الفصل الثاني
في مارس 1942 , سجن جان جنيه لسرقته نسخة نادرة لأحد دواوين بول فرلين, بعد أن تعذر عليه, وهو الفقير المشرد, شراءها.
وعندما سئل أثناء التحقيق:"أتعرف ثمن هذه النسخة التي سرقتها؟" أجاب جنيه الذي لم يكن قد أصبح بعد أحد مشاهير الأدب الفرنسي المعاصر:"لا... بل أعرف قيمتها".
تذكرت هذه الحادثة, عندما بلغني أنني حصلت على جائزة العام, لأحسن صورة صحفية في مسابقة"فيزا الصورة" في فرنسا. ربما لأنني عندما سرقت تلك الصورة من فك الموت, لم أكن أعرف كم سيكون سعرها في سوق المآسي المصورة. ولكنني حتما كنت أعرف قيمتها, وأعرف كم يمكن لصورة أن تكون مكلفة, وقد كلفتني قبل عشر سنوات, عطبا في ذراعي اليسرى.
في صور الحروب التي أصبحت حرب صور, ثمة من يثرى بصورة, وثمة من يدفع ثمنا لها.
وحدها صورة الحاكم الذي لا يمل من صورته, تمنحك راحة البال, إن كان لك شرف مطاردته يوميا في تنقلاته لالتقاطها. لكنك متورط في المأساة, وفي تاريخ كان ينادى فيه للمصور كما في اليمن السعيد في الخمسينات, ليلتقط لحظات إعدام الثوار وتخليد مشهد رؤوسهم المتطايرة بضربات السيوف في الساحات. أيامها, كان قطع الرؤوس أهم إنجاز, وعلى المصور الأول والأوحد في البلاد أن يبدأ به مهنته.
ذات يوم, تنزل عليك صاعقة الصورة, تصبح مصورا في زمن الموت العبثي.
كل مصور حرب, مشروع قتيل يبحث عن صورته وسط الدمار. ثمة مخاطرة في أن تكون مصورا للموت البشع. كأنه دمارك الداخلي. ولن يرمم خرابك عندذاك, حتى فرحة حصولك على جائزة.
المشاهير من مصوري الحروب الذين سبقوك إلى هذا المجد الدامي, يؤكدون:" أنت لن تخرج سالما ولا معافى من هذه المهنة". لكنك تقع على اكتشاف آخر: لا يمكنك أن تكون محايدا , وأنت تتعامل مع الرؤوس المقطوعة, واقفا وسط برك الدم لتضبط عدستك.
أنت متورط في تغذية عالم نهم للجثث, مولع بالضحايا, وكل أنواع الموت الغريب في بشاعته.
دكتاتورية الفرجة تفرض عليك مزيدا من الجثث المشوهة.
إنهم يريدون صورا بدم ساخن, مما يجعلك دائم الخوف على صورك أن تبرد, أن يتخثر دمها ويجمد قبل أن ترسلها , هناك حيث من حنفية المآسي, تتدفق صور الإفناء البشري على الوكالات.
أثناء ذلك, بإمكان الموتى أن يذهبوا إلى المقابر, أو أن ينتظروا في البرادات. لقد توقف بهم الموت, وجمدت صورتهم إلى الأبد على عدستك. ولن تدري أخلدتهم بذلك, أم أ،ك تعيد قتلهم ثانية.
لا يخفف من ذنبك إلا أنك خلف الكاميرا, لا تصور سوى احتمال موتك.
لكن هذا لا يرد الشكوك عنك. الجميع يشتبه في أمرك: " لصالح من أنت تعمل؟". أأنت هنا , لتمجيد إنجازات القتلة ومنحهم زهوا إعلاميا, أم بنقلك بشاعة جرائمهم تمنح الآخرين صك البراءة, وحق البقاء في الحكم؟ إلى أي حزب من أحزاب القتلى تنتمي؟ ولصالح من من القتلة ترسل صورك.. إلى الأعداء !
وستقضي وقتك في الاعتذار عن ذنوب لم تقترفها, عن جائزة لم تسع إليها, عن بيت محترم تعيش فيه, ولا بيت لغيرك من الصحافيين, عن صديقك الذي قتل, والآخر الذي ذات 13 حزيران قتل امرأته وانتحر.. بعد أن عجز عن أن يكون من سماسرة الصورة.
كنت دائم الاعتقاد أن الصورة, كما الحب, تعثر عليها حيث لا تتوقعها. إنها ككل الأشياء النادرة.. هدية المصادفة.
المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية, وأنا في طريقي إلى العاصمة, آتيا من قسنطينة بالسيارة, برغم تحذير البعض.
كنت مع زميل عندما استوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها, ومازالت مذهولة أمام موتاها.
لم يكن ثمة من خوف, بعد أن عاد الموت ليختبئ في الغابات المنيعة المجاورة, محاطا بغنائه وسباياه من العذراوات, ولن يخرج إلا في غارات ليلة على قرية أخرى, شاهرا أدوات قتله البدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه, مذ صدرت فتوى تبشر "المجاهدين" بمزيد من الثواب, إن هم استعملوا السلاح الأبيض الصدئ, من فؤوس وسيوف وسواطير, لقطع الرؤوس, وبقر البطون, وتقطيع الرضع إربا.
قلما كان القتلة يعودون, لأنهم قلما تركوا خلفهم شيئا يشي بالحياة. حتى المواشي كانت تجاوز جثث أصحابها, وتموت ميتة تتساوى فيها أخيرا بالإنسان.
كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها. ربما لأن لها مخزونا عاطفيا في ذاكرتي مذ كنت أزورها في مواكب الفرح الطلابي في السبعينات, مع قوافل الحافلات الجامعية, للاحتفال بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبا بحضور رسمي لرئيس الدولة, ضمن مشروع ألف قرية اشتراكية.
كان لي دائما إحساس بأنني قد عرفتهم فردا فردا, لذا عز علي أن أصور موتهم البائس, مكومين أمامي جثثا في أكياس من النايلون؟
هم الذين أولموا لنا بالقليل الذي كانوا يملكون, ما أحزنني أن أكون شاهد تصوير على ولائم رؤؤسهم المقطوفة.
في زمن الهوس المرئي بالمذابح, وبالميتات المبيتة الشنيعة, من يصدق النوايا الحسنة لمصور تتيح له الصورة حق ملاحقة جثث القتلى ببراءة مهنية؟ ليست أخلاق المروءة, بل أخلاق الصورة, هي التي تجعل المصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك.
في محاولة إلقاء القبض على لحظة الموت الفوتوغرافي, بإمكان المصور القناص مواصلة إطلاق فلاشاته على الجثث بحثا عن "الصورة الصفقة".
فهو يدري أن للموت مراتب أيضا, وللجثث درجات تفضيل لم تكن لأصحابها في حياتهم.
ثمة جثث من الدرجة الأولى, لأغلفة المجلات. وأخرى من الدرجة الثانية, للصفحات الداخلية الملونة. وثمة أخرى لن تستوقف أحدا , ولن يشتريها أحد. إنها صور يطاردك نحس أصحابها.
هاهوذا الموت ممد أمامك على مد البصر. أيها المصور..قم فصور!
ثم رأيته..
ماذا كان يفعل هناك ذلك, الصغير الجالس وحيدا على رصيف الذهول؟
كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى. خمس وأربعون جثة. تجاوز عددها ما يمكن لمقبرة قرية أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة.
في مذبحة بن طلحة, كان يلزم ثلاث مقابر موزعة على ثلاث قرى, لدفن أكثر من ثلاثمائة جثة. فهل الموت هذه المرة كان أكثر لطفا, وترك لفرط تخمينه بعض الأرواح تنجو من بين فكيه؟
كان الصغير جالسا كما لو أنه يواصل غيبوبة ذهوله. أخبرني أحدهم أنهم عثروا عليه تحت السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده. حيث تسلل من مطرحه الأرضي الذي كان يتقاسمه مع أمه وأخويه, وانزلق ليختبئ تحت السرير. أو ربما كانت أمه هي التي دفعت به هناك لإنقاذه من الذبح. وهي حيلة لا تنطلي دائما على القتلة, حيث انه في قرية مجاورة, قامت أم بإخفاء بناتها تحت السرير, غير أنهم عثروا على مخبئهن, نظرا لبؤس الغرفة التي كان السرير يشغل نصف مساحتها, فشدوهن من أرجلهن, وسحبوهم نحو ساحة الحوش حيث قتلوهن ونكلوا بجثثهن.
ماذا تراه رأى ذلك الصغير, ليكون أكثر حزنا من أن يبكي؟
لقد أطبق الصمت على فمه, ولا لغة له إلا في نظرات عينيه الفارغتين اللتين تبدوان كأنهما تنظران إلى شيء يراه وحده. حتى انه لم ينتبه لجثة كلبه الذي سممه الإرهابيون ليضمنوا عدم نباحه, والملقاة على مقربة منه, في انتظار أن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكلفوا بعد ذلك بمواراة الحيوانات.
كان يجلس وهو يضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره. ربما خوفا, أو خجلا , لأنه تبول في ثيابه أثناء نومه أرضا تحت السرير, وما زالت الآثار واضحة على سرواله البائس.
هو الآن مستند إلى جدار كتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفك طلاسمها, لأنه لم يتعلم القراءة بعد.ولأنه لم يغادر مخبأه, فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقع القتلة جرائمهم, بكلمات كتبت بخط عربي رديء, وبحروف مازال يسيل من بعضها الدم الساخن. أبدم أمه, أم أبيه , أم بدم أحد إخوته؟
هو لن يعرف شيئا. ولا حتى بأية معجزة نجا من بين فكي الموت, ليقع بين فكي الحياة. وأنت لا تعرف بأية قوة, ولا لأي سبب, تركت الموت في مكان مجاور, ورحت تصور سكون الأشياء بعد الموت, وصخب الدمار في صمته, ودموع الناجين في خرسهم النهائي.
لك تكن تصور ما تراه أنت, بل ما تتصور أن ذلك الطفل رآه حد الخرس.
عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل, حضرني قول مصور أمريكي أمام موقف مماثل:"كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟"
ولم أكن بعد لأصدق, أنك كي تلتقط صورتك الأنجح, لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة, بقدر حاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة.
لا تحتاج إلى تقنيات متقدمة في انتقاء الألوان, بل إلى فيلم بالأبيض والأسود, مادمت هنا بصدد توثيق الأحاسيس لا الأشياء.
أول فكرة راودتني, عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضل صورة صحفية للعام, هي العودة إلى تلك القرية, للبحث عن ذلك الطفل.
كانت فكرة لقائي به تلح علي, وتتزايد يوما بعد آخر, لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا, وأحيانا أخر شكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة.
حتى قبل أن أحصل على مال تلك الجائزة, كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك الصغير على الخروج من محنة يتمه. ونويت بيني وبين نفسي, أن أتكفل به مادمت حيا, بالقدر الذي أستطيعه.
لا أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل: أيتمنا المشترك؟ أم كونه أصبح ابنا لآلة التصوير بالتبني؟
وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مال كانت تفوح منه رائحة مريبة,لجريمة كان جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الآخرين. كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله, مما علق به من دم , باقتسامه مع الضحية نفسها.
طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزة العالمية للصورة, عن صورته الشهيرة لامرأة تنتحب, سقط شالها لحظة ألم, فتبدت في وشاح حزنها جميلة ومكابرة وعزلاء أمام الموت, حد استدراجك للبكاء. لكأنها تمثال" العذراء النائحة" لمايكل أنجلو.
وكان حسين, عند وصوله إلى قرية بن طلحة, وجد نفسه أمام أكثر من ثلاثمائة جثة ممدة في أكفانها. فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذ صورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب, والتي قيل له إنها فقدت أولادها السبعة في تلك المذبحة.
بعد ذلك, عندما انتشرت الصورة وجابت العالم, اكتشف حسين أن المرأة ماكانت أم الأولاد بل خالتهم.
كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته. فكل عبثية الحرب كانت تختصر في صورة لامرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور, وأطفال وجدوا مصادفة حيث براثن الموت.
الموت, كما الحب, فيه كثير من التفاصيل العبثية. كلاهما خدعة المصادفات المتقنة.
أما الأكثر غرابة فكون تلك المرأة , التي لم تقم دعوى ضد القتلة, ولا طالبت الدولة بملاحقة الجزارين الذين نحروا الأجساد الصغيرة لأقاربها السبعة, جاء من يقنعها بأن ترفع دعوى على المصور الذي صنع "مجده" وثراءه بفجيعتها, عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا في الغرب لا يملكها صاحبها في العالم العربي. فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على المجلات العالمية الكبرى التي نشرت الصورة, بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو ينتحب بعد مرور الموت!
لا أصعب على البعض من أن يرى جزائريا آخر ينجح. فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن ترتكبها في حقه. ولذا قد يغفر للقتلة جرائمهم, لكنه لن يغفر لك نجاحاتك.
وكلما , بحكم المهنة أو بحكم الجوار, ازدادت قرابته منك, ازدادت أسباب حقده عليك, لأنه لا يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء, تنجح حيث أخفق هو.
جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة, لو غرقت لجازف بحياته لإنقاذك من الغرق. لكنك لو نجحت في البكالوريا, ورسب فيها, وستذهب إلى الجامعة, ويبقى هو مستندا إلى حائط الإخفاق. وذات يوم , ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيلا مكفنا بنجاحاتك.
عندما ظهر خبر نيلي الجائزة, أسفل الصفحة الأولى من الجريدة الأكثر انتشارا, تحت عنوان" جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا", وتلاه في الغد مقال آخر في جريدة بالفرنسية عنوانه" فرنسا تفضل تكريم كلاب الجزائر", أدركت أن ثمة مكيدة تتدبر, وأن الأمر يتجاوز مصادفة الاتفاق في وجهة نظر.
كانت لعنة النجاح قد حلت بي, وانتهى الأمر.
لكن, كان لا بد أن يمر بعض الوقت, لأكتشف أن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد "صديق". كان جاري في قسنطينة وتوسطت له لينتقل إلى العمل في العاصمة, في الجريدة نفسها التي أعمل فيها, فوفر علي بكيده كل طعنات الأعداء, وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب من الوفاء ما يغني عن إخلاص الأصدقاء, بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لأجعل منه عدوا.
غير أن الموضوع عاد بعد ذلك ليشغلني في طرحه الآخر:
تراهم منحوا الجائزة لصورة ذلك الطفل؟ أم لجثة ذلك الكلب؟
وماذا؟ وقد صدرنا إلى العالم مذابحنا على مدى سنوات, وتم إتلاف الحياة الشعورية لأناس أكثر من جثثنا, بعد أن أصبحت في ندرتها أكثر وقعا على أنفسهم من جثة الإنسان؟
أليست كارثة , لو أن ضمير الإنسان المعاصر أصبح حقا يستيقظ عندما يرى جثة كلب يذكره بكلبه, ولا يبدو مهتما بجثة إنسان آخر لا يرى شبها به, ولا قرابة معه, لأنه من عالم يراه مختلفا.. ومتخلفا عن عالمه. عالم جثث تتقاتل.
شغلتني تلك الأسئلة, حد قراري العودة إلى تلك القرية, بحثا عن جواب في تفاصيل ذلك الموت المركب.
***
ذات صباح , قصدت رفقة زميل تلك القرية. احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق, بعدم أخذنا بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا في قبضة حاجز أمني مزور, ينصبه الإرهابيون لاصطياد من يضطر لسلوك تلك الطرقات بالسيارة, ممن يعملون في " دولة الطاغوت" الكافرة, أي باختصار, أي أحد يملك بطاقة عليها ختم رسمي, ولو كان يعمل زبالا في البلدية, أو أي مخلوق لا تروق له هيئته, فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به, أو يصطحبونه إلى مخابئهم إن كان ممن يحتاجون إلى خدماته.
كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت, وأصبحت مشابهة تماما لحواجز رجال الأمن الحقيقيين , الذين سطا الإرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم, مما أوقع الناس في بلبلة وحيرة. فان هم اطمأنوا إلى حاجز, وأظهروا هوياتهم الحقيقية, قد يفاجأون به مزورا ويقتلون , كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه, وقال للعسكريين بمودة:
- واش.. الكلاب ما همش هنا اليوم؟
فرد عليه أحدهم وهو يطلق عليه النار :
- إحنا هم الكلاب!
وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشية وقوعهم في قبضة حاجز مزور, وكان الحاجز لرجال أمن حقيقيين, اتهموا بأنهم إرهابيون, وعوملوا على هذا الأساس, بعد أن أصبح الإرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية, مدعين أنهم موظفو دولة.. أو مجندون في الخدمة العسكرية.
وهكذا كان الناس, حفاظا على سلامتهم, يتنقلون بلا هوية في جيوبهم, ولا بطاقة عمل ولا أوراق ثبوتية في حوزتهم, ولا مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم.
كان وصولي إلى تلك القرية بسلام, وبدون حادث يستحق الذكر, إنجازا تفاءلت به, لولا أنني لم أجد شيئا مما كنت أبحث عنه هناك.
كانت قلوب الناس موصدة, كبيوت موتاهم.
وكنت هناك تائها, في مهب الأسئلة: كيف أستدل على ذلك البيت, والبيوت جميعها متشابهة في بؤسها؟
كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل , وقد غسلوا الجدران خوفا من ثرثرتها, في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟
ومن أسأل عن ذلك الطفل, والأجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية اليتامى تكفلت به. وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى. وآخر يجزم أن الطفل اختفى ملتاعا, بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد. وآخر لم يسمع بوجود هذا الطفل. أو لعله لا يريد أن يسمع بوجودي, ولا صبر له على فضولي.
الصدمة تجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا, شيئا يغرقنا في الصمت. لاأحد يثرثر هنا. حتى الجدران التي كانت تهذي بالقتلة, أصابها الخرس, مذ طليت بماء الكلس.
أحزنني أن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم. والذين كانوا يتحدثون إليهم, ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلاهة ليتفرجوا عليهم, وكأنهم قادمون إليهم من عالم آخر, حتى انك لا تدري بماذا تكلمهم. لكأن لغتهم ما عادت لغتك, بل هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر. لغة المذهول من أمره مذ اكتشف قدره.
التضاريس هي التي تختار قدرك, عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافية عند أقدام الجبال, وعلى مشارف الغابات والأدغال. أنت حتما على مرمى قدر من حتفك.
في عزلتهم عن العالم,أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملامح واحدة, يدفنون فيها في اليوم ذاته, اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قرية بأكملها.
انه موت, في عبثيته,مستنسخ من حياتهم الرتيبة , التي يتناولون فيها كل يوم وجبة واحدة من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة , ويرتادون مقهى واحدا, يدخن فيه الكبار والصغار السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي, وعندما يمرضون يذهبون إلى مستوصف ( الدشرة), حيث الطبيب الواحد , والدواء الواحد لكل الأمراض.
وكل جمعة كانوا يلتقون في المسجد الوحيد ليصلوا ويتضرعوا للإله الواحد. حتى جاءهم القتلة فأفسدوا عليهم وحدانيتهم وقتلوهم باسم رب آخر.
لكأنهم منذ أجيال يكررون الحياة ذاتها, ويموتون حربا بعد أخرى نيابة عن الآخرين, لوجودهم في المكان الخطأ نفسه.
لكأنهم جاهدوا ضد فرنسا ودفعوا أكبر ضريبة في قسمة الاستشهاد, فقط لتكون لهم بلدية كتب عليها شعار" من الشعب والى الشعب" يرفرف عليها علم جزائري, وتتكفل بتوفير قبر لجثثهم المنكل بها بأيد جزائرية. تتركهم خلفك صامدين حتى الموت المقبل, في أكواخهم الحجرية البائسة مع مواشيهم الهزيلة.
هؤلاء الذين لا تكاد تشبههم في شيء, لا صور لأسلافهم وأجدادهم تغطي جدران أكواخهم كما في بيتك, لأنهم منحدرون من سلالة التراب. تود لو ضممت رائحة عرقهم إلى صدرك, لو صافحت بحرارة أيديهم الخشنة المشققة. ولكنهم لا يمدون لك يدا. وحده الموت يمد لك لسانه حيثما وليت وجهك.
أثناء مغادرتي, انتابني حزن لا حد له. فقد فاجأني منظر موجع لغابة كانت على مشارف تلك القرية, وتم بعد زيارتي الأخيرة حرقها حرقا تاما من قبل السلطات , لإجبار الإرهابيين على مغادرتها, بذريعة حماية المواطنين من القتلة.
في كل حرب أثناء تصفية حساب بين جيلين من البشر, يموت جيل من الأشجار, في معارك يتجاوز منطقها فهم الغابات.
"من يقتل من؟" مذهولا يسأل الشجر. ولا وقت لأحد كي يجيب جبلا أصبح أصلع, مرة لأن فرنسا أحرقت أشجاره حرقا تاما كي لا تترك للمجاهدين من تقية, ومرة لأن الدولة الجزائرية قصفته قصفا جويا شاملا حتى لا تترك للإرهابيين من ملاذ.
باستطاعتنا أن نبكي: حتى الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة.
ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه ؟
وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. إنه يولد بيننا في أدغال الكراهية.
لا أدري لماذا أصابني منظر الأشجار المحروقة على مد البصر, بتلك الكآبة التي تصيبك لحظة تأبين أحلامك.
لكأن شيئا مني مات باغتيال تلك الأشجار. أعادتني جثثها المتفحمة إلى زمن جميل قضى فيه آلاف الشباب من جيلي خدمتهم العسكرية في بناء " السد الأخضر".
سنتان من أعمار الكثيرين ذهبتا في زرع الأشجار لحماية الجزائر من التصحر. كان الشعار الذي يطاردك في كل مكان آنذاك: "الجزائري يتقدم والصحراء تتراجع".
أكان كل ذلك نكتة؟!
مشتعلين كنا بزمن النفط الأول. وكانت لنا أحلام رمال ذهبية, تسربت من أصابع إلى جيوب الذين كانوا يبتلعون البلاد ويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء.
يا لسراب الشعارات! إنها خدعة التائه بين كثبان وطن من الرمال المتحركة, لا تعول على وتد يدق فيه, ولا على واحة تلوح منه!
هوذا النصف الخالي.. كيف وصلنا إليه؟ بل كيف اخترقنا الرمل وتسرب إلى كل شيء؟ لم نعد على مشارف الصحراء, بل أصبحت الصحراء فينا. إنه التصحر العاطفي.
حدث ذلك ذات ديسمبر 1978 عندما ترك لنا بومدين على شاشة التلفزيون ابتسامته الغامضة تلك , ورحل.
كانت ملامحه أقل صرامة من العادة, ونظرته الثاقبة أقل حدة, ويده التي تعود أن يمررها على شاربيه وهو يخطب, كانت منهكة لفرط ما حاولت رفع الجزائر من مطبّات التاريخ.
لم يقل شيئا. فلم يكن عنده يومها ما يقوله, هو الذي قالوا له في موسكو - التي قصدها للعلاج من مرض نادر وسريع الفتك- إن موته حتمي وعاجل. من الواضح أنه عاد كحصان سباق مجروح ليموت بين أهله, وليختبر حبنا له, بعد أن عانى في بداياته من الجفاء العاطفي لشعب كان يفضل عليه طلّة بن بلّة.. وعفوية طيبته.
أصوله الريفية التي أورثته الحياء, وحياته النضالية التي صقلت كبرياءه جعلته يصر على هيبة الموت وحشمته, فمات كبيرا ميتة تشبه غموض شخصيته السرية المعقدة.
ذات 29 ديسمبر, وبينما العالم يحتفل بأعياد الميلاد, كنا نودع جثمان الرجل الذي ولدت على يده مؤسسات الجزائر وأحلامها الكبرى, الرجل الذي كان لنزاهته لا يمتلك حتى بيتا, ولا عرفنا له أهلا, أو قريبا. ولكنه ترك لنا أجهزة وصيارفة تربوا تحت برنسه, سيتكلفون بقمع أحلامنا وإفقارنا , ورهن مستقبلنا لعدة أجيال . رحل مودعا بجداول الدموع التي لم يدري أنها ستتحول بعده إلى أنهار دماء.
بكاه الناس كفاجعة تخفي مؤامرة. لكأن موته إشاعة ومرضه مكيدة. فالجزائري تعلم من حكم بومدين نفسه ألا يصدق أن ثمة موتا طبيعيا, عندما يتعلق الأمر برجال السياسة.
ولذا رحل مكفنا بالأسئلة, ككل رجالات الجزائر الذين لفقت لهم ميتات وانتحارات وتصفيات انتقامية عابرة للقارات.. وللتاريخ.
في الواقع, ثمة أمران لا يصدقهما الجزائري: الموت بسبب طبيعي, والثراء من مال حلال. فآلية التفكير لدى الجزائري الذي كان شاهدا على عجائب الحكم, تجعله يعتقد أن كل من مات قتل, وكل من أثرى سرق, وبسبب هذا الريب الجماعي انهار السد الأخضر للثقة, وابتلعتنا كثبان الخيانات.
يحدث أن أحن إلى جزائر السبعينات. كنا في العشرين, وكان العالم لا يتجاوز أفق حينا, لكننا كنا نعتقد أن العالم كله كان يحسدنا . فقد كنا نصدر الثورة والأحلام, لأناس مازالوا منبهرين بشعب أعزل ركعت أمامه فرنسا.
العالم كان جهاز تلفزيون يبث صورا بالأسود والأبيض نتحلق حولها كل مساء, غير مصدقين معجزة ذلك الصندوق العجيب.
ولأننا كنا أول من أدخل التلفزيون إلى الحي, كانت الجارات تتقربن إلينا بإرسال طبق من الحلوى عصرا مع أولادهن, كي نسمح لهم بمشاهدة التلفزيون معنا.
كانت لنا أنماط حياة متداخلة بحكم فرحة الإستقلال التي لمت شملنا, وجعلتنا نتعلم المساكنة دون أن ننعم بالسكينة, في بناية وأصبحت" غنيمة استقلال" بالنسبة للبعض, وضريبة نزاهة وحماقة بالنسبة لأبي, الذي بحكم مسؤوليته عن توزيع الأملاك الشاغرة التي تركها الفرنسيون بعد الإستقلال , أصر على الإقامة في شقة للإيجار غير دار إنه سيقضي قيها ما بقي من عمره, ولن يغادرها إلا بعد ثلاثين سنة إلى قبره, بعد أن تدهورت صحته, بالسرعة التي تدهورت بها حالة البناية, وتعطل به دولاب القدر كما تعطل مصعدها نهائيا بعد السنوات الأولى للإستقلال, ليقضي شيخوخته في لهاث صعود طوابقها الخمسة.
في ذلك الزمن الأول لٌلإستقلال, بينما كان الجيران مشغولين بالتفرج على التلفزيون.. وعلينا, كنت من الجانب الآخر للشقة, أترقب بصبر مراهق, أن تنفح نافذة تلك السيدة البولونية, التي كانت تسكن مع زوجها الذي حضر مع مئات المهندسين التقنيين من الدول الاشتراكية, للنهوض بـ " الثورة الصناعية" في الجزائر, جاهلين الثورات الصغيرة الأخرى التي سيحدثونها في حياة الفتيان.. والفتيات.
كانت الجزائر, الخارجة لتوها من الحرب, صبية تقع في حب من جاؤوا من كل العالم لتهنئتها وإدارة شؤونها, وتعرف مغامراتها العاطفية الأولى العابرة للقارات والجنسيات واللهجات.. من خلال آلاف قصص الحب التي ولدت بينها وبين الفلسطينيين والعراقيين والمصريين واللبنانيين الذين جاؤوا ليعملوا أساتذة ومهندسين ومستشارين, والذين وقعوا تحت سطوة اسمها, كما ليقتسموا معها بعض شرف تاريخها, وتقتسم معهم ما فقدت من عروبتها.
بالنسبة لي, جاء الحب بولونيا. بحكم الجغرافية التي وضعت تلك المرأة الشقراء في مرمى بصري, في بناية تطل على شقتنا من الجانب الآخر, ولكن بمسافة تحترم وجاهة ذلك الشارع الذي هندسته فرنسا بما يليق بالمباني الرسمية المجاورة له من فخامة.
شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمام الأبيض, وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة. لم يكن يبدو منها شيئا عاريا. ربما لأنها كانت تدري أن العيون تتجسس عليها. لكنها كانت شهية بشعرها المبلل وحركاتها المغرية عن غير قصد.
يومها اختزنت ذاكرة فتوتي صورتها, لتصبح مع العمر رمزا للغواية النسائية التي أصبح من شروطها عندي ألا تبدو المرأة عارية.. وإنما تظل مشروع عري موارب.
كانت, ككل " الرفيقات" من الكتلة الاشتراكية, مشتعلة بجميع القضايا التي كان يقذفها بركان السبعينات من كل القارات.
وكنت في عمر الاكتشافات الأولى, مشتعلا بها, وبتلك القضايا العالمية الأكبر من أن تحملها نملة بشرية مثلي.
عندما تزوجت بعد ذلك بعدة سنوات, وجدتني أقيم في غرفة نوم. مقابلة لغرفة كانت غرفتها. كثيرا ما تأملت بيتا كان لسنتين مختبر تجاربي الأولى, ومرتعا لجنوني, قبل أن يضعه القدر مقابلا لما سيصبح حياتي الزوجية الفائقة التعقل.. والبرودة.
دوما, ثمة امرأة أولى, تأتيها فتى مرتبكا خجولا, فتتعلم على يدها أن تكون رجلا, ثم أخرى بعد ذلك بسنوات, ستبهرها بما تعلمته, وتختبر فيها سطوة رجولتك.
وحدها زوجتك, على جسدك أن يكون أبله وغبيا في حضرتها. فإن كنت اكتسبت خبراتك قبلها, ستتحاشى استعراضها أمامها عن حياء. وإن كنت كسبتها بعد الزواج, ستتفادى استعراضها عن ذكاء. ولذا يتسرب إكسير الشهوة في ما بينكما, وتسقط الأجساد في وهدة التآخي.
كانت " أولغا" أول "حفرة نسائية" وقعت فيها. ولم أعد أذكر الآن من قال: "يسقط الرجل في أول حفرة نسائية تصادفه. فتاريخ الرجل هو تاريخ السقوط.. في الحفر".
لكنني كثيرا ما تذكرت ضاحكا قول جدتي أثناء حديثها عن أبي الذي كثيرا ما بذر ثروته في النساء بسبب "فخاخ" تفنن في نصبها له :" من تمسك بأذناب البقر , رمين به في الحفر!".
ليست الشهوة, بل اليتم, ما يلقي بفتى في أول حفرة نسائية يصادفها, بحثا عن رحم يحتويه, عساه ينجبه من جديد.
قبل "أولغا" لم تكن تعنيني النساء, بقدر ما كانت تعنيني الحيوانات .. والأشياء.
النساء جميعهن كن يختصرن في جدتي لأبي, المرأة التي احتضنت طفولتي الأولى مذ غادرت سرير أمي رضيع وانتقلت للنوم في فراشها لعدة سنوات.
على فراشها الأرضي, بدأت مشواري كعابر سرير ستتلقفه الأسرة واحدا بعد الآخر حتى السرير الأخير.
ثمة شيء في طفولتك حدث. وبدون أن تعي ذلك , كل سيء سيدور حوله ,إلى آخر لحظة من حياتك.
لأنك لم تناد امرأة يوما " أمي" ليست علاقتك مع اللغة وحدها التي ستتضرر, بل كل علاقاتك بالأشياء.
مثل "روسو" يمكن أن أختصر حياتي بجملة بدأ بها سيرته الذاتية في كتابه " اعترافات" : " مجيئي إلى الحياة كلف أمي حياتها. وكان ذلك بداية ما سأعرفه من مآس".
منذ يتمي المبكر, وأنا أقيم علاقة أمومة مع ما يحيط بي. أختار لي كل فترة أما حتى اليوم الذي تصدمني فيه الأشياء, وتذكرني أنني لست طفلها.
الأمومة, اكتشفتها, كما عثر أرخميدس على نظريته وهو داخل حمامه. فذلك الوعاء الأبيض الكبير الذي يحتويني في فضاء مائي كجنين, حدث أن ولّد في داخلي إحساسا غريبا, جعل من مغطس الحمام أمي. فقد كنت أقضي فيه كل وقتي رافضا مغادرته خشية أن يفرغ من مائه, كما أتوقع أن تكون قد فرغت دماء أمي وهي تنزف بي لحظة الولادة.
يحدث للأمومة أن تؤلمني, حتى عندما لا تكون لها قرابة بي, كتلك القطة التي كنت في طفولتي أطعمها, وأحنو عليها, وأجلسها في حجري وأنا أطالع كتبي المدرسية, ثم أصبحت فجأة شرسة, ترفض أن أحملها أو أمرر يدي عليها.
ذات يوم, وقد تركت آثار مخالبها على يدي, نهرتني جدتي, وأمرتني أن أتركها وشأنها, لأنها حبلى ولا تحب أن يقربها أحد. فبكيت لأنني أدركت أنه في يوم ما سيصبح لها صغارا حقيقيون, وستتخلى عني.
بعد ذلك رأيتها ترضعهم, تلعقهم, تتفقدهم واحدا واحدا . وعلى كثرتهم لا تفرط في واحد منهم, وتظل تبحث عنه لتعود به محمولا من عنقه بين فكيها.
اليتم, كالعقم, يجعلك تغار من حيوان, وتطالب الله بحق التساوي به مادمت أحد مخلوقاته.
أسئلتي الوجودية بدأت مع القطة: كيف تستطيع القطة أن تحمل صغيرها بين أنيابها من دون أن تؤذيه؟ وهل حقا هي تخفي صغارها عن أبيهم الذي يحدث عندما يجوع أن يأكلهم؟ وهل الآباء جميعهم قساة وغير مبالين؟ وهل ثمة قطط أكثر أمومة من نساء يحملن أثداء تذر اللبن وتضن بالرحمة؟
بعد ذلك, عندما كبرت, وخبرت يتم الأوطان, كبرت" أسئلة القطة" وأصبحت أكثر وجعا:
هل يمكن لوطن أن يلحق بأبنائه أذى لا يلحقه حيوان بنسله؟ هل الثورات أشرس من القطط في التهامها لأبنائها من غير جوع؟ وكيف لا تقبل قطة, مهما كثر صغارها, أن يبتعد أحدهم عنها , ولا ترتاح حتى ترضعهم وتجمعهم حولها, بينما يرمي وطن أولاد إلى المنافي والشتات غير معني بأمرهم؟ وهل في طمر أوساخهم تحت التراب, هي أكثر حياء من رجال يعرضون بدون خجل, عار بطونهم المنتفخة بخميرة المال المنهوب؟
لم أبحث لهذه الأسئلة عن جواب, فـ " الأجوبة عمياء, وحدها الأسئلة ترى".
محبة
يتبع الفصل الثالث