كاتب الموضوع :
roudy
المنتدى :
القصص المكتمله
كان مستلقٍ على قدمها اليمنى بأريحية، تعبث بشعره وهي تشاهد التلفاز، أنيسها الوحيد في هذا المنزل..
سمعا دقات بالباب، أعتدل كلاهما وهما يطالعان بعضهما بتساؤل....
- لا تذهب، لاتفتح..
- لماذا؟!
- انتظر قليلاً، سيمل الطارق الدق ويذهب من تلقاء نفسه.
- ربما كان أحداً مهماً..
تطلعت "مريم" إلى ساعتها، الساعة الآن الثامنة مساءاً، نظرت لأخيها بتردد، هزّ رأسه بأن أطمأني...
ابتسمت في وجهه، باتت تعتمد عليه الآن، أصبح هذا الصغير في عينيها رجلاً يُحسسها بالأمان، حتى أسلوبه معها تغير، بات وديعاً ونادراً ما يطلب شيء مستحيل منها....
نهض من مكانه، أستوقفته قائلة:
- لا تفتح إلا بعد أن تتأكد من هوية القادم.
هزّ رأسه بصمت من جديد ودلف.
راقبت طيفه الغادي، وعادت لتتابع التلفاز ولكن بقلق!!!
أطلّت "أم محمود"، أستغربت من قدومها، فهي عادةً لا تمر إلا في أوقات الظهيرة لتتفقد أحوالها...
رحبت بها بحرارة، لا يهم، على الأقل ستجد من تخاطبه!!
- كيف حالكِ الآن يا ابنتي؟
- الحمدلله، أفضل حالاً.
- الحمدلله.
ثم أخذت تتطلع لأحمد وكأنها تتردد في قول شئٍ ما.
"- أحمد" أنتظرني في الغرفة سأعود بعد قليل.
- حاضر. دلف وهو يحدج الجارة بنظرة غيظ.
عادت لتبتسم من جديد وهي تلملم عباءتها في حضنها، ذكرتها هذه الحركة بوالدتها رحمها الله....
- اسمعي يا ابنتي أتيتك في موضوع خاص.
أنتابها القلق من لهجتها الجادة:
- خير؟! تفضلي..
- إن شاء الله خير.
…………………………-
- في الحقيقة، لقد جئت لأخطبك لإبني "محمود".
تطلعت "مريم" لها بدهشة وذهول، بدت وكأنها غير مستوعبة.
- محمود!!!!
- أجل، لو تعلمين كم هو معجب بك و بأخلاقك و شجاعتك، لا يفتأ يذكرك يومياً أمامنا.
………………….-
- ها ماذا قلتِ؟!
- أقولُ ماذا؟!
- موافقة بالتأكيد!!!
- لكن أليس متزوجاً ولديه أطفال؟!
- كان متزوجاً، هو مطلق الآن، ولديه "سعيد" و "علي" الله يحفظهم.
- أأأأأأأ...ثم هو أكبر مني بكثير...
- الرجل لا يُعيبه سنه، وهو الحمد لله موظف كبير في الحكومة.
…………………………-
- وأنتِ فتاة لا يصح أن تبقي لوحدك، الناس لن ترحمك مهما حافظتِ على نفسك، أنت بحاجة لزوج ولن تجدي أفضل من ابني ليقترن بك!!
أطرقت "مريم" لا حياءاً وإنما كانت تشعر بشعور غريب، بالإنقباض ربما....
- اسمعي يا ابنتي، أنا لن أضغط عليكِ الآن، سأمر عليكِ غداً أو بعد غد لآخذ جوابك، وأعلم أنكِ عاقلة ستفكرين بمصلحتك ومصلحة أخوكِ الصغير..
وحدجتها بنظرة ما وأنصرفت مودعةً.....
محمود!!!
يريدني أنا؟!
لماذا..لماذا الآن؟!
انتظري...
خرجت، خرجت و وضعتكِ بين خيارين أحلاهما مر....
أتتزوجينه؟!
هل لديكِ مجال للإختيار..
أو الرفض...
هي نفسها كانت تتكلم بصورة الجزم، لكأنها موقنة بأني سأقبل بابنها....
أعذرها أنا....
فمن أنتِ يا "مريم" لترفضي في حالتك هذه..و الفرص تمرُّ مرّ السحاب...
إما تسوقكِ إلى النجاة أو تُلقيكِ إلى الهاوية.....
أأتزوج؟!
كلا...
بلى...
كلا..
كلا كلا ليس هو من تخيلته...
ليس هو بفارس أحلامي..
ليس هو من تمنيته..
ليس هو من حلمتُ منه...
صه..ومن أنتِ لتحلمي...
مثلكِ لا يحلم...
أحلامنا هي من تغتالنا....
هي من تضيعنا....
أشكري ربك أنهُ طرق بابك..
مقطوعة من شجرة...
أخوكِ مدمن مخدرات...
وأختك عاار!!!!
"أين أنتِ يا ليلى أين أنتِ"؟!!!
وهو...
ماذا عنه؟!
يكفي يا "مريم" مثله لا يستحق التفكير...
دوسي على قلبك مثلما داسك بذلك اليوم....
ذلك المجرم..ذلك القاسي...أنى لهُ أن يحس بك...
لا يعرف إلا نفسه ولا يحب إلا هي...
أقبلي بواقعكِ...لاتنظري أبعد من أنفك...
هذه هي الحياة....
والحمدلله على كل حال....
أنهضت نفسها وهي تتنهد أسفاً، وقفت عند باب الغرفة، هزّت رأسها ثم أكملت طريقها.....
===============
فتحت عينيها بإضطراب، بدت الصور في عينيها مشوشة، مقلوبة، متكسرة كغرفتها التي قلبتها على عقبيها بالأمس....
شدّت اللحاف بتوعك، رقبتها ويداها تؤلمانها، وقد غشى الإحمرار أطرافها...
كابوس، ما عاشتهُ بالأمس كابوس...
كاذب وكاذبة وغبية!!!
مخادع ومخادعة وأكبر حمقاء!!!
سالت دمعة حارة على الخد، دفنت رأسها بالوسادة، لتنشج من جديد...
لتنشج قصة الحب الكاذب، قصة الوهم، قصة الضلالات!!!
حين تُعشش الأوهام على حياتنا، حين تحجب عن أعيننا نور الحقيقة...
ونظلُّ نتخبط بجهل بين ظلماتها، تخدعُ أبصارنا كواحة الظمآن، كسراب...
الحقيقة كريهة، كريهة، كريهة كالعلقم...
لكنها الحقيقة وما دونها لا شئ..لاشئ...
ضربت أعلى الوسادة بقبضتها المتورمة وهي تصيح:
- كذاب..غشاش..حقير، خدعني، أوهمني وأضلني...
لا زال النهار في بداياته، أشعته تتخلل كل ظلمة، تُحيط بكل مكان، كظلال الزيزفون، لينير الطريق، ويزيل تلك العصابة...
عصابة على العينين!!!
ابتسمي، وأخلعي تلك النظارة السوداء...
فلم يتبقَ الكثير...
باقي على الزمن ساعة...أليس كذلك؟!
===========
قضت الليل برُّمته وشطراً من النهار وهي تفكر...
الأفكار تتقاذفها، ترميها في دوامة...
بها يتحدد مصيرها ومصير "أحمد" إلى الأبد....
والفرص تمر مرّ السحاب....
دائماً الفرص ودائماً السحاب!!!
وهذا حد السكين...
في أي جهةٍ يقطع....
لابد أن تكون الشفرة حادة، والنصل النصل لابد أن يكون دقيقاً....
من بعده إما الراحة وإما..الفناء....
ماذا أفعل..أجيبوني....
أقول نعم...
أم أقول لا....
كلا الخيارين مر، كلاهما مر...
انساب أذان الظهر شفافاً، يصدح في الآفاق، يدغدغُ الآذان، يحلق بنا عالياً عالياً إلى النجوم....
سارت لتتوضأ، أنكبت على الصلاة، تلاشت الأطياف، ليس تماماً، ولكن على الأقل بما يتيح لها راحة البال برهة......
أيقظت "أحمد" ليصلي هو الآخر، بدا ملائكياً في نومته....
من أجلك..من أجلك يا أحمد أفعل أي شئ....
وتسللت دمعة!!!
===========
منذُ ساعات نُقل الجسد إلى الوطن....
منذُُ ساعات وقد مرت على وفاته أيام!!!
السفارة لم ترتضي نقله، لا بد من تصاريح، أوراق رسمية، فحص، وأن تأتي العائلة بأكملها لتتعرف عليه..
لقد تعذبت كثيراً كثيراً يا فيصل، أُهنت بموتك..
طعنوا كرامتك، لكأنهم كانوا يتعاملون مع قطعة لحم، نسوا أنّ الحياة كانت تدبُّ يوماً في ذلك الجسد....
كانت تملأه مرحاً، شقاوة، تمنحهُ شيئاً مميزاً...تمنحهُ....
الإنسانية...
ولكن إنسانية ضائعة، إنسانية بلا هوية!!!
عبثت بها الأهواء، خدشتها وخدشت كل المعاني الجميلة التي تحويها...
أنحنُ فعلاً من نفسد أنفسنا؟! نعبثُ بصفاء روحنا وندنسها، ندنسها بشرورنا، برغباتنا، بأهوائنا...
"رحمك الله يا فيصل رحمك الله"...
متّ غريباً، وأيُّ ميتة!!!
لترحمك السماء...
يا رب أرحمه و....
أرحمني.....
الوقت يمضي بسرعة، لكأنهُ في عجلة، في سباق إما غالب وإما مغلوب....
كان يسير على قدميه، يركل ما يصادفه، يتنهد حيناً، ويطالع نجوم السماء حيناً آخر....
في صدره عزم، تحدي، أمل و...
إنكسار....
قادتهُ قدماه إلى هناك، إلى البيت، ليس بيته وإنما بيتها...
حيثُ تقبع ويقبع قلبهُ معها....
فتح "أحمد" الباب وهو يبتسم للواقف أمامه بحب:
- هل يوجد أحد بالبيت؟
أجاب الصغير ببراءة وهو يعبث بشعره:
- كلهم ذهبوا، لم يبق معي إلا "مريم".
- أين هي؟
واصطحبه معه إلى غرفة الجلوس، كان الباب مفتوحاً، رآها ضامة رجليها إلى صدرها، وقد وضعت يديها أسفل ذقنها وهي تشاهد التلفاز وتبتسم ببراءة..
كانت مندمجة، لم تنتبه لقدومه، تنحنح في وقفته، فالتفتت إليه....
تعطل دماغها فجأة، رمشت عيناها مراراً وتكراراً، وحين أفاقت من دهشتها شهقت برعب:
- ماذا تفعل هنا ؟! أخرج....
لم يجب عليها، نزل بمحاذاة "أحمد"، أخرج من جيبه أوراقاً نقدية ونقدها إياه:
- اشتر لي من البقالة علبة سجائر، واشتر لك بالباقي ما تشاء..
- كلا، "أحمد" لا تستمع له، لا تذهب أبقى معي. صاحت بيأس.
نظر "أحمد" إلى المال الموجود بيده، منذُ أن توفي والده لم تقع عيناه على نقود، صراعٌ دار في باطنه، يأخذها أم لا؟؟! نظر إلى "خالد" بتردد:
- هل ستضرب أختي؟!
ابتسم "خالد" وهو يجيب:
- كلا، بل سأحرسها إلى أن تعود..
هزّ "أحمد" رأسه بإطمئنان لكأنهُ يثق فيه!! وأخذ يركض وهو يفكر بما يشتريه، دراجة أم طيارة؟!
لوّحت له "مريم" بإختناق أن كلا، لكنهُ كان قد ذهب....
"حتى أنت يا "أحمد" تركتني؟! من لي في هذه الدنيا...من لي؟!!"
والتقت عيناهما برهة، نكست رأسها وهي تزيد من ضم رجليها إلى صدرها، نزع نعليه وتقدم منها، صرخت بجزع ودفنت وجهها في الوسادة وهي تبكي بقوة.
- أرجوكِ لا تبكي.
انتشلت نفسها وهي تصرخ في وجهه بشراسة:
- لماذا جأت إلى هنا؟! ألتكمل ما بدأته في بيتكم؟!!
لم يجب، احتواها بعينيه بحنان، كانت ترتجف كعصفورة صغيرة كُسّرت أجنحتها، بدت ضعيفة، هشة، ودّ أن يحتضنها، يمتص دموعها وآلامها......
ماذا فعلت بها يا "خالد" ماذا فعلت؟!
أردفت وأنفاسها تتقطع:
- تعتقد أنني لا أملك أحداً يدافع عني، سيأتي أخي "محمد"، قال لي أنهُ سيذهب ويعود بعد قليل..
ثم هزت رأسها بسرعة نافيةً:
- بل الآن..الآن..
وانخرطت في بكاءٍ مرير....
- لم آتِ لأؤذيكِ. قال بعطف.
لكنها لم تكن تسمع، كانت حواسها غائبة، تأملته من جديد وأسنانها تصطك، ثم حولت عيناها بعجز حول المكان لكأنها تبحث شيئاً أو تنتظر شخصاً ما...
هزت رأسها أسفاً وهي تعتصر دموعها عصراً...لا أحد..لا أحد....
لم تملك إلا أن ترفع يديها بتهالك إلى السماء، دعت بحرارة نابعة من الأعماق، بل أعماق الأعماق:
- يا رب أرحني، خذني إليك، لا أريد هذه الحياة، لا أريدها....
راعهُ ما سمعه، تقدم منها بخوف وهو ينزل ذراعيها لأسفل...
عادت لترفعهما بإصرار وخدرٌ عجيب يسري في أوصالها، يُحسسها بالأمان ربما لأول مرة منذُ زمنٍ طويل....
أخ ما أقسى الزمن....
- يا رب خُذ روحي، خذ روحي، خذ روحي...
- يكفي، قلتُ لكِ لم آت لأؤذيكِ.
صرخ وقد أخذ منهُ الخوف ألف مأخذ..
تطلعت إليه بشك، عيناها تكذبانه، تكذبان كل حرفٍ تنطقُ به شفتاه...
كاذب..غشاش آخر!!!!
جثا على مقربةٍ منها، ولكن بمسافة تحسسها بالإطمئنان:
- أتتزوجينني؟!
نظرت إليه من بين رموشها المسبلة بالدموع، رمشتهما مراراً وتكراراً لترى وجهه بوضوح، أكان يسخر منها؟!
- أتتزوجينني؟! كررها بتوسل.
- أيُّ كذبةٍ سخيفةٍ هذه!!
- أقسم لكِ بشرف أني صادق.
أرتعش فمها الصغير، وعادت لتغطي وجهها الباكي بيديها النحيلتين:
- لا أريد أن أتزوج عُرفياً، لا أريد، لا أريد...
- ومن قال أني أريد زواجاً عرفياً، بل زواج إشهار، على سنة الله ورسوله..
أبعدت يديها، لا بد أنهُ جُن أو يكذب ليخدعها، إنهُ سافل، لم ترى منهُ إلا الدناءة ليصل إلى مبتغاه.
- أرجوك أخرج من هنا، أعصابي لا تحتمل هذه الألاعيب.
أمسك ذراعها، صرخت فيه:
- ابتعد عني، لا تلمسني، لا تلمسني..
- أتخالينني كاذباً، لقد أقسمتُ لكِ بشرفي.
- أنت لا تعرف معنى للشرف، أنت حيوان، تستغل ضعف الآخرين.
- أتقصدين ذلك اليوم؟! أجل كنتُ حيواناً حينها أعترفُ بذلك، كنتُ أحاول أن أمسح صورتك من ذهني، طيفك كان يلاحقني أينما كنت، كان بإستطاعتي إخضاعك تلك الليلة ولكنني لم أفعل، أسأليني لمَ؟!
وضعت يديها على أذنيها وهي تصيح:
- أنت كريه، كريه، لا أريد أن أسمع شيئاً منك، أخرج من هنا..
أبعد يديها وهو يضمها ليديه بقوة كي لا تفلتها، صرخ:
- أسأليني لمَ؟!
- لا أريد أن أعرف، أتركني....
- لأنني أحبك، ولو نلتك تلك الليلة لكنتُ خسرتك طوال حياتي، أعرفُ هذا...
صدرها يعلو ويهبط بقوة والحرارة تمتد لتلسع صدرها...
سكنت برهة تنظر إليه بصمت، تُريد أن تصدقه، تعيش معه هذا الحلم الجميل الذي بدأ يتراقص أمام عينيها..
هو وهي وأحمد في بيتٍ آخر، بيتٍ نظيف بعيد عن القذارة كلها....
التفتت إلى الباب، إلى حيثُ خرج "أحمد"، كأنها تنظر إلى شئٍ ما:
- تريد أن تتزوجني؟!
- أجل.
- أقسِم.
- أقسم بالله.
- أقسِم بالله بكسر الهاء!!
- أقسم باللهِ العظيم أني صادق.
- لماذا؟
- لأني أحبك.
- الحبُّ وحده لا يكفي.
- ولأني أريد لأحمد أن يربى نظيفاً...
عادت لتلتفت إليه، ترمقه بحزن أبى أن يفارقها في أيامها الأخيرة:
- وأهلك، أمك وأبوك لن يقبلوا أن تقترن بواحدة مثلي..
- صه، أنتِ أصلاً لا يوجد مثلك في هذا الكون أبداً....
|