كاتب الموضوع :
عاشقة الكتب
المنتدى :
الارشيف
دخلت "ندى" إلى المكتب وهي تسب وتشتم وتمسح جبينها المتصفد عرقاً، وما أن رأتها "أشجان" حتى هرعت إليها وهي تصيح:
- لماذا فعلتِ ذلك يا "ندى"؟!
- أف، ماذا فعلت!! ردت بنفاذ صبر وهي تلقي بنفسها على الكرسي وتغمض عينيها بقوة.
- المدير قلب المكتب على رأسي بحثاً عنكِ وقد اتصلتُ بكِ عدة مرات لكن دون جدوى.
- أوه نسيت أن أشحن البطارية. وضربت على جبينها بخفة وهي تردف بسرعة:
- ألديكِ شاحن الآن؟!
- أنتِ في مصيبة وتسألين عن الشاحن؟! سألتها بإستنكار.
- مصيبة!! أعوذُ بالله، ما هذا الفأل السئ، أنا لا أحب التشاؤم في....
ولم تكمل عبارتها إذ سرعان ما حولت بصرها إلى تلك الأصابع التي تدق على سطح الطاولة من الخلف بغطرسة.
رمشت عينيها ببراءة وهي تقول:
- السلام عليكم يا أستاذ..
- .............
- أنا ألقيت السلام فلي 69 حسنة، وإذا رددت أنت تحصل على حسنة واحدة فقط، ألا تريد حسنات!!!
قاطعها وهو يزمجر في وجهها بغضب:
- كيف تركتها لوحدها في الطريق؟!
ازدردت ريقها وقد جفلت من نبرة صوته:
- من تقصد؟!
- أقصد "جميلة" فلا تتغابي..
"أنا غبية!!! ماذا عن اختبار "وكسلر" الذي طبقته على نفسي ونتج أني ذكية، من منهما الصادق؟! بالطبع الاختبار، إنهُ يريد أن يشكك في ذكائي ليس إلا هذا الغبي!!"
واستجمعت شجاعتها وهي ترد عليه بإندفاع وقد لوت فمها:
- لقد كذبت علي، قلتُ لها منذُ البداية ادفعي ديناراً واحداً ثمن البنزين ووافقت، وحين أتممنا العمل أخرجت لي 500 فلس، تصور!! قالت لي إن هذا ما تملكه فقط تلك الكاذبة البخيلة...
- أتتركينها في الشارع وفي عز الظهيرة من أجل 500 فلس؟!!
شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تقول:
- وهل تعتبرها قليلة!! من أين لي ثمن البنزين كل يوم؟! أنت لا تعطيني راتباً رغم كل ما أبذله من جهد ومشقة في العمل حتى أنكسر ظهري، ووالدي فقير، نحنُ فقراء، لا نملك مالاً كثيراً كالذي في محفظتك!! تريدني أن أسرق؟!!
تطلع إليها بصدمة ثم ما لبث أن أخرج محفظته من جيب بنطاله وهي تراقبه:
- خذي هذه الـ 500 فلس المتبقية.
صاحت بإستنكار:
- 500 فلس!! أريد ديناراً كاملاً، تخالني أخذتُ منها شيئاً، لقد ألقيتُ حفنة النقود التي أعطتني إياها من النافذة!!
وبان على وجهه عدم التصديق فردت بمراوغة:
- أ..أ سأعطيها إياها بعد أن تعود، فمهما كان النقود نعمة من عند الله.
وتناولت منه الورقة الحمراء لتدسها في حقيبتها وهي تدافع عن نفسها بإيمان:
- لا تخالني مادية، أنا أكره النقود، إنها تحرق يدي!!
وابتسمت ابتسامةً عريضة...
نظر إليها من رأسها لأخمص قدميها وكأنهُ يقيم بعوضة فشعرت بالمهانة وابتلعت ابتسامتها.
- أين هي الآن؟!
ردت عليه والحقد يشعُ من عينيها:
- إنها بجانب محطة البنزين في منطقة "........" تشم رائحة البترول!!!
لم تبالي بنظرة الاستهجان التي اتسمت على وجهه وأردفت وعيناها تضيقان:
- ماذا أفعل لها؟! هي قالت لي أنها تحبُّ رائحته، أنت لا تعرفها مثلي، إنها من ذلك النوع المدمن على هذه الروائح، أحياناً أراها تجلب صمغاً وتشمّه وهي جالسة تحت الطاولة، أنا أخافُ منها، خذها مني نصيحة: أطردها وارتح منها.
- حقاً!!! لقد قالت لي كلاماً آخر، قالت أنكِ هددتها إن لم تدفع ستلقينها إما في "الصخير" حيثُ لا أحد هناك أو ستلقين بها في المحطة المليئة بالعمال الهنود.
- أنا خفتُ على الجمال الموجودة في "الصخير" أن تموت عندما تركبها تلك السمينة ثم هي كاذبة فلا تسمع لها بل صدقني أنا. ردت بإنفعال.
- أنتِ لا جدوى منكِ إطلاقاً في أي شئ، هيا قومي معي لنجلبها.
- من؟! أنا!!
- أجل أنتِ.
ضربت على صدرها وهي تصيح:
- تريدني أن أذهب معك في السيارة لوحدنا؟!! لو علم والدي سيذبحني لا محالة، و "عمر" و "وليد" سيسلخان جلدي وسأصبح مشوهة...
وأخذت تتخيل شكلها بعد الذبح والسلخ فصرخت بلا شعور:
- كلا، كلا مستحيل، ليس أنا، ليس أنا.
وانتبهت لنفسها وهي تصرخ، وأخذت تتلفت حول المكان فرأت "أشجان" وهي تغطي وجهها بالملف المهتز بين يديها..
تطلعت بإرتباك إلى المدير الذي كان يحدجها بنظرة شك وارتياب، فابتسمت له ببلاهة وهي تعلل بصوتٍ منخفض:
- كنتُ أقصد من هذا الكلام أنني من عائلة محافظة ليس إلا..
- بإمكانك أن تلحقيني بسيارتك.
- سيارتي نفذ منها البنزين، كم مرة قلتُ لك ذلك.
وأطبقت فمها وهي ترى وجهه يظلم فجأة فأطرقت للأرض بإستكانة...
- سأنتظرك بالأسفل. ردّ بحسم.
مطت شفتيها لفترة طويلة ثم زمته وهي تتابع طيفه الذي اختفى بسرعة..
تنهدت وهي تخاطب "أشجان":
- يا له من رجلٍ مريع!! الناس الآن باتت لا تبالي بالأخلاق!!
- وهل ستذهبين معه فعلاً؟!
- سأذهب، أتحسبينني أخافُ منه!! ردت بلا مبالاة.
ثم أخرجت مرآتها الصغيرة من حقيبتها وبعد أن استوثقت من منظرها زفرت وهمت بالإنصراف لكنها توقفت بعد بضع خطوات:
- أشجان..
- نعم!!
- لديكِ رقم هاتفي؟!
- أجل.
- وتعرفين الطريق إلى منزلنا؟!
- أجل أعرف.
- أنا أرتدي الآن سلسلة فضية بإسمي في حال قُطعت جثتي.
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم بدأ صوتها يتهدج:
- "أشجان" سلمي على أبي وأخوتي وقولي لهم أنني من حرقتُ القفص وهرّبتُ طيور الكناري!!!
وبكت الفتاتان وهما تتعانقان وقد اندمجتا في تلك اللحظة المأساوية.
وتركتها "ندى" بعد أن حملتها الأمانات الثقال!!! وحين نزلت وجدتهُ ينتظرها، فركبت في المقعد الخلفي.
أدار محرك سيارته مع أنغام "بحرين أف أم" فانتابها الذعر فصاحت:
- هيه أنت، أنا لا أسمع الأغاني الآن، لقد قاطعتها، من يسمعها لا يسمع ريح الجنة، لا أسمعها، لا أسمعهاااااااااااااااااا.
واستدار إلى الخلف وهو ينظر لها بإستنكار من هذا الزعيق المفاجئ..
وتمتم بشئٍ ما لم تسمعه وهو يوقف المسجل، فعادت لتستند على مقعدها وهي تتنهد بإرتياح، لكن السكون سرعان ما خيم حول المكان فاستفز حواسها، أخذت تتلفت في مكانها وهي تفتش عن جريدة، قصاصة ورق، أي شئ لكنها لم تجد أياً منهم، كانت السيارة نظيفة تماماً!!!
حنت بجذعها إلى الأمام وهي تصيح بالقرب من أذنيه:
- حر، حر،حرررررررر، أنا لا أستحمل الحر، شغل المكيف، الكريمات التي وضعتها على وجهي قد سالت.
وأوقف مكابح سيارته فجأة حتى كادا يصطدمان بالسيارة التي تسير أمامهم..
تراجعت إلى الوراء بسرعة وهي تسمع صوت سبابه وكلماتٍ لم تسمعها قط في حياتها من قبل...
أغلقت إحدى عينيها وهي تتلقى صراخه كالرشاش:
- أنتِ ماذا أيتها الحمقاء الغبية؟! لقد كدتُ أرتكبُ حادثاً بسببك، ألا تعرفين أن تتحدثي بهدوء!!
مدت فمها بإستياء وهي تتأفف بصوتٍ منخفض:
- ماذا كلامي لا يعجبكِ؟!
ردت بتذمر:
- بل يعجبني، كل شئ يعجبني، العمل يعجبني، سيارتك تعجبني، "جميلة" تعجبني، الطريق يعجبني، كل شئ!!!
وهزّ رأسه بإستنكار وهو ينظر إليها من مرآة سيارته...
فتحت حقيبتها وأخرجت لها "علكة" مضغتها بتأنٍ لعلها تهدأ، لكن العلكة تلكأت بين أسنانها وهي تتذكر حوادث اختطاف فتيات قرأتها في الجريدة عن أرباب العمل وبقي مصيرهن مجهولاً حتى اليوم...
اختلست النظر إليه من المرآة لتستوثق من منظره، أيبدو من هؤلاء؟!
وتخيلته بلحية كثة وشارب طويل ذكرها بمجرمي الأفلام الهندية التي تُدمن على مشاهدتها ليالي الخميس فارتاعت..
أخذت بلا شعور تدق زجاج النافذة بقوة بأصابعها وهي تصيح:
- افتح النافذة، لا يجوز، سيدخل لنا الشيطان.
وبهت الرجل في مكانه، واستدار لها دون أن يوقف محرك سيارته وقد بدا وجهه محتقناً...
رد بصوتٍ مصرور وقد طفح الكيل منه:
- أنا الآن من سيفتح النافذة ولكن لألقيكِ منها أيتها الشيطانة المجنونة!!
- أنت "شِيطان سنداباد" الذي أراد قتل "شاروخان".... لا... مستحيل...
وأخذت تصيح بإنفعال فأوقف سيارته في زاويةٍ ما وهو في حيرةٍ كبيرةٍ من أمره..
"عمن تتحدث هذه المجنونة!!"
- تريدين أن أوقف لكِ سيارة "أجرة" كي تطمئني ؟!
- كلا.
- تريدين أن تخرجي من السيارة؟
- كلا.
- تريدين أن أتصل بذويكِ؟!
- كلا.
- ماذا تريدين إذاً؟!
- سُق بسرعة كي نصل.
قالت ذلك وهي تمسح دموعها بطرف خمارها، فعاد ليقود والصدمة تعلو وجهه من تصرفاتها الغريبة، إنها ليست طبيعية البتة!!!
- هيه، أنت!! نادته بحدة.
وشعر بالخوف لأول مرة منذ أن ركبت معه.
- إذا وصلنا إلى هناك فلا أريدها أن تجلس بجانبي، دعها تجلس بجانبك أنت!!
وزمت فمها بتكبر وهي تعقد ذراعيها وتنظر للنافذة وكأن شيئاً لم يكن...
"غير معقول..غير معقول!!!!!" ردد في نفسه.
==========
تقلبت "شيماء" على فراشها وهي تضغط بوسادتها الأثيرية على رأسها علها تبعد طيف أسئلته المحرجة الذي ما فتأ يسألها عنها ظهر هذا اليوم....
ورغم ممانعتها إلا أنهُ ألح وأصر بحجة أن العلاج يقتضي ذلك!! كم كرهته تلك اللحظة وشعرت بالمقت ناحيته...
وحين سلمته ظرف الأشعة وفحوصات الأطباء السابقة تعمد أن يمسك يدها، أجل لم تكن بالصدفة، كان يقصدُ ذلك وعيناهُ الخبيثتان تشهدان بذلك....
كيف يجرؤ على ذلك، كيف؟!!!
لن أذهب إليه أبداً مرةً أخرى، أبداً، أنا لا يهمني الأطفال، لا يهمني إلا ناصر....
ولكن!!!!!
و دفنت رأسها في وسادتها بعد أن أرخت قبضتيها و بكت بصمت...
(14)
لاح هلالُ محرم كقاربٍ وحيد تائهٍ في لجة لا متناهية من الظلمات....
بدت السماء شاحبة، مائجة كمحيطٍ في عينيها السوداوين...
ابتعدت عن النافذة وهي تتنهد، وجلست على حافة السرير تنظر للباب بإستغراق...
أتجرؤ؟!!
و وقفت على قدميها بتصميم...
توجهت إلى غرفته و رفعت أناملها لتخدش بابه...
وقبل أن تطرقه انفتح على مصراعيه ولاح لها صاحب العينين الخضراوين..
تبخرت شجاعتها وهي تتراجع للوراء، أخفضت يدها وضمتها خلف ظهرها وهي تطرق للأرض.
قالت بسرعة وبصوتٍ هامس:
- أريد أن أزور خالي إن لم يكن لديك مانع.
وعادت لتتنهد وكأنها أزاحت حملاً ثقيلاً عن صدرها...
وانتظرت رده لكن لا جواب...
وأخيراً رفعت رأسها إليه بتوجس....
كان يجول ببصره حول ملابسها المكونة من قميص وبنطالٍ أسودا اللون ما خلا من ورود بيضاء صغيرة ناعمة زينت حاشيته...
خشيت أن يطلب منها أن تغير ملابسها كما حدث في ذلك اليوم، لكنها لن تقبل هذه المرة، هذا من معتقدات مذهبها بل من صميمها ولا يحق له أن يفرض رأيهُ عليها...
و رفعت نظرها إليه بتحدي لكن عيناه بدتا حينها خاويتان من أي تعبير، سأل بجمود:
- الآن؟!
- أ...لا، بل في الغد، كلهم يجتمعون يوم الجمعة.
وأوصد غرفته ولم يعلق وكأن في صمته الإجابة، فشعرت بالإحباط دون أن تدري السبب..
وسار عنها وهي تتابع خياله، فنادته بإنكسار :
- عمر!!
التفت إليها وهو يرفع حاجبيه بتساؤل:
- نعم؟!
ولم تدر ما تقول وحين أحست بطول صمتها أردفت:
- أريدُ أن أذهب هناك طيلة الأيام العشرة من محرم.
- لا مانع لدي حتى لو بقيتِ لديهم للأبد !!!
وصفق الباب خلفه...
===========
أينما رأته تحاشته وأخذت تمكث ساعاتٍ طوال في غرفتها على غير العادة، حتى أن "ناصر" لا حظ ذلك...
- ما بك؟!
- لاشئ..
- هل أنتِ مريضة؟! أتريدين أن أذهب بك إلى الطبيب؟
- قلتُ لك ليس بي شئ.
ونهضت من سريرها لكأنها تريد أن تثبت ذلك...
ابتسمت ابتسامةً باهتة و هي تقترب منه، وجلست على الكرسي بمحاذاته....
سألته بلطف:
- ماذا تقرأ؟!
- كتاب..
- ألا تسأم من قراءة هذه الكتب، أنا أفضل قراءة المجلات..
وأطبق ما بيده وهي يقول بتفكير:
- كيف أقولها لكِ يا عزيزتي، ولكن من المعروف- واعذريني- أن النساء رؤوسهن فارغة!!
- أنا رأسي فارغ!!
و مدت يدها لتضربه على صدره لكن قلبها لم يطاوعها فمست كتفه وكأنها تمسُّ ريشة، ردت بعتاب:
- هذا وأنا زوجتك وأمامك تهينني!!
- أبداً هذه ليست إهانة وإنما حقيقة..
وضحك بخفوت، أما هي فنظرت إليه بغضب في بادئ الأمر ثم ما لبث أن تلاشى وهي تراه يبتسمُ لها معتذراً:
- كنتُ أمزح معك..
- لا تتعب نفسك فلن أسامحك. ردت بدلع.
- هيا "شيووم" أنا آسف.
- تريدني أن أسامحك؟!
- هذا جل ما أتمناه.
- إذن أحضر لي هدية.
- فقط؟!
وأشار بأصبعه إلى عينيه وهو يقول لها بحنان:
- لو طلبتِ عيني فلن أتأخر..
نظرت إليه بحبٍّ جارف تجاوز حدود المكان والزمان...
كيف أغفلته، كيف سهت عنه، كيف لم تقدِّر ذلك القلب الذي طالما أغرقها بحنانه، بدفئه...
كيف تناست هذا كله في ذروة رغبتها بطفل!!!
وأخذ يتحدث و يعلق ضاحكاً وهي لا تسمع فقط تراقبه، تتأمله، هذا هو زوجها، أمسها ويومها ومستقبلها..
هو كل شئ بالنسبةِ لها، كل شيء...
وانتبه لشرودها فعلّق:
- بمن أنتِ سارحة الآن، أعترفي؟!
- لن أخبرك.
- إذن سأكمل قراءة كتابي.
- كلا، انتظر، كنتُ أفكر بك..
- ألم أقل أن رأسكن فارغ!!!
وابتسم، ولم تغضب هذه المرة بل أخذت تنظر إليه من جديد بحنو وهو يقلب الصفحات التي بين يديه...
أي خطيئةٍ كانت سترتكبُ بحقه؟!!!
============
بدا النهار صحواً، خالياً من الضباب ومن النجوم!!
الوقت يمر بطيئاً كسلحفاة كسول، حتى تلك الأشعة الذهبية المنتشرة في الأفق لا تلبث أن تتغلل لجسدك، تمنحك سمرة وشيئاً من الاكتئاب!!!
والحديث بينهما بات مقتضباً لكأنهما أصمان لا يتعاملان إلا بلغة الإشارات!!
الحياة هكذا لا تُطاق وقديماً قالوا: "جنة من غير ناس، ما تنداس"...
إنها تفضل الجحيم الذي يذيقها إياه على صمته، فعلى الأقل تحس بالحياة تدبُّ فيها، تشعر بأنها كيان موجود، وليس حطاماً رُكن على الرف...
أم تراه ذلك السادي قد صيرها مع الأيام "ماسوشية"!!!
و وصلا، وما أن توقفت السيارة حتى ترجلت منها دون أن تنتظره، ودفعت الباب الذي كان نصفه مفتوحاً...
ولجت إلى الداخل وابتسامة كبيرة على شفتيها وما أن رأتها "ندى" حتى هتفت بإسمها وهرعت لتعانقها...
وشعرت بالسعادة تغمرها وهي تراهم مجتمعين كلهم عدا، عدا "شيماء"!!!
وسألت عنها:
- أين هي؟!
- إنها تستيقظ متأخرة هذه الأيام..
والتفتت إلى خالها وهو يمد يدهُ إليها:
- اقتربي يا ابنتي، أريدُ أن أراكِ عن كثب، فلا أدري إلى متى يريد ابني "العاق" أن يخفيكِ عنّا!!
وجلست بجانبه وهي تطرق رأسها خجلاً...
- أخيراً أحضرتها هنا.. ردّ الأب بعتب.
- زوجتي ولا أستطيع الاستغناء عنها...
ورفعت رأسها بسرعة لتراه يبتسم وهو يصافح أخوته...
إنه يجيد هذه التمثيلية جيداً...
دور السعيد!!
هي ليست مثله، لا تُجيد التمثيل لا هنا ولا هناك!!!
وتقدم من والده فسقطت عيناهُ عليها وسرعان ما تلاشت الابتسامة عن شفتيه...
انسحبت بهدوء، إلى الوراء، إلى لا مكان!!!
ووقف خالها ليعانقه وهو يربت على ظهره وهو يمازحه:
- لقد أصبحت نحيلاً...
والتفت إلى "غدير" وهو يسألها بلوم:
- ألا تطعمينه يا "غدير"؟!
وبدت وكأنها أخذت على حين غرة من سؤاله، بانت علامات الذنب على وجهها حمراء مهينة والعيون ترصدها لتتلقف إجابتها..
ماذا تقول لهم، أنهُ يأمرها بأن تعدَّ له طعاماً كل يوم وحين يجهز يرفض تناوله وهكذا دواليك!!
عضت على شفتيها دون أن تنبس ببنت شفه وهي ترمش عيناها بسرعة كأنها تريد أن تجعل منها ستاراً يحجبها عن الآخرين....
وأحست بيدين دافئتين على كتفتيها فسرت في جسدها رعدة كالتيار...
التفتت إليه خلفها و بلا شعور وضعت كفها على إحدى يديه، تستمد منها الأمان!!
وضع يده الأخرى على يدها وهو يضغط عليها بخفة:
- أنا و زوجتي أحرار، كفاكم فضولاً!!
وعادت الضحكات والهمهمات لتسري في المكان....
وابتعدت اليد هي الأخرى!!!
=========
- لم قلتِ له أنني من أريدُ ذلك؟!
- لم يكن ليأبه بي لو طلبته بإسمي، ثم ألم تقولي أنكِ لا تملكين قطعاً سوداء كافية في خزانتك!!
- أنتِ مستحيلة!!
- كفي عن الثرثرة، إنه ينتظرنا.
وتناولت "ندى" حقيبتها وهي تدفع "غدير" أمامها...
لم يكن "المجمع" بعيداً فسرعان ما وفدوا هناك...
سارت الفتاتان معاً يتبعهما "عمر" بصبر...
كانت "ندى" تقفز من محل لآخر وهي تجر "غدير" من يدها و تلقي عليها محاضرة عن الموضة وخطوط الأزياء!!!
- "ندى" لقد تعبت، فلنسترح هنا..
لكن الأخيرة لم تكن تسمعها، كانت تصوب عينيها بدهشة في زاوية ما...
- ماذا بك؟!
- تصوري من هنا!!!
- من؟!
- المدير!!! قالتها بصوتٍ عال.
- أخفضي صوتك، "عمر" وراءنا، ثم أين هو لا أراه.
- ذاك الذي يحتسي القهوة في "لاميزون دي كافيه".
- يوجد عشرات الأشخاص هناك، كيف لي أن أعرفه!!
- تعالي سأريكِ إياه عن كثب...
- ماذا عن "عمر"؟
استدارت "ندى" إلى ذاك الأخير وهي تشير إليه بأن يأتي:
- أخي العزيز سنذهب إلى ذاك المحل، صدقني هذا آخر مكان سندخله.
- كم مرة قلتِ ذلك!!
- عمر!!
- لقد تأخر الوقت، هي 5 دقائق إن لم تنتهي أخذتُ زوجتي وتركتك هنا..
- هي من تريد أن تذهب إلى هناك وليس أنا.
لكزتها "غدير" في ذراعها وهي تخاطبه بخجل:
- إنها تكذب، لم أقل ذلك.
ونظر إليها وعلى شفتيه وميض إبتسامة صغيرة لكن "ندى" قطعت عليهما المشهد وسحبتها معها وهي تخاطبه من بعيد:
- انتظرنا هنا، لن نتأخر.
و اختبئتا خلف عمودٍ كبير، قالت بصوتٍ منخفض:
- ذاك هو، الذي يعبث بـ"اللاب توب"، حتى في المجمع لا ينفك عن العمل!!
- آه، هذا هو المدير إذن، لا بأس به!!
- لأنكِ لا ذوق لكِ، هذا أفظع وأسمج رجل عرفته بعد "براد بيت"!!
- من هذا براد بيت؟!
- جارنا الذي يسكن في البيت المجاور!!
- هيا لقد تأخرنا، "عمر" سيغضب.
- لا عليكِ منه، ما دمتِ معي فلن يقول شيئاً...
واستدارت "غدير" إلى حيثُ تركاه، كان مندمجاً في حديثه مع أحد الأشخاص...
أحقاً ما تقول؟!!
وتأملته في وقفته تلك وقد نست ما حولها
بالفعل هو لا يرد لها أي طلب، ليتهُ يبقى لطيفاً هكذا للأبد!!
- انظري...
وضحكت "ندى" بخفوت:
- يبدو أنها أفلتت من شرطة الآداب..
ونظرت "غدير" إلى حيثُ التفًّ الناس حول شقراء طويلة، ملابسها كانت حدِّث ولا حرج!!
- كأني قرأتُ مرة قانوناً ينص بالحد الأقصى لطول "التنورة"... علقت "ندى".
- إنها فاتنة جداً..
- أنا أحلى منها!!!!
ثم أردفت:
- اسمعي دعينا نذهب لأحد حراس الأمن ونبلِّغ عنها..
- هذا أحدهم، قد انضمّ مع المتفرجين!! ربما كانت نجمةً سينمائية؟!
- ليست كذلك، أنا أعرفهم كلهم.
وصدت للجانب الآخر وما لبثت أن شهقت بصوتٍ عالٍ:
- انظري كيف يطالعها قليلُ الأدب، عديم التربية..
- من؟!
- ومن غيره!! المدير...
- وما شأنكِ أنتِ؟!
- ما شأني؟! أهذا سؤال تسأليني إياه، هذا مديري، مديري أنا ألا تفهمين؟!
وتابعت بحرارة:
- ثم، أنسيتِ نحنُ نعمل معه ومعظمنا فتيات، إذا تفتحت عيناهُ الآن على هذه المرأة فربما ستتفتح عيناهُ علي وهذا هو الاحتمال الأكبر!! ثم على بقية الفتيات!!!!
- !!!!!!!
- سأفضحه، سأخبر كل من معنا في العمل عن سلوكه المشين!!
- أين ستذهبين أيتها المجنونة؟!
- ألا ترينه، يكادُ يقفُ لها كلما مرت بجانبه، اتركيني سؤأدبه، سأريه من هي "ندى"..
وأفلتت من قبضة "غدير" وهي تمشي كالسيل الهادر...
و وصلت إلى طاولته وهي تدقُّ الأرض بقدمها اليمنى، قالت بصوتٍ مصرور:
- ألا تخجل من نفسك؟! رجل في مركزك وسنك ينظر لهذه الأشكال...
وأجفل من وجودها المفاجئ أمامه هكذا...
ضربت يداً بيد وهي تردد:
- رجال آخر زمن، آخر زمن، تتظاهرون أمامنا بالشرف والأدب وحين نغفل عنكم ولو لثانية أظهرتم وجهكم الحقيقي..
- ......................
- وأنا أتعب نفسي يومياً أمام المرآة ولم تقل لي شيئاً مرةً واحدة حتى لم تكن تنظر إلي!!!
- .....................
- أتعرف كم أتكبد في بداية كل شهر وأنا أتبضع في السوق كي أشتري شالاً بلون حذائي..
ورفعت قدمها قليلاً لتريه حذائها الزهري:
- ألا تراه جميلاً؟!! ألا يعجبك ذوقي؟!
أخذ يطالعها مصعوقاً دون أن توقف لسانها...
- ثم ماذا بها كي تنظر إليها دوني أقصد دون الفتيات المحترمات، أتعتقد أن عينيها فعلاً زرقاوان، كذابة، كذابة، ثم كذابة، تلك عدسات ملونة، كلها صناعية محقونة بـ"البوتكس" و "الكيلاكوجين"، أما أنا فمحلية مائة بالمائة...
ثم استدركت وكأنها تذكرت شيئاً ما:
- ماعدا رموشي، فلقد سقطت من العقص واستخدام الماسكرا والسبب أنت!!!
وصاحت بصوتٍ عال:
- أجل أنت، لا تنظر إليًّ هكذا، قالوا رموش العين تذبح وسقطت رموشي كلها وأنت كالجمل في مكانك...
- !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
- أرجوك لا تبرر ولا تكلمني، ما بيننا قد انتهى والسبب عيناك الفارغتان، أرجوك يكفي لا تحاول معي..
ولوت شفتيها بقرف وهي تعطيه ظهرها وبقيت هكذا برهة ثم عادت لتستدر وعيناها نصف مغمضتان:
- وداعاً..
وسارت عنه كما جاءت وآلالاف الشياطين تتراقص أمام عينيها حتى أنها تجاوزت "غدير" دون أن تشعر....
ولم تنتبه لها "غدير" هي الأخرى، كانت عيناها شاردتان في "عمر" الذي يبدو أنه تناسى وجودها ووجود أخته وأخذ يحدق في تلك المرأة الشقراء كبقية الرجال...
وغاص قلبها، شعرت بأنها تهوي وتعود لتطفو مرةً أخرى على رمالٍ لا قرار لها...
وأشتعل شئ في صدرها، شئ غريب، غريب ومهين في آنٍ واحد!!
وتمنت لو أنها لم تأتي إلى هنا، بل الأسوأ أنها تمنت لو أن زوجها لا يملك عينان!!!!
وقبضت على حقيبتها بقوة وهي تقاوم الاضطراب الذي يعتمل بداخلها، حزينة وغاضبة، ثائرة وخامدة، كنبعٍ فوار في بركةٍ آسنة كانت هي تلك اللحظة....
وسمعت صوتاً يناديها فالتفتت لندى:
- أنتِ هنا وأنا أبحثُ عنكِ في كل مكان...
- .....................
- لم تسأليني ماذا فعلتُ به!! لقد أدبته!!
"يا لحظك، ماذا عن ذاك؟!!"
- تصوري لم ينبس ببنت شفه، يبدو أنهُ خجل من نفسه...
- ....................
- أتعتقدين أنهُ سيقول لي شيئاً في الغد عما فعلتهُ اليوم، لا أتصور سيفضح نفسه حينها..
ثم أردفت بقلق:
- لقد صرختُ عليه، ولكن إذا واجهني سأنفي كل شئ، سأنفي حتى أنني رأيته بالمرة!!
- ما رأيك يا "غدير"؟!
- لم لا تتكلمين؟! أين عمر؟!!
"إنهُ هناك لم يخفض عينيه عن تلك المرأة ولو لبرهة، نسيني منذُ أن رآها"..
- لقد رأيته، هيا تأخرنا فلنذهب بسرعة قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه..
"ماذا بعد ذلك؟!"...
وسارت معها بإنكسار و بشئ من خفي حنين ووصلوا إليه دون أن ينتبه، مسّت "ندى" كتفه وهي تقول بعجل:
- هيا، لقد انتهينا من الشراء..
- لا أرى في أيديكما شيئاً..
- سنأتي يوماً آخر، لم تعجبنا بضاعتهم!!!
والتفت إلى "غدير"، كانت تطالع الأرض دون أن تسمع ما يقولا..
خاطبها بقلق:
- ما بك؟!
- ..........
- غدير!!
ورفعت رأسها وهي تنظر لعينيه الخضراوين بألم:
- لا شيء..
- هيا بنا إذن..
وركب الثلاثة السيارة صامتين، كلٌّ سارح في خطى أفكاره....
وما أن نزلت "ندى" حتى عاد ليخاطبها من جديد:
- ما بك؟!
- قلتُ لك ليس بي شيء. صاحت بعصبية.
رفع حاجبيه بدهشة ثم هزّ رأسه وهو يتابع القيادة..
و مدّ يده ليضغط على زر المسجل وكانت نشرة الأخبار...
وانقطت النشرة فجأة فطالعته بحدة وهي تقول:
- رأسي يؤلمني، لا أريدُ أن أسمع شيئاً!!!
وما أن وصلا حتى خرجت بسرعة دون أن تغلق الباب، لحقها وكانت بإنتظاره!!!
ألقت بحقيبتها على الأرض، فسألها بإستنكار:
- ماذا جرى لكِ هذا المساء!!
- ماذا جرى لي أم ماذا جرى لك أيها المحترم!!!
- أنا لا أفهم شيئاً مما تقولين..
انفجرت في وجهه وهي تنظر له بإزدراء:
- تخالني لم أرك كيف تنظر إليها؟!
- عمن تتكلمين؟!
- عن تلك المرأة التي لم تبعد ناظريك عنها منذُ أن دخلت..
- أنا لم أرى أحداً ولم التفت لأحد.
- لا تكذب..
- انتبهي للسانك..
- بالطبع ستنكر، فهذا طبعكم دوماً، الغش والخداع يجري بدمائكم..
- لا يهمني إن صدقتني أم لا... ردّ بنفاذ صبر.
- لم لم تذهب إليها أو ربما أخذت رقمها دون أن أدري!! وغطت وجهها وهي تبكي بصمت.
وأمسكها من ذراعها وهو يصرخ بشراسة:
- قلتُ لكِ لم أفعل شيئاً.
- أنت كاذب..
- اخرسي..
وانكمشت في مكانها وهي تغمض عينيها بقوة...
أردف وهو يصيح:
- وحتى لو كنتُ أنظر إليها فعلاً فهذا من حقي!!
فتحت عيناها وهي تردد كلامه بإستنكار:
- من حقك؟!
- أجل من حقي..
- أنسيت أنك متزوج؟!
- حقاً، لم يخبرني أحد بذلك من قبل!! قالها بسخرية.
وهدأت ثائرتها قليلاً وهي تفرُّ بنظراتها للأرض...
وأردف وهو يتأمل تعابير وجهها بإنتباه شديد:
- وليكن بمعلومك أنني أفكر جاداً بالزواج بأخرى.
ورفعت وجهها الذي أحتقن فجأة وهي تردد دون تصديق:
- ماذا؟!
- ما سمعته يا عزيزتي..
- كلا، لن تتزوج، لن تتزوج. صاحت بجنون.
- آسف، لم تتركي لي خياراً آخر، لا تقلقي لن أطلقك، سأبقيكِ على ذمتي معززة ومكرمة هنا أو عند والدي إذا شئتِ!!
أسمعت عن الدجاجة التي ترقص ألماً؟!
وكأنّ مسّاً أصابها من كلماته التي رنّت في أذنيها كالسندان، أخذت تضربه على صدره بما تبقى لها من قوة، كانت تشهق بتقطع وهو واقف بلا حراك ينظر لها بإهتمام...
أمسكت ياقة قميصه بكلتا يديها وبكاءها يرتفع:
- لن تتزوج أسمعت!!
- أمنعيني إن استطعتِ. ردّ بهدوء.
مسحت أنفها وهي تقول بتهديد:
- سأخبر خالي، سأخبره بما تودُّ فعله.
وبرقت عيناه بغضب:
- أتخالينني طفلاً كي تهددينني بوالدي؟! لا تضطرني أن أفعلها والآن!!
- لن تقدر، لن تجرؤ... صرخت.
ورفع أصبعه في الهواء بتصميم:
- والله العــ....
وضعت يدها بسرعة على فمه بإرتياع قبل أن يكمل...
نظرت إلى عينيه بتوسل ودموعها تذرف بملوحة وبمرارة تمرغ بها قلبها...
لكن عيناه قالتا شيئاً آخر، لا زالتا صلبتان، لم تستجيبا لتوسلها الصامت...
وتهاوت يدها إلى جانبها بضعف وكادت أن تهوي هي الأخرى لكنهُ أمسكها فدفنت وجهها في صدره وهي تنشج بصوتٍ خافت كنشيج الميازيب في مواسم المطر!!
حينها فقط أطبق عينيه بألم...
"سامحيني يا عزيزتي، كان لا بد أن أقول هذا، ليس من أجلي فقط بل لأجلك، لا زلتِ صغيرة ولا تفهمين!!"..
==========
- "جميلة".."ندى" كفاكما. صاحت "أشجان" بيأس.
لم تبالي "ندى" بصياحها وأردفت وهي تغرز أصبعها في جيد "جميلة".
- اشكري ربكِ لولاي لكنتِ جثةً مجهولة الهوية!!
- لولاكِ أم لولا خوفك من المدير لأنهُ حينها كان سيطردك شرّ طردة.
شهقت بصوتٍ عالٍ وهي تضع كلتا يديها على خصرها:
- سيطردني؟! كم أنتِ واثقةٌ بنفسك، يا عزيزتي المدير لا يقدر أن يستغني عني ولو للحظة واحدة، وكل طلباتي لديه أوامر، أتسمعين!!
ضحكت "جميلة" بجفاء وهي ترد بسخرية:
- لا يستغني عنك؟!! لا أدري من تلك التي يمسح بها الأرض يومياً وكأنها ذبابة، لا شي!!
- أخرسي يا مدمنة "الحشيش".
- أنا مدمنة "حشيش"، أشهدي عليها يا "أشجان" أمام المدير عندما يأتي، وأمام الشرطة لأني سأشتكيكِ بتهمة القذف والتشهير العلني.
كتفت "ندى" ذراعيها وهي تعلق بإستهزاء:
- أخفتني، بُصيلات شعري ستسقط رعباً من تهديدك.
وأردفت بصوتٍ مصرور:
- أنتِ ومديرك والشرطة تحت حذائي هذا ولو أنكم لا تساوون فردةً واحدةً منه!! وبإشارة واحدة من أصبعي سفرتكم إلى بلادكم لأنكم لا تبدون "بحرانيين" مائة بالمائة، لا بد أنكم من المجنسين!!!
وشعرت بلكزة خلفها فأخذت تحكُ ذراعها وهي تتابع:
- لا تنظري إليّ هكذا أيتها البلهاء الغيورة، أجل غيورة لأنني أجملُ منكِ وأصغر سناً والكل يحبني حتى مديرك المغرور وإن أظهر خلاف ذلك!! لو رأيته البارحة كيف كان يلاحقني في المجمع لكنني...
وعادت اللكزة أقوى من السابق فاستدارت للخلف وهي تتأفف:
- ماذا لقد حطمتِ ذ.....
ولجمت لسانها وفمها مفتوح تطالع الخيال الذي ظهر أمامها فجأة بذهول، وحين استوعبت شخصه صرخت صرخةً قوية زلزلت المكان...
وقطعت صرختها وهي تغطي وجهها بكفيها و تدورُ في مكانها كالعمياء...
وداست على قدم "أشجان" دون أن تدري ولم تعتذر رغم صراخ تلك الأخيرة، كانت الصدمة قد شلت حواسها وهي تستعيد في مخيلتها ما قالته عنه..
- قفي مكانك.. صاح فيها بغضب.
وجمدت في مكانها كتمثال وكفاها لازالا يحجبان وجهها.
- ويدكِ أيضاً أبعديها!!
وامتثلت لأمره وعيناها نصف مغمضتان، فبان لها ذقنه ورقبته فقط...
بللت شفتيها وهي تقول بهمس:
- أبي صدمته شاحنة البارحة و و..زوجة أخي ستلد، أجل ستلد اليوم!!!
- .................
- برأيك ماذا ستنجب ولداً أم بنتاً، حقيقةً أنا أفضل البنات، ماذا عنك؟!
وحاولت أن تبتسم لكن وجهه المكفهر حطم معنوياتها فازدردت ريقها وهي تقول بتقطع:
- أنا..أنا مريضة، الطبيب شخص حالتي وقال أنني أعاني من شئ غريب لم يكتشفوه بعد، أتصدق!!! سترك يا رب...
وقضمت أظافرها وهي تردد هذه العبارة في سرها بحرارة..
ورفعت رأسها وكأنها تذكرت شيئاً مهماً:
- هل سمعت هذا الخبر: حزب الله قرر قصف "تل أبيب"..
- ....................
- خبر قديم، أعرف...
- آه، حلا شيحا تطلقت من زوجها، لكن ربما لا تعرفها.
وتوقفت عن القضم وهي تقول بتباكِ:
- أريدُ أن أذهب للحمام.
وأرادت أن تخطو إلى البعيد قليلاً لكن جذعه كان لها بالمرصاد..
وأشار إلى مكتبه فكادت تخر مغشياً عليها وهي تندبُ حظها العاثر:
- غداً، غداً إن شاء الله سآتي مع والدي لنحل الموضوع.
وبكت في خاطرها بصمت، وسمعت صوته يسخر بقسوة :
- والدك في المستشفى الآن، أنسيتي؟!
أدارت وجهها المضطرب في وجه "أشجان" الذي بدا صغيراً جداً، بدا ضبابياً!!!
ثم التفتت لجميلة كان وجهها جامداً هذه المرة، لم ترى ابتسامتها الشامتة على شفتيها!!
حتى هي تشفق علي، سترك يا رب!!
وسارت إلى الأمام وقد مرًّ في ذهنها صورة معزة صغيرة ذبحها والدها بجانب بيتهم عندما انتقلوا إليه لأول مرة، وبعدها قاطعت اللحوم، رفضت أن تأكله لبضع سنوات لكن الوجبات السريعة حلت لها تلك العقدة...
"مسكينة أيتها المعزة"!!! رددت..
(15)
دخلت إلى مكتبه قبله و صوت الباب يُصفق خلفها بعنف..
صرّت عينيها و أذنيها بقوة...
و أخذت تدعو في سرها و تنذر عشرات النذور كي تسير الأمور على خير!!
جلس على مقعده الوثير وأصابعه تدقُّ على سطح الطاولة...
كانت الدقات تزحف إلى رأسها ببطء وقوة كدقات المطرقة على المسمار...
واستمرّ الدق هكذا وبدا سيد المكان تلك اللحظة...
فتحت إحدى عينيها المزمومتين بتوجس لتستشفّ معالم وجهه، لكنها لم ترى شيئاً!!!
لم ترى غضبه، غطرسته، أوداجه التي تنتفخ كلما رآها!!!
فقط كان يطالعها بإزدراء!!
فتحت كلتا عينيها وهي ترمشهما بسرعة وقد بهتت من نظرته تلك...
و رأته يسحب ورقة من على المنضدة و يكتب فيها بسرعة...
و هوى قلبها....
أرادت أن تتقدم لعلها تسترق شيئاً مما يخطه بيده، لكن رجلاها تجمدتا من الخوف...
تحركت شفتيها بإضطراب و أخيراً سألتهُ بصوتٍ غائب:
- ماذا..ماذا تكتب؟!
- ..................
- تكتبُ شيئاً عني، صح؟!!
- ..............
- صدقني، أنا لم أقصد أن أقول شيئاً مما سلف، أصلاً أنا لم أقل شيئاً!!!
- ...............
- هي من تحرضني، هي من تدفعني لقولِ ذلك، إنها تستخدم جهازاً ما بالتنويم المغناطيسي، لا أعرف اسمه، يجعل شفتاي تتحركان بما لا أعلم، إنها "ساحرة"!!!
ورفع رأسه حينها لها فأسبلت عينيها وهي تتظاهر بالإستكانة و الضعف...
لكنها سرعان ما سمعت جرة القلم تعود من جديد...
"لا فائدة من هذا الظالم، لا فائدة منه!!!"
عادت لتقول بإستعطاف:
- أرجوك، لا تضيع مستقبلي، أريد أن أتخرج هذا العام...
- ...........................
- أعدك أنني سأحسن سلوكي، سأتوقف عن الكذب، عن التمثيل، سأصادق "جميلة" أيضاً إذا شئت!!
- ..........................
- لا تكتب عني شيئاً، أنا لا ذنب لي، أنا خلقني الله هكذا، لكنني سأتغير، سأتغير بصدق...
- ........................
- إذا علم والدي سيمرض، سيتقطع شمل عائلتنا، هم بحاجة لي، كلهم يعتمدون علي، أيرضيك أن نشحذ؟!!
و انطلق صوت بكاءها ليرتفع وهو لا يتوقف عن الكتابة!!!
أخذت تطالعه بحرقة وعيناها تكادان تقفزان من محجريهما من بروده...
- أليس لديك إحساس؟!
- ....................
- لقد أذليتُ نفسي لك أكثر من اللازم!!
- ...................
- حتى البكاء بكيت، ماذا تريدُ أكثر من هذا؟!
- ....................
- قلتُ لك توقف، توقف عن الكتابة!! صاحت بتهديد.
- اصمتــــــــــــــــــــي....
وصرخ بغضب وهو يلقى القلم الذي بيده في الهواء...
تابعته بفزع وهو يتدحرج على الأرض ويصل لأصابع قدمها....
نقلت بصرها بين القلم وصاحبه وهي تقول بخوف:
- أستاذ أنا....
- قلتُ لكِ أغلقي فمك، عندما أتكلم لا أريد أن يقاطعني أحد، صوتك هذا لا أريد أن أسمعه، مفهوم؟!!
هزت رأسها بذل...
- أنا للآن لا أعرف أنتِ ماذا بالضبط!! أنا لم أصادف في حياتي العملية و التي ناهزت الاثنا عشر عاماً موظفة مثلك!!
- بالطبع مثلي أنا لا يوجد، أتصدق!! الكثيرات يقلدنني ولكن أين الثرى من الثريا!! وأشارت لنفسها بحماس وقد نسيت نفسها.
تحركت عضلة صغيرة أسفل فمه وبدا كما لو كان يصارع شيئاً يودُّ قوله..
- أعوذُ بالله بالشيطان الرجيم..
- أنا شيطان؟!! سألته بإستنكار.
- اخرجي، اخرجي فوراً من هنا. صرخ بنفاذ صبر.
- لم تصرخ علي دائماً، ماذا فعلتُ لك؟!!
- ألا تفهمين ما يقال لكِ من الوهلة الأولى؟! أأنتِ صماء؟!
- حسناً سأخرج، لكن ماذا عن هذه الورقة ؟! كتفت ذراعيها.
- تريدين أن تعرفي ما بها؟!! سأل بتشفٍ.
عادت لتهز رأسها بسرعة..
مدّ الورقة إليها فأخذت تقرأها بنهم وعيناها لا تتوقفان عن الرمش، وبعد برهة امتقع وجهها وهي تطالعه...
صاحت بصوتٍ عال:
- ماذا؟!
- هذا أقل شئ تستحقينه!!
ردت بحقد:
- أستحقه؟! كل هذا لأني قلتُ عنك كلمتين!!
- تعترفين بذلك أيضاً يا قليلة الأدب..
- أنا قليلة الأدب يا حيوان!!!!
ووضعت يدها على فمها وهي تشهق بصوتٍ مكتوم....
تمنت أن تموت، أن تنشق الأرض وتبتلعها، أن يصاب المدير بالصمم لحظتها!!
ربما لم يسمع، لم يسمع!! أخذت تكرر في نفسها..
و تراجعت إلى الوراء وهي ترى وجهه يُظلم، يكفهر...
أخذت تتأتأ بإرتجاف:
- لا..لا تفهمني بشكلٍ خاطئ، هذه نظرية علمونا إياها في المدرسة.
- ......................
- أنت حيوان وأنا "ندى" و الناس حيوانات، ألم يقل "داروين" الإنسان حيوان ناطق!!!!
- ......................
- إذا كنت لا تصدقني سأحضر لك كتاب "الفلسفة" غداً.
- إذن اسمعي يا "حيوانة" منذُ الغد، لا بل منذُ اليوم سيطبق القرار، عملك هنا ينتهي الساعة التاسعة مساءاً ، وما أن تبدأ الفترة الثانية حتى تأتي إلى مكتبي كل يوم لأعلمك وأدربك فلدي أكوام من الملفات لا بد أن أنهيها، وأنتِ من فصيلة الحيوانات وتحتاجين للتدريب كي تفهمي!!!
- ....................
- تريدين أن أكرر عليكِ الكلام أم يكفيكِ هذا؟!
- ....................
- أريد أن أسمع جواباً، يكفي أم لا؟! صرخ بغضب..
و ألقت الورقة بسرعة من يدها وفرت من أمامه وهي تبكي بمرارة...
و تلقفتها "أشجان" في الخارج وهي تربت على ظهرها بحنو...
- هدئي من نفسك، هو دائماً هكذا. قالت بصوتٍ منخفض.
نزعت نفسها منها وهي تصرخ:
- هو ****، ذاك هو..
- "ندى"!!
وأشارت إلى "جميلة" بحركة خفيفة لكنها لم تبال واستمرت في صياحها:
- تخيلي ماذا يريد أن يفعل بي؟!!
- ماذا؟! سألت "جميلة" ببراءة.
فما كان منها إلا أن أزاحت "أشجان" عن طريقها وهي تقترب والشرار يتطاير من عينيها...
وضعت "ندى" أصبعها على فمها وهي تردد بتهديد:
- أصمتي، أنتِ السبب، أنتِ السبب في كل شئ..
تراجعت "جميلة" إلى الوراء بخوف وهي تنظر "لأشجان" بإستنجاد.
- "ندى" كوني عاقلة.
استدارت إليها وهي تعود للبكاء:
- عاقلة!! سيحبسني لديه كل يوم حتى المساء، كل يوم، كيف سأتحمله!!
- تحلي بالصبر، لم يبقى الشئ الكثير على فترة تدريبك. أخذت تواسيها.
صاحت بوعيد:
- لكنني سأجعله يندم، يندم على اللحظة التي وضع فيها هذا القرار، والأيام بيننا...
واتجهت لمكتبها والفتاتان تراقبانها بوجل وما أن استقرت عليه حتى طالعتهما بجمود وهي تعضُّ على شفتيها بقوة...
وتلكأ لسانها كثيراً قبل أن ينطق:
- أأنا من فصيلة الحيوانات؟!!
وعادت لتنفجر في البكاء من جديد...
==========
تطلعت إلى نفسها في المرآة بقلق وهي تعيد تصفيف شعرها ربما للمرة العاشرة لهذا اليوم!!!
إنها تكره أعمال الزينة، تمقتها، تشعر بأنها تقيدها، تجعلها مصطنعة، كدميةٍ مشدودة!!!
و مرت صورة "الشقراء" أمام عينيها فعاد الغضب الأعمى ليمزقها من جديد، ليفقدها صوابها ويأجج النار التي لا تلبث أن تتقد في صدرها كل حين...
وألقت فرشاة شعرها بيأس...
إنها لا تستطيع أن تكون مثلها، ليس في هذه الفترة على الأقل!!!
ولمَ تحاول ذلك أصلاً؟!!
لم يا "غدير"، ماذا جرى لكِ، بتّ تكشفين أوراقكِ له وهو يستمتع بذلك...
يفتعل معكِ المشكلات ليذكركِ بها وبتلك التي ينوي الزواج بها، ثم يترككِ تحترقين وهو يبتسم!!!
ماذا جرى لكِ أيتها الغبية، إلى أي مدى ستجركِ حماقتك، أوراقك لا بد أن تدفنيها كما تدفنين دفترك وتهيلين عليها التراب وتصمتي، تصمتي للأبد!!!
غرزت أصابعها كأنها تودُّ أن تُفيق نفسها من هذا الكابوس المريع، الكابوس الذي يقضُّ مضجعها ويحيل لياليها سواداً حالكاً لا نجوم فيه...
جلست على حافة السرير مطرقةً رأسها....
الأفكارُ تعصفُ بها كدوامة، كدائرة مفرغة لا قرار لها، ها هي تسمع صوت باب حجرته...
سيخرج، سيخرج منذُ الصباح، دائماً يخرج ولن يعود إلا متأخراً...
وتريدونها بعد ذلك أن تصمت!!!
ألقت نفسها على السرير وجسدها يهتز بصمت...
ماذا جرى لكِ يا غدير، ماذا جرى؟!!!
==========
سكبت لها عصير البرتقال وهي تنظر للخارج من نافذة المطبخ مستمتعةً بإرتشافه على جرعات...
حين يتحد الصباح مع الهدوء ينفرزُ في ذاتك شيئاً ما، شيئاً لا تعرف كنهه، لا تستطيع وصفه...
شئ جميل وشفاف، شئ يشبه الصفاء، يشبه النقاء، يلامس سريرتك، يهزُّ أوتارها فينبعث منها هدوء، راحة، سكينة عجيبة....
ما أجمل الصباح، وما أروع زقزقة العصافير حين تدغدع مسمعك!!!
وبقيت هكذا مأسورةً بجمال المنظر، بروعة الشمس والشجر والعصافير!!
وبقي هو واقفاً عند الباب يتأملها بغموض...
وكأنها أحست بإحساس الأنثى بتلك النظرات، فاستدارت للخلف....
- صباح الخير.
وصمتت فترة قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفض و حاجباها معقودان:
- صباح النور.
ووضعت كأسها الذي لم تتمتع بإحتساءه بأكمله بجانب الحنفية، ومرت بجانبه لكنه لم يتزحزح عن الباب.
- لو سمحت!! قالت بإستنكار.
تنحى قليلاً وهو يعلق:
- يبدو أنكِ نسيتِ موضوعنا!!
- أي موضوع؟! سألته بشزر.
- موضوع الفحص!! لقد وصلت أدواتي المختبرية منذُ أسابيع...
- أنا و زوجي "ناصر" لا نفكر حالياً بالأطفال. ردت بحزم.
تطلع إليها بتثاقل وهي تبادله نظرة كراهية لم تفته..
- كما تشاءان، وإذا غيرتما رأيكما فأنا موجود..
مرّت من فرجة الباب دون أن تجيب عليه...
صعدت السلم وأحساسها بالقرف منه يتصاعد...
يا لهُ من رجل يُثير الغثيان!!!
===========
قفزت مذعورة من صوت صراخه....
أغلقت باب غرفتها خلفها وهي تتلفت بحيرة ماذا تفعل وأين تختبئ، فلا تدري أي شيطانٍ ركبهُ اليوم؟!!!
لم تجد إلا الفراش ملاذاً، اختبأت فيه وهي تغطي نفسها، حتى إذا جاء ظنها نائمة وانتهى اليوم على خير!!!!
كم هو جميل أن نحلم، وكم هي صعبة أن تتحقق الأحلام....
دفع باب غرفتها وهو يصرخ:
- غدييييييييييييييييير...
تقدم منها وهو يهزها:
- أنتِ، ألا تسمعين قومي، كيف تنامين في الظهيرة؟
أبعدت الغطاء عن وجهها وهي تسأله بتقطع:
- أ..أ..ماذا، ماذا حدث؟
- أين قميصي الأخضر؟
رفعت كتفيها بخوف بأن لا تدري.
حدجها بغضب وهو يزمجر:
- اذهبي وابحثي عنه فوراً.
- حـ..حسناً.
- هيا قومي، ماذا تنتظرين؟
وفزّت من جلستها ودمدمته تصل لأذنيها:
- لا أدري لم تزوجت؟! ويقولون الزواج راحة!!!
اتجهت للغسالة، فتشت بسرعة وهو خلفها لا يزال يدمدم.
- ليس هنا..
- اذن أين ذهب، كيف اختفى هكذا فجأة؟!
- ألبس لك شيئاً آخر.
- لا أريد إلا هو.
- لا تصرخ علي، لستُ أنا من ضيعه.
- صه، أصرخ كما أشاء في بيتي، أم لديكِ اعتراض يااا آنسة؟!
وشرد ذهنها قليلاً...
لم يريده هو بالذات!!!!
- يبدو أننا لن ننتهي من أحلام اليقظة اليوم، هيا...
دفعها أمامه حتى غرفته، و بقي هو واقفاً عند الباب وهي تبحث في خزانة ملابسه:
- ملابسي مكوية، إذا تجعدت أو لم تعيديها لمكانها ستضطرين إلى كيها من جديد.
نظرت إليه والغيظ يكاد يفتتها، ودت لو تقطعه هو وملابسه!!!
أي أسلوبٍ بات يتبعه معها هذه الأيام!!
كيف انتقلت الدفة إلى يده؟!!
كله بسببها، تلك الشقراء الفارغة..
- لم أجده، ليس هنا..
- ابحثي جيداً...
وجالت ببصرها حول الغرفة وتوقفت عند طاولة الزينة...
رفعت إليه القميص والدهشة تعلوها:
- كان هنا أمامك ولم تره؟!!
- لو كنتُ رأيته لما ناديتك، أعطنيه.
لقد سلبت عقلك، أصبحت لا ترى الآن!!!
لا تراني ولا ترى ما يدور حولك...
تطلعت إليه بألم وهي تسأله بمرارة:
- أين ستذهب ؟!
- وما شأنكِ أنتِ!!
- أريد أن أذهب معك، أنا لا أخرج أبداً من هنا..
- كل ليلة أوصلك إلى بيت خالك..
- و أين تذهب حينها؟!
- ومنذُ متى تسألين!!
- منذُ اليوم سأسأل..
- أذهب للمكان الذي يحلو لي، ولعلمك أنا لا أحب التدخل في خصوصياتي..
- هذه ليست خصوصياتك وحدك، أنت تريدني أن أبقى جاهلة عمياء لا أعرف شيئاً عما يدور من ورائي!!!
- وما الذي تعتقدينه يدور وراءكِ يا آنسة؟! سألها بسخرية.
- لا تنادني هكذا. صاحت بغضب.
- اسمعي أنا متعبٌ الآن من العمل، ولا طاقة لي للشجار.
- إذن ابقى في البيت.
- لقد وعدتُ أصحابي بالقدوم.
- أصحابك؟!
أخذت تكررها و هي تضحك بجفاف:
- لا تقل لي!! كل هذا الصياح والبحث المتحمس عن القميص، كل هذا من أجل عيون أصحابك!!
- أفهميها كما تشائين، وسواء صدقتِ أم لا فأنا رجل أهتم بمظهري الخارجي في كل الأحوال!!
- أنت كاذب منافق، غشاش. صاحت بإنفعال.
- غدير!! صرخ بتهديد.
- لا تنطق اسمي على لسانك، أنا أكرهك، أكرهك.
- اخرجي الآن قبل أن يحدث شئ لا تُحمد عقباه!! رد بصوتٍ غاضب.
كان صدرها يعلو ويهبط بإختناق، والثورة تدبّ في أعماقها كإعصار يريد أن يجرف كل من يقف أمامه بجنون...
- أخرجي، أريد أن أغير ملابسي..
الأفكار تطحنها والوسواس الخناس لا يلبث أن يتراقص أمام عينيها، لا يلبث أن يهمس أذنيها بكلمات، باتت هاجسها الأخير...
تطلعت فجأة إلى الكأس الموضوع على المنضدة ودون شعور تناولته:
- ارتده الآن، سيبدو لائقاً!!!
وانسكب الماء على القميص وعلى جزءٍ من ثيابه...
تطلع مصدوماً إلى نفسه ولها لثانية، وبلا شعور مدّ يدهُ هو الآخر!!!
ورنّ في الغرفة صوت صفعة قوية استقرت على الخد مباشرة دون سابق إنذار..
رفعت أناملها المرتجفة إلى خدها لتتحسسه، لتتحسس السياط الذي كوى جلدها...
رفع يده إلى شعره بتوتر كما لو كان في حالة اعتذار...
ترقرقت الدموع من عينيها وهي تنظر إليه وتهزّ رأسها دون تصديق...
صفعها من أجل قميص؟!!
كلا، ليس من أجل قميص، بل لأجلها، لأجلها هي أياً كانت...
و هرعت إلى غرفتها وهي توصدها خلفها بالمزلاج...
وانزلقت أسفل الباب، على الأرض وأجهشت بالبكاء...
=============
دقت الباب عدة مرات ورغم أنها سمعت كلمة "أدخل" إلا أنها كررت الطرق وبصوتٍ أعلى!!!
وانفتح الباب على مصراعيه فحدجت الواقف أمامها بحقد ودخلت مباشرة وفي يدها ملف أبيض اللون..
و سمعت الباب يُغلق بعد لحظة فعاد الألم بقوة إلى معدتها...
- اجلسي. ردّ ببرود.
لكنها بقيت واقفة كالتمثال دون أن تنبس ببنت شفه!!
عاد إلى مقعده وهو يعبث بأدراجه دون أن يحول عينيه عنها..
- ستبقين واقفة هكذا إلى متى؟! ردّ بنفاذ صبر.
لا جواب!!!!
وانتفخت أوداجه وهو ينظر إليها بغضب وهي تكتفي بالرمش فقط!!!
وضع يديه بتصميم على سطح المكتب واستطالت قامته في وضع الوقوف...
اهتزَّ الملف الذي بيدها ونظرت إليه من طرف عينيها وما هي إلا ثانية حتى هرعت إلى الكرسي لتجلس عليه!!
عاد إلى مقعده وهو يتنهد...
وقال بعد قليل:
- سنبدأ في جرد حسابات "المخازن الكبرى" أولاً، أنتِ ستقومين بـــ.....
و توقف عن الكلام وهو يراقبها...
كانت تضع قدماً على أخرى وتتصفح الملف الذي بيدها بتمعن، وفي كل حين ترفعه حتى يلاصق وجهها وهي تحرك رأسها!!!
- هل أنتِ مختلة عقلياً؟! سألها بإرتياب.
- .........................
- ماذا في يدك؟!
- ..................
- لم لا تتكلمين؟! أأصيب لسانك بالشلل!!!
- ................
وضرب بقبضته على الطاولة:
- أعطنيه، لعنةُ الله على الشيطان!!
وتطلعت إليه ببلاهة وهي تشير إلى الملف بإصبعها..
- أجل، أريدهُ هو، جيد أنكِ تفهمين!!
ولمعت عيناها ببريقٍ ما سرعان ما أطفأته...
رفعت الملف عن حجرها وهي تمسكهُ لأعلى....
حركت يدها ناحيته لكنها سرعان ما أنحرفت بسرعة وأفلتته على الأرض!!!
فتحت فمها بدهشة وهي تهزُّ كتفيها كأن لا دخل لها، وهو جامدٌ في مكانه، مصعوق!!!
أمالت بجذعها وألتقطته ومدت يدها لتمسح جبينها وهي تلهث من التعب!!!
ثم زفرت وعادت لتشير إلى الملف بإصبعها....
ولم يُجب....
فعادت لترفعه إلى أعلى، إلى أقصى ما تستطيع وهي تنظر للملف بتفحص، ولوت فمها كأن شيئاً لم يعجبها فيه فأسقطته!!!
التفتت إليه وفمها مفتوح، عيناه تكادان تخرجان من محجريهما من منظرها...
عادت لتنثني من جديد وتلتقطه و تمدهُ ناحيته!!!
أطرق رأسه قليلاً وكأنهُ في حالة تفكير عميق...
ثم وقف فجأة فقفت هي الأخرى وهي تمدُّ الملف بأطراف أناملها، لكنهُ لم يأخذه بل دار نصف دورة حتى أصبح بمواجهتها...
وقبل أن تستوعب سحب الملف من يدها ولفه بأصابعه وهوى به على كتفها ...
صاحت وهي تتراجع إلى الوراء وتمسك كتفها:
- أ تضربني أيضاً؟!!
- لأن الحيوانات هكذا، لا تفهم ولا تتكلم إلا بالضرب!!
- والله سأخبرُ والدي عنك والشرطة..
- تخبرينهم بماذا؟!
- أنك مددت يدك علي.. صرخت وهي تدقُ الأرض بقدمها.
- وأين شهودك؟!
شهقت دون تصديق...
- أنت لا تطاق، لا أريد أن أعمل معك..
- اذهبي للوزارة الآن لتغيري مكان تدريبك إن كنتِ تقدرين.
أخذت تندب حظها العاثر وهي تصيح بحرقة:
- أنا لا دخل لي، أريد أن أعود للبيت، كلهم عادوا إلى بيوتهم عداي أنا، كلهم يتناولون الغذاء وأنا جائعة، كلهم نائمون الآن وأنا أعمل وأعمل وأعمل وفي النهاية أُضرب ويُقال عني أني من "الحيوانات"!!!
- إذا أنهيتِ جرد كل هذه الملفات سأُعيدك إلى مكانك.
- أحتاج لسنة كاملة كي أنهي أوراق الزبالة تلك. ردت بإشمئزاز.
تطلع إليها بشزر وهو يصرُّ على أسنانه:
- اسمها أوراق العمل وليس أوراق الزبالة، كفي عن التحدث بسوقية..
- أصبحتُ سوقية أيضاً؟!! وأخذت تصيح.
لم يبالِ بصياحها وأردف:
- ثم كلما عملتِ بجد وإخلاص ونشاط حقيقي ستُنهينها في أسابيع..
"أنا لا أقدر أن أتحملك يوماً واحداً ما بالك بأسابيع!!"
- هيا عودي لمقعدك لنبدأ وكفي عن تصرفاتك الخرقاء!!
"اصبر علي فقط، لن أكون "ندى" إن لم أجعلك تعضُّ أناملك ندماً لأنك وضعتني معك في مكانٍ واحد!!!"
==============
أحنت جذعها لترتدي نعليها ولم تشعر إلا بيد تمس ظهرها...
رفعت رأسها فوراً بوجل...
- آسفة إن أخفتك، كيف حالك يا ابنتي..
وابتسمت "غدير" ابتسامةً كبيرة وهي تصافخ المرأة بحرارة:
- أنا بخير، كيف حالكِ أنتِ؟!
- الحمد لله على كل حال..
ثم هتفت بسرعة:
- ماذا عن والدتك، هل أبلت من مرضها؟!!
- أمي؟!! تساءلت بدهشة.
- أجل والدتك، كانت مريضة وعلى فراشها المسكينة حين زرتها آخر مرة.
"أمي مريضة!!"
وشعرت بالإثم يعقد لسانها...
الغصة ترتفع، تتضاعف جرعتها، و الذنب يبدو جلياً ونظرات المرأة تشهد على ذلك...
" مريضة وأنا لا اعلم!!"
أرجوكِ اصمتي، ومنذُ متى كنتِ تسألين، ألم تتوقي إلى الفكاكِ منها ومن صورتها المهشمة الضعيفة!!!
ألم تريدي الخلاص، النسيان، أليست هي أول بصمة سوداء في حياتك، أليست هي السبب يا "غدير"؟!!
لم السؤال إذن؟!!
هي أيضاً لم تبالي، حضرت عرسك وخرجت وكأن ليس هذا بزفاف ابنتها...
ربما منعها، ربما جاءت خلسة وعادت قبل أن يكتشف غيابها ذاك السكير!!
لا... لا تبحثي لها الأعذار..
لا أب لكِ، إذن لا أم لكِ!!
هكذا هي المعادلة منذُ الأزل!!
وتجاوزت المرأة والكلمات تطنُّ في أذنيها كدبيبُ نحلة...
المصائب لا تأتي فرادى أبداً، تأبى إلا أن تأتي كلها وعلى حين غرة...
مريضة!!!
وماذا في ذلك، كلنا نمرض وهي كبرت في السن!!
ماذا بعد ذلك؟!!
ستموت!!!
كلنا سنموت اليوم أو غداً، لا فرق!!!
لم الحزن إذاً، لم الرثاء؟!!
دع الخلق للخالق وسر في طريقك وحدك واصمت...
اليوم وغداً ووراء الشمس ستسير وحدك، اعتد منذُ اليوم ولا تنظر للوراء...
مريضة!!!
ماذا تريدونني أن أفعل؟!
أزورها مثلاً!! أهذا ما تريدونه؟!!
كلا لن أفعل، لن أفعل أسمعتموني، لن أفعل...
لا أريد العودة إلى هناك، لا أريد أن أذكر أي شئ، أي شئ...
ربما كان رابضاً هناك وأنا تقتلني رؤيته..
أنا لا ماضي لدي، كله ضاع، تمزق، ألقيته خلف ذاكرتي..
خلف الشمس!!!
ماذا تريدونني أن أفعل ها؟!!
قلتُ لكم لا، لن أزورها، لن أفعل...
أمي أنا مريضة!!!!
هراء!!!
من قال ذلك؟!!
و وصلت لشقتها بذهنٍ غائب...
الأنورار مطفأة والسكون يتراقص بخفة حول المكان...
مدت أناملها لتتلمس مفاتيح الكهرباء...
لتضيء المكان وشيئاً من روحها الهائمة، المنغمسة في الظلام...
لم يعد حتى الآن وربما لن يعود!!!
هذا أفضل، أنا لا أريد أحداً، فليذهبوا كلهم للجحيم!!!
وأنا من وراءهم!!!
وألقت بنفسها على سريرها وهي تدفن وجهها في وسادتها التي طالما تشربت دموعها، امتصت آلامها، همست لها بأسرارها وحدها..
ما أوفاها هذه الوسادة!!!
و تركت لنفسها العنان وهي تجرُّ الدثار عليها...
لم الحياة هكذا دوماً؟!!
كحركة المد والجزر...
ترفعك حيناً وتهبطُ بك حيناً آخر...
لم هذا الكلام يا "غدير"، منذُ متى وكنتِ تقدمين آراءك عن الدنيا!!
أعترفي، جاهري بما في جعبتك...
هي السبب، هي، لم تمرض، ولم تأتي تلك المرأة لتخبرني بذلك؟!
استغفر الله، أتعترضين على أمر الله...
يا عزيزتي: لا يُغني حذرٌ من قدر...
أنا لا أشعر بالأسى حيالها، لا تهمني، ألا تفهمون، لذا لا تصدعوا رأسي بهمساتكم تلك...
صه، صه، صه أنا لستُ أكذب، أنا قلبي مات، مات منذُ زمن، مات وكان من الأحق أن يأدوه منذُ ولادتي، كان لا بد أن يدفنوه أو يدفنوني!!!
بلا قلب أنا أفضل، بلا قلب أنا أعيش!!!!
أمي ماتت، ماتت منذُ زمن وكفى...
ماتت وانتهى أمرها بالنسبة لي!!!
ثم يأتي هو...
إذا تواجدت هي، فتش عن "هو"!!
ذلك الكاذب، القاسي، صفعني لأني كشفته، فهمته..
تريد أن تتزوج، فلتتزوج إلى الجحيم أنت ومن تريدها!!
فقط كفّ عن ترديد ذلك على مسامعي...
لا تخالوني أغار، لا تخالوني أحبه...
ما لكم تنظرون إليّ بريب؟!
قلتُ لكم لا أحبه ألا تفهمون، مثلي أنا لا يعرف الحب، ومثله لا يستحق أن يُحب ذلك الغشاش!!!
ولكن انتظر....
قبل أن تتزوج بأخرى، طلقني فأنا لم ولن أريدك...
أتسمع، طلقني، تخالني سأبكي عليك إن أخذتها وطلقتني؟!!
ذاك ما أصبو إليه، ذاك جلُّ ما أتمناه....
لن أذرف عليك دمعةً واحدة، ولن أغضب، بل سأدعو لك ولها بالتوفيق...
قلتُ لكم كفو عن التطلع إلي...
أنا لا أبكي لا عليها ولا عليه!!!
أنا لا أحمل في قلبي شيئاً...
لا أحمل إلا شقائي!!
وأجهشت بالبكاء وهي تعصر الوسادة بيديها...
ولم تنتبه أنهُ كان مستنداً منذُ زمن على الباب، يشاهد الجسد المهتز من تحت الدثار، يسمع تلك الشهقات المنفلتة رغم الوسادة المحيطة بها، يشاهد هذا كله و هو يقف ساكناً!!!
وانطلق الصوت بعد برهة بهدوء، بخفوت كخفوت ذلك الضوء الشارد من القمر عبر زجاج النافذة...
- غدير!!!
وتوقف الرأس عن شجنه فجأة وكأن الصوت وحده كان كفيلاً بتجميده!!!
|