كاتب الموضوع :
وحده فاضيه
المنتدى :
الارشيف
الجزء الأول
بريمفيرا الحسناء
هذه روما أقدم عاصمات العالم المتحضر تنام وعلى كاهلها كلكل من الحزن القاتم وكان رعب غامض يجمد
المدينة الرائعة فإذا هي تلتفع بالصمت وتصلي وتختنق وفي المكان ذاته الذي كان يجلجل فيه صوت
شيشرون على منصة ميدان الفوروم الصاخب كانت تتعالي بعض الترانيم بأصوات شجيه حزينة وفي هذا
المكان بالذات الذي قاتل فيه آل كراكوس دفاعا عن الحرية كان يضغط كابوس رهيب من طغيان آل بورجيا ولم
يكن رودريك بورجيا سوى فرد من الثالوث المرعب الذي كان يبسط سلطانه على روما مدينة المدن ذلك أنه
كان لرودريك أيضا ابن يمثل العنف وابنة تجسد الحيلة تجسيدا أما الفتى فقد كان يدعى قيصر وأما الفتاة
فقد كانت تدعى لو كريس بورجيا.
وها نحن الآن في شهر نوار من عام 1501 في هذا النهار بزغت الشمس في سماء صافية زاهية فالصبيحة
مشرقة والفرح يغمر الأجواء غير أن روما كانت ما تزال ساكنة متجمدة وكأنها تعيش في ظل الكهنة الذين
يرزح كابوسهم في كل مكان من أنحاء المدينة فقط أمام بوابة قصر "سانت آنج" الضخمة وقريبا من الفاتيكان
كان قد احتشد بعوامل الفضول عدد من رجال الشعب وها هم بأقدامهم الحافية وآسمالهم ورؤوسهم
المغطاة بقبعات حمراء يتأملون بدهشة واحترام شرذمة من الأسياد الشبان الذين اجتمعوا في الساحة
وراحوا يتمازحون صاخبين ويتضاحكون ويترفعون عن أن يرمقوا بنظرة واحدة الجماعة التي وقفت مشرئبة
الأعناق تنظر إليهم من بعيد.
وكان هؤلاء الفرسان المكتسون بالمخمل والحرير فوق دروع رقيقة الصنع والممتطون أحصنة جميلة قد
تجمهروا بالقرب من باب القصر وفجأة إذا بالباب ينفتح عريضا فيجثم الصمت على المكان وتنكشف الرؤوس
وإذا برجل بشرته سمراء قاتمة متوشح بالمخمل الأسود يبرز على صهوة حصان أدهم ويتقدم نحو الأسياد
الشبان الذين شرعوا يصطفون لتحيته وبعد أن ترك عينه تشردان على المدينة التي بدت أكثر صمتا وكأنما
هي تعتلج بأسى عميق أخذ يهمهم هذه الكلمات التي لم يسمعها أحد:
- إن حبك ليحرقني يا بريمفيرا! آه فليهلكني الله إذا لم أمتلك جسدك في هذا النهار بالذات!
حينئذ أومأ بيده إلى الفرسان فأخذت شرذمتهم تسير نحو باب من أبواب روما بينما سرت كقشعرية في
الجماعة المكتظة هناك هذه الكلمة التي رددتها الأفواه الخائفة:
- إنه ابن البابا غبطة قيصر بورجيا!
******************
وفي هذه الصبيحة نفسها من نوار على بعد سبعة فراسخ من روما تقريبا وعلى طريق فلورنسا كان يسير
منفردا على صهوة حصان مطهم فارس دلج متجها نحو مدينة المدن وكان يبدو عليه أنه في التاسعة
والعشرين من العمر ذو بزة بالية فد رأفت سترتها مرات عديدة وحزمة علتها الرقعة غير أنه كان يملك وجها
عزيزا وشعرا طويلا متهدلا على كتفيه في عقد طبيعية وشاربين دقيقين مرفوعين وقامة فارعة وعينين
حييتين ثاقبتين وكان يملك خصوما هذا الدفق من الفرح البرئ المشع على وجهه
وكان يبدو على الشاب أنه يحلم بشئ منزها نظرة في أرجاء الريف الروماني القاحل العاري الذي تحرقه
الشمس وإذا به يهتف محدثا نفسه:
- يا لبؤس هذا الريف! فإنه لا يشبه مطلقا الضواحي الزاهية في باريس الحبية لا بغاباتها ولا بحاناتها ذات
الخمور اللذيذة والبنات الغويات (قد حرم الإسلام شرب الخمر والزنا ) هيا يا " كابيتان" اجر بي يا
صديق فلعلنا نقع على نزل مريح.
أما كابيتان فإنه اسم الحصان الذي انطلق يعدو بصاحبه ولم تمض عشر دقائق حتى شاهد الفارس بعيدا
غمامة صغيرة من الغبار كانت تتقدم نحوه وبعد برهة وجيزة ميز حصانين كان ينهبان الأرض نهبا وكان يخفق
فوق أحدهما رداء أسود: إنه كاهن! وفوق الآخر رداء أبيض: إنها امرأة
وما كان أسرع دنوها منه ! وكان الفارس يتأهب لتحية السيدة البيضاء عندما أوقفت فجأة فرسها المسرعة
مصطفة إلى جانبه وهي تصرخ مرتجفة:
- أغثني ، أغثني يا سيدي! فأجاب الفارس بحرارة:
- يشرفني يا سيدتي أن أعرف بماذا أستطيع خدمتك
- أنقذني من هذا الرجل! وبإصبعها دلت على الكاهن الذي توقف بدوره
- فصاح الفرنسي متعجبا:
- - رجل كنيسة !
- بل إنه شيطان وإني أتوسل إليك أن تساعدني لكي أستأنف الطريق وحدي.
فزمجر راكستان قائلا:
أيها الكاهن ، هل سمعت؟ عندئذ خاطب الرجل الأسود الثياب الصبية قائلا:
- لسوف تندمين ولكن ساعة لا ينفع الندم! فانفجر به الفارس الشاب قائلا:
- - صه أيها الكاهن! أو وحق السماء لأقصمن ظهرك بهذا السيف!
- أو تجرؤ على تهديد كاهن؟
- أما أنت فإنك تجرؤ على تهديد امرأة! ألا عد القهقرى حالا ولإ تقوتك فرصة تهديد أي كان بعد اليوم!
وفي الوقت نفسه كان الفرنسي قد شهر سيفه متجها نحو الكاهن الذي رمى الشاب بنظرة حاقدة ثم أعاد
وجهة حصانه وفر هاربا باتجاه روما وظل رداءة الأسود يخفق طيلة دقيقة في الريح ثم أخذ يتوارى حينئذ عاد
الفارس الشاب نحو السيدة فوجد صبية في حدود الثامنة عشرة حسناء عجيبة الحسن وفي هذه البرهة
بالذات كان الاستياء يورد وجهها ويصبغه بالأرجوان فيزداد حسنها ألف مرة أكثر وكانت هي أيضا تبعت
بنظراتها الكاهن المخيف ثم استدارات نحو مخلصها وقالت بصوتها العذب الطروب:
- إني أحفظ لك عرفان الجميل يا سيد؟ ...................فأجابها الفارس:
- راكستان ..
- فرنسي؟!
- باريسي يا سيدتي !
- حسنا يا سيد راكستان إني أشكرك على الخدمة التي أديتها لي.
- لكم كنت أتمنى يا سيدتي أن أشهر السيف على عدو ذي شأن كرامة لسيدة كاملة مثلك ولكن هل
أستطيع أن أعرف ما شأن هذا الراهب؟
- لقد ارتكبت حماقة بابتعادي عن البيت وحيدة أكثر مما كان يجب فإذا بهذا الرجل يقترب مني ويشتمني
بكلامه فأزمعت على الهرب ولكنه لحق بي وو -............. هذا كل شي!
- لقد كان واضحا أن السيدة لم تفه بالحقيقة كلها . فأعاد الشاب كلامه قائلا:
- وأنت ، ألا تعرفينه ؟
فترددت برهة ثم حملت نفسها على القول:
- بلى اعرفه ويالتعاستي! إنه آله سافلة في يد رجل مشؤوم قادر آه يا سيدي لقد قلت إنه عدو غير ذي
شأن بالعكس إن هذا الكاهن هو بالنسبة إليك منذ الآن عدو يخشى جانبه فإذا صادفته مره أهرب منه وإذا
قادك القدر إلى الإلتقاء به فلا تقبل منه شيئا وعليك أن تخشى أولا أن يلقى بك في زانزانه من قصر "
سانت أنج" فهذا الكاهن هو " دون كاركونيو!" فأجاب الفارس راكستان:
- إني أشكرك يا سيدتي على المخاوف التي تخامرك بشأني غير أنني لا أخاف شيئا.
- على يا سيدي أن أطلب منك خدمة ثانية
- تكلمي يا سيدتي
- بألا تحاول النظر إلى أيه جهة سأمضى ولا معرفة من أنا
- ماذا يا سيدتي ألن يكون لدي أي تذكار من هذه المقابلة ولن أعرف أي اسم سأطرحه على هذا الوجه
الساحر الذي سيلازم أحلامي!
وكان الفارس يتكلم بصوت متأثر فنظرت إليه وقد جعلت الابتسامه ترتسم على شفتيها وقالت:
- لا أستطيع أن أفوه باسمي حتى لك انت الذي انقذتني ولكني أستطيع أن أقول لك اللقب الذي أدعي به
فسألها الفرنسي:
- وما هو هذا اللقب؟
- إنني أدعى بريمفيرا
وبعد أن أشارت إشارة الوداع أعطت السيدة البيضاء قوائم فرسها للريح واندفعت باتجاه فلورنسا
فبقى الفارس مذهولا من هذه الرؤيا وظل بصره معلقا على الرداء الأبيض الذي كان يخفق في غمامة من
الغبار ولقد أبصرها تعرج إلى اليمين وتندفع في الرحب من الريف ثم تغيب في قعر طريق جوفاء؟ . وإذا به
يقول في نفسه:
- بريمفيرا يالاسم الجميل بريمفيرا أي الربيع إنها بالحقيقة حسناء كالربيع المزهر ولكن ماذا يفيدني أن أفكر
بها فلسوف تنساني بعد ساعة ثم ماذا يمكنني أن أرجو أنا المغامر الفقير الآتي الى إيطاليا لأطلب العمل
في خدمة شريف من الأشراف!
وبهذه الفكرة القاتمة راح الفارس راكستان يكمل ما انقطع من طريقة إلى روما
|