كاتب الموضوع :
nabil1227
المنتدى :
التاريخ والاساطير
واسيني الأعرج
الحَقِيقةُ الإِبْدَاعِيَة
تأمّلاَت في التَّجْرَبة الروّائية الذّاتية
تحْضرني الآن ملامح " زولا" وهو يستعد لكتابة رسالته الشهيرة " إني أتّهم " " J`accuse "
التي وجّهها لرئيس الجمهورية سنة1889، في الدفاع عن الضابط دريفوس Dreyfus الذي اتّهم زوراً بتواطئه مع الألمان والتجسس لصالحهم . أتساءل في ماذا كان يفكّر وهو ينكفئ على ورقة بيضاء كان يعرف جيداً أنها يمكن أن تودي إلى المنفى وربّما الموت؟ ما هي هذه القوة الاستثنائية التي تدفع برجل مثله لأن يذهب نحو الخطر والقلق؟ أعتقد أن الذهاب نحو الحقيقة أو على الأقلّ ما نراه حقيقة هو العامل الحاسم في عملية مثل هذه . الرجال الإستثنائيون وحدهم يذهبون نحو هذه المخاطر . لأنه عندما كان زولا يصرخ بأعلى صوته، كان آخرون في موقع الارتباك، أندري جيد Andre Gide وحتى مارسيل بروست Marcel Proust وغيرهم بقوْا في أفق التساؤل قبل أن تدفعهم الأحداث المتعاقبة للانخراط في البحث عن الحقيقة مثلما فعل زولا قبلهم بسنوات .
ماذا يفعل الكاتب في نهاية المطاف، سوى البحث المحموم عن الحقيقة . الحقيقة التي يراها بصدق، قد يخطئ ويتحمّل تبعات خطئه مثلما فعل دْرؤو لاروشيل D. LaRochelle عندما رأى في النازية جوانب حسنة، وهو الشخصية اللاّمعة وعندما اكتشف فداحة الانحراف، وضع حدّاً لحياته بنفسه، ولكنّ الخطأ يناهض الصمت . فالصمت ليس من فضّة في الظروف القاسية، ولكنه من أردأ أنواع المعادن التي يمكن أن نتخيّلها .
الحياة تعلّمنا الكثير في صوغ هذه الحقيقة وإعطائها هوية تشبهنا وفي أحيان كثيرة تناقضنا، ومع ذلك نذهب نحوها ونتبنّاها وندافع عنها .
عندما أسأل نفسي اليوم، بعد ربع قرن من الممارسة الروائية، ماذا فعلتُ بالكتابة وماذا فعَلتْ بي؟ المؤكد أنا فعلنا الكثير في بعضنا البعض ولم نتهادن مطلقاً، حاولت أن أجرّها لكي تقول أشواقي الكثيرة والمتضاربة، لأن تقول أفراحي الصغيرة وأحزاني، لأن تقول شططي ورفضي لكلّ ما يبتذل الإنسان ويفقده إشراقه، لتقول، مستعصية، رأيها في المؤسسات القاهرة للإبداع والخلق:الدينية، والاجتماعية والعسكرية ودفعت بي لأن أقبل بكل شروطها القاسية، العزل وقبول الوحدة، السهر طويلاً أمام تقلبات كلمة مستعصية على الفهم، الرحيل الدائم نحو مجاهل الدنيا، الشطط العائلي الكبـير، مرض القلب المرتبك أمام كل شيء، أسئلة ولديَّ باسم وريما التي لا تظهر إلاّ من خلال رمشات عيونهم لابدّ أن يكون بَابا مهبولاً " حتى يقبل بهذه الشروط المجحفة؟ (ريما تقولها أحياناً بصوت مرتفع) الإيمان بشيء من قدرية الحياة ثم عيش حالة المنـفى.
والتنصّل مثل الجلدة عن اللحم، عن بلد يتنفس فينا بل الإصابة بمرض اسمه " مرض الوطن ":أنا مريض ببلد اسمه الجزائر Tesuis malade demon pays .
من هنا تصبح الكتابة مجموعة من الجراحات المتواترة . وكلما حملنا قلماً، إزددنا غوراً في مجاهيلها واقترابا حارقاً منها وتريّثاً أمام مشاقها .
عندما كتبت رواية " وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر ". كانت في رأسي أحراش القرية ووديانها التي جفت، ورعشات الخوف من مداهمات العسكر الفرنسي لبيوتات لم تكن قادرة على مقاومة الضربات القوية لأعقاب الأسلحة ولكن كذلك صورة والدي وهو يغادر صديقته بباريس، والمصنع الذي علمه العمل النقابي، ليعود إلى البلد في سنة 1957 وينخرط في الثورة ويستشهد في سنة 1959 . سؤالي هو سؤال إبْنَيّ:ألم يكن برأس والدي شيء من الخبل وهو يختار العودة نحو بلد، كل شيء فيه كان يقود إلى الموت؟ ربمّا . لكن المؤكد أنه فعل ذلك باختيار كبير وتأمُّل أكبر .
يحدث معي اليوم أن أستعيد سؤالاً طرحته على أمّي سنة بعد استشهاد والدي " متى يعود؟" وتأتيني أجوبة الأمّ صارمة ويقينية " بعد صيف، عندما تنور شجرة اللوز هذه" . نوّرت شجرة اللوز كثيراً ولم يعد والدي . وحتى عندما كبرت، ظللت مرتشقاً بأشجار اللوز وكلّما رأيت نوارها قد أينع شعرت بأن شيئاً سعيداً يتهيّأ لي في الخفاء .
والدي لم يعد ولكن أختي التي ظلت تنتظره بجدّ أكثر، لحقت به ولم تستطع أن تتحمّل غيابه المزمن . يمكننا أن ننتظر عزيزاً قرناً من الزمن، ونحن نحسب الأيام وكلما صارت المسافة التي تفصلنا عنه ضئيلة، ازدادت سعادتنا، لكننا عندما نفقد أمل اللقاء نخسر الحياة ونفضل أن نختصر كل شيء في نهاية مستعجلة . زليخة انسْحبت وعمرها خمسة عشر عاما فقط .
جرح زليخة مشابه لجرح الوالد .
كلما قرأت " الوقائع ". استحضرت وجهها . القارئ لا يعرف هذه التفاصيل وليس مجبراً على معرفتها، فالنصّ الأدبي هو نص الانزلاقات . الانزلاقات التي تجعل من الحقيقة الموضوعية، حقيقة احتمالية، أي حقيقة يتجاذبها الواقع والمتخيّل معاً وهو ما يبعدها عن التاريخ ويقربها أكثر من الذات العميقة . ومقتل النص الأدبي، ونجاحه، هنا . هنا بالضبط، إذ من السهل عليه أن ينـزلق نحو مضاهاة الواقع ليصبح مجرد صدى عاجزٍ عن أن يكون أدباً ولكن كذلك عاجز عن أن يكون تاريخاً بالمعنى الحرفي للكلمة .
ولم تكن رواية " ما تبقى من سيرة لخضر حمروش " إلاّ استمرارية للوقائع . بحيث ظلّ موضوع الحرب موضوعاً مهيمناً ومركزياً . وهو قوة الرواية الجزائرية لأنه وفر لها مادة لا تنضب أبداً ولكن يشكل كذلك نقطة ضعفها الكبرى لأنه ربطها بآلية من التكرارية والتشابه المستمرّ. لكن السؤال المركزي في رواية ما تبقَّى من سيرة لخضر حمروش، وخارج عَطاءات الانتصارات والأشواق وحالة الزهو التي كانت الرواية تشي بها ؛ ألَمْ يورّثنا هذا الماضي الزاهي وانتصارات الثورة أمراضاً كبيرة؟ الشَهيد القائد عبان رمضان . الثورة هي التي صفّته لأنه كان من المطالبين المحمومين بضرورة الفضل بين المؤسسة المدنية الممثلة في الحكومة المؤقتة والمؤسسة العسكرية الممثلة في قيادة الأركان L’ETAT MAJOR . الذين قتلوه بطريقة بشعة، هم أنفسهم من نشروا أول تعزية في جريدة المجاهد التي كان هو مؤسسها . شيء من العبثية؟ الجنون واللا عقل؟ هذه الأسئلة تجعل من الحقيقة التي تتوخاها الكتابة مستعصية وصعبة وتجعل من طريقها، معابر مستحيلة . الحقيقة ليست مسطحة، وليست خطّـاً مستقيماً والكتابة الكبـيرة هي التي تدخل هذه التعرجات وتتجاوز ما يمكن أن تشي به الحقيقة في تمظهراتها الخارجية فقط . لم تكن رواية "ضمير الغائب " إلاّ رغبة أخرى في التمادي نحو جرح الحرب للخروج منه . كانت حقيقة أخرى على الصعيد الاجتماعي قد بدأت تفرض نفسها، لم يعد كل الجزائريين أخوة كما روجت لذلك أيديولوجية جبهة التحرير الوطني . ولم يعد الجزائريون متساوين في الحقوق والواجبات كما يلح على ذلك دستور البلاد . فقد بدأ أثرياء الحرب يكشفون عن هوياتهم المختلفة وينشئون مزيداً من خطابات الانفتاح مع الحفاظ على الخصوصية الاشتراكية الوطنية . إلى اليوم لم أفهم هذه الخصوصية . المعادلات التي كنت أفهمها بسيطة بلد نشأ على خيارات اقتصادية كانت وراءها البيروقراطية الثقيلة التي عشعشت في المؤسسات وتعيش على الرّيع النفطي، أفرغت كل القيم التي مستها من عمقها، حوّلت الاشتراكية في الخطاب إلى رأسمالية متوحشة في الممارسة . والليبرالية المفتوحة إلى قحط ثقافي وممارسة بدائية في الربح لتنتهي إلى زمر مافيا، تتقاسم اقتصاد البلد وخيراته وحولت الدين بوصفه قيمة متعالية مشتركة للخير، إلى حالة توحّش يصبح فيها المختلف عدوّاً وجبت تصفيته ومحوه . فالجزائر التي كانت تتوفّر على إمكانات ثقافية استثنائية، كُسِرتْ وهُزِمت وأُفْرغت من مادتها الروحية الكبيرة .
العلاقة بجرح الثورة، أعطى للرواية الجزائرية توجهاً تمجيدياً، انتشائياً، انتصارياً . من تمجيد الحرب التي يقتل فيها " البطل " الروائي كل الأعداء الفرنسيين ويعود سالماً إلى قواعده إلى تمجـيد .
الاشتراكية التي ينتصر فيها " العامل " دائماً ضد صاحب المؤسسة ويجبره على الانصياع للمطالب النقابية إلى فتوحات " الشخصية الليبرالية " العقلانية والمتفتحة إلى حكمة وتفقه " البطل المتدين، الإسلامي " في بعض الأعمال الأخيرة . ماذا بقي من وراء هذا التمجيد؟ لا شيء سوى الحقيقة العارية التي لم يستطع الأدب أن يقبض عليها في الوقت المناسب، لأنه لم يطرح الأسئلة الصعبة التي تجعل من الأدب ليست فقط إجابات جاهزة ولكن ديمومة من المساءلات التي كثيراً ما تفضي إلى بعضها البعض بدون القدرة على ترتيب أجوبة صحيحة ومقنعة . لقد ارتبك كل شيء، والكتابة وحدها قادرة على فهم حالة الارتباك هذه شرط أن لا تظل رهينة المظاهر الأولى للحقيقة الموضوعية . بطل الحرب، صار اليوم عنصراً نشيطاً في عمليات الاستيراد وداخلاً في شبكات الهيمنة على أسواق السكر، والقهوة ومختلف السلع التي تشكل الحاجيات اليومية للمواطن، والعامل النقابي لم نعد نسمع به كثيراً أو صار إدارياً يمجّد مزايا اقتصاد السوق والمسلم العاقل والرزين الذي مجدته روايات الطاهر وطار الأخيرة، الشمعة والدهاليز مثلاً، صار يتقاسم حصص البيع والشراء وينشئ خطابات الموت والقتل . المشكل في كل هذا هو أن الأدب يبقى وتبقى معه مزالقنا وأخطاؤنا الكبيرة والصّغيرة . ولهذا فالكتابة لا تنشأ في الفراغ ولكنها كذلك لا تنشأ داخل حقيقة منجزة ومغلقة . وربّما هنا مقتل كتابة الرعيل الأوّل الذي أنجز نصوصه باللغة العربية وحتى الكثير ممن كتب باللغة الفرنسية . لم تكن هناك قدرة كافية لالتقاط ما هو جوهري داخل هذه العملية، حتى ولو كان هذا الجوهري يناقض قناعاتنا المترسخة والتي توفّر لنا طمأنينة كبيرة . من هنا كان لا بدّ من قتل الأب الشرعي (بالمنطق الفرويدي) والأب غير الشرعي .أي الأب الآتي من وطنك ومن لغتك، أي من فراشك والأب المتأتي من لغة أخرى _ وهي ها هنا اللغة الفرنسية . لقد نشأنا على كتابات هذا الرعيل الأوّل الذي أخرج اللغة العربية من سجن الدين، ليدخلها سجن الخطاب الجاهز والمطلق الذي يشبه في الكثير من مواصفاته الدين ذاته بوصفه منظومة من اليقينيات . سؤالي الذي شغلني طويلاً ولمدة سنوات كثيرة، وأنا أتهـيّأ لكتابة " فاجعة الليلة السابعة بعد الألف "، هو كيفية تهديم هذه المطلقات لرؤية ما يتخـبّأ وراءها من تفاصيل وصراخات وتواريخ صغيرة، طحنها هذا الخطاب . وأنا أطالع التفاسير القرآنية الكثيرة، والنصوص التاريخية والإسلامية، اكتشفت أن هناك مزالق ارتكبت في لحظة تاريخية محددة، مازلنا نعيد إلى اليوم إنتاجها بكثير من السعادة والتلذذ المرضي الذي لا يضاهيه إلاّ فقدان الذاكرة . فعندما صرخ ابن رشد بأعلى صوته بضرورة فصل " الحكمة " عن " الشريعة "، فصل " الدولة "
عن " الدين "، رميناه بسعادة كبيرة خارج أسوار المدينة، وجُرِّد من كل قيمة علمية وفكرية . لا يُعْقَل أن لا يوجد " نموذج " عربي واحد يصلح أن يُقتدى به؟ فاللغة عمّمَت هذه الهزيمة ونقلت هذه الدورة التاريخية التي انغلقت على ذاتها لتصبح تكرارية . حتى ما توارثناه عن ألف ليلة، عن شهرزاد على أساس أنها " نموذج الاستثناء " للتحرر، لم تكن إلاّ الوجه الآخر المنعكس في المرآة، لوجه شهريار . شهرزاد كانت شهريار في المؤنث .قالتْ ما كان يريد سماعه وإلاّ كيف نُفسر امتلاء نص ألف ليلة وليلة بالخيانات الزوجية في وقت أن وجود شهرزاد كان لغرض مناقض .هي لا يمكن أن تناقض السلطان، أي السلطة الرسمية، فأعادت إنتاج خطابه وأعطته امتدادا رمزياً بإنجابها لذكور ثلاثة . الخاسر الأكبر في ألف ليلة وليلة ليست شهرزاد ومأساتها ولكن القارئ المفترض الذي وقف مشدوهاً أمام صمت دنيا زاد أختها، رواية " الفاجعة " ليست إلاّ هذه المحاولة لتهديم حقيقة شهرزاد والاستماع إلى اجتهاد دنيا زاد التي ستقول كل المسكوت عنه بدون أدنى تردد وهي تعرف أنّ الذي ينتظرها في الأفق كبـير وخطير .
نفس اللحظة التي منعت صوت دنيا زاد من الظهور، هي نفسها، في حالتها الاستمرارية، التي منعت شكلاً سردياً كبيراً قائماً بذاته من الاستمرار والتطور . تصوروا بنية بكاملها، اكتملت واستقلت وتمايزت في ألف ليلة وليلة تُهْمَل بشكل يشبه " الأمنيزيا " ويتمّ الالتصاق بسهولة بالشكل الغربي للرواية من باب التحديث والتطور؟ ألم يكن من الأفضل إدراج هذه الحداثة ضمن سياقات تسائل تاريخها وأشواقها وإنجازاتها من منطلق العصر الذي تعيشه ومن منطلق تاريخها الذي أنجزته وانتقدته؟ هل الحداثة سهلة إلى الحدّ الذي تصبح فيه رديفاً للنقل؟ لا أعتقد . عندما وقف الطهطاوي في رحلته الباريسية مشدوهاً أمام حضارة " الغرب "، كان يُعلن بشكل قبْلي عن انهيار كلّي في الذات العربية، لكن هذه الذات المهزومة عسكرياً واقتصاديا كانت تُشي قصصها وحكاياتها ويغيب السؤال المركزي الذي تمادى في تغييبه هيكل في رواية " زينب " وأصبحت الحداثة، على صدق النوايا، مجرد اندراج في دائرة الهيمنة . صحيح أنه لا حدود للثقافة، لأنها من حيث الجوهر، هي فعل إنساني، ولكن الصحيح كذلك هو أنّ الحداثة لا تُنجز إلا بمعرفة دقيقة للذات، الذات في حركيتها وتواصلها الإنساني وليس في ثباتها، في تساؤلاتها المستمرة وليس في اطمئناناتها .
قد تبدو في هذا السياق كلمة تهديم مغرضة ولكنها ضرورية، لأنها تتعلّق بضرورة الانفصال عن الأبوة لا للتحليق فقط بالأجنحة الخاصة، ولكن لرؤية الحقيقة وفق مواصفات العصر التي تختلـف
عن تلك التي صاحبت بروز الجيل السابق من الروائيين . من المفيد جداً، كما اتضح لي أثناء عملية كتابة " نوار اللوز " الانتباه لهذه التفاصيل الصغيرة التي تصنع الكتابة وتمدّد هويّة الحداثة بالنسبة لنا . العودة إلى الحكاية الشعبية لم يكن فقط من أجل استنطاق مضامينها ومعرفتها، ولكن في البحث كذلك في لغة القصّ . فاللغة ليست معطى جاهزاً ومنجزاً وما على الكاتب إلاّ الأخذ به واستعماله مثل ما يفعل الطّفل بلُعَبهِ التركيبية . مسألة أكثر تشابكاً وتعقيداً من ذلك . اللغة كائن حيّ وحاملة للمسموع والمسكوت عنه . لغة تقول ولكن في الوقت نفسه ومن خلال الكلمة ذاتها هناك معنى يتسرسب من بين الأصابع وعلينا أن نقبض عليه بقوة وأن لا نتركه ينفلت بسهولة مثلما فعل الجيل السابق الذي اعتبر اللغة مادة كاملة ومنجزة . أليست الرواية لغة، ولغة بامتياز، ولهذا وجب العمل بقوة داخل هذا الحقل المعقّد وغير المضمون . ليس القصد هنا _ مادام العمل يتعلّق بألف ليلة وليلة والسيرة الهلالية كنصوص مرجعية للفاجعة ونوار اللوز _ الارتكان إلى لغة قديمة صيغت بها هذه النصوص كما فعل الكثير من رواد هذه المدرسة للحفاظ على الهوية المهددة (؟) ولكن البحث داخل لغة العصر عن توليفات جديدة تضمن تقاطعها مع التراث وتضمن استمرارها ولْو كانت هذه الاستمرارية تتصادم بالمادة التراثية ذاتها . يجب أنّ نؤمن بمجموعة من المسلمات، وأنّ لكّل زمن لغتَه ولا يمكن نقل لغة إلى عصر غير عصرها لأن هذا سينشئ حواجز بين اللغة ومستهلكها، أي القارئ الذي يتلقّاها . الكتابة لا تعوّض اغترابا باغتراب أخر . العصر والدراسات الحديثة والتجارب الخاصة تمنح لنا فرصاً كبيراً لتغيير العلاقة باللغة بحيث تصبح تنتمي إلينا، أي إلى العصر الذي نعيشه وننتمي إليها بوصفها حاملة ليس فقط لحاضرنا ولكن لماضينا، الجانب الحاضر فيه والمغيب قصداً . لهذا العلاقة باللغة من هذا المنطق تتطلب استعدادات ثقافية كبيرة لم تكن متوفرة لدى الجيل السابق بحكم الظروف الاستعمارية والاعتماد أكثر على نزعة عصامية في الكتابة ليست دائماً إيجابية . فالبياضات التي صاحبت كتابات الرعيل الأول من الروائيين الجزائريين كان لا بد من إدراجها ضمن ورشة عامة تعطِي للجيل حقه ولا تتوقف عند حدوده حتى ولو أدى ذلك إلى قطيعة شبيهة بالقطيعة الفرويدية .
وقد بيَّنت الخيبات المتتالية للوطن العربي، أنّ الإشكاليات التي طُرحت علينا ككتاب لم تكن جزائرية فقط ولكنها كانت عامة، سوى أنّ تمظهراتها الشكلية تختلف من مكان إلى مكان ومن قطر إلى قطر . كل شيء تحوّل إلى سؤال كبـير: إلى أين نحن متّجهون؟.
عندما بدأت محنة التسعينات في الجزائر انطرح من جديد السؤال الذي ظل عالقاً بشكل كبـير:
ماذا تستطيع الكتابة فعله أمام طاحونة الموت الأصولي المجاني والبدائي؟ أنستطيع الكتابة بدون السقوط في التبشير والشتيمة؟ هل نصمت حفاظاً على الروح وعلى النفس خوفاً من السقوط في الزلل؟ هل بإمكان الكتابة أن تكون حيادية في وضع يُقتل فيه الناس أمامك؟ هل كان بإمكان كتّاب جيل الأربعينيات في أوروبا أن يصمت على جرائم النازية؟ صحيح أنه لا يُنْتظر الكثير من كتابات تنشأ من داخل النّار وهي طرف فاعل، أن تكون عظيمة، ولكنها تستطيع أن تشهد على زمن الموت . حتى هذه الشهادة الإيجابية بدت لي لوحدها مقصّرة، فذهبت نحو سؤال الذاكرة الذي يبدو بعيداً:كيف يمكن لبلد كان واجهة مفتوحة على العالم أنْ يصبح فجأة بلداً منغلقاً وغير متسامح مع تاريخه؟ أي يد عبثت، لتحوّل مادة الانتصار الثقافي المتعددة، إلى حالة إعاقة ومرض مزمنين؟ لم تكن النصوص التي كتبتها عن محنة الجزائر :
-١ سيدة المقام
٢ـ ذاكرة المساء
٣ـ حارسة الظلال
٤ـ مرايا الضرير.
إلاّ محاولة للانخراط في الشهادة ضد العصر والعمل على مُخَبَّـآت الذاكرة . قول الحقيقة المباشرة، الحية، النابضة، مع احتمال الخطأ وتفادي الصمت المتواطئ . وفي الوقت نفسه التأمل طويلاً في الشروخات الكبيرة للذاكرة الوطنية التي تتخبّأ فيها ممارسات معاكسة لما كان يحدث في الجزائر . ماذا يمكن أن يقول سرفانتيس الذي بقي في الجزائر خمس سنوات، صحيح شبه سجين، ولكن البلد الذي منحه المشقة، أعطاه فرصة كتابة أعظم نص في التاريخ:دون كيشوت .
تفصلنا عن هذا التاريخ خمسة قرون ومع ذلك، فالجزائر التي وصفها، كانت أرحم من جزائر تقتل أبناءها . جزائر يتلاقى فيها المسلم والمسيحي واليهودي في نفس الحيّ وفي نفس السوق بدون أن يحمل أحد فأسه وينـزل به على رأس من يخالفه العقيدة أو نمط الحياة . وماذا يقول أبوليوس، ابن مداوروش (قسنطينة) في القرن الثاني للميلاد والذي هزّ أركان الملحمة وبناءاتها المطلقة والثابتة في نصّه " الحمار الذهبي "؟ وماذا يقول "ابن خلدون " وهو منعزل في مغارة " افرنده " بضواحي (تيارت) ليضع اللمسات الأولى لمؤلفه الضخم " المقدمة "؟ وماذا يقول ألبيركامي الذي أخطأ كثيراً ولكنه كتب بحبّ كبـير عن الجزائر من موقعه وثقافته؟ .
لكن الكتابة عن المحنة لها مخاطرها المباشرة :الموت أو المنفى ولها مخاطرها:الاندراج نحو السياسي على حساب أدبية النصّ، وأعتقد أني لم أنجُ من أية واحدة . إذ وجدتني فجأة في باريس بدعوة من المدرسة العليا للأساتذة ثم من السوربون . إلى اليوم ومنذ سبع سنوات وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأنّ حالة المنفى هذه هي حالة مُؤقتة . لكن يبدو أن المؤقت الذي بدأ بفكرة التغيب ثلاثة أشهر تمددّ إلى سبع سنوات . الكتابة وحدها لا تقهر المنفى ولكنها تذكي شعلات وحرائق الوطن. بعض أصدقائي الذين انتهى بهم المقام في باريس يقولون وهم على حق فيما أعتقد :ما معنى أن أكون مواطناً في وطن لا يضمن لي الحدّ الأدنى من الحقوق، أي حقّ العيش؟ معادلة سحرية مكنـتهم من الاستقرار الحياتي والعائلي، هي نفس المعادلة التي حوّلتني إلى رحالة دائم بين ضفتين قاتلتين موحشتين وجميلتين:ضفة تدفع بك نحو مجاهيل الموت البشع ولكنها تعطيك فرصة شمّ رائحة التربة التي ضمّتْ جدك الأوّل الذي عندما غادر غرناطة، أشعل النار في مكتبته الكبيرة وقطع البحر باتجاه بلاد المغرب بعد أن عض غبناً حتى أدمى ذراعه .جدتي تقول:إن جدك الأندلسي الأوّل لم يمت معمراً، ولكنه مات مسموماً، فقد عض ذراعه وهو غاضب، وعضَّة الغُبن مسمومة ولا تُمهل صاحبها إلاّ قليلاً . وضفة تضمن لك وهج الروح والجسد والسلامة ولكنها تسلبك المعنى العميق للأشياء، إذ أن سؤال:وماذا بعد؟ لا يوصل إلاّ للجدران الموصدة.
في الرواية الأخيرة " شرفات بحر الشمال " حاولت أن أنسى أنّ لي وطناً لأتمكن من الكتابة عن شيء آخر، غير الموت، غير الجزائر، غير الحرائق . فأنشأت قصة حب. ربّما كان الحب هو الحالة الإنسانية التي لا ينتهي نبضها أبداً . لكن هل يمكن أن نكتب عن الحب في الوطن العربي، بدون أن ينهض أمامنا تاريخنا الفردي المرتبك والمرتبط عضوياً بالتاريخ الوطني؟ لا أدري إذا كانت الرواية الأخيرة قد أجابت على ذلك ولكنها على الأقل طرحته، وهذه المرة انسحبت بدون أن تنتظر الإجابات، لأنها تعرف مسبقاً أنّ الإجابات مستعصية ونحتاج إلى زمن أخر غير هذا لنحكم على الفعل . لأنه قد يأتي من يقول بكل بساطة اليوم:
عندما كان الناس يموتون . كنْتَ تكتب عن الحب ألم يكن من الأفيد أن تكتب عن حرائق الوطن؟
وكأن الكتابة عن الحبّ فِعْلُ سهـل وثانوي في دائرة محكومة بالكراهية والضّغينة
|