهي تراها تغرق من جديد في نوبة من البكاء المرير...



يا نجوم السماء ابقي يقظة...



لا ترحلي، لا تأفلي كي لا يحلّ الصباح!!



=========




لم تنم البارحة، لقد أبى الكرى إلا أن يحرمها النوم و راحة البال...


تقلبت على فراشها وهي تحاول أن تتجنب ذلك الضوء المضطرب المنبعث من قنديل الصباح...



لم ينم البارحة هو الآخر، نهض منذُ بزوغ الفجر!!


لا يهم، لا شيء يهم!!!


و أزاحت الدثار عنها بضيق وتوجهت للمرآة..


عيناها متورمتان من كثرة البكاء، من شدة الألم، من تلك الغصة التي لا تفتأ أن تُضيّق عليها الخناق وتلاحقها كظلها كما تلاحقها عبارة:


"غدير، حامل!!"...



أأنا حقودة؟!


أجيبوني!!



أتخالوني أغار منها وأحقد؟!


ما بالكم تنظرون لي بشك!!!


قولوها أمامي و كفوا عن التحدث خلفي بهمس!!



أجل، أجل، أنا غيورة، حقودة، قولوا عني ما شئتم، فقد تعبت، مللت، ضاق صدري!!



وهذا الزوج البارد!!



لا آخذ منه إلا الكلام، إلا الوعود السقيمة...



اصبري، اصبري، اصبري!!!!!


لقد تعبتُ من الصبر!!


ماذا سيضيره لو سافرنا؟! ماذا سيخسر؟!


لم يحطم آمالي، لم لا يفهمني هذا الرجل؟!!


ألا يعلم؟!!



قريباً ستمر الشهور التسعة كلمح البصر، وستُرزق هي بطفل..



أتعرفون ما معنى "طفل"؟!


ذلك المخلوق الصغير ذي العينين الصغيرتين، ذلك الذي سينطق لها:


ماما!!


حينها سأجن أتفهمون؟!



كلا، كلا أنتم لا تفهمون، لا تفهموني...



أريدُ أن أصبح أماً، أريدُ أن أصبح أماً...


و دفعت الأشياء الموضوعة أمام المرآة بعنف، تحطمت، تكسرت وتبعثرت كروحها الممزقة في كل مكان وعادت لتجهش بالبكاء...



==========



مقفل!! هاتفه مقفل منذُ البارحة...


لم لا ترد!!


ردّ علي، أرجوك...



لا تتركني هكذا أخافُ منك...



صمتك يُرعبني، أرجوك تكلم، قل شيئاً، لكن لا تسكت، لا تعذبني هكذا..



الخطوط هي السبب، إنها كما قالت "ندى" متشابكة!! أنت لست غاضباً مني...



أليس كذلك يا "عمر"، اجبني، لم لا ترد علي!!


يا لقسوة قلبك، أهنتُ عليك بهذه البساطة!!



و سمعت ضجة فالتفتت نحو الباب بوجل...



أطلت "ندى" وهي تلهث:


- "عمر" عاد..


- كلا. صرخت بإرتياع.


وصمتت برهة لتلتقط أنفاسها ثم أضافت:


- لا تقلقي، لا يبدو عليه الغضب أبداً، ألم أقل لكِ..


- لا أريد أن أذهب، لا أريد أن أراه.


وانزوت للبعيد بخوف....


اقتربت منها "ندى" حتى أصبحت بمحاذاتها:


- ماذا سيقولون؟! زوجك عائد للتو من سفره وأنتِ هنا مختبئة؟!


- إنهُ لم يعد إلا لأنه يخالني كما قلتِ.. ردت بخوف.


- سأخبره بإلتباسي في الموضوع، اطمأني.


- متى؟! سألتها وهي ترفع رأسها بتلهف.


- عندما يكون لوحده، لا تخافي لن أعدم وسيلةً هذا اليوم..


تطلعت لها بيأس وهي تصيح:


- سأبقى هنا، قولي له أني مريضة، لستُ هنا، قولي له أي شيء..


وأخذت تبكي بصمت وهي تدفن رأسها في حجرها...


- لم تعقدين الأمور وهي بسيطة، أنا لا أفهمك!!


- .......................


- هيا انهضي معي، كل شيء سيحل بإذن الله..


رفعت رأسها ببطء وهي تنظر لها بألم..


"سيُحل؟!!"


- هيا اغسلي وجهك قبل أن يأتي إلى هنا ويراك بهذه الحالة..


و ساعدتها "ندى" على النهوض...


غسلت وجهها لكنها لم تستطع أن تمسح معالم الخوف المرتسمة على وجهها الشاحب....



وسارت بتعثر و هي تختبأ خلفها...


كانوا جميعهم هناك، فلا غرو فاليوم جمعة...


"وليد" جالس و بيده سجارته التي لم يشعلها بعد و بجانبه "ناصر" عاقداً ذراعيه خلف رأسه وقد بدا عليه أنهُ لم ينم منذُ عام أو ربما خُيل لها ذلك!!


وتوسط الأب المقعد الكبير عدا "شيماء" التي كانت واقفة تحدجها بنظرة غريبة لم تعتدها من قبل...


إلا هو!!!


لم يلتفت لها منذُ أن وطأت بقدمها الصالة...


لم ترى وجهه..



لم يلتفت؟! أو ربما هي لم تجرؤ على النظر إليه!!!


- سلمت على الكل، ونسيت زوجتك؟! خاطبه الأب.



ورفع رأسهُ حينها نحوها فالتقت بعينيه الخضراوين....


فيهما وحشة، سكون، جمود...


ومدّ يد ليصافحها، كانت يدها ترتجف من نظرته الجامدة، تلك التي تُخفي خلفها خبايا نفسه العميقة...


ضغط على يدها بشدة وهو يطالعها بثبات فسحبتها بسرعة وهي تنظر بزيغ إلى "ندى"!!


وعادوا إلى أحاديثهم من جديد، كان يبدو مندمجاً معهم، مرحاً، لا يكف عن التعليق!!!

و خاطب الجميع وهو يشير إليها:



- لابد أن نترككم الآن أنا متعب وأريد أن أرتاح.


ردت بسرعة:


- كلا، كلا، الشقة لا بد مليئة بالغبار الآن، ستأتي "ندى" معي و ستنظفها..


ونظرت "غدير" إلى تلك الأخيرة بإستعطاف.


- أجل سآتي معكم.


- ولم "ندى"، ألا أنفع؟! سألها ببرود.


- أنت متعب، ارتح ونحنُ سنفعل كل شيء. تابعت شقيقته.


- بل هي من يجب أن ترتاح، أليست بحامل؟!


قالتها "شيماء" بمرارة وهي تنظر مباشرة لناصر....



نهض هذا الأخير معتذراً من المكان برمته وهو يتمتم بكلمات.


- لم لم يخبرني أحد من قبل؟! سأل الأب بعتب.


- لست أنت فقط يا أبي، تصور أنا زوجها و آخر من يعلم!! علق "عمر".


وضحك الجميع وهو معهم!!!



- على العموم مبروك يا ابنتي.



وسكنت سكون الريح لحظة المغيب....



الكلمات تعبر أذنيها بتثاقل، بتقهقر والهدير يعلو بداخلها بصمت وهي عاجزة عن الرد، عن الصياح:



"كفوا عن هذا الحديث!! ماذا تفعلون بي؟!!"



ارتعشت شفتاها وهي تهزُّ رأسها له، فابتسم بقسوة وهو يخاطبها بثبات:



- هيا يا عزيزتي لقد تأخرنا، لو تعلمين كم أرهقتني هذه الرحلة!!!


ثم التفت لأبيه:


- نستودعكم الله..



وأُسقط في يدها!!!


و شيعت "ندى" وفي عينيها لوم، عتاب:


"لم تفعلي شيئاً، لقد كذبتِ علي"...


===========



لحقته حتى الفناء الخارجي وهي تناديه:


- وليد..



وتوقف فجأة وهو يستدير لها بتساؤل:


- نعم!!


- بشأن الفحوص التي أعطيتك إياها...


- ماذا بها؟!


- قلت لي أنك ستلقي عليها نظرة..


- آها، أجل، أجل..


- وما رأيك؟!


- تعرفيني لا أثق بفحوص المستشفيات هنا، لا بد أن أستخدم أجهزتي الخاصة.


- أنا ليس لدي مانع البتة.


- وناصر؟!


- سيأتي أيضاً. ردت بشرود.



أشعل سيجارته ونفث دخانها أمامها وهو يجيب بهدوء:


- الآن أنا مشغول، لدي موعد مع بعض العملاء..


- ومتى تكون فارغاً؟!


- يمكنك أن تمري عليّ بالليل فهذا أنسب وقت بالنسبة لي.


- بالليل؟!


- أجل، إذا شئتِ. رد بلامبالاة.



واستدار إلى معمله وقبل أن يدخل سحق السجارة بقدمه!!!



وبقيت واقفة تنظر بيأس لكل شيء، كل شيء...



===========



طفرت الدموع من عينيها وهي تمسحها بإرتجاف، كان أقل حركة أو صوت يصدر من السيارة يجعلها تصرخ وهي تشهق بصوتٍ كتوم...


الخوف منه يشلها، يشل تفكيرها، يشل حواسها المتلاشية...


وتوقفت السيارة فتوقف قلبها عن النبض، نظرت إليه بإرتياع وهي تنكمش في مكانها..


- انهضي، ماذا تنتظرين؟! قال بجمود.


نطقت بتقطع:


- عمر أنا....


- بهدوء انزلي لو سمحتِ، لا نريدُ فضائح في الطريق!!


وبعينين مغشيتان تابعته وهو يتجه للصندوق الخلفي ليُخرج حقائبه...


صدّت لحقيبتها الصغيرة و أخذت تتأملها لبرهة و دون شعور أخرجت مفتاح الشقة خاصتها...



التفت لها وهي تخرج لكنهُ أكمل إنزال الحقائب بهدوء..



أوصدت باب غرفتها خلفها و هي تستند عليه و صدرها يعلو و يهبط بخوف...


مرت الدقائق بطيئة، ثقيلة بثوانيها التي يبدو أن العطب أصابها فلم تتزحزح من فلكها الدوّار...


وسمعت خطواته الثابتة تقترب فالتصقت بالباب وضربات قلبها تدق بعنف..


- غدير، افتحي الباب.. نادى بتهديد.


- اسمعني أولاً. صاحت بترجي.


- ماذا لديكِ من مزيد لتقولينه؟!!


- أنا لستُ حاملاً، أقسمُ بالعظيم، ألا تثقُ بي!!


- أثقُ بك؟!! تقولين لي ليلة زفافك أنكِ تحبين رجلاً، و بالأمس فقط يقولون لي أنكِ حامل!! كيفُ أثقُ بكِ بعد ذلك بالله عليكِ؟!


- لا، أنت لا تفهم أنا...


- أين كنتِ حين اتصلتُ بك أول مرة منذُ سفري ها؟!


- لقد ذهبتُ لــ.......

وصمتت...


"لأشتري لك قميصاً بدلاً من ذاك الذي ألقيته بعد أن سكبتُ عليه الماء!!"



- تحملتك كثيراً، أكثر مما تسمح به طاقتي، تحملتُ رفضك، جرحك لكرامتي و صبرت لكن إلا كرامتي يا "غدير"، إلا هذه... و صرخ بغضب.



- كرامتك لم تُدنس، لقد حافظتُ عليها في غيابك كما في وجودك، لمَ لا تصدقني؟!



أكمل وهو يصمُّ أذنيه:


- وعن أي غبارٍ في الشقة تتحدثين، إنها تبدو لامعة تماماً كما لو نُظفت بالأمس!!



- لا ماذا تقول؟! صاحت بإرتياع.


- وتمثيلية الحب والدموع ليلة سفري، وأرجوك لا ترحل!!! تريدين أن تبرئي ساحتك أم تريدين إيقاعي كي أتشبث بك ولا أتركك؟!!


- أنا...


"أحبك بصدق".. واغرورقت عيناها بالدموع.


- أنتِ مخطئة يا عزيزتي، واهمة حتى النخاع، أنتِ لم تعودي شيئاُ بالنسبة لي، وكما رفعتكِ عالياً، أُلقي بكِ أسفل سافلين في اللحظة ذاتها...



وضرب بقبضته على الباب بقوة فهوت على الأرض، و ليس وحدها من سقط، فقد هوى قلبها وانجرح في سويدائه...


ما أقسى الكلمات.....


- لن تفتحي الباب إذن؟!


وبكت بصوتٍ منخفض.



- سأخرج قليلاً ثم أعود و ستفتحينه عن طيب خاطر، أليس كذلك يا "غدير"؟!




- كلا "عمر"، أرجوك.. صاحت بذل.


- أليس كذلك يا "غدير"؟! صرخ بشراسة.


- عمــــــــــــر!!


وأخذت تنتحب بمرارة وهي تركع على الأرض....


==========



أأذهب إليه أم لا؟!



"ناصر" لم يعد بعد، لم يبالي بي، خرج من الظهيرة ولم يتصل حتى!!


ثم لم أنا مترددة!! سأجري فحوصاً ليس إلا، هو طبيب وأنا بمثابة المريضة!!!


ثم أنا امرأة متزوجة و أعرف حدودي جيداً وهو يعرف ذلك، ولا تنسوا أني زوجة أخيه....



ولكن...



لا أدري لم لا أشعر بالراحة معه!!


إن به شيئاً غريباً، ربما تلك النظرة في عينيه، أو ابتسامته الغامضة...



كلا، هذه تخاريف، لا بد أنني أتوهم، ثم كان يبدو غير متحمساً عندما طلبت منه إعادة إجراء الفحوص...



وزفرت وهي تتحرك في غرفتها بضيق...



"ناصر" ليس معي، والوقتُ ليل ....



قولوا لي، أرشدوني:



أأذهب إليه أم لا؟!



==========



رفعت رأسها بضعف وهي تطالع المكان...


أين هي الآن؟! وفي أيَّ يوم وأي ساعة؟!


وأمسكت رأسها وهي تشعر بألم فظيع يدبُّ في أوصالها...


أنهضت نفسها بصعوبة و هي تتلمس مفتاح الإنارة لعلها تضيء شيئاً من عتمة المكان..


وتغلغل النور الخافت إلى أعماقها فذكرته!!


أصاغت السمع لعلها تجد له أثراً، أتراهُ لازال هنا، ألازال يقظاً؟!!


لم لا تصدقني يا "عمر"، لم لا تسمعني...


وانسابت دمعة حارة من عينيها الذابلتان وهي تُسند نفسها بالباب...


بقائي هنا جنون، سيقتلني بلا شك...


لابد أن أخرج من هنا حتى يهدأ، حتى يعرف الحقيقة..


ولكن إلى أين؟!


إلى أمي؟!


سيكون زوجها هناك...


أأذهب إلى خالي؟!


سيعود "عمر" ويُعيدني من جديد، كلا، كلا، خالي سيقف بجانبي ويحميني....


مِن من؟! من عمر!!


أجل، ليس وهو بهذه الحالة، يبدو مخيفاً...


وسحبت خمارها وهي تُطفئ نور غرفتها من جديد..


ماذا لو كان بالخارج ينتظرني؟!


وهمت بخلع خمارها لكنها أحجمت في اللحظة الأخيرة..


"لا بد أن أغامر، في كلتا الحالتين أنا هالكة لا محالة"...


- يا رب ساعدني. رددت بحرارة.


وأمسكت إكرة الباب بيدٍ ترتعش..


فتحت الباب ببطء، ببطءٍ شديد ويدها الأخرى تمسك بالمفتاح الذي كاد ينزلق من رجفة أصابعها..


الصمت والظلام مخيمان حول المكان فاسترقت النظر لغرفته، كانت موصدة...



تحركت على أطراف أصابعها وهي تتلفت حولها كل حين و فجأة تعثرت بثنية السجادة فندت من فمها صيحة مبتورة...


وتخيلته يأتي ويراها وقد سمع صوتها فخفق قلبها بزيغ وهي تحاول النهوض لكن دون جدوى..


يا لغدر الحواس!!


وأنّت بصوتٍ منخفض و هي ترى خياله يتراءى لها قادماً من المطبخ..


هذا ليس هو، إنهُ ليس "عمر"، ليس هو أسمعتم!!



كان ممسكاً في يده كوب ماء وهو يتأملها بعبوس، ازدرده في جرعة واحدة ثم وضعه على الطاولة التي تتوسط الصالة الكبيرة...


تقدم منها دون أن يرفع بصره عنها وهي تزداد انكماشاً، مدّ يده إليها فرفعت يدها نحو صدغها بذعر وهي تهز رأسها و تتحاشى النظر في وجهه..


أحنى جذعه وأمسكها من كتفيها بقوة لينهضها وهي تستميت بالابتعاد...


- تريدين أن تهربي؟! سألها بسخرية.


ولوى ذراعها وهو يجذبها نحوه فصرخت من الألم...


- أين كنتِ ستفرين؟! إليه؟!!


- إلى بيت خالي أقسمُ لك بالله. ردت بإرتجاف.


- مشكلتكِ أنكِ لا تجيدين الكذب، ومن كان سيوصلك إلى هناك؟!


- كنتُ سأتصل لندى، ذراعي تؤلمني، ارحمني أرجوك.. وأخذت تنتحب بصوتٍ مرتفع.


- لم تري شيئاً بعد!!


وأفلتها بإزدراء فترنحت وهي تمسك يدها بوهن...


بكت بصوتٍ متقطع:


- إذا كنت لا تثق بي طلقني.


- أطلقك وبهذه السهولة!! يا لوقاحتك!!


- ماذا؟! ستضربني؟! سألت بجزع.


وتطلع إلى شفتيها المرتعشتين ثم ردّ بقسوة لاذعة:


- في هذه أنتِ مخطئة، عظامك الرقيقة غالية علي!! أم نسيتِ أني دفعتُ فيكِ مهراً غالياً!!



- .............................


وشدها من شعرها وهو يجذبها إليه فارتفع صوت بكاءها وهي تحاول التملص منه..


قال بصوتٍ كظيم:


- كان عليكِ أن تخافي وتفكري ألف مرة قبل أن تفعلي ما فعلتِه..


- أنا لم أفعل شيئاً أقسمُ لك.. صاحت بلوعة من بين دموعها.


- كل هذا ولم تفعلي شيئاً بعد؟!


- سأخبرك بكل شيئ، فقط اصبر علي قليلاً..


- اصبر عليكِ؟! وماذا كنتُ أفعل طوال الوقت!!! وصرخ في وجهها فانتفضت في مكانها.



- أنت لا تعرف أنا.....


- أصص. وضع أصبعه على فمه وهو يُكمل بصوتٍ واطئ:


- لا أريد أن أسمع صوتك، اذهبي إلى الغرفة الآن..


هزت رأسها بجنون كأنها تفرُّ من الجحيم...


وما كانت إلا خطوة حتى قبض على عنقها فصرخت من جديد....



- أين تذهبين يا صغيرتي، ليس إلى هنا، بل هناك!!



وتطلعت إلى حيثُ أشار بيده...



وجمت حركتها، توقفت صرختها، لم يُسمع إلا صوت أنفاسها المتلاحقة...



نظرت إليه برعب، وقد بدا وجهها شاحباً مائلاً للبياض..


صاحت بصوتٍ مبحوح:


- عمر، لا، أرجوك..


- أتظنينني مغفلاً؟!



- أنا لم أفعل شيئاً، لم أفعل شيئاً. رددت بجنون.


- لا بد أن أتأكد.


- كلاااااااااا.


- بل نعم..



و جرها من ذراعها بقسوة، تلك التي كانت تتشبث بإستماتة بقدميه، بأي شيء وإن كانت قشة في الهواء!!!





الروح تُنازع، تكاد تُفلت من الجسد، ذلك الجسد المضمخ بالجراحات...


جروح الجسد أم جروح الذاكرة؟!!



واخترق الفضاء صرخة مبحوحة اختزنت في جوفها الأمس واليوم والماضي!!!



كلا، كلا لم تكن صرخة، بل حشرجة، أجل، حشرجة إنسان ذبيح، سُلبت روحه ليس اليوم، بل منذُ سنين، حين كان بريئاً وعيناهُ مغمضتان...



حين كانت طفلة بجديلتين تتراقصان وهي تقفز لأعلى وتضحك....


تضحك!!!


لمَ، لمَ، لمَ؟!!



ولكن أنى للفراشات أن تعي أن لهيب الشمع يؤذيها!!!

 
 

 

عرض البوم صور عاشقة الكتب  
 

مواقع النشر (المفضلة)
facebook




جديد مواضيع قسم الارشيف
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 08:05 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية