لمشاكل التسجيل ودخول المنتدى يرجى مراسلتنا على الايميل liilasvb3@gmail.com






العودة   منتديات ليلاس > القسم الادبي > منتدى الكتب > الادباء والكتاب العرب
التسجيل

بحث بشبكة ليلاس الثقافية

الادباء والكتاب العرب الروايات - السير الذاتية -أدب الرحلات العربية – كتب أدبية


أحلام مستغانمي , ذاكرة الجسد , مؤسسة الفرات , 2004

مــــــــــرحــــــــــبــــــــــا ... انا رح اكتب رواية ذاكرة الجسد كامله وبتمنى تعجبكم ... :) ولتنزيل الرواية من هنا -نبذة عن لرواية- في حضور

إضافة رد
نسخ الرابط
نسخ للمنتديات
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-01-07, 03:37 PM   المشاركة رقم: 1
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7991
المشاركات: 259
الجنس أنثى
معدل التقييم: lost in memories عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 15

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
lost in memories غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

المنتدى : الادباء والكتاب العرب
افتراضي أحلام مستغانمي , ذاكرة الجسد , مؤسسة الفرات , 2004

 

مــــــــــرحــــــــــبــــــــــا ...

انا رح اكتب رواية ذاكرة الجسد كامله وبتمنى تعجبكم ... :)

ولتنزيل الرواية من هنا

2004



-نبذة عن لرواية-
في حضور الوجدان تتألق معاني أحلام مستغانمي، وفي ذاكرة الجسد تتوج حضورها، حروفاً كلمات عبارات تتقاطر في حفل الغناء الروحي. موسيقاه الوطن المنبعث برغم الجراحات... مليون شهيد وثورة ومجاهد، وجزائر الثكلى بأبنائها تنبعث زوابع وعواصف الشوق والحنين في قلب خالد الرسام الذي امتشق الريشة بعد أن هوت يده التي حملت السلاح يوماً، والريشة والسلاح سيّان، كلاهما ريشة تعزف على أوتار الوطن. ففي فرنسا وعندما كان يرسم ما تراه عيناه، جسر ميرابو ونهر السين، وجد أن ما يرسمه هو جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى هي قسنطينة، فأدرك لحظتها أنه في كل حال لا يرسم ما نسكنه، وإنما ما يسكننا.
وهل كانت أحلام مستغانمي تكتب ذاكرة الجسد أم أنها تكتب ذاكرة الوطن؟!! الأمر سيّان فما الجسد إلا جزء من الوطن وما الوطن إلا هذا الجسد الساكن فيه إلى الأبد. تتقاطر الذكرى مفعمة بروح الماضي الذي يأبى إلا الحضور في كل شيء متجسداً السي طاهر التي كما عرفها خالد طفلة رجل قاد خطواته على درب الكفاح؛ عرفها أنثى... كانت من الممكن أن تكون حبيبته، زوجته، ولكنها باتت زوجة في زواج لم يحضره، تلف الذكرى الصفحات، وتتهادى العبارات ممسكة بتلابيب الذكريات دون أن توقظ النفس ملل الحضور. الوطن والحبيبة يجتمعان، والثورة والحب ينصهران في بوتقة واحدة، ومزيجهما عطاء فكري، بعيد عن الخيال، للواقع أقرب، وللإنسان في صدق مشاعره وأحاسيسه أقرب وأقرب.


*****


إهداء ...



إلى مالك حداد ..
ابن قسنطينة الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألاَّ يكتب بلغة ليست لغته ..
فاغتالته الصفحة البيضاء .. ومات متأثرا بسلطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية, وأول كاتب قرر أن يموت صمتاً وقهراً وعشقاً لها .
وإلى أبي ...
عساه يجد "هناك" من يتقن العربية , فيقرأ له أخيراً هذا الكتاب ... كتابه .

أحلام..




الفصل الأول


ما زلت أذكر قولك ذات يوم :
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...

فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث... ما أجمل الذي لن يحدث .

قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة أخرى .

عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد أيضا .

أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .

- أتريد قهوه ؟
يأتي صوت عتيقة غائبا, وكأنه يطرح السؤال على شخص غيري .
معتذرا دون اعتذار, على وجه للحزن لم أخلعه منذ أيام .

يخذلني صوتي فجأة ...
أجيب بإشارة من رأسي فقط .

فتنسحب لتعود بعد لحظات, بصينية قهوة نحاسيه كبيرة عليها إبريق، وفناجين, وسكريه, ومرشّ لماء الزهر, وصحن للحلويات .
في مدن أخرى تقدم القهوة جاهزة في فنجان, وضعت جواره مسبقاً معلقه وقطعة سكر .
ولكن قسنطينة مدينه تكره الإيجاز في كل شيء .
إنها تفرد ما عندها دائما .تماما كما تلبس كل ما تملك. وتقول كل ما تعرف .
ولهذا كان حتى الحزن وليمه في هذه المدينة .

أجمع الأوراق المبعثرة أمامي , لأترك مكاناً لفنجان القهوة وكأنني أفسح مكانا لك ..

بعضها مسودات قديمة, وأخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ أيام بعض الكلمات فقط... كي تدب فيها الحياة, وتتحول من ورق إلى أيام .

كلمات فقط, أجتاز بها الصمت إلى الكلام, والذاكرة إلى النسيان, ولكن ..
تركت السكر جانبا, وارتشفت قهوتي مره كما عودني حبك .
فكرت في غرابه هذا الطعم العذب للقهوة المرّة . ولحظتها فقط, شعرت أنني قادر على الكتابة عنك فأشعلت سيجارة عصبيّة, ورحت أطارد دخان الكلمات التي أحرقتني منذ سنوات, دون أن أطفئ حرائقها مرة فوق صفحه .

هل الورق مطفأة للذاكرة؟
نترك فوقه كل مرة رماد سيجارة الحنين الأخيرة , وبقايا الخيبة الأخيرة. .

من منّا يطفئ أو يشعل الآخر ؟
لا ادري ... فقبلك لم اكتب شيئا يستحق الذكر... معك فقط سأبدأ الكتابة.

ولا بد أن أعثر أخيراً على الكلمات التي سأنكتب بها, فمن حقي أن أختار اليوم كيف أنكتب. أنا الذي أختر تلك القصة .

قصه كان يمكن أن لا تكون قصتي, لو لم يضعك القدر كل مره مصادفه, عند منعطفات فصولها .
من أين جاء هذا الارتباك؟

وكيف تطابقت مساحة الأوراق البيضاء المستطيلة, بتلك المساحة الشاسعة البياض للوحات لم ترسم بعد.. وما زالت مسنده جدار مرسم كان مرسمي ؟

وكيف غادرتني الحروف كما غادرتني قبلها الألوان. وتحول العالم إلى جهاز تلفزيون عتيق, يبث الصور بالأسود والأبيض فقط ؟

ويعرض شريطا قديما للذاكرة, كما تعرض أفلام السينما الصامتة .

كنت أحسدهم دائماً, أولئك الرسامين الذين كانوا ينتقلون بين الرسم والكتابة دون جهد, وكأنهم ينتقلون من غرفه إلى أخرى داخلهم. كأنهم ينتقلون بين امرأتين دون كلفة ..

كان لا بد ألا أكون رجلا لامرأة واحدة !

ها هوذا القلم إذن.. الأكثر بوحا والأكثر جرحا ً.

ها هو ذا الذي لا يتقن المراوغة , ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء . ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرحة .

وها هي الكلمات التي حرمت منها , عارية كما أردتها , موجعه كما أردتها , فَلِمَ رعشة الخوف تشلّ يدي , وتمنعني من الكتابة؟
تراني أعي في هذه اللحظة فقط ، أنني استبدلت بفرشاتي سكيناً. وأن الكتابة إليك قاتله.. كحبك .

ارتشفت قهوتك المرة, بمتعه مشبوهة هذه المرّة. شعرت أنني على وشك أن اعثر على جمله أولى, ابدأ بها هذا الكتاب .

جمله قد تكون في تلقائية كلمات رسالة .
كأن أقول مثلا :
"أكتب إليك من مدينه ما زالت تشبهك, وأصبحت أشبهها. ما زالت الطيور تعبر هذه الجسور على عجل, وأنا أصبحت جسرا آخر معلقاً هنا.

لا تحبي الجسور بعد اليوم..".
أو شيئا آخر مثل :

" أمام فنجان قهوة ذكرتك ..

كان لا بد أن تضعي ولو مرة قطعة سكر في قهوتي . لماذا كل هذه الصينية.. من أجل قهوة مرّة..؟".

كان يمكن أن أقول أي شيء ...
ففي النهاية, ليست الروايات سوى رسائل وبطاقات, نكتبها خارج المناسبات المعلنة.. لنعلن نشرتنا النفسية, لمن يهمهم أمرنا .

ولذا أجملها, تلك التي تبدأ بجمله لم يتوقعها من عايش طقسنا وطقوسنا. وربما كان يوما سببا في كل تقلباتنا الجوية .
تتزاحم الجمل في ذهني . كل تلك التي لم تتوقعيها .
وتمطر الذاكرة فجأة ..
فأبتلع قهوتي على عجل. وأشرع نافذتي لأهرب منك إلى السماء الخريفية.. إلى الشجر والجسور والمارة.

إلى مدينة أصبحت مدينتي مرة أخرى . بعدما أخذت لي موعدا معها لسبب آخر هذه المرة .

ها هي ذي قسنطينة.. وها هو كل شيء أنت .
وها أنت تدخلين إليّ, من النافذة نفسها التي سبق أن دخلت منها منذ سنوات. مع صوت المآذن نفسه, وصوت الباعة, وخطى النساء الملتحفات بالسواد, والأغاني القادمة من مذياع لا يتعب ...

"يا التفاحة .. يا التفاحة ... خبريني وعلاش الناس والعة بيك ..".
تستوقفني هذه الأغنية بسذاجتها .

تضعني وجهاً لوجه مع الوطن . تذكرني دون مجال للشك بأنني في مدينه عربيه فتبدو السنوات التي قضيتها في باريس حلماً خرافياً .

هل التغزل بالفواكه ظاهره عربية؟ أم وحده التفاح الذي ما زال يحمل نكهة خطيئتنا الأولى, شهيّ لحدّّ التغنّي به، في أكثر من بلد عربي .

وماذا لو كنت تفاحه؟
لا لم تكوني تفاحه .

كنت المرأة التي أغرتني بأكل التفاح لا أكثر. كنت تمارسين معي فطرياً لعبة حواء . ولم يكن بإمكاني أن أتنكر لأكثر من رجل يسكنني, لأكون معك أنت بالذات في حماقة آدم !

-أهلا سي خالد..واش راك اليوم ..؟

يسلّم عليّ الجار, تسلّقت نظراته طوابق حزني. وفاجأه وقوفي الصباحي, خلف شرفة للذهول .

أتابع في نظرة غائبة, خطواته المتجهة نحو المسجد المجاور . وما يليها من خطوات, لمارة آخرين, بعضها كسلى, وأخرى عجلى, متجهة جميعها نحو المكان نفسه .

الوطن كله ذاهب للصلاة .

والمذياع يمجد أكل التفاحة .

وأكثر من جهاز هوائي على السطوح, يقف مقابلا المآذن يرصد القنوات الأجنبية، التي تقدم لك كل ليله على شاشة تلفزيونك, أكثر من طريقه _عصريه_ لأكل التفاح !

أكتفي بابتلاع ريقي فقط .
في الواقع لم أكن أحب الفواكه. ولا كان أمر التفاح يعنيني بالتحديد .

كنت أحبك أنت. وما ذنبي إن جاءني حبك في شكل خطيئة؟

كيف أنت.. يسألني جار ويمضي للصلاة .
فيجيب لساني بكلمات مقتضبة، ويمضي في السؤال عنك .
كيف أنا؟
أنا ما فعلته بي سيدتي.. فكيف أنتِ ؟
يا امرأة كساها حنيني جنوناً، وإذا بها تأخذ تدريجيا , ملامح مدينه وتضاريس وطن .

وإذا بي اسكنها في غفلة من الزمن, وكأنني اسكن غرف ذاكرتي المغلقة من سنين .
كيف حالك؟
يا شجرة توت تلبس الحداد وراثيا كل موسم .
يا قسنطينية الأثواب ....
يا قسنطينية الحب ... والأفراح والأحزان والأحباب .. أجيبي أين تكونين الآن؟ .

ها هي ذي قسنطينه ...
باردة الأطراف والأقدام. محمومة الشفاه, مجنونة الأطوار .
ها هي ذي .. كم تشبهينها اليوم أيضا ... لو تدرين !
دعيني أغلق النافذة!.
كان مارسيل بانيول يقول:
"تعوّد على اعتبار الأشياء العادية .. أشياء يمكن أن تحدث أيضاً " .

أليس الموت في النهاية شيئا عاديا. تماما كالميلاد, والحب, والزاج, والمرض, والشيخوخة, والغربة والجنون, وأشياء أخرى ؟

فما أطول قائمة الأشياء العادية التي نتوقعها فوق العادة, حتى تحدث. والتي نعتقد أنها لا تحدث سوى للآخرين, وأن الحياة لسبب أو لآخر ستوفر علينا كثيرا منها, حتى نجد أنفسنا يوما أمامها .

عندما ابحث في حياتي اليوم, أجد أن لقائي بك هو الشيء الوحيد الخارق للعادة حقاً. الشيء الوحيد الذي لم أكن لأتنبأ به، أو أتوقع عواقبه عليّ. لأنَّني كنت اجهل وقتها أن الأشياء غير العادية, قد تجر معها أيضا كثيرا من الأشياء العادية .

ورغم ذلك ....
ما زلت أتساءل بعد كل هذه السنوات, أين أضع حبك اليوم ؟
أفي خانة الأشياء العادية التي قد تحدث لنا يوما كأية وعكه صحية أو زلة قدم.. أو نوبة جنون؟
أم .. أضعه حيث بدأ يوماً؟

كشيء خارق للعادة, كهدية من كوكب, لم يتوقع وجوده الفلكيون. أو زلزال لم تتنبأ به أية أجهزة للهزات الأرضية .
أكنتِ زلة قدم .. أم زلة قدر ؟.

أقلّب جريدة الصباح بحثا عن أجوبة مقنعه لحدث "عادي" غيّر مسار حياتي وجاء بي إلى هنا .

أتصفح تعاستنا بعد كل هذه الأعوام , فيعلق الوطن حبراً أسود بيدي .

هناك صحف يجب أن تغسل يديك إن تصفحتها وإن كان ليس للسبب نفسه في كل مرة. فهنالك واحده تترك حبرها عليك .. وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها إليك .

ألأنّ الجرائد تشبه دائما أصحابها, تبدو لي جرائدنا وكأنها تستيقظ كل يوم مثلنا, بملامح متعبه وبوجه غير صباحي غسلته على عجل، ونزلت به إلى الشارع. هكذا دون أن تكلف نفسها مشقة تصفيف شعرها, أو وضع ربطة عنق مناسبة.. أو إغرائنا بابتسامة .


25 أكتوبر 1988 .
عناوين كبرى.. كثير من الحبر الأسود. كثير من الدم. وقليل من الحياء .
هناك جرائد تبيعك نفس صور الصفحة الأولى.. ببدلة جديدة كل مره .
هنالك جرائد.. تبيعك نفس الأكاذيب بطريقة أقل ذكاء كل مرّة ....
وهنالك أخرى، تبيعك تذكرة للهروب من الوطن.. لا غير .
وما دام ذلك لم يعد ممكنا, فلأغلق الجريدة إذن.. ولأذهب لغسل يدي .

آخر مره استوقفتني فيها صحيفة جزائرية, كان ذلك منذ شهرين تقريبا. عندما كنت أتصفح عن طريق المصادفة, وإذا بصورتك تفاجئني على نصف صفحه بأكملها, مرفقه بحوار صحافي بمناسبة صدور كتاب جديد لك .

يومها تسمَََََّر نظري أمام ذلك الإطار الذي كان يحتويك. وعبثا رحت أفكّ رموز كلامك . كنت أقرأك مرتبكاً، متلعثماً, على عجل. وكأنني أنا الذي كنت أتحدث إليك عني, ولست أنت التي كنت تتحدثين للآخرين, عن قصة ربما لم تكن قصتنا .
أي موعد عجيب كان موعدنا ذلك اليوم! كيف لم أتوقع بعد تلك السنوات أن تحجزي لي موعدا على ورق بين صفحتين, في مجلة لا اقرأها عادة .

إنّه قانون الحماقات، أليس كذلك؟ أن أشتري مصادفة مجلة لم أتعوّد شراءها، فقط لأقلب حياتي رأساً على عقبّ
وأين العجب؟
ألم تكوني امرأة من ورق. تحب وتكره على ورق. وتهجر وتعود على ورق. وتقتل وتحيي بجرّة قلم.
فكيف لا أرتبك وأنا أقرأك. وكيف لا تعود تلك الرعشة المكهربة لتسري في جسدي، وتزيد من خفقان قلبي، وكأنني كنت أمامك، ولست أمام صورة لك.

تساءلت كثيراً بعدها، وأنا أعود بين الحين والآخر لتلك الصورة، كيف عدتِ هكذا لتتربصي بي، أنا الذي تحاشيت كل الطرق المؤدية إليك؟

كيف عدت.. بعدما كاد الجرح أن يلتئم. وكاد القلب المؤثث بذكراك أن يفرغ منك شيئاً فشيئاً وأنت تجمعين حقائب الحبّ، وتمضين فجأة لتسكني قلباً آخر.

غادرت قلبي إذن..
كما يغادر سائح مدينة جاءها في زيارة سياحية منظمة. كلّ شيء موقوت فيها مسبقاً، حتى ساعة الرحيل، ومحجوز فيها مسبقاً، حتى المعالم السياحية التي سيزورها، واسم المسرحية التي سيشاهدها، وعنوان المحلات التي سيشتري منها هدايا للذكرى.
فهل كانت رحلتك مضجرة إلى هذا الحد؟
ها أنا أمام نسخة منك، مدهوش مرتبك، وكأنني أمامك.
تفاجئني تسريحتك الجديدة. شعرك القصير الذي كان شالاً يلف وحشة ليلي.. ماذا تراك فعلت به؟

أتوقف طويلاً عند عينيك. أبحث فيهما عن ذكرى هزيمتي الأولى أمامك.

ذات يوم.. لم يكن أجمل من عينيك سوى عينيك. فما أشقاني وما أسعدني بهما!
هل تغيرت عيناك أيضاً.. أم أن نظرتي هي التي تغيرت؟ أواصل البحث في وجهك عن بصمات جنوني السابق. أكاد لا أعرف شفاهك ولا ابتسامتك وحمرتك الجديدة.

كيف حدث يوماً.. أن وجدت فيك شبهاً بأمي. كيف تصورتك تلبسين ثوبها العنابي، وتعجنين بهذه الأيدي ذات الأظافر المطلية الطويلة، تلك الكسرة التي افتقدت مذاقها منذ سنين؟

أيّ جنون كان لك.. وأية حماقة!
هل غيّر الزواج حقاً ملامحك وضحكتك الطفولية، هل غيّر ذاكرتك أيضاً، ومذاق شفاهك وسمرتك الغجرية؟

وهل أنساك ذلك "النبي المفلس" الذي سرقوا منه الوصايا العشر وهو في طريقه إليك.. فجاءك بالوصية الحادية عشرة فقط.

ها أنت ذي أمامي، تلبسين ثوب الردّة. لقد اخترت طريقاً آخر. ولبست وجهاً آخر لم أعد أعرفه. وجهاً كذلك الذي نصادفه في المجلات والإعلانات، لتلك النساء الواجهة، المعدات مسبقاً لبيع شيء ما، قد يكون معجون أسنان، أو مرهماً ضد التجاعيد.

أم تراك لبست هذا القناع، فقط لتروّجي لبضاعة في شكل كتاب، أسميتها "منعطف النسيان" بضاعة قد تكون قصتي معك.. وذاكرة جرحي؟

وقد تكون آخر طريقه وجدتها لقتلي اليوم من جديد, دون أن تتركي بصماتك على عنقي .

يومها تذكرت حديثاً قديماً لنا . عندما سألتك مرة لماذا اخترتِ الرواية بالذات. وإذا بجوابك يدهشني .
قلت يومها بابتسامة لم أدرك نسبة الصدق فيها من نسبة التحايل:

" كان لا بد أن أضع شيئا من الترتيب داخلي.. وأتخلص من بعض الأثاث القديم . إنَّ أعماقنا أيضا في حاجة إلى نفض كأيّ بيت نسكنه ولا يمكن أن أبقي نوافذي مغلقه هكذا على أكثر من جثة ..
إننا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير, وننتهي من الأشخاص الذين أصبح وجودهم عبئاً على حياتنا. فكلما كتبنا عنهم فرغنا منهم... وامتلأنا بهواء نظيف ..." .

وأضفت بعد شيء من الصمت:

" في الحقيقة كل رواية ناجحة, هي جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما. وربما تجاه شخص ما, على مرأى من الجميع بكاتم صوت. ووحده يدري أنَّ تلك الكلمة الرصاصة كانت موجّهة إليه
...
والروايات الفاشلة, ليست سوى جرائم فاشلة, لا بد أن تسحب من أصحابها رخصة حمل القلم, بحجة أنهم لا يحسنون استعمال الكلمات, وقد يقتلون خطأ بها أيّ احد .. بمن في ذلك أنفسهم , بعدما يكونون قد قتلوا القراء ... ضجراً !".

كيف لم تثر نزعتك الساديّة شكوكي يومها .. وكيف لم أتوقع كل جرائمك التي تلت ذلك اليوم, والتي جربت فيها أسلحتك الأخرى؟

لم أكن أتوقع يومها انك قد توجهين يوما رصاصك نحوي .

ولذا ضحكت لكلامك, وربما بدأ يومها انبهاري الآخر بك. فنحن لا نقاوم, في هذه الحالات , جنون الإعجاب بقاتلنا !

ورغم ذلك أبديت لك دهشتي . قلت :

_ كنت اعتقد أن الرواية طريقه الكاتب في أن يعيش مرة ثانيه قصه أحبها.. وطريقته في منح الخلود لمن أحب .

وكأنّ كلامي فاجأك فقلت وكأنك تكتشفين شيئا لم تحسبي له حسابا:

- وربما كان صحيحا أيضا, فنحن في النهاية لا نقتل سوى من أحببنا. ونمنحهم تعويضا عن ذلك خلودا أدبيا . إنها صفقه عادلة . أليس كذلك؟!
عادله ؟

من يناقش الطغاة في عدلهم أو ظلمهم؟ ومن يناقش نيرون يوم احرق روما حباً لها, وعشقاً لشهوة اللهب . وأنت, أما كنت مثله امرأة تحترف العشق والحرائق بالتساوي؟

أكنت لحظتها تتنبّأين بنهايتي القريبة، وتواسينني مسبقا على فجيعتي...

أم كنت تتلاعبين بالكلمات كعادتك, و وتتفرجين على وقعها عليّ, وتسعدين سرّاً باندهاشي الدائم أمامك, وانبهاري بقدرتك المذهلة, في خلق لغة على قياس تناقضك .

كل الاحتمالات كانت ممكنه ...

فربما كنت أنا ضحية روايتك هذه, والجثة التي حكمت عليها بالخلود, وقررت أن تحنطيها بالكلمات... كالعادة.

و ربما كنت ضحية وهمي فقط, ومراوغتك التي تشبه الصدق. فوحدك تعرفين في النهاية الجواب على كل تلك الأسئلة التي ظلت تطاردني, بعناد الذي يبحث عن الحقيقة دون جدوى .

متى كتبتِ ذلك الكتاب؟

أقبل زواجك أم بعده؟ أقبل رحيل زياد .. أم بعده؟ أكتبته عني .. أم كتبته عنه؟ أكتبته لتقتليني به.. أم لتحييه هو ؟
لم لتنتهي منّا معاً، وتقتلينا معاً بكتاب واحد... كما تركتنا معاً من أجل رجل واحد ؟

عندما قرأت ذلك الخبر منذ شهرين,. لم أتوقع إطلاقاًً أن تعودي فجأة بذلك الحضور الملحِّ, ليصبح كتابك محور تفكيري, ودائرة مغلقه أدور فيها وحدي .

فلا كان ممكنا يومها بعد كل الذي حدث, أن اذهب للبحث عنه في المكتبات , لأشتري قصتي من بائع مقابل ورقه نقدية. ولا كان ممكنا أيضا أن أتجاهله وأواصل حياتي وكأنني لم اسمع به , وكأن أمره لا يعنيني تماما .

الم أكن متحرقا إلى قراءة بقية القصة؟

قصتك التي انتهت في غفلة مني , دون أن أعرف فصولها الأخيرة. تلك التي كنت شاهدها الغائب, بعدما كنت شاهدها الأول. أنا الذي كنت,. حسب قانون الحماقات نفسه. الشاهد والشهيد دائما في قصة لم يكن فيها من مكان سوى لبطل واحد .

ها هوذا كتابك أمامي.. لم يعد بإمكاني اليوم أن أقرأه. فتركته هنا على طاولتي مغلقا كلغز, يتربص بي كقنبلة موقوتة, أستعين بحضوره الصامت لتفجير منجم الكلمات داخلي ... واستفزاز الذاكرة .

كل شيء فيه يستفزني اليوم .. عنوانه الذي اخترته بمراوغه واضحة.. وابتسامتك التي تتجاهل حزني . ونظرتك المحايدة التي تعاملني وكأنني قارىء, لا يعرف الكثير عنك .

كل شيء.. حتى اسمك .
وربما كان اسمك الأكثر استفزازا لي, فهو مازال يقفز إلى الذاكرة قبل أن تقفز حروفه المميزة إلى العين .

اسمك الذي .. لا يُقرأ وإنما يُسمع كموسيقى تُعزف على آلة واحدة من أجل مستمع واحد.
كيف لي أن أقرأه بحياد, وهو فصل من قصة مدهشه كتبتها الصدفة, وكتبها قدرنا الذي تقاطع يوما؟

يقول تعليق على ظهر كتابك إنه حدث أدبي .
وأقول وأنا أضع عليه حزمة من الأوراق التي سودتها في لحظة هذيان..
" حان لك أن تكتب.. أو تصمت إلى الأبد أيها الرجل . فما أعجب ما يحدث هذه الأيام !"

وفجأة.. يحسم البرد الموقف, ويزحف ليل قسنطينة نحوي من نافذة للوحشة. فأعيد للقلم غطاءه, وانزلق بدوري تحت غطاء الوحدة .

مذ أدركت أن لكل مدينةٍ الليل الذي تستحق, الليل الذي يشبهها والذي وحده يفضحها, ويعري في العتمة ما تخفيه في النهار, قررت أن أتحاشى النظر ليلا من هذه النافذة .

كل المدن تمارس التعري ليلا دون علمها, وتفضح للغرباء أسرارها , حتى عندما لا تقول شيئا .
وحتى عندما توصد أبوابها.
ولأن المدن كالنساء, يحدث لبعضهن أن يجعلننا نستعجل قدوم الصباح. ولكن ...

"soirs, soirs.que de soirs pour un seul matin .."

كيف تذكرت هذا البيت للشاعر "هنري ميشو" ورحت اردده على نفسي بأكثر من لغة ..

"أمسيات .. أمسيات كم من مساء لصباح واحد "

كيف تذكرته, ومتى تراني حفظته؟ .. تراني كنت أتوقع منذ سنين أمسيات بائسة كهذه, لن يكون لها سوى صباح واحد ؟

أنقب بعض الشيء في ذاكرتي عن القصيدة التي اخذ منها هذا البيت, وإذا بعنوانها "الشيخوخة" ..

فيخيفني اكتشافي فجأة وكأنني أكتشف معه ملامح وجهي الجديدة. فهل تزحف الشيخوخة هكذا نحونا حقاً بليل طويل واحد. وبعتمة داخليه تجعلنا نتمهل في كل شيء, ونسير ببطء, دون اتجاه محدد؟

أيكون الملل والضياع والرتابة جزءا من مواصفات الشيخوخة أم من مواصفات هذه المدينة ؟

تراني أنا الذي ادخل الشخوخة.. أم ترى الوطن بأكمله هو الذي يدخل اليوم سن اليأس الجماعي؟

أليس هو الذي يملك هذه القدرة الخارقة, على جعلنا نكبر ونهرم في بضعة اشهر, وأحيانا في بضعة أسابيع فقط ؟
قبل اليوم لم أكن اشعر بثقل السنين, كان حبّك شبابي, وكان مرسمي طاقتي الشمسية التي لا تنضب, وكانت باريس مدينه أنيقة, يخجل الواحد أن يهمل مظهره في حضرتها . ولكنهم طاردوني حتى مربع غربتي, وأطفأوا شعلة جنوني ... وجاؤوا بي حتى هنا .

الآن نحن نقف جميعا على بركان الوطن الذي ينفجر , ولم يعد في وسعنا , إلا أن نتوحد مع الجمر المتطاير من فوهته, وننسى نارنا الصغيرة... اليوم لا شيء يستحق كل تلك الأناقة واللياقة. الوطن نفسه أصبح لا يخجل أن يبدو أمامنا في وضع غير لائق !

لا أصعب من أن تبدأ الكتابة, في العمر الذي يكون فيه الآخرون قد انتهوا من قول كل شيء.
الكتابة ما بعد الخمسين لأول مرة ... شيء شهواني وجنوني شبيه بعودة المراهقة.
شيء مثير وأحمق , شبيه بعلاقة حب بين رجل في سن اليأس, وريشة حبر بكر .
الأول مرتبك وعلى عجل... والثانية عذراء لا يرويها حبر العالم !
سأعتبر إذن ما كتبته حتى الآن, مجرد استعداد للكتابة فقط, وفائض شهوة ... لهذه الأوراق التي حملت منذ سنين بملئها .

ربما غدا ابدأ الكتابة حقا .
أحب دائما أن ترتبط الأشياء الهامة في حياتي بتاريخ ما .... يكون غمزة لذاكره أخرى .

أغرتني هذه الفكرة من جديد, وأنا استمع إلى الأخبار هذا المساء واكتشف، أنا الذي فقدت علاقتي بالزمن, أن غدا سيكون أول نوفمبر ... فهل يمكن لي ألا أختار تاريخا كهذا, لأبدأ به هذا الكتاب ؟

غدا ستكون قد مرت 34 سنه على انطلاق الرصاصة الأولى لحرب التحرير, ويكون قد مر على وجودي هنا ثلاثة أسابيع, ومثل ذلك من الزمن على سقوط آخر دفعه من الشهداء ...
كان احدهم ذلك الذي حضرت لأشيّعه بنفسي وادفنه هنا.

بين أول رصاصه , وآخر رصاصه, تغيرت الصدور, تغيرت الأهداف .. وتغير الوطن .
ولذا سيكون الغد يوما للحزن مدفوع الأجر مسبقا .
لن يكون هناك من استعراض عسكري, ولا من استقبالات, ولا من تبادل تهاني رسميه ....
سيكتفون بتبادل التهم ... ونكتفي بزيارة المقابر .
غدا لن ازور ذلك القبر . لا أريد أن أتقاسم حزني مع الوطن.
أفضل تواطؤ الورق, وكبرياء صمته .

كل شيء يستفزني الليلة.. واشعر أنني قد اكتب أخيرا شيئا مدهشا, لن أمزقه كالعادة..

فما أوجع هذه الصدفة التي تعود بي , بعد كل هذه السنوات إلى هنا, للمكان نفسه , لأجد جثة من أحبهم في انتظاري, بتوقيت الذاكرة الأولى .

يستيقظ الماضي الليلة داخلي ... مربكا. يستدرجني إلى دهاليز الذاكرة .
فأحاول أن أقاومه, ولكن, هل يمكن لي أن أقاوم ذاكرتي هذا المساء ؟
أغلق باب غرفتي واشرع النافذة ..
أحاول أن أرى شيئا آخر غير نفسي. وإذا النافذة تطل علي...
تمتد أمامي غابات الغاز والبلوط, وتزحف نحوي قسنطينه ملتحفه ملاءتها القديمة, وكل تلك الأدغال والجروف والممرات السرية التي كنت يوما اعرفها والتي كانت تحيط بهذه المدينة كحزام أمان, فتوصلك مسالكها المتشعبة, وغاباتها الكثيفة, إلى القواعد السرية للمجاهدين, وكأنها تشرح لك شجرة بعد شجره, ومغارة بعد أخرى .
إنّ كل الطرق في هذه المدينة العربية العريقة, تؤدي إلى الصمود.
وإنّ كل الغابات والصخور هنا قد سبقتك في الانخراط في صفوف الثورة .
هنالك مدن لا تختار قدرها ...
فقد حكم عليها التاريخ, كما حكمت عليها الجغرافيا, ألا تستسلم ...
ولذا لا يملك أبناؤها الخيار دائما .

فهل عجبٌ أن أشبه هذه المدينة حد التطرف ؟

ذات يوم منذ أكثر من ثلاثين سنه سلكت هذه الطرق, واخترت أن تكون تلك الجبال بيتي ومدرستي السرية التي أتعلم فيها المادة الوحيدة الممنوعة من التدريس. وكنت ادري انه ليس من بين خريجيها من دفة ثالثه, وان قدري سيكون مختصرا بين المساحة الفاصلة بين الحرية .. والموت .

ذلك الموت الذي اخترنا له اسما آخر أكثر إغراءً، لنذهب دون خوف وربما بشهوة سريه, وكأننا نذهب لشيء آخر غير حتفنا .

لماذا نسينا يومها أن نطلق على الحرية أيضا أكثر من اسم؟ وكيف اختصرنا منذ البدء حريتنا.... في مفهومها الأول ؟

كان الموت يومها يمشي إلى جوارنا, وينام ويأخذ كسرته معنا على عجل. تماما مثل الشوق والصبر والإيمان .. والسعادة المبهمة التي لا تفارقنا .

كان الموت يمشي ويتنفس معنا.. وكانت الأيام تعود قاسيه دائما, لا تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها, الذين لم يكن يتوقع احد موتهم على الغالب.. أو لم يكن يتصور لسبب أو لآخر, أن تكون نهايتهم, هم بالذات, قريبه إلى ذلك الحد .. ومفجعه إلى ذلك الحد. وكان ذلك منطق الموت الذي لم أكن قد أدركته بعد .

ما زلت اذكرهم أولئك الذين تعودنا بعد ذلك أن نتحدث عنهم بالجملة. وكأنَّ الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارا للذاكرة , وإنما لحقهم علينا .
لم يكونوا شهداء.. كان كل واحد منهم شهيدا على حده. كان هناك من استشهد في أول معركة, وكأنه جاء خصيصا للشهادة .
وهناك من سقط قبل زيارته المسروقة إلى أهله بيوم واحد, بعدما قضى عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها, والإعداد لها .
وهناك من تزوج وعاد .. ليموت متزوجا .
وهناك من كان يحلم أن يعود يوما لكي يتزوج ... ولم يعد.
في الحروب, ليس الذين يموتون هم التعساء دائما, إنّ الأتعس هم أولئك الذين يتركونهم خلفهم ثكالى, يتامى, ومعطوبي أحلام .

اكتشفت هذه الحقيقة باكراً، شهيداً بعد آخر، وقصة بعد أخرى..
واكتشفت في المناسبة نفسها، أنني ربما كنت الوحيد الذي لم يترك خلفه سوى قبر طريّ لأم ماتت مرضاً وقهراً، وأخٍ فريد يصغرني بسنوات، وأب مشغول بمطالب عروسه الصغيرة.

لقد كان ذلك المثل الشعبي على حقّ "إن الذي مات أبوه لم يتيتَّم.. وحده الذي ماتت أمه يتيم".

وكنت يتيماً، وكنت أعي ذلك بعمق في كل لحظة. فالجوع إلى الحنان، شعور مخيف وموجع، يظل ينخر فيك من الداخل ويلازمك حتى يأتي عليك بطريقة وبطريقة أو بأخرى.

أكان التحاقي بالجبهة آنذاك محاولة غير معلنة للبحث عن موت أجمل خارج تلك الأحاسيس المرضية التي كانت تملأني تدريجياً حقداً على كل شيء؟

كانت الثورة تدخل عامها الثاني، ويتمي يدخل شهره الثالث، ولم أعد أذكر الآن بالتحديد، في أية لحظة بالذات أخذ الوطن ملامح الأمومة، وأعطاني ما لم أتوقّعه من الحنان الغامض، والانتماء المتطرِّف له.

وربما كان لاختفاء "سي الطاهر" من حينا بسيدي المبروك منذ بضعة أشهر، دور في حسم القضية، واستعجالي في أخذ ذلك القرار المفاجئ. فلم يكن يخفى على أحد أنه انتقل إلى مكان سري في الجبال المحيطة بقسنطينة ليؤسس من هناك مع آخرين إحدى الخلايا الأولى للكفاح المسلح.

من أين عاد اسم "سي طاهر" الليلة ليزيد من ارتباكي، ومن منكما استدرجني للآخر؟.
من أين عاد.. وهل غاب حقاً، وعلى بعد شارعين مني شارع مازال يحمل اسمه؟

هناك شيء اسمه "سلطة الاسم".
وهناك أسماء عندما تذكرها، تكاد تصلح من جلستك، وتطفئ سيجارتك. تكاد تتحدث عنها وكأنك تتحدث إليها بنفس تلك الهيبة وذلك الانبهار الأول.

ولذا .. ظلّ لاسم (سي طاهر) هيبته عندي. لم تقتله العادة ولا المعاشرة، ولم تحوله تجربة السجن المشترك، ولا سنوات النضال، إلى اسم عاديّ لصديق أو لجار. فالرموز تعرف دائماً كيف تحيط نفسها بذلك الحاجز اللامرئي، الذي يفصل بين العادي والاستثنائي، والممكن والمستحيل، في كل شيء.
ها أنذا أذكره في ليلة لم أحجزها له..

وبينما أسحب نفساً من سيجارة أخيرة، يرتفع صوت المآذن معلناً صلاة الفجر. ومن غرفة بعيدة يأتي بكاء طفل أيقظ صوته أنحاء كل البيت..
فأحسد المآذن، وأحسد الأطفال الرضّع، لأنهم يملكون وحدهم حق الصراخ والقدرة عليه، قبل أن تروض الحياة حبالهم الصوتية، وتعلِّمهم الصمت.

لا أذكر من قال "يقضي الإنسان سنواته الأولى في تعلم النطق، وتقضي الأنظمة العربية بقية عمره في تعليمه الصمت!".
وكان يمكن للصمت أن يصبح نعمة في هذه الليلة بالذات، تماماً كالنسيان. فالذاكرة في مناسبات كهذه لا تأتي بالتقسيط، وإنما تهجم عليك شلالاً يجرفك إلى حيث لا تدري من المنحدرات.
وكيف لك لحظتها أن توقفها دون أن تصطدم بالصخور، وتتحطم في زلّة ذكرى؟
وها أنت ذا، تلهث خلفها لتلحق بماضٍ لم تغادره في الواقع، وبذاكرة تسكنها لأنها جسدك.
جسدك المشوه لا غير.

وتدري أنّ هناك من يلهثون الآن من منبر إلى آخر، بحجة أو بأخرى، ليدينوا تاريخاً كانوا طرفاً فيه. عساهم يلحقون بالموجة الجديدة، قبل أن يجرفهم الطوفان. فلا تملك إلا أن تشفق عليهم.

ما أتعس أن يعيش الإنسان بثياب مبللة.. خارجاً لتوه من مستنقع.. وألا يصمت قليلاً في انتظار أن تجف!

صامتاً يأتي (سي طاهر) الليلة.
صامتاً كما يأتي الشهداء.
صامتاً.. كعادته.

وها أنت ذا مرتبك أمامه كعادتك.

لقد كانت دائماً الخمس عشرة سنة التي تفصلكما، أكبر من عمر السنوات. كانت عمراً بحد ذاتها، ورمزاً بحد ذاتها، لرجل كان يجمع إلى جانب الفصاحة التي كان يتميز بها كل من اختلط بجمعية العلماء، ودرس في قسنطينة، فصاحة أخرى.. هي فصاحة الحضور.

كان (سي طاهر) يعرف متى يبتسم، ومتى يغضب. ويعرف كيف يتكلم، ويعرف أيضاً كيف يصمت. وكانت الهيبة لا تفارق وجهه ولا تلك الابتسامة الغامضة التي كانت تعطي تفسيراً مختلفاً لملامحه كل مرة.

"إن الابتسامات فواصل ونقاط انقطاع.. وقليل من الناس أولئك الذين ما زالوا يتقنون وضع الفواصل والنقط في كلامهم".*

في سجن ( الكديا) كان موعدي النضالي الأول مع (سي طاهر). كان موعداً مشحوناً بالأحاسيس المتطرفة، وبدهشة الاعتقال الأول، بعنفوانه.. وبخوفه.

وكان (سي طاهر) الذي استدرجني إلى الثورة يوماً بعد آخر، يدري أنه مسؤول عن وجودي يومها هناك. وربما كان يشفق سراً على سنواتي الست عشرة، على طفولتي المبتورة، وعلى ( أمّا) التي كان يعرفها جيداً، ويعرف ما يمكن أن تفعله بها تجربة اعتقالي الأول.
ولكنه كان يخفي عنّي كل شفقته تلك، مردداً لمن يريد سماعه: "لقد خلقت السجون للرجال".

وكان سجن (الكديا) وقتها، ككل سجون الشرق الجزائري يعاني فجأة من فائض رجولة، إثر مظاهرات 8 ماي 1945 التي قدّمت فيها قسنطينة وسطيف وضواحيها أول عربون للثورة، متمثلاً في دفعة أولى من عدّة آلاف من الشهداء سقطوا في مظاهرة واحدة، وعشرات الآلاف من المساجين الذين ضاقت بهم الزنزانات، مما جعل الفرنسيين يرتكبون أكبر حماقاتهم، وهو يجمعون لعدة أشهر بين السجناء السياسيين، وسجناء الحق العام، في زنزانات يجاوز أحياناً عدد نزلائها العشرين معتقلاً.

وهكذا، جعلوا عدوى الثورة تنتقل إلى مساجين الحق العام الذين وجدوا فرصة للوعي السياسي، ولغسل شرفهم بالانضمام إلى الثورة التي استشهد بعد ذلك من أجلها الكثير منهم. ومازال بعضهم حتى الآن على قيد الحياة، يعيش بتكريم ووجاهة القادة التاريخيين لحرب التحرير، بعدما تكفّل التاريخ بإعادة سجلّ سوابقهم العدلية.. لعذريته الأولى. بينما وجد بعض السجناء السياسيين _ في تلك الحماقة الاستعمارية _ فرصة للتعرف على بعض، ووقتاً كافياً للتشاور والتفكير في أمور الوطن.. والتخطيط للمرحلة القادمة.

اليوم.. عندما أذكر تلك التجربة، تبدو لي لكثافتها ودهشتها، وكأنها أطول مما كانت. رغم أنها لم تدم بالنسبة لي سوى ستة أشهر فقط. قضيتها هناك قبل أن يطلق سراحي أنا واثنين آخرين لصغر سننا ولأنه كان هناك من يهمهم أمرهم، أكثر منَّا.

وهكذا عدت إلى ثانوية قسنطينة، بعدما أخلفت هاماً دراسياً، لأجد البرنامج نفسه وكتب الفلسفة نفسها والأدب الفرنسي في انتظاري..
وحدهم بعض رفاق الدارسة كانوا ما يزالون ضمن المتغيّبين، بين مساجين وشهداء.
أغلبهم طلبة في الصفوف العليا التي كان مقرراً أن تتخرج منها أول دفعة من المثقفين والموظفين الجزائريين المفرنسين.

وكان ذلك شرفهم، أولئك الذين راهن البعض على خيانتهم، فقط لأنهم اختاروا الثانويات والثقافة الفرنسية، في مدينة لا يمكن لأحد فيها أن يتجاهل سلطة اللغة العربية، وهيبتها في القلوب والذاكرة.

فهل عجب أن يكون من بين الذين سجنوا وعذّبوا بعد تلك المظاهرات، الكثير منهم، هم الذين كانوا بحكم ثقافتهم الغربية يتمتعون بوعي سياسي مبكر، وبفائض وطنية.. وفائض أحلام.

والذين أدركوا، والحرب العالمية تنتهي لصالح فرنسا والحلفاء، أنّ فرنسا استعملت الجزائريين، ليخوضوا حرباً لم تكن حربهم، وأنهم دفعوا آلاف الموتى في معارك لا تعنيهم، ليعودوا بعد ذلك إلى عبوديتهم.

كان في مصادفة وجودي مع (سي الطاهر) في الزنزانة نفسها شيء أسطوري بحد ذاته، وتجربة نضالية ظلَت تلاحقني لسنوات بكل تفاصيلها، وربما كان لها بعد لك أثر في تغيّر قدري. فهناك رجال عندما تلتقي بهم تكون قد التقيت بقدرك.

كان (سي الطاهر) استثنائياً في كلِّ شيء، وكأنه كان يعد نفسه منذ البدء، ليكون أكثر من رجل.

لقد خلق ليكون قائداً. كان فيه شيء من سلالة طارق بن زياد، والأمير عبد الطارق، وأولئك الذين يمكنهم أن يغيروا التاريخ بخطبة واحدة.

وكان الفرنسيون الذين عذّبوه وسجنوه لمدة ثلاث سنوات يعرفون ذلك جيداً. ولكنهم كانوا يجهلون أنّ (سي الطاهر) سيأخذ بثأره منهم بعد ذلك بسنوات، ويصبح الرأس المطلوب بعد كل عملية يقوم بها المجاهدون في الشرق الجزائري.

أيّ صدفة.. أن يعود القدر بعد عشر سنوات تماماً، ليضعني مع (سي طاهر) في تجربة كفاحية مسلحة هذه المرّة!

سنة 1955.. وفي شهر أيلول بالذات، التحقت بالجبهة.
كان رفاقي يبدأون سنة دراسية ستكون الحاسمة، وكنت في عامي الخامس والعشرين أبدأ حياتي الأخرى.
أذكر أنَّ استقبال (سي طاهر) لي فاجأني وقتها. لم يسألني عن أيّة تفاصيل خاصة عن حياتي أو دراستي. لم يسألني حتى كيف أخذت قرار التحاقي بالجبهة، ولا أيّ طريق سلكت لأصل إليه. ظلَّ يتأملني قبل أ، يحتضنني بشوق وكأنَّه كان ينتظرني هناك منذ سنة.
ثم قال:
- جئت..!
وأجبته بفرح وبحزن غامض معاً:
- جئت!

كان ( سي الطاهر) هكذا أحياناً، يكون موجزاً حتَّى في فرحته؛ فكنت موجزاً معه في حزني أيضاً.

سألني بعدها عن أخبار الأهل، وأخبار ( أمّا) بالتحديد، فأجبته أنها توفيت منذ ثلاثة أشهر. وأعتقد أنه فهم كلّ شيء، فقد قال وهو يربت على كتفي، وشيء شبيه بالدمع يلمع في عينيه:
- رحمها الله، لقد تعذبت كثيراً.
ثم ذهب في تفكيره بعيداً إلى حيث لا أدري..
بعدها حسدت تلك الدمعة المفاجئة في عينيه، والتي رفع بها أمي إلى مرتبة الشهداء. فلم يحدث لي أن رأيت (سي الطاهر) يبكي سوى الشهداء من رجاله. وتمنيت طويلاً بعد ذلك أن أمدد جثماناً بين يديه، لأتمتع ولو بعد موتي بدمعة مكابرة في عينيه.

ألكلّ هذا تقلصت عائلتي فجأة في شخصه، ورحت أتفانى في إثبات بطولتي له، وكأنني أريد أن أجعله شاهداً على رجولتي أ, على موتي؛ شاهداً على أنني لم أعد أنتسب إلى أحد غير هذا الوطن، وأنني لم أترك خلفي سوى قبر لامرأة كانت أمي، وأخٍ يصغرني اختار له أبي مسبقاً امرأة ستصبح أمه.

كنت ألقي بنفسي على الموت في كل مرّة، وكأنني أتحداه أو كأنني أريد بذلك أن يأخذني بدل رفاقي الذين تركوا خلفهم أولادهم وأهلهم ينتظرون عودتهم.
وكنت كل مرة أعود أنا ويسقط آخرون، وكأن الموت قرر أن يرفضني..
وكان (سي طاهر) بعد أكثر من معركة ناجحة اشتركت فيها، قد بدأ تدريجياً يعتمد عليَّ في المهمات الصعبة، ويكلفني بالمهمات الأكثر خطورة، تلك التي تتطلب مواجهة مباشرة مع العدو. ورفعني بعد سنتين إلى رتبة ملازم لأتمكن من إدارة بعض المعارك وحدي، وأخذ القرارات العسكرية التي يقتضيها كل ظرف.

بدأت وقتها فقط أتحول على يد الثورة إلى رجل، وكأن الرتبة التي كنت أحملها قد منحتني شهادة بالشفاء من ذاكرتي.. وطفولتي.
وكنت آنذاك سعيداً وقد بلغت أخيراً تلك الطمأنينة النفسية التي لا تمنحنا إياها سوى راحة الضمير.
لم أكن أعي أنّ طموحاتي لا علاقة لها بالمكتوب وأنّ القدر كان يتربص بي في ذلك الوقت الذي كنت أعتقد فيه أن لا شيء بعد اليوم يمكن أن يعيدني إلى حزني السابق.

وجاءت تلك المعركة الضارية التي دارت على مشارف "باتنة" لتقلب يوماً كل شيء..
فقد فقدنا فيها ستة مجاهدين، وكنت فيها أنا من عداد الجرحى بعدما اخترقت ذراعي اليسرى رصاصتان، وإذا بمجرى حياتي يتغير فجأة، وأنا أجد نفسي من ضمن الجرحى الذين يجب أن ينقلوا على وجه السرعة إلى الحدود التونسية للعلاج. ولم يكن العلاج بالنسبة لي.. سوى بتر ذراعي اليسرى، لاستحالة استئصال الرصاصتين. ولم يكن هناك من مجال للنقاش أو التردد. كان النقاش فقط، حول الطرق الآمنة التي يمكن أن نسلكها حتى تونس، حيث كانت القواعد الخلفية للمجاهدين.

وها أنذا أمام واقع آخر..

ها هو ذا القدر يطردني من ملجأي الوحيد، من الحياة والمعارك الليلية، ويخرجني من السرية إلى الضوء، ليضعني أمام ساحة أخرى، ليست للموت وليست للحياة. ساحة للألم فقط.. وشرفة أتفرج منها على ما يحدث في ساحة القتال. فلقد بدا واضحاً من كلام (سي طاهر) يومها، أنني قد لا أعود إلى الجبهة مرّة ثانية.

في ذلك اليوم الأخير، حاول (سي طاهر) أن يحافظ على نبرته الطبيعية، وراح كما كان يودعني كل مرة قبل معركة جديدة. ولكن هذه المرة كان يدري أنه يعدّني لتحمل معركتي مع القدر.

غير أنه كان موجزاً على غير عادته، ربما.. لأنه ليس هناك من تعليمات خاصة تعطى في هذه الحالات.. وربما لأنه كان يتكبد يومها أكبر خسارة بشرية ويفقد في معركة واحدة عشرة من خيرة رجاله بين جرحى وقتلي. وكان يدري، والثورة مطوقة من كل جانب، قيمة كلّ مجاهد وحاجة الثورة إلى كل رجل على حدة.

ولم أقل له شيئاً ذلك اليوم..

كنت أشعر، لسبب غامض، أنني أصبحت يتيماً مرة أخرى.
كانت دمعتان قد تجمدتا في عينيّ. كنت أنزف، وكان ألم ذراعي ينتقل تدريجياً إلى جسدي كله، ويستقر في حلقي غصة. غصّة الخيبة والألم.. والخوف من المجهول.

كانت الأحداث تجري مسرعة أمامي، وقدري يأخذ منحىً جديداً بين ساعة وأخرى، ووحده صوت (سي طاهر) وهو يعطي تعليماته الأخيرة، كان يصل إليَّ حيث كان، ليصبح صلتي الوحيدة مع العالم.

وبرغم ذلك، مازلت أذكر تماماً حضوره الأخير، عندما جاء يتفقدني قبل سفري بساعة، ووضع ورقة صغيرة في جيبي وبعض الأوراق النقدية، وقال وهو ينحني عليّ وكأنه يودعني سراً:
"لقد قُدّر لك أن تصل إلى هناك.. أتمنى أن تذهب لزيارتهم حين تشفى وتسلّم هذا المبلغ إلى (أمّا) لتشتري به هدية للصغيرة، وأود أيضاً أن تقوم بتسجيلها في دار البلدية لو استطعت ذلك.. فقد يمر وقت طويل قبل أ، أتمكن من زيارتهم..".
وعاد بعد لحظات وكأنه نسي شيئاً ليضيف شبه مرتبك وهو يلفظ ذلك الاسم لأول مرة..

".. لقد اخترت لها هذا لاسم.. سجلها متى استطعت ذلك وقبّلها عني.. وسلّم كثيراً على (أمّا).."

كانت تلك أول مرة سمعت فيها اسمك.. سمعته وأنا في لحظة نزيف بين الموت والحياة، فتعلقت في غيبوبتي بحروفه، كما يتعلق محموم في لحظة هذيان بكلمة..
كما يتعلق رسول بوصية يخاف أن تضيع منه..
كما يتعلق غريق بحبال الحلم.
بين ألف الألم وميم المتعة كان اسمك.
تشطره حاء الحرقة.. ولام التحذير. فكيف لم أحذر اسمك الذي ولد وسط الحرائق الأولى، شعلة صغيرة في تلك الحرب. كيف لم أحذر اسماً يحل ضده ويبدأ بـ "أح" الألم واللذة معاً. كيف لم أحذر هذا الاسم المفرد _ الجمع كاسم هذا الوطن، وأدرك منذ البدء أن الجمع خلق دائماً ليقتسم!

بين الابتسام والحزن، يحدث اليوم أن أستعيد تلك الوصية:

"قبّلها عني.." وأضحك من القدر، وأضحك من نفسي، ومن غرابة المصادفات.

ثمَّ أعود وأخجل من وقار صوته، ومن مسحة الضعف النادرة التي غلّفت جملته تلك، هو الذي كان يريد أن يبدو أمامنا دائماً، رجلاً مهيباً لا هموم له سوى هموم الوطن، ولا أهل له غير رجاله..

لقد اعترف لي أنَّه رجل ضعيف؛ يحنّ ويشتاق وقد يبكي ولكن، في حدود الحياء، وسراً دائماً. فليس من حقّ الرموز أن تبكي شوقاً.
إنه لم يذكر أمكِ مثلاً.. تراه لم يحنّ إليها، هي العروس التي لم يتمتع بها غير أشهر مسروقة من العمر وتركها حاملاً.
ولماذا هذا الاستعجال المفاجئ؟ لماذا لا ينتظر بعض الوقت ليرتِّب قضية غيابه لأيام، ويقوم هو نفسه بتسجيلكِ؟

لقد انتظر ستة أشهر، فلماذا لا ينتظر أسابيع أخرى.. ولماذا أنا بالذات..

أيّ قدر جعلني أحضر إلى هناك بتوقيتك؟

كلما طرحت على نفسي هذا السؤال، دهشت له وآمنت بالمكتوب.
فقد كان بإمكان (سي طاهر) برغم مسؤولياته أن يهرب ليوم أو ليومين إلى تونس. ولم تكن قضية عبور الحدود بحراستها المشددة ودورياتها وكمائنها لتخيفه، ولا حتى اجتياز (خط موريس) المكهرب والمفروش بالألغام، والممتد بين الحدود التونسية الجزائرية من البحر إلى الصحراء، والذي اجتازه فيما بعد ثلاث مرات، وهو رقم قياسي بالنسبة لعشرات المجاهدين الذين تركوا جثثهم على امتداده.

أكان حبّ (سي طاهر) للانضباط، واحترامه للقوانين هو الذي خلق عنده ذلك الشعور بالقلق بعد ميلادك، وهو يكتشف عاجزاً أنه أب منذ شهور لطفلة لم يمنحها اسماً، ولم يتمكن حتى من تسجيلها؟
أم كان يخاف، هو الذي انتظرك طويلاً، أن تضيعي منه إن هو لم يرسخ وجودك وانتسابك له على ورقة رسمية عليها ختم رسمي؟

أكان يتشاءم من وضعك القانوني هذا، ويريد أن يسجل أحلامه في دار البلدية، ليتأكد من أنها تحولت إلى حقيقة.. وأنَّ القدر لن يعود ليأخذها منه، هو الذي كان حلمه في النهاية أن يصبح أباً كالآخرين بعد محاولة زواج فاشلة لم يرزق منها ذرّية؟

ولا أدري إذا كان (سي الطاهر) في أعماقه يفضّل لو كان مولوده صبيّاً.. أدري فقط، كما علمت فيما بعد، أنه حاول أن يتحايل على القدر وأن يترك قبل سفره اسماً احتياطياً لصبي،متجاهلاً احتمال مجيء أنثى. وربما فعل ذلك أيضاً بعقلية عسكرية، وبهاجس وطني دون أن يدري.. فقد كانت أحاديثه وخططه العسكرية تبدأ غالباً بتلك الجملة التي كثيراً ما سمعته يردِّدها "لازمنا رجال يا جماعة.."

إذن، لهذا كان (سي طاهر) يبدو سعيداً ومتفائلاً في كلّ شيء في تلك الفترة..

فجأة تغيّر الرجل الصلب. أصبح أكثر مرونة وأكثر دعابة في أوقات فراغه.
شيء ما كان يتغير تدريجياً داخله، ويجعله أقرب إلى الآخرين، وأكثر تفهماً لأوضاعهم الخاصة.
فقد أصبح يمنح البعض بسهولة أكثر تسريحات لزيارة خاطفة يقومون بها إلى أهلهم، هو الذي كان يبخل بها على نفسه. لقد غيّرته الأبوّة المتأخرة، التي جاءت رمزاً جاهزاً لمستقبل أجمل..

معجزة صغيرة للأمل.. كانت أنتِ



* الجمل المكتوبة بخط مميز مأخوذة عن تواطؤ شعري من روايتي مالك حداد "سأهبك غزالة" و "رصيف الأزهار لم يعد يجيب.



طلع صباح آخر..
وها هو ذا النهار يفاجئني بضجيجه الاعتيادي، وبضوئه المباغت الذي يدخل النور إلى أعماقي غصباً عني، فأشعر أنه يختلس شيئاً مني.
في هذه اللحظة.. أكره هذا الجانب الفضولي والمحرج للشمس.
أريد أن أكتب عنك في العتمة. قصتي معك شريط مصور أخاف أن يحرقه الضوء ويلغيه، لأنك امرأة نبتت في دهاليزي السرية..
لأنك امرأة امتلكتها بشرعية السرية..
لا بد أن أكتب عنك بعد أن أسدل كلّ الستائر، وأغلق نوافذ غرفتي.

ورغم ذلك.. يسعدني في هذه اللحظة منظر الأوراق المكدسة أمامي، والتي ملأتها البارحة، في ليلة نذرتها للجنون. فقد أهديتها لك مغلّفة بصورة مهذبة في كتاب..

وأدري..
أدري أنَّك تكرهين الأشياء المهذّبة جداً.. وأنَّك أنانية جداً.. وأن لا شيء يعنيك في النهاية، خارج حدودك أنت.. وجسدك أنت.
ولكن قليلاً من الصبر سيّدتي.

صفحات أخرى فقط.. ثم أعرِّي أمامك ذاكرتي الأخرى. صفحات أخرى لا بد منها، قبل أن أملأك غروراً.. وشهوة.. وندماً وجنوناً. فالكتب كوجبات الحبّ.. لا بدّ لها من مقدّمات أيضاً.. وإن كنت أعترف أنّ "المقدمات" ليست مشكلتي الآن بقدر ما يربكني البحث عن منطلق لهذه القصة.

من أين أبدأ قصتي معك؟
ولقصتك معي عدّة بدايات، تبدأ مع النهايات غير المتوقعة ومع مقالب القدر.
وعندما أتحدث عنك.. عمّن تراني أتحدَّث؟ أعن طفلة كانت تحبو يوماً عند قدمي.. أم عن صبية قلبت بعد خمس وعشرين سنة حياتي.. أم عن امرأة تكاد تشبهك، أتأملها على غلاف كتاب أنيق عنوانه "منعطف النسيان" .. وأتساءل: أتراها حقاً.. أنتِ؟

وعندما أسميك فبأي اسم؟
تُرى أدعوك بذلك الاسم الذي أراده والدك، وذهبت بنفسي لأسجله نيابة عنه في سجلات البلدية، أم باسمك الأول، ذلك الذي حملته خلال ستة أشهر في انتظار اسم شرعي آخر؟

"حياة"..

سأدعوك هكذا.. ليس هذا اسمك على كل حال. إنه أحد أسمائك فقط.. فلأسمينَّك به إذن مادام هذا الاسم الذي عرفتك به، والاسم الذي أنفرد بمعرفته. اسمك غير المتداول على الألسنة، وغير المسجّل على صفحات الكتب والمجلات، ولا في أيّ سجلات رسمية.

الاسم الذي مُنحته لتعيشي وليمنحك الله الحياة والذي قتلته أنا ذات يوم، وأنا أمنحك اسماً رسمياً آخر، ومن حقي أن أحييه اليوم، لأنه لي ولم يُنادِكِ رجل قبلي يه.

اسمك الطفولي الذي يحبو على لساني، وكأنك أنت منذ خمس وعشرين سنة. وكلما لفظته، عدت طفلة تجلس على ركبتي وتعبث بأشيائي وتقول لي كلاماً لا أفهمه..
فأغفر لك لحظتها كلّ خطاياك.
كلما لفظته تدحرجت إلى الماضي، وعدت صغيرة في حجم دمية.. وإذا بك ابنتي.
هل أقرأ كتابك لأعرف كيف تحولت تلك الطفلة الصغيرة إلى امرأة؟ ولكنَّني أعرف مسبقاً أنك لن تكتبي عن طفولتك.. ولا عن سنواتك الأولى.

أنت تملئين ثقوب الذاكرة الفارغة بالكلمات فقط، وتتجاوزين الجراح بالكذب، وربما كان هذا سر تعلقك بي؛ أنا الذي أعرف الحلقة المفقودة من عمرك، وأعرف ذلك الأب الذي لم تريه سوى مرَّات قليلة في حياتك، وتلك المدينة التي كنت تسكنينها ولا تسكنك، وتعاملين أزقَََّتها دون عشق، وتمشين وتجيئين على ذاكرتها دون انتباه.

أنت التي تعلقتِ بي لتكتشفي ما تجهلينه.. وأنا الذي تعلّقت بك لأنسى ما كنت أعرفه.. أكان ممكناً لحبنا أن يدوم؟

كان (سي طاهر) طرفاً ثالثاً في قصتنا من البدء حتى عندما لا نتحدث عنه، كان بيننا حاضراً بغيابه، فهل أقتله مرة ثانية لأتفرَّد بك؟

آه لو تدرين.. لو تدرين ما أثقل حمل الوصايا، حتَّى بعد ربع قرن، وما أوجع الشهوة التي يواجهها أكثر من مستحيل وأكثر من مبدأ فلا يزيدها في النهاية إلا ... اشتهاء!

كان السؤال منذ البداية..
كيف لي أن ألغي (سي طاهر) م ذاكرتي، وألغي عمره من عمري، لأمنح حبّنا فرصة ولادة طبيعية؟
ولكن.. ما الذي سيبقى وقتها، لو أخرجتك من ذاكرتنا المشتركة وحولتك إلى فتاة عادية؟
كان والدك رفيقاً فوق العادة .. وقائداً فوق العادة.
كان استثنائياً في حياته وفي موته. فهل أنسى ذلك؟
لم يكن من المجاهدين الذين ركبوا الموجة الأخيرة، لضمنوا مستقبلهم، مجاهدي (62) وأبطال المعارك الأخيرة. ولا كان من شهداء المصادفة، الذين فاجأهم الموت في قصف عشوائي، أو في رصاصة خاطئة.

كان من طينة ديدوش مراد، ومن عجينة العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، الذين كانوا يذهبون إلى الموت ولا ينتظرون أن يأتيهم.

فهل أنسى أنّه والدك.. وسؤالك الدائم يعيد لاسمه هيبته حياً وشهيداً؟
فيرتبك القلب الذي أحبّك حدّ الجنون. ويبقى صدى سؤالك مائلاً... "حدثني عنه.."

سأحدثك عنه حبيبتي.. فلا أسهل من الحديث عن الشهداء. تاريخهم جاهز ومعروف مسبقاً كخاتمتهم. ونهايتهم تغفر لهم ما يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا من أخطاء.
سأحدِّثك عن (سي طاهر)..

فوحده تاريخ الشهداء قابل للكتابة، وما تلاه تاريخ آخر يصادر الأحياء. وسيكتبه جيل لم يعرف الحقيقة ولكنه سيستنتجها تلقائياً.. فهناك علامات لا تخطئ.
مات (سي طاهر) طاهراً على عتبات الاستقلال. لا شيء في يده غير سلاحه. لا شيء في جيوبه غير أوراق لا قيمة لها.. لا شيء على أكتافه سوى وسام الشهادة.
الرموز تحمل قيمتها في موتها..
ووحدهم الذين ينوبون عنهم، يحملون قيمتهم في رتبهم وأوسمتهم الشرفيّة، وما ملأوا به جيوبهم على عجل من حسابات سرّية.

ست ساعات من الحصار والتطويق، ومنن القصف المركّز لدشرة بأكملها ليتمكن قتلته من نشر صورته على صفحات جرائد الغد كدليل على انتصاراتهم الساحقة على أحد المخرّبين و "الفلَّاقة" الذين أقسمت فرنسا أن تأتي عليهم..

أكان حقاً موت ذلك الرجل البسيط انتصاراً لقوة عظمى، كانت ستخسر بعد بضعة أشهر الجزائر بأكملها؟!

استشهد هكذا في صيف 1960، دون أن يتمتع بالنصر ولا بقطف ثماره.
ها هو رجل أعطى الجزائر كلّ شيء، ولم تعطه حتى فرصة أن يرى ابنه يمشي إلى جواره..
أو يراك أنت ربما طبيبة أو أستاذة كما كان يحلم.
كم أحبّك ذلك الرجل!

بجنون أبوّة الأربعين.. بحنان الذي كان يخفي خلف صرامته الكثير من الحنان، بأحلام الذي صودرت منه الأحلام، بزهو المجاهد الذي أدرك وهو يرى مولده الأول، أنه لن يموت تماماً بعد اليوم.

مازلت أذكر المرّات القليلة التي كان يحضر فيها إلى تونس لزيارتكم خلسة ليوم واحد أو ليومين.
وكنت وقتها أسرع إليه متلهِّفاً لسماع آخر الأخبار، وتطورات الأحداث على الجبهة. وأنا أجهد نفسي في الوقت نفسه حتى لا أسرق منه تلك الساعات القليلة النادرة، التي كان يغامر بحياته ليقضيها برفقة عائلته الصغيرة.

كنت أندهش وقتها، وأنا أكتشف فيه رجلاً آخر لا أعرفه.
رجل بثياب أخرى، بابتسامة وكلمات أخرى، وبجلسة يسهل له فيها إجلاسك على ركبته طوال الوقت لملاعبتك.

كان يعيش كل لحظة بأكملها، وكأنه يعتر من الزمن الشحيح كل قطرات السعادة؛ وكأنه يسرق من العمر مسبقاً، ساعات يعرفها معدودة؛ ويمنحك مسبقاً من الحنان زادك لعمر كامل.
كانت آخر مرة رأيته فيها، في يناير سنة 1960. وكان حضر ليشهد أهم حدث في حياته؛ ليتعرف على مولوده الثاني "ناصر"، فقد كانت أمنيته السرية أن يُرزق يوماً بكر. يومها لسبب غامض تأملته كثيراً.. وحدَّثته قليلاً.. وفضّلت أن أتركه لفرحته تلك، ولسعادته المسروقة. وعندما عدت في الغد، قيل لي إنّه عاد إلى الجبهة على عجل مؤكداً أنه سيعود قريباً لمدة أطول.
ولم يعد..
انتهى بعد ذلك كرم القدر البخيل. فقد استشهد (سي طاهر) بعد بضعة أشهر دون أن يتمكن من رؤية ابنه مرّة ثانية.
كان ناصر آنذاك ينهي شهره الثامن، وأنت تدخلين عامك الخامس.

وكان الوطن في صيف 1960 بركاناً يموت ويولد كلّ يوم. وتتقاطع مع موته وميلاده، أكثر من قصة، بعضها مؤلم وبعضها مدهش..
وبعضها يأتي متأخراً كما جاءت قصتي التي تقاطعت يومها معك.
قصة فرعية، كتبت مسبقاً وحولت مسار حياتي بعد عمر بأكمله، بحكم شيء قد يكون اسمه القدر، وقد يكون العشق الجنوني..
ذاك الذي يفاجئنا من حيث لا نتوقع، متجاهلاً كلّ مبادئنا وقيمنا السابقة.
والذي يأتي متأخراً.. في تلك اللحظة التي لا نعود ننتظر فيها شيئاً؛ وإذا به يقلب فينا كلّ شيء.
فهل يمكن لي اليوم، بعدما قطعت بيننا الأيام جسور الكلام، أن أقاوم هذه الرغبة الجنونية لكتابة هاتين القصتين معاً، كما عشتهما معك ودونك، بعد ذلك بسنوات..

رغبةً.. وعشقاً.. وحلماً.. وحقداً.. وغيرةً.. وخيبةً.. وفجائع حدّ الموت.

أنت التي كنت تحبّين الاستماع إليّ..
وتقلبينني كدفتر قديم للدهشة.

كان لا بد أن أكتب من أجلك هذا الكتاب، لأقول لك ما لم أجد متَّسعاً من العمر لأقوله.

سأحدثك عن الذين أحبّوك لأسباب مختلفة، وخنتهم لأسباب مختلفة أخرى.

سأحدثك حتى عن زياد، أما كنت تحبِّين الحديث عنه وتراوغين؟

لم يعد من ضرورة الآن للمراوغة.. لقد اختار كلّ منا قدره.

سأحدثك عن تلك المدينة التي كانت طرفاً في حبّنا، والتي أصبحت بعد ذلك سبباً في فراقنا، وانتهي فيها مشهد خرابنا الجميل.

فعمّ تراك ستتحدثين؟
عن أيّ رجل منَّا تراك كتبت؟ مَنْ منَّا أحببت؟
ومن.. منّا ستقتلين؟
ولمن تراك أخلصت، أنت التي تستبدلين حبّاً بحبّ، وذاكرة بأخرى، ومستحيلاً بمستحيل؟
وأين أنا في قائمة عشقك وضحاياك؟
تراني أشغل المكانة الأولى، لأنني أقرب إلى النسخة الأولى؟
تراني النسخة المزورة لـ (سي طاهر) تلك التي لم يحوّلها الاستشهاد إلى نسخة طبق الأصل؟
تراني الأبوة المزورة.. أم الحب المزوّر؟
أنت التي _كهذا الوطن_ تحترفين تزوير الأوراق وقلبها.. دون جهد.

كان "مونتيرلان" يقول:
"إذا كنت عاجزاً عن قتل من تدّعي كراهيته، فلا تقل إنَّك تكرهه: أنت تعهّر هذه الكلمة!".

دعيني أعترف لك أنني في هذه اللحظة أكرهك، وأنّه كان لا بدّ أن أكتب هذا الكتاب لأقتلك به أيضاً. دعيني أجرّب أسلحتك..
فربما كنت على حق.. ماذا لو كانت الروايات مسدّسات محشوّة بالكلمات القاتلة لا غير؟.
ولو كانت الكلمات رصاصاً أيضاً؟
ولكنَّني لن أستعمل معك مسدساً بكاتم صوت، على طريقتك.
لا يمكن لرجل يحمل السلاح بعد هذا العمر، أن يأخذ كلّ هذه الاحتياطات.
أريد لموتك وقعاً مدوياً قدر الإمكان..
فأنا أقتل معك أكثر من شخص، كان لا بد أن يجرؤ أحد على إطلاق النار عليهم يوماً.
فاقرأي هذا الكتاب حتى النهاية، بعدها قد تكفّين عن كتابة الروايات الوهمية.
وطالعي قصتنا من جديد..
دهشة بعد أخرى، وجرحاً بعد آخر، فلم يحدث لأدبنا التعيس هذا، أن عرف قصة أروع منها..
ولا شهد خراباً أجمل.

 
 

 


التعديل الأخير تم بواسطة dali2000 ; 19-10-08 الساعة 04:19 PM سبب آخر: تم إضافة رابط لتنزيل الرواية من قبل مجموعة الطوارئ
عرض البوم صور lost in memories   رد مع اقتباس

قديم 27-01-07, 03:42 PM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7991
المشاركات: 259
الجنس أنثى
معدل التقييم: lost in memories عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 15

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
lost in memories غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : lost in memories المنتدى : الادباء والكتاب العرب
افتراضي

 

الفصل الثاني




كان يوم لقائنا يوماً للدهشة..
لم يكن القدر فيه هو الطرف الثاني، كان منذ البدء الطرف الأول. أليس هو الذي أتى بنا من مدن أخرى، من زمن آخر وذاكرة أخرى، ليجمعنا في قاعة بباريس، في حفل افتتاح معرض للرسم؟

يومها كنت أنا الرسام، وكنت أنت زائرة فضولية على أكثر من صعيد.

لم تكوني فتاة تعشق الرسم على وجه التحديد. ولا كنت أنا رجلاً يشعر بضعف تجاه الفتيات اللائي يصغرنه عمراً. فما الذي قاد خطاك هناك ذلك اليوم؟.. وما الذي أوقف نظري طويلاً أمام وجهك؟

كنت رجلاً تستوقفه الوجوه، لأن وجوهنا وحدها تشبهنا، وحدها تفضحنا، ولذا كنت قادراً على أن أحبّ أو أكره بسبب وجه.
وبرغم ذلك، لست من الحماقة لأقول إنني أحبتك من النظرة الأولى. يمكنني أن أقول إنني أحبتك، ما قبل النظرة الأولى.

كان فيك شيء ما أعرفه، شيء ما يشدني إلى ملامحك المحببة إليّ مسبقاً، وكأنني أحببت يوماً امرأة تشبهك. أو كأنني كنت مستعداًَ منذ الأزل لأحبّ امرأة تشبهك تماماً.
كان وجهك يطاردني بين كلّ الوجوه، وثوبك الأبيض المتنقّل من لوحة إلى أخرى، يصبح لون دهشتي وفضولي..

واللون الذي يؤثّث وحده تلك القاعة الملأى.. بأكثر من زائر وأكثر من لون.

- هل يولد الحبّ أيضاً من لونٍ لم نكن نحبّه بالضرورة!_
وفجأة اقترب اللون الأبيض منّي، وراح يتحدث بالفرنسية مع فتاة أخرى لم ألاحظها من قبل..

ربَّما لأن الأبيض عندما يلبس شعراً طويلاً حالكاً، يكون قد غطَّى على كل الألوان..

قال الأبيض وهو يتأمل لوحة:

- Je prefere l'abstrait..!

وأجاب اللون الذي لا لون له:

- moi je prefere comprendre ce que je vois.

ولم تدهشني حماقة اللون الذي لا لون له، عندما يفضّل أن يفهم كلّ ما يرى..

أدهشني اللون الأبيض فقط.. فليس من طبعه أن يفضّل الغموض!

قبل ذلك اليوم، لم يحدث أن انحزت للون الأبيض.
لم يكن يوماً لوني المفضل.. فأنا أكره الألوان الحاسمة.
ولكنني آنذاك انحزت إليك دون تفكير.
ووجدتني أقول لتلك الفتاة، وكأنني أواصل جملة بدأتها أنتِ:

- الفن هو كل ما يهزنا.. وليس بالضرورة كلّ ما نفهمه!

نظرتما إليّ معاً بشيء من الدهشة، وقبل أن تقولي شيئاً، كانت عيناك تكتشفان في نظرة خاطفة، ذراع جاكيتي الفارغة والمختبئ كمّه بحياء في جيب سترتي.

كانت تلك بطاقة تعريفي وأوراقي الثبوتية.

مددت نحوي يدك مصافحة وقلت بحرارة فاجأتني:

- كنت أريد أن أهنّئك على هذا المعرض..

وقبل أن تصلني كلماتك.. كان نظري قد توقَّف عند ذلك السوار الذي يزين معصمك العاري الممدود نحوي.

كان إحدى الحليّ القسنطينية التي تُعرف من ذهبها الأصفر المضفور، ومن نقشتها المميزة. تلك "الخلاخل" التي لم يكن يخلو منها في الماضي، جهاز عروس ولا معصم امرأة من الشرق الجزائري.

مددت يدي إليك دون أن أرفع عيني تماماً عنه. وفي عمر لحظة، عادت ذاكرتي عمراً إلى الوراء. إلى معصم (أمّا) الذي لم يفارقه هذا السوار قط.

وداهمني شعور غامض، منذ متى لم يستوقف نظري سوار كهذا؟
لم أعد أذكر.. ربَّما منذ أكثر من ثلاثين سنة!
بكثير من اللباقة سحبت يدك التي كنت أشدّ عليها ربَّما دون أن أدري، وكأنني أمسك بشيء ما، استعدتِه فجأة.
وابتسمت لي..

رفعت عيني نحوك لأول مرة.
تقاطعت نظراتنا في نصف نظرة.
كنت تتأملين ذراعي الناقصة، وأتأمل سواراً بيدك.
كان كلانا يحمل ذاكرته فوقه..

وكان يمكن لنا أن نتعرف على بعضنا بهذه الطريقة فقط. ولكن كنت لغزاً لا تزيده التفاصيل إلا غموضاً. فرحت أراهن على اكتشافك. أتفحصك مأخوذاً مرتبكاً.. كأنني أعرفك وأتعرف عليك في آن واحد.

لم تكوني جميلة ذلك الجمال الذي يبهر، ذلك الجمال الذي يخيف ويربك.

كنت فتاة عاديّة، ولكن بتفاصيل غير عادية، بسرٍّ ما يكمن في مكان ما من وجهك.. ربَّما في جبهتك العالية وحاجبيك السميكين والمتروكين على استدارتهما الطبيعية. وربّما في ابتسامتك الغامضة وشفتيك المرسومتين بأحمر شفاه فاتح كدعوة سريّة لقبلة.
أو ربما في عينيك الواسعتين ولونهما العسليّ المتقلِّب.
وكنت أعرف هذه التفاصيل..
أعرفها.. ولكن كيف؟ وجاء صوتك بالفرنسية يخرجني من تفكيري قلت:

- يسعدني أن يصل فنان جزائري إلى هذه القمة من الإبداع..
ثم أضفت بمسحة خجل:
- في الحقيقة.. أنا لا أفهم كثيراً في الرسم، ولم أزر إلا نادراً معارض فنية، ولكن يمكنني أن أحكم على الأشياء الجميلة، ولوحاتك شي مميز.. كنّا في حاجة إلى شيء جديد بنكهة جزائرية معاصرة كهذه... لقد كنت أقول هذا لابنة عمي عندما فاجأتنا.

وعندما تقدمت تلك الفتاة مني لتصافحني، وتقدِّم لي نفسها، وكأنها بذلك ستصبح طرفاً في وقفتنا، وذلك الحوار الذي وجدت نفسها خارجه بعدما تجاهلتها منذ البدء دون أن أدري..

قالت وهي تعرّفني بنفسها:

- الآنسة عبد المولى. إني سعيدة بلقائك..

انتفضت لسماع ذلك الاسم.
ونظرت مدهوشاً إلى تلك الفتاة التي صافحتني بحرارة لا تخلو من شيء من الغرور..
تفحصتها وكأنني أكتشف وجودها، ثم عدت لأتأملك عساني أجد في ملامحك جواباً لدهشتي.
عبد المولى.... عبد المولى..
وراحت الذاكرة تبحث عن جواب لتلك المصادفة..
كنت أعرف عائلة عبد المولى جيداً.
إنهما أخوان لا أكثر. أحدهما (سي طاهر) استشهد منذ اكثر من عشرين سنة، وترك صبياً وبنتاً فقط.
والآخر (سي الشريف) تزوج قبل الاستقلال، و قد يكون له اليوم عدة أولاد وبنات..
فمن منكما ابنة (سي الطاهر)... تلك التي حملتُ اسمها وصية من الجبهة حتى تونس.. ونبت عن أبيها في دار البلدية، لتسجيلها رسمياً في سجلِّ الولادات؟
من منكما تلك الصغيرة التي قبّلتها نيابة عن أبيها، ولا عبتها ودلّلتها نيابة عنه؟

من منكما... أنتِ؟

وبرغم بعض الخطوط المشتركة لملامحكما، كنت أشعر أنَّك أنتِ.. لا تلك.
أو هكذا كنت أتمنى، وأنا أحلم قبل الأوان بقرابة ما تكون جمعتني بك.
وأندهش لهذه المصادفة، وأجد فجأة تبريراً لوجهك المحبّب إليّ مسبقاً. لقد كنت نسخة عن (سي طاهر)، نسخة أكثر جاذبية.

كنت أنثى.

ولكن.. أيعقل أن تكوني أنت الطفلة التي رأيتها لآخر مرة في تونس سنة (1962) غداة الاستقلال، عندما رحت أطمئن عليكم كالعادة، وأتابع بنفسي تفاصيل عودتكم إلى الجزائر؟ بعدما اتصل بي (سي الشريف) من قسنطينة، ليطلب مني بيع ذلك البيت الذي لم يعد هناك ضرورة لوجوده، والذي اشتراه (سي الطاهر) منذ عدّة سنوات ليهرّب إليه أسرته الصغيرة، عندما أبعدته فرنسا عن الجزائر في الخمسينيات، بعد عدة أشهر من السجن قضاها بتهمة التحريض السياسي.

كم كان عمرك وقتها؟
أيعقل أن تكوني تغيرت إلى هذا الحدّ.. وكبرت إلى هذا الحد.. خلال عشرين سنة؟!

رحت أتأملك مرة أخرى، وكأنني أرفض أن أعترف بعمرك، وربما أرفض أن أعترف بعمري وبالرجل الذي أصبحته منذ ذلك الزمن الذي يبدو لي اليوم غابراً.

ما الذي أوصلك إلى هذه المدينة.. وإلى هذه القاعة في هذا الزمن وهذا اليوم بالذات؟
يوم انتظرته طويلاً لسبب لا علاقة له بك..
وحسبت له ألف حساب لم تكوني ضمنه..
وتوقَّعت فيه كل المفاجآت إلا أن تكوني أنت مفاجأتي.

فجأة أذهلني اكتشافي، وخفت من مواجهة عينيك اللتين كانتا تتابعان بشيء من الدهشة ارتباكي. فقررت أن أطرح سؤالي بالمقلوب، وأنا أواصل حديثي مع الفتاة الأخرى التي قدّمت لي نفسها. كنت أعرف أنني إذا عرفتها سينحل اللغز، وأعرف تلقائياً من منكما.. أنتِ.
فقد كان لإحداكما اسم أعرفه منذ خمس وعشرين سنة، وعليّ فقط أن أتعرف على صاحبته.

سألتها:

- هل لديك قرابة بسي الشريف عبد المولى؟
أجابت بسعادة وكأنها تكتشف أن أمرها يعنيني:
- إنه أبي.. لقد تعذر عليه الحضور اليوم بسبب وصول وفد من الجزائر البارحة.. لقد حدّثنا عنك كثيراً. وقد أثار فضولنا لمعرفتك لدرجة قرّرنا أن نأتي مكانه اليوم لحضور الافتتاح!

كان كلام تلك الفتاة على تلقائيته يحمل لي جوابين. الأول أنها لم تكن أنت، والثاني سبب تخلف (سي الشريف).

كنت لاحظت غيابه وتساءلت عن سببه، هل كان المانع شخصياً، أم سياسياً.. أم تراه كان لسببٍ ما يتحاشى الظهور معي؟

كنت أدري أنّ طرقنا تقاطعت منذ سنين عندما دخل دهاليز اللعبة السياسية، وأصبح هدفه الوحيد الوصول إلى الصفوف الأمامية. ورغم ذلك لم يكن بإمكاني أن أتجاهل وجوده معي في المدينة نفسها. فقد كان جزءاً من شبابي وطفولتي.. وكان بعض ذاكرتي.

ولذا، ولأسباب عاطفية محض، كان الشخصية الجزائرية الوحيدة التي دعوتها.

لم ألتق به منذ عدة سنوات، ولكن أخباره كانت تصلني دائماً منذ عُيِّن، قبل سنتين، ملحقاً في السفارة الجزائرية، وهو منصب ككل المناصب "الخارجية"، يتطلب كثيراً من الوساطة والأكتاف العريضة.

وكان بإمكان (سي الشريف) أن يشق طريقه إلى هذا المنصب ولأهم منه بماضيه فقط، وباسمه الذي خلّده سي الطاهر باستشهاده. ولكن يبدو أن الماضي لم يكن كافياً بمفرده لضمان الحاضر، وكان عليه أن يتأقلم مع كلّ الرياح للوصول..

خطر ببالي كلّ ذلك، وأنا أحاول بدوري أن أتأقلم مع كل المفاجآت والانفعالات التي هزتني في بضع لحظات، والتي كانت بدايتها أنني وددت أن أسلم على فتاة جميلة تزور معرضي لا غير.. فإذا بي أسلّم على ذاكرتي!

وعدت إلى دهشتي الأولى معك..
إلى كل التفاصيل الأولى التي لفتت نظري إليك منذ البدء. إلى تلك اللوحة بالذات التي توقفت طويلاً أمامها. لقد كان هناك أكثر من قدر، أكثر من مكتوب.. أكثر من مصادفة.

أنتِ..
أكنت أنت.. في قاعة تتفرجين فيها على لوحاتي. تتأملين بعضها، تتوقفين عند بعضها الآخر، وتعودين إلى الدليل الذي تمسكيه بيدك لتتعرفي على أسماء اللوحات التي تلفت نظرك الأكثر؟

أنتِ..
تراك أنت.. نور آخر يضيء كل لوحة تمرين بها، فتبدو الأضواء الموجهة نحو اللوحات، وكأنها موجّهة نحوك.. وكأنك كنت اللوحة الأصلية.

أنت إذن..
تتوقفين أمام لوحة صغيرة لم تستوقف أحداً. تتأملينها بإمعان أكبر، تقتربين منها أكثر، وتبحثين عن اسمها في قائمة اللوحات.

ولحظتها سرت في جسدي قشعريرة مبهمة. واستيقظ فضول الرسّام المجنون داخلي..

من تكونين، أنت الواقفة أمام أحبّ لوحاتي ليّ..؟
رحت أتأملك مرتبكاً وأنت تتأملينها.. وتقولين لرفيقتك كلاماً لا يصلني شيء منه.
ما الذي أوقفك أمامها؟
لم تكن أجمل ما في القاعة من لوحات، كانت لوحتي الأولى وتمريني الأول في الرسم فقط..
ولكنني أصررت هذه المرة، على أن تكون حاضرة في معرضي الأهم هذا، لأنني اعتبرتها برغم بساطتها، معجزتي الصغيرة.
رسمتها منذ خمس وعشرين سنة، وكان مرَّ على بتر ذراعي اليسرى أقلّ من شهر.
لم تكن محاولة للإبداع ولا لدخول التاريخ. كانت محاولة للحياة فقط، والخروج من اليأس. رسمتها كما يرسم تلميذ في امتحان للرسم منظراً ليجيب على ورقة الأستاذ:

"ارسم أقرب منظر إلى نفسك".

إنها الجملة التي قالها لي ذلك الطبيب اليوغسلافي الذي قدم مع بعض الأطباء من الدول الاشتراكية إلى تونس، لمعالجة الجرحى الجزائريين، والذي أشرف على عملية بتر ذراعي وظل يتابع تطوراتي الصحية والنفسية فيما بعد.

كان يسألني كل مرة أزوره فيها عن اهتماماتي الجديدة، وهو يلاحظ إحباطي النفسي المستمر.
لم أكن مريضاً ليحتفظ بي الطبيب في مستشفى، ولا كنت معافى بمعنى الكلمة لأبدأ حياتي الجديدة.

كنت أعيش في تونس، ابناً لذلك الوطن وغريباً في الوقت نفسه؛ حراً ومقيداً في الوقت نفسه؛ سعيداً وتعيساً في الوقت نفسه.

كنت الرجل الذي رفضه الموت ورفضته الحياة. كنت كرة صوف متداخلة.. فمن أين يمكن لذلك الطبيب أن يجد رأس الخيط الذي يحلّ به كلّ عقدي؟

وعندما سألني ذات مرّة، وهو يكتشف ثقافتي، هل كنت أحبّ الكتابة أو الرسم، تمسكت بسؤاله وكأنني أتمسّك بقشه قد تنقذني من الغرق، وأدركت فوراً الوصفة الطبية التي كان يعدها لي.

قال:
- إن العملية التي أجريتها عليك، أجريت مثلها عشرات المرّات على جرحى كثيرين فقدوا في الحرب ساقاً أو ذراعاً، وإذا كانت العملية لا تختلف، فإنّ تأثيرها النفسي يختلف من شخص إلى آخر، حسب عمر المريض ووظيفته وحياته الاجتماعية.. وخاصة حسب مستواه الثقافي، فوحده المثقَّف يعيد النظر في نفسه كلّ يوم، ويعيد النظر في علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغيّر شيء في حياته..

لقد أدركت هذا من تجربتي في هذا الميدان. لقد مرّت بي أكثر من حالة من هذا النوع، ولذا أعتقد أن فقدانك ذراعك قد أخلّ بعلاقتك بما هو حولك. وعليكم أن تعيد بناء علاقة جديدة مع العالم من خلال الكتابة أو الرسم..

عليك أن تختار ما هو اقرب إلى نفسك، وتجلس لتكتب دون قيود كلّ ما يدور في ذهنك. ولا تهمّ نوعية تلك الكتابات ولا مستواها الأدبي.. المهم الكتابة في حد ذاتها كوسيلة تفريغ، وأداة ترميم داخلي..

وإذا كنت تفضّل الرسم فارسم.. الرسم أيضاً قادر على أن يصالحك مع الأشياء ومع العالم الذي تغيّر في نظرك، لأنك أنت تغيّرت وأصبحت تشاهده وتلمسه بيدٍ واحدة فقط..

وكان يمكن أن أجيبه ذلك اليوم بتلقائية.. إنني أحبّ الكتابة، وأنها الأقرب إلى نفسي، مادمت لم أفعل شيئاً طوال حياتي، سوى القراءة التي تؤدي تلقائياً إلى الكتابة.
كان يمكن أن أجيبه كذلك، فقد تنبأ لي أساتذتي دائماً بمستقبل ناجح.. في الأدب الفرنسي!
ولهذا أجبته دون تفكير، أو ربما بموقف اكتشفت فيما بعد أنه كان جاهزاً في أعماقي:
- أفضل الرسم..

لم تقنعه جملتي المقتضبة فسألني إن كنت رسمت قبل اليوم..
قلت: "لا..".
قال: "إذن ابدأ برسم أقرب شيء إلى نفسك.. ارسم أحبّ شي إليك..".

وعندما ودّعني قال بسخرية الأطباء عندما يعترفون بعجزهم بلباقة: " ارسم.. فقد لا تكون في حاجة إليّ بعد اليوم!".

عدت يومها إلى غرفتي مسرعاً أريد أن أخلو لنفسي بين تلك الجداران البيضاء، التي كانت استمراراً لجدران مستشفى "الحبيب ثامر" الذي كان حتى ذلك الوقت، المكان الذي أعرفه الأكثر في تونس.

رحت يومها أتأمل تلك الجدران على غير عادتي، وأنا أفكر في كل ما يمكن أن أعلق عليها من لوحات بعد اليوم. كل وجوه من أحبّ.. كلّ الأزقة التي أحب.. كلّ ما تركته خلفي هناك.

نمت في تلك الليلة قلقاً، وربما لم أنم. كان صوت ذلك الطبيب يحضرني بفرنسيته المكسرة ليوقظني "ارسم". كنت أستعيده داخل بدلته البيضاء، يودعني وهو يشدّ على يدي "ارسم". فتعبر قشعريرة غامضة جسدي وأنا أتذكر في غفوتي أول سورة للقرآن. يوم نزل جبرائيل عليه السلام على محمد لأول مرة فقال له "اقرأ" فسأله النبي مرتعداً من الرهبة.. "ماذا أقرأ؟" فقال جبريل "اقرأ باسم ربّك الذي خلق" وراح يقرأ عليه أول سورة للقرآن. وعندما انتهى عاد النبي إلى زوجته وجسده يرتعد من هول ما سمع. وما كاد يراها حتى صاح "دثريني.. دثريني...".

كنت ذلك المساء أشعر برجفة الحمّى الباردة. وبرعشة ربما كان سببها توتري النفسي يومها، وقلقي بعد ذلك اللقاء الذي كنت أعرف أنه آخر لقاء لي مع الطبيب. وربما أيضاً بسبب ذلك الغطاء الخفيف الذي كان غطائي الوحيد في أوج الشتاء القارس، والذي لم يمنحني مستأجري البخيل غيره.

وكدت أصرخ وأنا أتذكر فراش طفولتي. وتلك "البطانية" الصوفية التي كانت غطائي في مواسم البرد القسنطيني، كدت أصرخ في ليل غربتي.. "دثريني قسنطينة.. دثريني.." ولكن لم أقل شيئاً ليلتها، لا لقسنطينة ولا لصاحب الغرفة البائس. احتفظت بحمَّاي وبرودتي لنفسي. صعب على رجل عائد لتوه من الجبهة، أن يعترف حتى لنفسه بالبرد..

انتظرت فقط طلوع الصباح لأشتري بما تبقى في جيبي من أوراق نقدية ما أحتاج إليه لرسم لوحتين أو ثلاث. ووقفت كمجنون على عجل أرسم "قنطرة الحبال" في قسنطينة..

أكان ذلك الجسر أحبّ شيء إليّ حقاً، لأقف بتلقائية لأرسمه وكأنني وقفت لأجتازه كالعادة؟ أم تراه كان أسهل شيء للرسم فقط؟
لا أدري..
أدري أنني رسمته مرات ومرات بعد ذلك، وكأنني أرسمه كل مرة لأول مرة. وكأنه أحب شيء لدي كل مرة.

خمس وعشرون سنة، عمر اللوحة التي أسميتها دون كثير من التفكير "حنين". لوحة لشاب في السابعة والعشرين من عمره، كان أنا بغربته وبحزنه وبقهره.

وها أنا ذا اليوم، في غربة أخرى وبحزن وبقهر آخر.. ولكن بربع قرن إضافي، كان لي فيه كثير من الخيبات والهزائم الذاتية.. وقليل من الانتصارات الاستثنائية.

ها أنا اليوم أحد كبار الرسامين الجزائريين، وربما كنت أكبرهم على الإطلاق؛ كما تشهد بذلك أقوال النقاد الغربيين الذين نقلت شهادتهم بحروف بارزة على بطاقات دعوة الافتتاح.

ها أنا اليوم... نبيّ صغير نزل عليه الوحي ذات خريف في غرفة صغيرة بائسة، في شارع "باب سويقة" بتونس.
ها أنا نبي خارج وطنه كالعادة.. وكيف لا ولا كرامة لنبي في وطنه؟
ها أنا "ظاهرة فنية؟، كيف لا وقدر ذي العاهة أن يكون "ظاهرة" وأن يكون جباراً ولو بفنه؟
ها أنا ذا..

فأين هو ذلك الطبيب الذي نصحني بالرسم ذات مرة؟ والذي صدقت نبوءته ولم احتاج إليه بعد ذلك اليوم؟ إنه الغائب الوحيد في هذه القاعة الشاسعة التي لم يسبق لأيّ عربي أن عرض فيها لوحاته قبلي. أين هو الدكتور "كابوتسكي" ليرى ماذا فعلت بيدٍ واحدة..
ذلك الذي لم أسأله يوماً ماذا فعل بيدي الأخرى!

وها هي "حنين" لوحتي الأولى، وجوار تاريخ رسمها (تونس 57) توقيعي الذي وضعته لأول مرة أسفل لوحة. تماماً كما وضعته أسفل اسمك، وتاريخ ميلادك الجديد، ذات خريف من سنة 1957، وأنا أسجِّلك في دار البلدية لأول مرة..

من منكما طفلتي.. ومن منكما حبيبتي؟ سؤال لم يخطر على بالي ذلك اليوم، وأنا أراك تقفين أمام تلك اللوحة لأول مرة..
لوحة في عمرك.. تكبرينها _ رسمياً _ ببضعة أيام.. وتصغرك في الواقع ببضعة أشهر لا غير.

لوحة كانت بدايتي مرتين.. مرة يوم أمسكت بفرشاة لأبدأ معها مغامرة الرسم.. ومرة يوم وقفت أنت أمامها، وإذا بي أدخل في مغامرة مع القدر...





على مفكرة ملأى بمواعيد وعناوين لا أهمية لها، وضعت دائرة حول تاريخ ذلك اليوم: نيسان 1981، وكأنني أريد أن أميزه عن بقية الأيام. قبل ذلك اليوم، لم أجد في سنواتي الماضية ما يستحق التميز.
فقد كانت أيامي مثل أوراق مفكرتي ملأى بمسودات لا تستحق الذكر. وكنت املأها غالباً كي لا أتركها بيضاء، فقد كان اللون الأبيض يخيفني دائماً عندما يكون على مساحة ورق.

ثماني مفكرات لثماني سنوات، لم يكن فيها ما يستحق الدهشة. جميعها صفحة واحدة لمفكرة واحدة لا تاريخ لها سوى الغربة. غربة كنت أحاول أن أختصرها بعملية حسابية كاذبة، تتحول فيها السنوات إلى ثماني مفكرات لا غير، مازالت مكدسة في خزانتي الواحدة فوق الأخرى... مسجلة لا حسب تواريخها الميلادية أو الهجرية.. إنما حسب أرقام سنوات هجرتي الاختيارية.

أضع دائرة حول تاريخ ذلك اليوم، وكأنني أغلق عليك داخل تلك الدائرة. كأنني أطوقك وأطارد ذكراك لتدخلي دائرة ضوئي إلى الأبد.

كنت أتصرف عن حدس مسبق، وكأن هذا التاريخ سيكون منعطفاً للذاكرة؛ كأنه سيكون ميلادي الآخر على يديك. وكنت أعي وقتها تماماً أن الولادة على يدك كالوصول إليك أمر لن يكون سهلاً.

يشهد على ذلك غياب رقمك الهاتفي وعنوانك من تلك الصفحة التي لم تكن تحمل في النهاية سوى تاريخ لقائك. فهل كان من المنطقي أن اطلب منك رقم هاتفك في لقائنا الأول أو صدفتنا الأولى تلك.. وبأي مبرر وبأية حجة سأفعل ذلك، وكلّ الأسباب تبدو ملفّقة عندما يطلب رجل من فتاة جميلة رقم هاتفها؟

كنت أشعر برغية في الجلوس إليك.. في التحدث والاستماع إليك.. عساني أتعرّف على النسخة الأخرى لذاكرتي. ولكن كيف أقنعك بذلك؟ كيف أشرح لك في لحظات أنني أعرف الكثير عنك، أنا الرجل الذي تقابلينه لأول مرة، والي تتحدثين إليه كما نتحدث بالفرنسية للغرباء بضمير الجمع.. فلا أملك إلا أن أجيبك بنفس كلام الغرباء بالجمع..

كانت الكلمات تتعثر يومها على لساني، وكأنني أتحدث لك بلغة لا أعرفها.. بلغة لا تعرف شيئاً عنّا. أيعقل بعد عشرين سنة أن أصافحك وأسألك بلغة فرنسية محايدة..

- Mais comment allez-vous mademoiselle?

فتردين عليّ بنفس المسافة اللغوية:

- Bien.. je vous remercie..

وتكاد تجهش الذاكرة بالبكاء.. تلك التي عرفتك طفلة تحبو.
تكاد ترتعش ذراعي الوحيدة وهي تقاوم رغبة جامحة لاحتضانك، وسؤالك بلهجة قسنطينية افتقدتها..
- واشك..؟

آه واشك.. أيتها الصغيرة التي كبرت في غفلة منِّي.. كيف أنت أيتها الزائرة الغريبة التي لم تعد تعرفني. يا طفلة تلبس ذاكرتي، وتحمل في معصمها سواراً كان لأمي؟

دعيني أضمّ كلّ من أحببتهم فيك. أتأملك وأستعيد ملامح (سي الطاهر) في ابتسامتك ولون عينيك. فما أجمل أن يعود الشهداء هكذا في طلّتك. ما أجمل أن تعود أمّي في سوار بمعصمك؛ ويعود الوطن اليوم في مقدمك. وما أجمل أن تكوني أنت.. هي أنت!
أتدرين..
(إذا صادف الإنسان شيء جميل مفرط في الجمال.. رغب في البكاء..)
ومصادفتك أجمل ما حلّ بي منذ عمر.
كيف أشرح لك كلّ هذا مرّة واحدة.. ونحن وقوف تتقاسمنا الأعين والأسماع؟
كيف أشرح لك أنني كنت مشتاقاً إليك دون أن أدري.. أنني كنت انتظرك دون أن أصدق ذلك؟
وأنه لا بد أن نلتقي.
أجمع حصيلة ذلك اللقاء الأول..
ربع ساعة من الحديث أو أكثر. تحدثت فيها أنا أكثر مما تحدثت أنت. حماقة ندمت عليها فيما بعد. كنت في الواقع أحاول أن أستبقيك بالكلمات. نسيت أن أمنحك فرصة أكثر للحديث.

كنت سعيداً وأنا أكتشف شغفك بالفنّ.. كنت على استعداد لمناقشتي طويلاً في كل لوحة، كان كل شيء معك قابلاً للجدل. وأمَّا أنا فكنت لحظتها لا أرغب سوى في الحديث عنك. وحده وجودك كان يثير شهيتي للكلام.

ولأنه لم يكن في الوقت متسع لأسرد عليك فصول قصتي المتقاطعة مع قصتك، اكتفيت بجملتين أو ثلاث عن علاقاتي القديمة بأبيك.. وعن طفولتك الأولى.. وعن لوحة قلت إنك أحببتها، وقلت لك إنها توأمك!

اخترت جملي بكثير من الاقتضاب.. وكثير من الذكاء. تركت بين الكلمات كثيراً من نقط الانقطاع.. لإشعارك بثقل الصمت الذي لم تملأه الكلمات.

لم أكن أريد أن أنفق ورقتي الوحيدة معك في يوم واحد على عجل.
كنت أريد أن أوقظ فضولك لمعرفتي أكثر، لكي أضمن عودتك لي ثانية. وعندما سألتني "هل ستكون موجوداً هنا طوال فترة المعرض؟" أدركت أنني نجحت في أول امتحان معك، وأنا أجعلك تفكرين في لقائي مرة ثانية. ولكنني قلت بصوت طبيعي لا علاقة له بزلازلي الداخلية:

"سأكون هنا بعد الظهر في أغلب الأحيان.." ثم أضفت وأنا أكتشف أن جوابي قد لا يشجعك على زيارة قد أكون غائباً عنها:
"ومن الأرجح أن أكون هنا كل يوم، فستكون لي مواعيد كثيرة مع الصحافيين والأصدقاء..".

كان في ذلك الكلام شيء من الحقيقة. ولكنني لم أكن في الواقع مضطراً للبقاء طوال الوقت في المعرض. كنت فقط أحاول ألا أجعلك تعودين عن قرارك لسبب ما.
قلت وأنت تتحدثين لي فجأة بطريقة الأصدقاء القدامى:
"قد أعود لزيارة المعرض يوم الاثنين القادم.. إنه اليوم الذي لا دروس لي فيه. في الحقيقة أنا حضرت اليوم عن فضول فقط.. ويسعدني أن أتحدث إليك أكثر..".

تدخلت ابنة عمك، وكأنها تعتذر، وربما تتحسر لأنها لن تكون طرفاً في ذلك اللقاء:
"خسارة.. إنه اليوم الأكثر مشاغل بالنسبة لي.. لن يمكنني أن أرافقك، ولكن قد أعود أنا أيضاً في يوم آخر." ثم التفت نحوي سائلة:

"متى ينتهي المعرض؟"
قلت:
"في 25 نيسان.. أي بعد عشرة أيام..".
صاحت:
"عظيم.. سأجد فرصة للعودة مرة أخرى.."
تنفست الصعداء.
المهم أن أراك مرة واحدة على انفراد، وبعدها سيصبح كلّ شيء أسهل.

تزودت منك بآخر نظرة، وأنت تصافحينني قبل أن تنسحبي.
كان في عينيك دعوة لشيء ما..
كان فيهما وعد غامض بقصة ما..
كان فيهما شيء من الغرق اللذيذ المحبب.. وربما نظرة اعتذار مسبقة عن كل ما سيحل بي من كوارث بعد ذلك بسببهما.

وكنت أعي في تلك اللحظة، وذلك اللون الأبيض يوليني ظهره ملتفّاً بشال شعره الأسود.. ويبتعد عني تدريجياً ليختلط بأكثر من لون، أنني سواء رأيتك أم لم أرك بعد اليوم، فقط أحببتك.. وانتهى الأمر.

غادرت القاعة إذن مثلما جئتِ.. ضوءاً يشق الطريق انبهاراً عند مروره.. متألقاً في انسحابه كما في قدومه.

يجر خلفه أكثر من قوس قزح.. وذيلاً من مشاريع الأحلام.

ما الذي أعرفه عنك؟
شيئان أو ثلاثة.. أعدتهما على نفسي بعد ذلك عدة مرات، لأقنع نفسي أنك لم تكوني "نجماً مذنباً" عابراً كذاك الذي يضيء في الأمسيات الصيفية، ويختفي قبل أن يتمكن الفلكيون من مطاردته بمنظارهم، والذي يسمونه في قواميس الفلك.. "النجم الهارب"!

لا.. لن تهربي مني، وتختفي في شوارع باريس وأزقتها المتشعبة بهذه السهولة. أعرف على الأقل أنك تعدين شهادة ما في المدرسة العليا للدراسات، وأنك في السنة الأخيرة للدراسة، وأنك في باريس منذ أربع سنوات، وتقيمين عند عمك منذ عينّ في باريس أي منذ سنتين. معلومات قد تكون هزيلة، ولكنها تكفي للعثور عليك بأية طريقة.

كانت الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين تبدو طويلة وكأنها لا تنتهي. وكنت بدأت في العدّ العكسي منذ تلك اللحظة التي غادرت فيها القاعة، رحت أعدّ الأيام الفاصلة بين يوم الجمعة ويوم الاثنين. تارة أعدّها فتبدو لي أربعة أيام، ثم أعود وأختصر الجمعة الذي كان على وشك أن ينتهي، والاثنين الذي سأراك فيه، فتبدو لي المسافة أقصر وأبدو أقدر على التحمل، إنها يومان فقط هما السبت والأحد.

ثم أعود فأعدّ الليالي.. فتبدو لي ثلاث ليالٍ كاملة، هي الجمعة والسبت والأحد، أتساءل وأنا أتوقع مسبقاً طولها، كيف سأقضيها؟ ويحضرني ذلك البيت الشعري القديم الذي لم أصدّقه من قبل:

أعدّ الليالي ليلة بعد ليلة *** وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا

ترى أهكذا يبدأ الحب دائماً، عندما نبدأ في استبدال مقاييسنا الخاصة، بالمقاييس المتفق عليها، وإذا بالزمن فترة من العمر، لا علاقة لها بالوقت؟

في ذلك اليوم، سعدت وأنا أرى "كاترين" تدخل القاعة. جاءت متأخرة كما كنت أتوقع. أنيقة كما كنت أتوقع. داخل فستان أصفر ناعم، تطير داخله كفراشه. قالت وهي تضع قبلة على خدي:

- لقد وصلت متأخرة.. كان هناك ازدحام في الطريق كالعادة في مثل هذا الوقت.

كانت كاترين تسكن الضاحية الجنوبية لباريس. وكانت المواصلات تتضاعف في نهاية الأسبوع، في تلك الطرقات الرابطة بين باريس وضواحيها، والتي لم يكن ذلك السبب الوحيد لتأخرها. كنت أعرف أنها تكره اللقاءات العامة، أو تكره كما استنتجت أن تظهر معي في الأماكن العامة. ربما تخجل أن يراها بعض معارفها وهي مع رجل عربي، يكبرها بعشر سنوات، وينقصها بذراع!

كانت تحب أن تلتقي بي، ولكن دائماً في بيتي أو بيتها، بعيداً عن الأضواء، وبعيداً عن العيون، هنالك فقط كانت تبدو تلقائية في مرحها وفي تصرفها معي. ويكفي أن ننزل معاً لنتناول وجبة غداء في المطعم المجاور، ليبدو عليها شي من الارتباك والتصنع، ويصبح همّها الوحيد أن نعود إلى البيت.

وهكذا تعودت عندما تحضر أن أشتري مسبقاً ما يكفينا من الأكل لقضاء يوم أو يومين معاً. لم أعد أناقشها ولا أقترح عليها شيئاً. كان ذلك أوفر وأكثر راحة لي، فلماذا كلّ هذا الجدل؟

قالت كاترين بصوت أعلى من العادة وهي تمسك ذراعي وتلقي نظرة على اللوحات المعلقة التي كانت تعرفها جميعاً:

- برافو خالد، أهنئك.. رائع كلّ هذا.. أيها العزيز.

تعجبت شيئاً ما، كانت تتحدث هذه المرة وكأنها تريد أن يعرف الآخرون أنها صديقتي أو حبيبتي.. أو أي شيء من هذا القبيل.

ما الذي غيّر سلوكها فجأة، هل منظر ذلك الحشد من الشخصيات الفنية والصحافيين الذين حضروا الافتتاح.. أم أنها اكتشفت في هذا المكان، أنها كانت منذ سنتين تضاجع عبقرياً دون أن تدري، وأنَّ ذراعي الناقصة التي كانت تضايقها في ظروف أخرى، تأخذ هنا بعداً فنياً فريداً لا علاقة له بالمقاييس الجمالية؟

اكتشفت لحظتها، أنني خلال الخمس والعشرين سنة التي عشتها بذراع واحدة، لم يحدث أنني نسيت عاهتي إلا في قاعات العرض.

في تلك اللحظات التي كانت فيها العيون تنظر إلى اللوحات، وتنسى أن تنظر إلى ذراعي. أو ربما في السنوات الأولى للاستقلال.. وقتها كان للمحارب هيبته، ولمعطوبي الحروب شيء من القداسة بين الناس. كانوا يوحون بالاحترام أكثر مما يوحون بالشفقة. ولم تكن مطالباً بتقديم أي شرح ولا أي سرد لقصتك.

كنت تحمل ذاكرتك على جسدك، ولم يكون ذلك يتطلب أيّ تفسير.

اليوم بعد ربع قرن..، أنت تخجل من ذراع بدلتك الفارغ الذي تخفيه بحياء في جيب سترتك، وكأنك تخفي ذاكرتك الشخصية، وتعتذر عن ماضيك لكل من لا ماضي لهم.

يدك الناقصة تزعجهم. تفسد على البعض راحتهم. تفقدهم شهيتهم.
ليس هذا الزمن لك، إنه زمن لما بعد الحرب.
للبدلات الأنيقة والسيارات الفخمة.. والبطون المنتفخة. ولذا كثيراً ما تخجل من ذراعك وهي ترافقك في الميترو وفي المطعم وفي المقهى وفي الطائرة وفي حفل تدعى إليه. تشعر أن الناس ينتظرون منك في كلّ مرّة أن تسرد عليهم قصتك.

كلّ العيون المستديرة دهشة، تسألك سؤالاً واحداً تخجل الشفاه من طرحه: "كيف حدث هذا؟".

ويحدث أن تحزن، وأنت تأخذ الميترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلقة للركاب. ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة:

"أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل..".
لا ليست هذه الأماكن لك. شي من العزّة، من بقايا شهامة، تجعلك تفضّل البقاء واقفاُ معلقاً بيد واحدة.

إنها أماكن محجوزة لمحاربين غيرك، حربهم لم تكن حربك، وجراحهم ربما كانت على يدك.
أما جراحك أنت.. فغير معترف بها هنا.
ها أنت أمام جدلية عجيبة..

تعيش في بلد يحترم موهبتك ويرفض جُروحك. وتنتمي لوطن، يحترم جراحك ويرفضك أنت. فأيهما تختار.. وأنت الرجل والجرح في آن واحد.. وأنت الذاكرة المعطوبة التي ليس هذا الجسد المعطوب سوى واجهة لها؟

أسئلة لم أكن أطرحها على نفسي في السابق. كنت أهرب منها بالعمل فقط، والخلق المتواصل، وذلك الأرق الداخلي الدائم.

كان داخلي شيء لا ينام، شيء يواصل الرسم دائماً وكأنه يواصل الركض بي ليوصلني إلى هذه القاعة، حيث سأعيش لأيام رجلاً عادياً بذراعين، أو بالأحرى رجلاً فوق العادة..
رجلاً يسخر من هذا العالم بيد واحدة. ويعيد عجن تضاريس الأشياء بيد واحدة.

ها أنا ذا في هذه القاعة إذن.. وها هوذا جنوني معلّق للفرجة على الجدران. تتفحصه العيون وتفسره الأفواه كيفما شاءت.. ولا أملك إلا أن أبتسم، وبعض تلك التعليقات المتناقضة تصل مسمعي. وأتذكر قولاً ساخراً لـ "كونكور":

"لا شي يسمع الحماقات الأكثر في العالم.. مثل لوحة في متحف!".

جاء صوت كاترين خافتاً وكأنها تتحدث لي وحدي هذه المرة:
- عجيب.. إنني أرى هذه اللوحات وكأنني لا أعرفها، إنها هنا تبدو مختلفة..

كدت أجيبها وأنا أواصل فكرة سابقة:

"إن للوحات مزاجها وعواطفها أيضاً.. إنها تماماً مثل الأشخاص. إنهم يتغيرون أول ما تضعينهم في قاعة تحت الأضواء!"
ولكنني لم أقل لها هذا.
قلت لها فقط:

- اللوحة أنثى كذلك.. تحبّ الأضواء وتتجمل لها، تحب أن ندلّلها ونمسح الغبار عنها، أن نرفعها عن الأرض ونرفع عنها اللحاف الذي نغطِّيها به... تحبّ أن نعلقها في قاعة لتتقاسمها الأعين حتى ولو لم تكن معجبة بها..

إنها تكره في الواقع أن تعامل بتجاهل لا غير..
قالت وهي تفكر:
- صحيح ما تقوله.. من أين تأتي بهذه الأفكار؟ أتدري أنني أحب الاستماع إليك؟ لا أفهم كيف لا نجد أبداً وقتاً للحديث عندما نلتقي.

وقبل أن أعلّق على سؤالها بجواب مقنع جداً.. أضافت بنوايا أعرفها وهي تضحك..

- متى ستعاملني أخيراً كلوحة؟

قلت وأنا أضحك لسرعة بداهتها.. ولشهيتها التي لا تشبع:

- هذا المساء إذا شئت..

وعندما أخذت كاترين منّي مفاتيح البيت، وطارت كفراشة داخل فستانها الأصفر نحو الباب.

قالت وكأنها شعرت فجأة بالغيرة من كل تلك اللوحات المعلقة بعناية على الجدران، والتي ما زال بعض الزوار يتأملونها:

- أنا متعبة بعض الشيء.. سأسبقك.

أكانت حقاً متعبة إلى هذا الحد، أم أصبحت فجأة تغار عليّ أو تغار منّي.. أم جاءتني بجوع مسبق؟. كالعادة، لم أحاول أن أتعمق في فهمها.

كنت أريد فقط أن أستعين بها لأنسى. كنت سعيداً أن أختصر معها يوماً أو يومين من الانتظار.. انتظارك أنت! وكنت في حاجة إلى ليلة حبّ بعد شهر من الوحدة، والركض لإعداد كلّ تفاصيل هذا المعرض.

لحقت بكاترين بعد ساعة.
كنت متعباً لأسباب كثيرة. أحدها لقائي العجيب بك وكلّ ما عشته من هزّات نفسية ذلك اليوم.
قالت وهي تفتح لي الباب:
- إنك لم تتأخر كثيراً..
قلت وأنا أداعبها:
- كان في ذهني مشروع لوحة.. فعدت مسرعاً إلى البيت.. الوحي لا ينتظر كثيراً كما تعلمين!
ضحكنا..

كان بيننا تواطؤ جسدي ما، يشيع بيننا تلك البهجة الثنائية، تلك السعادة السرية التي نمارسها دون قيود.. بشرعية الجنون!

ولكن شعرت لحظتها وهي جالسة في الأريكة المقابلة لي تشاهد الأخبار، وتلتهم (سندويتشاً) أحضرته معها، أنها امرأة كانت دائماً على وشك أن تكون حبيبتي، وأنها هذه المرّة _ كذلك _ لن تكونها!

إن امرأة تعيش على "السندويتشات" هي امرأة تعاني من عجز عاطفي، ومن فائض في الأنانية.. ولذا لا يمكنها أن تهب رجلاً ما يلزمه من أمان.
ليلتها، ادّعيت أنني لست جائعاً.
في الحقيقة كنت رافضاً وربما عاجزاً عن الانتماء لزمن "السندويتشات".
وبرغم ذلك..
حاولت ألا أتوقف عند تلك التفاصيل التي كانت تستفزّ بداوتي في أول الأمر.

تعوّدت منذ تعرفت على كاترين ألا أبحث كثيراً عن أوجه الاختلاف بيننا. أن أحترم طريقتها في الحياة، ولا أحاول أن أصنع منها نسخة منّي. بل إنني ربما كنت أحبها لأنها تختلف عني حدّ التناقض أحياناً.

فلا أجمل من أن تلتقي بضدك، فذلك وحده قادر على أن يجعلك تكتشف نفسك. وأعترف أنني مدين لكاترين بكثير من اكتشافاتي، فلا شيء كان يجمعني بهذه المرأة في النهاية، سوى شهوتنا المشتركة وحبنا المشترك للفن.

وكان كافياً لنكون سعيدين معاً.
تعودنا مع مرور الزمن ألا نزعج بعضنا بالأسئلة ولا بالتساؤلات. في البدء تأقلمت بصعوبة مع هذا النمط العاطفي الذي لا مكان فيه للغيرة ولا للامتلاك.

ثمَّ وجدت فيه حسنات كثيرة، أهمها الحرّيّة.. وعدم الالتزام بشيء تجاه أحد..

كان يحدث أن نلتقي مرّة في الأسبوع، كما يحدث أن تمرّ عدة أسابيع قبل أن نلتقي.. ولكن كنّا نلتقي دائماً بشوق وبرغبة مشتركة.

كانت كاترين تقول "ينبغي ألا نقتل علاقتنا بالعادة"، ولهذا أجهدت نفسي حتى لا أتعود عليها، وأن أكتفي بأن أكون سعيداً عندما تأتي، وأن أنسى أنها مرّت من هنا عندما ترحل.

في تلك المرة حاولت أن أستبقيها لقضاء كلّ نهاية الأسبوع معي، وسعدت أن تقبل عرضي بحماس.

كنت في الوقع أخاف أن أبقى وحيداً مع ساعتي الجدارية في انتظار يوم الاثنين.

ورغم أنّ كاترين ظلّت معي حتى عشية يوم الأحد، فإن الوقت بدا لي طويلاً، وربما بدا لي أكثر لأنها كانت معي. فقد بدأت فجأة أستعجل ذهابها وكأنني سأخلو بك عند ذلك.
كانت أفكاري تدور حول سؤال واحد..
ماذا أقول لك لو انفردت بك يوم الاثنين؟ من أين أبدأ معك الحديث.. وكيف أقصّ عليك تلك القصة العجيبة، قصّتنا؟
كيف أغريك بالعودة من جديد لسماع بقيّتها؟

صباح الاثنين، لبست بدلتي الأجمل لموعدنا المحتمل. اخترت بذوق ربطة عنقي. وضعت عطري المفضّل، واتجهت نحو قاعة المعرض نحو الساعة العاشرة.

كان أمامي متَّسع من الوقت لأشرب قهوتي الصباحية في مقهى مجاور. فلم يكن يعقل أن تأتي قبل تلك الساعة، وحتى القاعة نفسها لم تكن تفتح أبوابها قبل العاشرة.

عندما دخلت القاعة، كنت أول من يطأها في ذلك الصباح. كان في الجو شحنة غامضة من الكآبة. لم يكن هناك من أضواء موجهة نحو اللوحات، ولا أيّ ضوء كهربائي يضيء السقف.
ألقيت نظرة خاطفة على الجدران.
ها هي لوحاتي تستيقظ كامرأة، بتلك الحقيقة الصباحية العارية دون زينة ولا مساحيق ولا "رتوش".

هاهي امرأة تتثاءب على الجدران بعد أمسية صاخبة.
اتجهت نحو لوحتي الصغيرة "حنين" أتفقدها وكأنني أتفقدك.
"صباح الخير قسنطينة.. كيف أنت يا جسري المعلق.. يا حزني المعلّق منذ ربع قرن؟".
ردّت عليّ اللوحة بصمتها المعتاد، ولكن بغمزة صغيرة هذه المرّة.
فابتسمت لها بتواطؤ.

إننا نفهم بعضنا أنا وهذه اللوحة "البلدي يفهم من غمزة!"
وكانت لوحة بلديّة مكابرة مثل صاحبها، عريقة مثله، تفهم بنصف غمزة!

رحت بعدها أتلهّى ببعض المشاغل التي كانت مؤجّلة منذ البارحة. طريقة مثل أخرى لكسب الوقت، والتفرّغ لك فيما بعد. وكان صوت داخليّ يلاحقني أثناء ذلك، ليذكرني أنك ستأتين، ويمنعني من التركيز على أي شيء.

ستأتي..
ستأتي.. ردّد الصوت ساعة وساعتين وأكثر.. ومرّ صبح ومرّ مساء ولم تأتِ.

حاولت أن أنشغل بلقاءات وتفاصيل يومية كثيرة، حاولت أن أنسى أنني هنا لانتظارك..
قابلت صحافياً وتحدثت لآخر دون أن تفارق عيناي الباب. كنت أترقّبك في كل خطوة..
وكلما تقدّم الوقت زاد يأسي.

وفجأة فتح الباب ليدخل منه.. سي الشريف!

نهضت إليه مسلّماً وأنا أخفي عنه دهشتي. تذكَّرت أغنية فرنسية يقول مطلعها "أردت أن أرى أختك.. فرأيت أمّك كالعادة..".

- ع السلامة يا سيدي.. عاش من شافك!

قالها وهو يحتضنني ويسلّم عليّ بحرارة. وأعترف برغم خيبتي أنه لم يحدث أن شعرت بسعادة وأنا أسلّم عليه مثل تلك المرة.
وقبل أن أسأله عن أخباره قال وهو يقدّم لي ذلك الصديق المشترك الذي كان يرافقه:

- شفت شكون جبتلك معايَ؟

صحت وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:

- أهلاً سي مصطفى واش راك.. واش هاذ الطلة..

قال بمودة وهو يحتضنني بدوره:

- واش آسيدي.. لو كان ما نجيوكش ما نشوفوكش وإلا كيفاش؟

رحت أجامله.ز وأسأله بدوي عن أخباره وإن كنت أدري أنّ في مرافقة سي الشريف له وفي مبالغته في تكريمه دليلاً على أنه مرشح لمنصب وزاري ما كما تقول الإشاعات.

عاتبني سي الشريف بودّ أحسسته صادقاً:

- يا أخي.. أيعقل أن نسكن هذه المدينة معاً دون أن تفكّر في زيارتي مرّة واحدة؟. أنا هنا منذ سنتين وعنواني معروف عندك.

تدخّل سي مصطفى ليضيف بتلميح سياسي بين المزاح والجد:

- واش راك مقاطعنا.. وإلا كيفاش هاذا الغيبة..؟

أجبته بصدق:

- لا أبداً.. ولكن ليس من السهل على شخص سكنته الغربة أن يجمع أشياءه هكذا ويعود.. في الحقيقة "المنفى عادة سيّئة يتخذها الإنسان" وقد أصبحت لي أكثر من عادة سيئة هنا..

ضحكنا.. وتشعّب بنا الحديث في مواضيع أخرى تطرقنا إليها عبوراً ومجاملة فقط..
وكان لا بد أن يتوقّفا بعد ذلك أمام إحدى اللوحات وهما يقومان بجولة لمشاهدة المعرض. لأفهم سرّ زيارة سي مصطفى لمعرضي، والتي تعود لكونه يريد أن يشتري لوحة أو لوحتين منّي. قال:

- أريد أن أحتفظ منك بشيء للذكرى.. ألا تذكر أنَّك بدأت الرسم يوم كنّا معاً في تونس؟ مازلت أذكر حتَّى لوحاتك الأولى.. لقد كنت أول من أريته لوحاتك وقتها.. هل نسيت؟

لا لم أنسَ.. وكم كنت أتمنى لحظتها لو أستطيع ذلك. شعرت بشيء من الإحراج وهو يستدرجني لتلك الفترة..

كان سي مصطفى صديقاً مشتركاً لي ولسي الشريف منذ أيام التحرير. فقد كان ضمن المجموعة التي كانت تعمل تحت قيادة سي الطاهر. بل، وكان واحداً من الجرحى الذين نقلوا معي للعلاج إلى تونس، حيث قضى ثلاثة أشهر في المستشفى عاد بعدها إلى الجبهة، ليبقى حتى الاستقلال في صفوف جيش التحرير، ويعود برتبة رائد.

كان يومها بشهامة وأخلاق نضالية عالية. وكنت في الماضي أكنُّ له احتراماً وودّاً كبيرين. ثم تلاشى تدريجياً رصيده عندي.. كلما امتلأ رصيده الآخر بأكثر من طريقة وأكثر من عملة، مثله مثل من سبقوه إلى تلك المناصب الحلوب التي تناوب عليها البعض بتقسيم مدروس للوليمة..

ولكن كان أمره هو بالذات يعنيني ويحزنني. فقد كان رفيق سلاحي لسنتين كاملتين.. وكان بيننا تفاصيل صغيرة جمعتنا في الماضي ولا يمكن للذاكرة رغم كلّ شيء أن تتجاهلها.

لعلّ أكثر تلك التفاصيل تأثيراً، تلك المصادفة التي جعلت الممرِّضة في تونس تعطيني وأنا أغادر المستشفى ثيابه التي وصل بها، والتي جف عليها دمه منذ عدّة أيّام.

كان في جيب سترته يومها بطاقة تعريفه التي تكاد لا تقرأ، من آثار بقع الدم عليها. والتي احتفظت بها لأعيدها إليه فيما بعد.. ولكنه عاد بعد ذلك إلى الجبهة دون أن يدري حتى أنها كانت في حوزتي، وربما دون أن يسأل عنها. فقد كان ذاهباً إلى مكان لا يحتاج فيه إلى بطاقة تعريف.

سنة 1973 عثرت مصادفة على تلك البطاقة ضمن أوراقي القديمة. وكنت آنذاك أجمع أشيائي استعداداً للرحيل..

تردّدت بين أن أحتفظ بها أو أعيدها إليه، فقد كنت أدري أنَّ تلك الهوية لم تعد في الواقع هويته. ولكنني كنت أريد أن أواجهه بالذاكرة.. دون أيّ تعليق.

وربما كنت أريد كذلك وأنا على أبواب المنفى أن أنهي علاقاتي بتلك البطاقة التي رافقتني منذ 1975 من بلد إلى آخر، وكأنني أنهي علاقاتي بالوطن، وأضعه أخيراً هو وأشياءه خارج الذاكرة..

يومها دهش سي مصطفى وأنا أخرج من جيب سترتي تلك البطاقة وأضعها أمامه، بعد ست عشرة سنة.
أهو الذي ارتبك لحظتها.. أم أنا؟
شعرت فجأة وأنا أنفصل عنها أنني أعطيته شيئاً كان ملتصقاً بصدري؛ شيئاً منّي، ربما ذراعي الأخرى، أو أيّ شيء كان لي..
كان أنا!
ولكنني وجدت آنذاك في فرحته عزائي.. وفي احتضانه لي بذلك العنفوان الأول الذي جمعنا يوماً، مكافأة للذاكرة ووهماً ما بإمكانية إيقاظ ذلك الرجل الآخر داخله.

ها هو سي مصطفى بعد سنوات، يتأمل لوحة لي وأتأمله. لقد مات فيه الرجل "الآخر".. فكيف راهنت يوماً عليه؟

في هذه اللحظة، لا شيء يعنيه سوى امتلاك لوحة لي؛ وربما كان مستعداً أن يدفع أيّ ثمن مقابلها. فمن المعروف عنه أنه لا يحسب كثيراً في هذه الحالات، مثله مثل بعض السياسيين والأثرياء الجزائريين الجدد الذين شاعت وسطهم عدوى اقتناء اللوحات الفنية، لأسباب لا علاقة لها غالباً بالفنّ، وإنما بعقلية جديدة للنهب الفنيّ أيضاً.. وبهاجس الانتساب للنخبة.

وربما كان أكثر سخاءً معي أنا بالذات، للأسباب نفسها التي تجعلني اليوم أكثر رفضاً له.
لقد قرّر أن يستبدل بتلك البطاقة المهترئة، لوحة (أكواريل) يفاخر بها.. فهل يتساوى الدم بالألوان المائية.. ولو بعد ربع قرن!

سعدت بعدها وأنا أتخلص منه ومن سي الشريف دون أن يأخذا على خاطرهما.. ودون أن أتنازل عن ذلك المبدأ الذي حدث أن جعت بسببه. فلا يمكن لي أن آكل من الخبز الملوّث. هناك من يولدون هكذا بهذه الحساسية التي لا شفاء منها تجاه كلّ ما هو قذر!

كنت في الواقع على عجل. أريد أن أنتهي منهما بسرعة.. خشية أن تأتي في تلك اللحظة ويكونا هناك.
وكنت قلقاً ومبعثراً بين الأحاسيس التي استدرجتني إليها سي مصطفى بعد كلّ تلك السنوات.. وبين هاجس قدومك، الذي أرهقني انتظاره منذ أيام.. ولكنك لم تأتي.. لا أثناء ذلك ولا بعده.

من أين هجمت عليّ كلّ تلك الكآبة بعد ذلك؟
وإذا بقدميّ تقودانني بخطى مثقلة، محبطة، إلى البيت، بعدما كانتا قد حملتاني إلى هنا، على أجنحة الشوق الجارف.

ماذا لو لم أرك مرّة أخرى.. لو انتهى ذلك المعرض ولم تعودي؟.
ماذا لو كان حديثك عن زيارتك المحتملة مجرد مجاملة، أخذتها أنا مأخذ الجد؟

كيف يمكن لي وقتها أن أطارد نجمك المذنّب الهارب؟

وحدها تلك البطاقة التي أعطاني إيّاها سي الشريف وهو يودّعني كانت تبعث شيئاً من الأمل في نفسي. فقد كنت أعرف أخيراً الأرقام السرية التي توصلني إليك، فنمت وأنا أخطط لمبرر هاتفي قد يجمعني بك. ولكنّ الحب عندما يأتي لا يبحث له عن مبرر، ولا يأخذ له موعداً.. ولذا ما كدت في اليوم التالي أدخل القاعة وأجلس في الصالون لأطالع جريدتي، حتى رأيتك تدخلين.

كنت تتقدمين نحوي، وكان الزمن يتوقف انبهاراً بك.
وكان الحبّ الذي تجاهلني كثيراً قبل ذلك اليوم.. قد قرر أخيراً أن يهبني أكثر قصصه جنوناً..

 
 

 

عرض البوم صور lost in memories   رد مع اقتباس
قديم 27-01-07, 03:44 PM   المشاركة رقم: 3
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7991
المشاركات: 259
الجنس أنثى
معدل التقييم: lost in memories عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 15

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
lost in memories غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : lost in memories المنتدى : الادباء والكتاب العرب
افتراضي

 

الفصل الثالث





التقينا إذن..

قالت:

- مرحباً.. آسفة، أتيت متأخرة عن موعدنا يوم..

قلت:

- لا تأسفي.. قد جئت متأخرة عن العمر بعمر.

قالت:

- كم يلزمني إذن لتغفر لي؟

قلت:

- ما يعادل ذلك العمر من عمر!

وجلس الياسمين مقابلاً لي.

يا ياسمينة تفتحت على عجل.. عطراً أقلّ حبيبتي.. عطراً أقل!

لم أكن أعرف أنّ للذاكرة عطراً أيضاً.. هو عطر الوطن.

مرتبكاً جلس الوطن وقال بخجل:

- عندك كأس ماء.. يعيشك؟

وتفجرت قسنطينة ينابيع داخلي.

ارتوي من ذاكرتي سيدتي.. فكلّ هذا الحنين لكِ.. ودعي لي مكانا هنا مقابلاً لكِ..
أحتسيك كما تُحتسى، على مهل، قهوة قسنطينية.

أمام فنجان قهوة.. وزجاجة كوكا جلسنا. لم يكن لنا الظمأ نفسه.. ولكن كانت لنا الرغبة نفسها في الحديث.

قلت معتذرة:

- أنا لم أحضر البارحة، لأنني سمعت عمّي يتحدث لشخص على الهاتف ويتفق معه على زيارتك، ففضّلت أن أؤجّل زيارتي لك إلى اليوم حتى لا ألتقي بهما..

أجبتك وأنا أتأملك بسعادة من يرى نجمه الهارب أخيراً أمامه:

- خفت ألا تأتي أبداً..

ثم أضفت:

- أمّا الآن فيسعدني أنني انتظرتك يوماً آخر، إنّ الأشياء التي نريدها تأتي متأخرة دائماً!

تراني قلت وقتها أكثر مما يجب قوله؟

ساد شي من الصمت بيننا وارتباك الاعتراف الأول.. عندما قلت وكأنك تريدين كسر الصمت، أو إثارة فضولي:

- أتدري أنني أعرف الكثير عنك؟

قلت سعيداً ومتعجباً:

- وماذا تعرفين مثلاً؟

أجبت بطريقة أستاذ يريد أن يحير تلميذه:

- أشياء كثيرة قد تكون نسيتها أنت..

قلت لك بمسحة حزن:

- لا أعتقد أن أكون نسيت شيئاً. مشكلتي في الواقع أنني لا أنسى!

أجبتني بصوت بريء، وباعتراف لم أعِ ساعتها كلّ عواقبه القادمة عليّ:

- أمّا أنا فمشكلتي أنني أنسى.. أنسى كل شيء.. تصوّر.. البارحة مثلاً نسيت بطاقة الميترو في حقيبة يدي الأخرى. ومنذ أسبوع نسيت مفتاح البيت داخل البيت، وانتظرت ساعتين قبل أن يحضر أحد ليفتح لي الباب.. إنها كارثة.

قلت ساخرا:

- شكراً إذن لأنك تذكرت موعدنا هذا!

أجبت باللهجة الساخرة نفسها:

- لم يكون موعداً.. كان احتمال موعد فقط.. لا بدّ أن تعلم أنني أكره اليقين في كلّ شيء.. أكره أن أجزم بشيء أو ألتزم به.. الأشياء الأجمل، تولد احتمالاً.. وربّما تبقى كذلك.

سألتك:

- لماذا جئتِ إذن.؟

تأمّلتني.. وراحت عيناك تتسكعان في ملامح وجهي، وكأنهما تبحثان عن جواب لسؤال مفاجئ.. ثمّ قلت في نظرة مثقلة بالوعود والإغراء..

- لأنك قد تكون يقيني المحتمل!

ضحكت لهذه الجملة التي تحمل تناقضاً أنثوياً صارخاً_ لم أكن أعرف بعد أنه سِمَتك_ وقلت وقد ملأتني عيناك غروراً وزهواً رجالياً:

- أمّا أنا فأكره الاحتمالات.. ولذا أجزم أنني سأكون يقينك.

قلت بإصرار أنثى على قول الكلمة الأخيرة:

- إنه افتراض.. محتمل كذلك!

وضحكنا كثيراً.

كنت سعيداً وكأنني أضحك لأول مرة منذ سنوات. كنت أتوقع لنا بدايات أخرى، وكنت قد أعددت جملاً ومواقف كثيرة لمبادرتك في هذا اللقاء الأول. ولكن اعترف أنني لم أكن أتوقع لنا بداية كهذه.
فقد تلاشى كلّ ما أعددته ساعة قدومك.. وتبعثرت لغتي أمام لغتك التي لم أكن أدري من أين تأتين بها.

كان في حضورك شيء من المرح والشاعرية معاً. كان هناك تلقائية وبساطة تكاد تجاور الطفولة، دون أن تلغي ذلك الحضور الأنثوي الدائم.. وكنت تملكين تلك القدرة الخارقة على مساواة عمري بعمرك، في جلسة واحدة. وكأن فتوّتك وحيويّتك قد انتقلتا إليّ عن طريق العدوى. كنت ما أزال تحت وقع تصريحاتك تلك، عندما فاجأني كلامك:

- في الواقع.. كنت أريد أن أرى لوحاتك بتأنٍّ أكثر، لم أكن أريد أن أتقاسمها في ذلك اليوم مع ذلك الحشد من الناس.. عندما أحبّ شيئاً.. أفضل أن أنفرد به!

كانت هذه أجمل شهادة إعجاب يمكن أن تقولها زائرة لرسّام.. وأجمل ما يمكن أن تقوليه لي أنت ذلك اليوم. وقبل أن أذهب بعيداً في فرحتي أو أشكرك أضفت:

- ما عدا هذا.. كنت أود أن أتعرَّف عليك منذ زمن بعيد. لقد كانت جدتي تحدثني أحياناً عنك عندما تذكر أبي. يبدو أنها كانت تحبك كثيراً..

سألتك بلهفة:

- وكيف هي (أمّا الزهرة)؟ إنني لم أرها منذ زمان.

قلت بمسحة حزن:

- لقد توفيت من أربع سنوات، وبعد وفاتها انتقلت أمي لتعيش مع أخي ناصر في العاصمة. وجئت أنا إلى باريس لمتابعة دراستي. لقد غيّر موتها حياتنا بعض الشيء.. فهي التي ربَّتنا في الواقع..

حاولت أن أنسى ذلك الخبر. كان موتها شوكة أخرى انغرست في قلبي يومها. فقد كان فيها شيء من (أمّا)، من عطرها السري، من طريقتها في تعصيب رأسها على جنب بالمحارم الحريرية، وإخفاء علبة "النفّة" الفضّيّة في صدرها الممتلئ. وكانت لها تلك الحرارة التلقائية التي تفيض بها الأمهات عندنا، تلك الكلمات التي تعطيك في جملة واحدة ما يكفيك من الحنان لعمر بأكمله.

ولكن الوقت لم يكن للحزن. كنتِ معي أخيراً، وكان على الزمن أن يكون للفرح فقط.
قلت لك:

- رحمها الله.. لقد كنت أنا أيضاً أحبّها كثيراً..

تراك أردت عندئذ، أن تضعي نهاية لموجة الحزن التي فاجأتني. خشية أن تجرفنا معاً نحو ذاكرة لم نكن مهيأين بعد لتصفحها.
أم فقط كنت تريدين أن تطبّقي برنامج زيارتك عندما نهضت فجأة وقلت:

- أيمكنني أن ألقي نظرة على لوحاتك؟

وقفت لمرافقتك.

رحت أشرح لك بعضها والمناسبات التي رسمتها فيها عندما قلت وأنت تنقلين فجأة عينيك من اللوحات إليّ:

- أتدري أنني أحب طريقتك في الرسم؟. أنا لا أقول لك هذا مجاملة، ولكن أعتقد أنني لو كنت أرسم لرسمت هكذا مثلك.. أشعر أننا نحن الاثنين نرى الأشياء بإحساس واحد.. وقلّ ما أحسست بهذا تجاه إنتاج جزائري.

ما الذي أربكني الأكثر لحظتها؟. أترى عيناك اللتان أصبح لهما فجأة لون آخر تحت الضوء، واللتان كانتا تتأملان فجأة ملامحي وكأنهما تتأملان لوحة أخرى لي.. أم ما قلته قبل ذلك والذي شعرت أنه تصريح عاطفي وليس انطباعاً فنياً؛ أو هكذا تمنَّيت أو خيّل لي. توقف سمعي عند كلمة "نحن الاثنين". إنها بالفرنسية تأخذ بعداً موسيقياً عاطفياً فريداً.. حتى إنها عنوان لمجلة عاطفية تصدر لمن تبقى من رومنطيقيين في فرنسا ( Nous deux) .

أخفيت ارتباكي بسؤال ساذج:

- وهل ترسمين؟

قلت:

- لا أنا أكتب.

- وماذا تكتبين؟

- أكتب قصصاً وروايات؟!

- قصصاً وروايات...!

ردّدتها وكأنني لا أصدق ما أسمع.. فقلت وكأنكِ شعرت بإهانة من مسحة العجب أو الشك في صوتي:

- لقد صدرت لي أول رواية منذ سنتين..

سألتك وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:

- وبأي لغة تكتبين؟

قلت:

- بالعربية..

- بالعربية؟!

استفزتك دهشتي، وربما أسأت فهمها حين قلت:

- كان يمكن أن أكتب بالفرنسية، ولكن العربية هي لغة قلبي.. ولا يمكن أن أكتب إلا بها.. نحن نكتب باللغة التي نحسّ بها الأشياء.

- ولكنك لا تتحدثين بغير الفرنسية..

- إنها العادة..

قلتها ثم واصلت تأمل اللوحات قبل أن تضيفي:

- المهم.. اللغة التي نتحدث بها لأنفسنا وليست تلك التي نتحدث بها للآخرين!

رحت أتأملك مدهوشاً، وأنا أحاول أن أضع شيئاً من الترتيب في أفكاري..

أيمكن أن تجتمع كلّ هذه المصادفات، في مصادفة واحدة؟ وكلّ هذه الأشياء التي كانت قناعاتي الثابتة.. وأحلامي الوطنية الأولى، في امرأة واحدة.. وأن تكون هذه المرأة هي أنت.. ابنة سي الطاهر لا غير؟ لو تصوَّرت لقاء مدهشاً في حياتي، لما تصورت أكثر إدهاشاً من هذا. إنها أكثر من مصادفة، إنه قدر عجيب، أن تتقاطع طرقنا على هذا النحو، بعد ربع قرن.

أعادني صوتك إلى الواقع وأنت تتوقفين عند إحدى اللوحات:

- أنت قلّ ما ترسم وجوهاً، أليس كذلك؟

وقبل أن أجيبك قلت:

- اسمعي.. لن نتحدث إلى بعض إلا بالعربية.. سأغير عاداتك بعد اليوم..

سألتني بالعربية:

- هل ستقدر؟

أجبتك:

- سأقدر... لأنني سأغير أيضاً عاداتي معك..

أجبتني عندئذ بفرح سري لامرأة اكتشفت فبما بعد أنها تحب الأوامر:

- سأطيعك.. فأنا أحب هذه اللغة.. وأحب إصرارك. ذكِّرني فقط لو حدث ونسيت.

قلت:

- لن أذكرك.. لأنك لن تنسي ذلك!

وكنت أرتكب لحظتها أجمل الحماقات. وأنا أجعل تلك اللغة التي كان لي معها أكثر من صلة عشقية، طرفاً آخر في قصّتنا المعقّدة..
عدت لأسألك بالعربية:

- عمّ كنت تتحدثين منذ قليل؟

قلت:

- كنت أعجب ألا يوجد في معرضك سوى هذه اللوحة التي تمثِّل وجهاً نسائياً.. ألا ترسم وجوهاً؟

قلت:

- كنت في فترة أرسم وجوهاً ثم انتقلت إلى موضوعات أخرى. في الرسم، كلما تقدم عمر الفنان وتجربته، ضاقت به المساحات الصغيرة وبحث عن طرق أخرى للتعبير.

في الحقيقة أنا لا أرسم الوجوه التي أحبها حقاً.. أرسم فقط شيئاً يوحي بها.. طلّتها.. تماوج شعرها.. طرفاً من ثوب امرأة.. أو قطعة من حليّها. تلك التفاصيل التي تعلق في الذاكرة بعدما نفارقها. تلك التي تؤدي إليها دون أن تفضحها تماماً.. فالرسام ليس مصوراً فوتوغرافياً يطارد الواقع.. إنّ آلة تصويره توجد داخله، مخفية في مكان يجهله هو نفسه، ولهذا هو لا يرسم بعينيه، وإنما بذاكرته وخياله.. وبأشياء أخرى.

قلت وعيناك تنظران لامرأة يطغى شقار شعرها على اللوحة ولا يترك مجالاً للون آخر سوى حمرة شفتيها غير البريئتين:

- وهذه المرأة إذن.. لماذا رسمت لها لوحة واقعية إلى هذا الحدّ؟

ضحكت وقلت:

- هذه امرأة لا ترسم إلا بواقعية..

-ولماذا أسميت لوحتها "اعتذار"؟

- لأنني رسمتها اعتذاراً لصاحبتها..

قلت فجأة بلهجة فرنسية وكأن غضبك أو غيرتك السرّيّة قد ألغت اتفاقنا السابق:

- أتمنى أن يكون قد أقنعها هذا الاعتذار.. فاللوحة جميلة حقاً.

ثم أضفت بشيء من الفضول النسائي:

- ولكن هذا يعود إلى نوع الذنب الذي اقترفته في حقها!

لم أكن أشعر بأيّة رغبة في أن أقصّ عليك قصة تلك اللوحة، في لقائنا الأول. كنت أخاف أن يكون لتلك القصة تأثير سلبي على علاقتنا، أو على نظرتك لي. فحاولت أن أتهرب من تعليقك الذي يستدرجني بحيلة إلى مزيد من التوضيح، وأتجاهل عنادك في الوقوف طويلاً أمام تلك اللوحة بالذات.

ولكن.. هل يمكن أن تقاوم فضول أنثى تصرّ على معرفة شيء؟

أجبتك:

- لهذه اللوحة قصة طريفة شيئاً ما، تكشف عن جانب من عقدي ورواسبي القديمة، وهي هنا ربّما لهذا السبب.

ورحت أقصّ لأول مرة قصة تلك اللوحة التي رسمتها ذات يوم، بعدما حضرت مرة، كما أفعل بين الحين والآخر، إحدى جلسات الرسم في مدرسة الفنون الجميلة، حيث يدعوني هناك بعض أصدقائي الأساتذة، كما يفعلون عادة مع بعض الرسَّامين، لألتقي بالطلبة والرسامين الهواة.

كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عارٍ. وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلفة، كنت أنا أفكِّر مدهوشاً في قدرة هؤلاء على رسم جسد امرأة بحياد جنسيّ، وبنظرة جمالية لا غير، وكأنهم يرسمون منظراً طبيعياً أو مزهرية على طاولة، أو تمثالاً في ساحة.

من الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك الجلسة. فقد كنت أرى، لأول مرة، امرأة عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها بتلقائية، ودون حرج أمام عشرات العيون؛ وربما في محاولة لإخفاء ارتباكي رحت أرسم أيضاً. ولكن ريشتي التي تحمل رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد، خجلاً أو كبرياء لا أدري.. بل راحت ترسم شياً آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما يبدو من زاويتي.. وعندما انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها كلّ واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم أرسم سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة لأنوثتها: "أهذا كلّ ما ألهمتك إيّاه؟" فقلت مجاملاً: "لا، لقد ألهمتني كثيراً من الدهشة، ولكني أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى دهاليز نفسه. أنت أوَّل امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل يحترف الرسم.. فاعذريني. إن فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضاً أن تتقاسم مع الآخرين امرأة عارية.. حتى في جلسة رسم!".

كنت تستمعين إليّ مدهوشة، وكأنك تكتشفين فيّ فجأة رجلاً آخر لم تحدثك عنه جدّتك. كان في عينيك فجأة شي جديد، نظرة غامضة ما، شيء من الإغراء المتعمّد، ربما سببه غيرة نسائية من امرأة مجهولة، سرقت في يوم ما اهتمام رجل لم يكن حتى الآن مهماً بالنسبة إليك.

رحت أتلذّذ بذلك الموقف العجيب الذي لم أتعمده. كنت سعيداً أن تثير فيك الغيرة هذا الصمت المفاجئ، وهذه الحمرة الخفيفة التي علت وجنتيك، وجعلت عينيك تتّسعان بغضب مكبوت. فاحتفظت لنفسي ببقية القصة.. لم أخبرك أن هذه الحادثة تعود لسنتين، وأنَّ صاحبتها ليست سوى كاترين، وأنه كان عليّ فيما بعد أن أقدم لجسدها اعتذاراً آخر.. يبدو أنه كان مقنعاً لدرجة أنها لم تفارقني منذ ذلك الحين!

أذكر اليوم بشيء من السخرية، ذلك المنعطف الذي أخذته علاقتنا فجأة بعدما حدّثتك عن تلك اللوحة.. عجيب هو عالم النساء حقاً! كنت أتوقع أن تقعي في حبي، وأنت تكتشفي تلك العلاقة السرية التي تربطك بلوحتي الأولى "حنين". لوحة في عمرك وفي هويتك. وإذا بك تتعلقين بي بسبب لوحة أخرى لامرأة أخرى، تعبر الذاكرة خطأ!

انتهى موعدنا الأول عند الظهر.

كان عندي إحساس ما إنني سأراك مرة أخرى.. ربما غداً. كنت أشعر أننا في بداية شيء ما، وأننا كلينا على عجل. كان هناك كثير من الأشياء التي لم نقلها بعد، بل إننا لم نقل شياً في النهاية. نحن أغرينا بعضنا فقط بحديث محتمل. كنّا، عن سذاجة أو عن ذكاء، نمارس اللعبة نفسها معاً، ولذا لم أتعجب كثيراً عندما سألتني وأنت تودّعينني:

- هل ستكون هنا غداً صباحاًً؟

قلت لك بسعادة من ربح الرهان:

- طبعاً.

قلت:

- سأعود إذن غداً في الوقت نفسه تقريباً، سيكون لنا متَّسع أكثر للحديث. لقد مرّ الوقت بسرعة اليوم دون أن ننتبه لذلك..

لم أعلّق على كلامك. كنت أدري أن لا مقياس للوقت سوى قلبينا. ولذا فالوقت لا يركض بنا إلا عندما يركض بنا القلب لاهثاً أيضاً من فرحة إلى أخرى، ومن دهشة إلى أخرى.. ولذا وجدت في كلامك اعترافاً بفرح مشترك سرّيّ.. توقعت أن يتكرَّر.

أذكر أنني قلت لك يومها وأنا أودِّعك عند باب القاعة:

- لا تنسي كتابك غداً.. أريد أن أقرأك.

قلت متعجبة:

- أتتقن العربية؟

قلت:

- طبعاً.. سترين ذلك بنفسك.

قلتِ:

- سأحضره إذن..

ثم أضفت بابتسامة لا تخلو من كيدٍ نسائي محبّب:

- مادمت تصرّ على معرفتي.. لن أحرمك من هذه المتعة!

وانغلق الباب خلف ابتسامتك تلك، دون أن أفهم ما كنت تعنيه بالتحديد.

ذهبت بالغموض الضبابي الذي جئت به.. نفسه. وبقيت عند عتبة ذلك الباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى المارة وتختفين مرة أخرى كنجمٍ هارب.. و أنا أتسال بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقاً؟!


***

 
 

 

عرض البوم صور lost in memories   رد مع اقتباس
قديم 27-01-07, 03:47 PM   المشاركة رقم: 4
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7991
المشاركات: 259
الجنس أنثى
معدل التقييم: lost in memories عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 15

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
lost in memories غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : lost in memories المنتدى : الادباء والكتاب العرب
افتراضي

 

****



التقينا إذن..
الذين قالوا "الجبال وحدها لا تلتقي".. أخطأوا.
والذين بنوا بينها جسوراً، لتتصافح دون أن تنحني أو تتنازل عن شموخها.. لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل و الهزات الأرضية الكبرى، وعندما لا تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب واحد.
التقينا إذن..

وحدثت الهزة الأرضية التي لم تك متوقّعة، فقد كان أحدنا بركاناً، وكنت أنا الضحية.

يا امرأة تحترف الحرائق. ويا جبلاً بركانياً جرف كلّ شيء في طريقه، وأحرق آخر ما تمسَّكت به.

من أين أتيت بكل تلك الأمواج المحرقة من النار؟ وكيف لم أحذر تربتك المحمومة، كشفتيْ عاشقة غجرية.

كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، وأتذكّر درساً قديماً في الجغرافية: "الجبال البركانية لا قمم لها؛ إنها جبال في تواضع هضبة.." فهل يمكن للهضاب أن تفعل كلّ هذا؟

كلّ الأمثلة الشعبية تحذّرنا من ذلك النهر المسالم الذي يخدعنا هدوؤه فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك العود الصغير الذي لا نحتاط له.. وإذا به يعمينا.

أكثر من مثل يقول لن بأكثر من لهجة "يؤخذ الحذر من مأمنه". ولكن كلّ تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب المزيد من الحماقات، فلا منطق للعشق خارج الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقاً كبرت حماقاتنا.

ألم يقل (برنارد شو) "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في التصرف ضد مصلحتك الشخصية!"

وكانت حماقاتي الأولى، أنني تصرفت معك مثل سائح يزور صقلّية لأول مرة، فيركض نحو بركان (إتنا)، ويصلِّي ليستيقظ البركان النائم بعين واحدة من نومه، ويغرق الجزيرة ناراً، على مرأى من السواح المحملين بالآلات الفوتوغرافية.. والدهشة.

وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه لا أجمل من بركان يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من نيران وأحجار، ويبتلع المساحات الشاسعة في بضع لحظات.

وأنّ المتفرج عليه يصاب دائماً بجاذبية مغناطيسية ما.. بشيء شبيه بشهوة اللهب، يشدّه لتلك السيول النارية، فيظل منبهراً أمامها. يحاول أن يتذكّر في ذهول كلّ ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة عاشق، أنه يشهد ساعتها.. قيام ساعته!

يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهلاك؛ وأشتهيك.. حتى الاحتراق الأخير. وصدَّقت جاك بريل عندما قال "هناك أراض محروقة تمنحك من القمح ما لا يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع هذا العمر القاحل. ونيسان هذه السنوات العجاف.

يا بركاناً جرف من حولي كلّ شيء.. ألم يكن جنوناً أن أزايد على جنون السواح والعشاق، وكلّ من أحبوك قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع ذاكرتي عند أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق.. لأرسمك.

ألم يكن جنوناً.. أن أرفض الاستعانة بنشرات الأرصاد الجوية، والكوارث الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحبّ، وأنّ ما أعرفه عنك لا علاقة له بالمنطق ولا بالمعرفة.

التقت الجبال إذن.. والتقينا.
ربع قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك.
ربع قرن من الأيام المتشابهة التي أنفقتها في انتظارك.
ربع قرن على أوَّل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب على ركبتي كانت أنت.
ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم يرك.

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيّة ذراعه، وفي المجن المغلقة قلبه..

لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثّتي، والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي، لتبقى عذراء.. وجبّارة مثلك. تحمل في لونها كلّ الأضداد.

كيف حدث كلّ هذا؟ لم أعد أدري.

كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبّ ينقلنا من شهقة إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل.
كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة تقف في وجه القدر؟

كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباً، كنّا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كلّ يوم. فلم يكن لك أيّ دوام جامعي.

كان عليك فقط أن تتحايلي على الآخرين بعض الشيء، وربما على ابنة عمك أكثر، حتى لا ترافقك لسبب أو لآخر.

كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مردداً تلقائياً، "إلى الغد": ترانا نرتكب أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض كلّ يوم. وربما لأنني كنت أكبرك سنّاً، كنت أشعر أنني تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي الشاذ وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب.

ولكن عبثاً كنت أحاول الوقوف في طريق ذلك الشلال الذي كان يجرفني إليك بقوة حبّ في الخمسين، بجنون حبّ في الخمسين، بشهية رجل لم يعرف الحبّ قبل ذلك اليوم.

كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، وينحدر بي إلى أبعد نقطة في اللامنطق.. تلك التي يكاد يلامس فيها العشق، في آخر المطاف، الجنون أو الموت..

وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات العميقة داخلي، إلى تلك الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى تلك المساحة البعيدة الأغوار التي لم تطأها امرأة قبلك، أنني أنزل أيضاً سلّم القيم تدريجياً، وأنني أتنكَّر دون أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطرّف، ورفضت عمراً بأكمله أن أساوم عليها.

لقد كانت القيم بالنسبة لي شياً لا يتجزأ، ولم يكن هناك في قاموسي من فرق بين الأخلاق السياسية، وبقية الأخلاق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت أتنكَّر لواحدة لأقنعك بأخرى.
تساءلت كثيراً آنذاك..

تراني كنت أخون الماضي، وأنا أنفرد بك في جلسة شبه بريئة، في قاعة تؤثثها اللوحات والذاكرة؟
تراني أخون أعزّ مَنْ عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة ومروءة، وأكثرهم شجاعة ووفاءً؟

تراني سأخون سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق عمر بأكمله. فأدنّس ذكراه وأسرق منه زهرة عمره الوحيدة.. ووصيّته الأخيرة؟

أيمكن أن أفعل كلّ ذلك باسم الماضي، وأنا أحدِّثك عن الماضي!

ولكن.. أكنت حقّاً أسرق منك شيئاً، في تلك الجلسات التي كنت أحدِّثك فيها طويلاً عنه؟.

لا.. لم يحدث هذا أبداً، كانت هيبة اسمه حاضرة في ذهني دائماً. كانت تربطني بك وتفصلني عنك في الوقت نفسه. كانت جسراً وحاجزاً في الوقت نفسه..

وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيح ذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر الماضي المصفرّة، لأقرأها أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني أكتشفها معك وأنا أستمع لنفسي، أقصها لأول مرة.

كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي تجهلينه، وكنتِ أنت الحاضر الذي لا ذاكرة له، والذي أحاول أن أودعه بعض ما حمّلتني السنوات من ثقل.

كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.

رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..
كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.

كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.

أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.

قلت:

- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟

قلت لك متعجباً:

- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟

قلت:

- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..

الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.

يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.

حلّ شيء من الصمت بيننا..
كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.

قلت:

- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.

وأضفتِ:

- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.

لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!

قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:

- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..

أجبت بشيء من السخرية:

- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!

أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.

لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.

قلت لك:

- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.

قلتِ:

- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.

ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:

- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.

كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.

يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".

يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.

لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟

مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.

لقد كانت تنتمي لجيل من النساء نذرن حياتهنَّ للمطبخ، ولذا كنّ يعشن الأعياد والأعراس كوليمة حبّ، يهبن فيها من جملة ما يهبن فائض أنوثتهنَّ.. وحنانهنَ وجوع سرّي لم يجد له من تعبير آخر خارج الأكل.

لقد كنَّ في الوقع يطعمن كل يوم أكثر من مائدة.. وأكثر من "ترّاس".. وينمن كل ليلة دون أن ينتبه أحد إلى جوعهنّ المتوارث من عصور..اكتشفت هذه الحقيقة مؤخراً فقط، يوم وجدت نفسي ربَّما وفاءً لهنَّ_ عاجزاً عن حبّ امرأة تعيش على الأكل الجاهز، ولا وليمة لها غير جسدها!

سألتك وأنا أهرب من تلك الذكريات هربي من خدوش طفولتي البعيدة:

- وأمك.. إنك لم تحدّثيني عنها أبداً كيف عاشت بعد وفاة سي الطاهر؟

قلتِ:

- لقد كانت قليلة الحديث عنه.. ربّما كانت في أعماقها تعتب على الذين زوجوها منه، فقد كانوا يزفّونها لشهيد وليس لرجل..

كانت تعرف مسبقاً نشاطه السياسي، وتدري أنه سيلتحق بالجبهة بعد الزواج، وسيدخل في الحياة السرّيّة، ولن يزورها إلا خلسة بين الحين والآخر، وقد لا يعود إليها إلا جثماناً، فلماذا هذا الزواج إذن؟ ولكن كان لا بدّ لذلك الزواج أن يتمّ؛ كان في الجوّ رائحة صفقة ما. فقد كان أهلها فخورين بمصاهرة الطاهر عبد المولى، صاحب الاسم والثروة الكبيرة. ولا بأس أن تكون أمي زواجه الثاني أو أرملته القادمة. وربما كانت جدتي تعرف أنه خلق ليستشهد فراحت تزور الأولياء والصالحين متضرِّعة باكية لابنها أخيراً ذريّة.. تماماّ كما كانت تزور سابقاً يوم كانت حبلى به طالبة آنذاك أن يكون مولودها صبيّاً..

سألتك:

- من أين تعرفين كلّ هذه القصص؟

قلت:

- منها هي.. ومن أمي أيضاً. تصور أنها يوم كانت حبلى بأبي لم تفارق مزار (سيدي محمد الغراب) بقسنطينة، حتى إنها كادت تلده هناك.. ولذا سمَته ( محمد الطاهر) تباركاً به.. ثمّ سمّت عمي ( محمد الشريف) تباركاً به أيضاً.. بعدها عرفت أنَّ نصف رجال تلك المدينة أسماؤهم هكذا.. وأنَّ أهل تلك المدينة يولون اهتماماً كبيراً للأسماء، وأنَ معظمهم يحمل أسماء الأنبياء أو الأولياء الصالحين. وهكذا كادت تسمِيني "السيدة" تباركاً بالسيدة المنوبيّة التي كانت تزورها في تونس كلّ مرة محملة بالشمع والسجاد والدعوات، متنقلة بين ضريحها ومزار (سيدي عمر الفاياش). ربما سمعت به، ذلك الولي الذي كان يعيش عارياً تماماً من كل شيء.. وهو ما جعل السلطات التونسية تقوم بربط قدمه إلى سلسال حديدي حتى لا يغادر البيت عارياً كما تعوّد أن يفعل.. وهكذا كان يعيش مقيداً، يدور ويصرخ وسط غرفة فارغة، إلا من النساء اللاتي يتسابقن لزيارته، بعضهن للتبارك به.. وأخريات لمجرد اكتشاف رجولته المعروضة للفرجة.. ولفضول النساء الملتحفات بـ (السفساري) والمتظاهرات بالحشمة الكاذبة!.

سألتك ضاحكاًً..

- وهل زرته أنت؟.

قلتِ:

- طبعاً.. لقد زرته بعد ذلك مع كلّ واحدة منهنَّ على انفراد؛ وزرت أيضاً "السيدة المنوبية"، المرأة التي كدت أحمل اسمها، لولا أنَّ أمي أنقذتني من تلك الكارثة، وقررت أن تسميني "حياة" في انتظار مجيء أبي، الذي يعود إليه القرار الأخير في اختيار اسمي.

توقَّف القلب عند هذا الاسم.. وركضت الذاكرة إلى الوراء. تعثّر اللسان وهو يلفظ هذا الاسم بعد ربع قرن تماماً وفاجأك سؤالي:

- هل يسعدك أن أناديك "حياة"؟

قلت متعجبة..

- لماذا.. ألا يعجبك اسمي الحقيقي.. أليس أجمل؟!

قلت:

- إنه حقا أجمل.. حتى إنني تعجّبت وقتها كيف خطر اسم كهذا في بال والدك. كنت أسمعه لأول مرة ولم يكن في حياته آنذاك ما يمكن أن يوحي باسم جميل كهذا.. وبرغم ذلك أحبّ أن أسمِّيك "حياة" لأنني قد أكون الوحيد مع والدتك الذي يعرف اليوم هذا الاسم. أريد أن يكون بيننا ككلمة سرّ، ليذكّرك بعلاقتنا الاستثنائية، وبأنك أيضاً.. طفلتي بطريقة ما.

ضحكتِ.. قلتِ:

- أتدري أنك لم تخرج أبداً من فترة الثورة، ولذا أنت تشعر برغبة في أن تعطيني اسماً حركياً حتى قبل أن تحبني. وكأنك ستدخلني بذلك في العمل السري.. أيّة مهمة تراك تعد لي؟

ضحكت بدوري لملاحظتك التي فاجأتني بواقعيتها. تراك بدأت تعرفينني إلى هذا الحد؟

قلت:

- اعلمي أيتها الثوريّة المبتدئة أنه لا بدّ من أكثر من اختبار. لنكلِّف أحداً بمهمة فدائية. ولذا سأبدأ في مرحلة أولى بدراستك، ومعرفة استعدادتك الخاصّة!

 
 

 

عرض البوم صور lost in memories   رد مع اقتباس
قديم 27-01-07, 03:49 PM   المشاركة رقم: 5
المعلومات
الكاتب:
اللقب:
ليلاس متالق


البيانات
التسجيل: Jul 2006
العضوية: 7991
المشاركات: 259
الجنس أنثى
معدل التقييم: lost in memories عضو بحاجه الى تحسين وضعه
نقاط التقييم: 15

االدولة
البلدPalestine
 
مدونتي

 

الإتصالات
الحالة:
lost in memories غير متواجد حالياً
وسائل الإتصال:

كاتب الموضوع : lost in memories المنتدى : الادباء والكتاب العرب
افتراضي

 


أحسست لحظتها، أنّ الوقت قد أصبح مناسباً، لأقصّ عليك أخيراً قصّة يومي الأخير في الجبهة، ذلك اليوم الذي لفظ فيه سي الطاهر اسمك أمامي لأول مرة، وهو يودِّعني ويكلِّفني إذا ما وصلت إلى تونس على قيد الحياة أن أقوم بتسجيلك نيابة عنه.

وتلك الليلة التي عبرت فيها الحدود الجزائرية التونسية، بجسد محموم وذراع تنزف، وأنا أردِّد لنفسي بهذيان الحمّى، اسمك الذي أصبح وسط إجهادي ونزيفي، وكأنه اسم لعملية أخيرة كلفني بها سي الطاهر، كنت أريد أن أحقق طلبه الأخير، وأطارد حلمه الهارب، فأمنحك اسماً شرعياً رسمياً.. لا علاقة له بالخرافات والأولياء..

أذكر ذلك اليوم الذي وقفت فيه لأول مرة أدق باب بيتكم في شارع التوفيق بتونس. أذكر تلك الزيارة بكل تفاصيلها وكأن ذاكرتي كانت تقرأ مسبقاً ما سيكتب لي معك، فأفرغت مساحة كافية لها.

في ذلك اليوم الخريفيّ من شهر أيلول، انتظرت أمام بابكم الحديديّ الأخضر، قبل أن تفتح (أمّا الزهرة) الباب بعد لحظات بدت لي طويلة..

مازلت أذكر تلك الشهقة في نظرتها، كأنها كانت تنتظر شخصاً آخر غيري.

توقفت مدهوشة أمامي، تفحّصت معطفي الرمادي الحزين ووجهي النحيل الشاحب. توقفت عند ذراعي الوحيدة التي تمسك علبة الحلوى، وذراع معطفي الأخرى الفارغة التي تختبئ لأول مرة بحياء داخل جيب معطفي.
وقبل أن أنطق بأية كلمة اغرورقت عيناها بالدموع، وراحت تبكي دون أن تفكِّر حتى في دعوتي إلى دخول البيت.

انحنيت أقبّلها.. بشوق السنوات التي لم أرها فيها.. بالشوق الذي حمّلني إياه ابنها.. وبشوق (أمّا) التي لم أتعوَّد بعد سنتين ونصف على فجيعتها..

- واشك أمّا الزهرة؟

زاد بكاؤها وهي تحتضنني وتسألني بدورها..

- واش راك يا ولدي..؟

أكان بكاؤها فرحاً بلقائي، أم حزناً على حالتي، وعلى ذراعي التي تراها مبتورة لأول مرة.. أكانت تبكي لأنها توقعت أن ترى ابنها ورأتني.. أم فقط لأن أحداً قد دقّ هذا الباب، ودخل حاملاً في يده البهجة، وشيئاً من الأخبار، لبيت ربَّما لم يدخله رجل منذ شهور؟

- ع السلامة.. جوز يا ولدي جوز..

قالتها وهي تشرع باب الدار أخيراً وتمسح دموعها. ثم أعادت وهي تسبقني "جوز..جوز.." بصوت عالٍ كإشارة موجهة لأمك التي ركضت عند سماع هذه الكلمات، ولم أرَ غير ذيل ثوبها يسبقني، ويختفي خلف باب مغلق على عجل.

أحببت ذلك البيت.. بدوالي العنب التي تتسلّق جدران حديقته الصغيرة، وتمتد لتتدلى عناقيد ثريات سوداء على وسط الدار.

شجرة الياسمين التي ترتمي وتطلّ من السور الخارجي، كامرأة فضولية ضاقت ذرعاً بجدران بيتها، وراحت تتفرج على ما يحدث في الخارج، لتغري المارة بقطف زهرها.. أو جمع ما تبعثر من الياسمين أرضاً.. ورائحة الطعام التي تنبعث منه، فتبعث معها الطمأنينة، ودفء غامض يستبقيك هناك.
سبقتني (أمّا الزهرة) إلى غرفة تطل على وسط الدار مرددة:

- اقعد يا ولدي.. اقعد..

قالتها وهي تأخذ منّي علبة الحلوى وتضعها على الصينية النحاسية المستديرة والموضوعة على مائدة خشبية.

وما كدت أجلس أرضاً على ذلك المطرح الصوفي حتى ظهرت أنت في طرف الغرفة صغيرة كدمية، وحبوت مسرعة نحو العلبة البيضاء تحاولين سحبها إلى الأرض وفتحها. وقبل أن أتدخل أنا كانت (أمّا الزهرة) قد أخت منك العلبة وذهبت بها إلى مكان آخر وهي تقول: "يعطيك الصحة يا وليدي.. وعلاش عييت روحك يا خالد يا بني.. وجهك يكفينا..".

ثم عادت ونهرتك، وأنت تتجهين نحو الشّياحة الخشبية، الموضوعة على شكل قبّة صغيرة فوق كانون، والتي كانت ثيابك الصغيرة البيضاء منثورة فوقها كي تجفّ.. وعندها حبوت تحوي في خطوتين مترددتين، ويداك الصغيرتان أمامك تستنجدان بي.

لحظتها شعرت بهول ما حلّ بي، وأنا أمدّ نحوك يدي الفريدة في محاولة للإمساك بك. لقد كنت عاجزاً عن التقاطك بيدي الوحيدة المرتبكة، ووضعك في حجري لملاعبتك دون أن تفلتي مني.

أليس عجيباً أن يكون لقائي الأول بك هو امتحاني الأول وعقدتي الأولى، وأن أنهزم على يدك في أصعب تجربة مررت بها منذ أصبحت رجل الذراع الواحدة.. من عشرة أيام لا أكثر..!

عادت (أمّا الزهرة) بصينية القهوة وبصحن "الطمّينة":

- قل لي يا خالد يا ابني وراسك.. واش راه الطاهر؟

قالتها قبل أن تجلس حتى على المطرح.. كان في سؤالها مذاق الدمع. وفي حلقها غصّة السؤال الذي يخاف الجواب.. فرحت أطمئنها. أخبرتها أنني كنت تحت قيادته وأنه الآن في منطقة الحدود وأن صحته جيدة ولكنه لا يستطيع الحضور هذه الأيام، لصعوبة الأوضاع ولمسؤولياته الكثيرة.

لم أخبرها أن المعارك تشتد كل يوم، وأن العدو قرر أن يطرق المناطق الجبلية، ويحرق كل الغابات، حتى تتمكن طائراته من مراقبة تحركاتنا.. وأنه تم إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد، ومعه مجموعة من كبار القادة والمجاهدين، وأن ثلاثين منهم قد صدر في حقهم الحكم بالإعدام، وأنني أتيت للعلاج مع مجموعة من الجرحى والمشوهين الذين مات اثنان منهم قبل أن يصلا..

لقد قال لها منظري أكثر مما تتحمله امرأة في سنها، فرحت أغيّر مجرى الحديث.. أمددتها بتلك الأوراق النقدية التي أرسلها معي سي الطاهر، وطلبت منها حسب وصيته أن تشتري لك بها هدية، ووعدتها أن أعود قريباً لتسجيلك، بذلك الاسم الذي اختاره لك، والذي رددته أمّا الزهرة بصعوبة، وبشي من الدهشة، ولكن دون تعليق. فقد كان لما يقوله سي الطاهر بالنسبة لها صفة القداسة.

وكأنك انتبهت فجأة أن الحديث يعنيك، فتسلّقت ركبتي وجئت فجأة لتجلسي في حجري بتلقائية طفولية، ولم أتمالك لحظتها احتضانك بيدي الوحيدة.. ضممتك إليّ، وكأنني أضمّ الحلم الذي أضعت من أجله ذراعي الثانية؛ كأنني أخاف أن يهرب مني وتهرب معه أحلام ذلك الرجل الذي لم يسعد بعد باحتضانك.

رحت أقبلك وسط دموعي وفرحتي وألمي وكلّ تناقضي، نيابة عن سي طاهر وعن رفاق لم يروا أولادهم منذ التحقوا بالجبهة، ونيابة عن آخرين، ماتوا وهم يحلمون بلحظة بسيطة كهذه، يحتضنون فيها بدل البنادق، أطفالهم الذين ولدوا وكبروا في غفلة منهم.

نسيت يومها أن أقبِّلك نيابة عني.. وأن أبكي أمامك نيابة عني. نيابة عن الرجل الذي سأتحول إليه على يدك بعد ربع قرن. نسيت أن أسجّل جوار اسمك اسمي مسبقاً.. وأن أطلب ذاكرتك مسبقاً.. وأعوامك القادمة مسبقاً.. أن أحجز عمرك، وأوقف عدّاد السنوات الذي كان يركض بي نحو السابعة والعشرين.. وأنت تدخلين شهرك السابع!

نسيت أن أستبقيك هكذا على حجري إلى الأبد، تلعبين وتعبثين وبأشيائي، وتقولين لي كلاماً لا أفهمه.. ولا تفهمينه.

لم تقاطعيني مرة واحدة، وأنا أقصّ عليك تلك القصة بإيجاز متعمّد، وأترك تفاصيلها المتشعبة لي.
توقفت فقط عند ذلك اليوم 15 أيلول 1957 الذي وقفت فيه لأكتب على سجلّ رسمي اسمك النهائي.

لم تسأليني أيّ سؤال توضيحي، ولا علَّقت يومها بكلمة واحدة، على قصّة لم يقصها عليك أحد قبلي. ربما لأن لا أحد وجد في تلك القصة ما يستحق التوقف.

استمعت إليَّ بذهول، وبصمت مخيف. وراحت غيوم مكابرة تحجب نظرتك عني.. كنت تبكين أمامي لأول مرة، أنت التي ضحكت معي في ذلك المكان نفسه كثيراً.
ترانا أدركنا لحظتها، أننا كنا نضحك لنتحايل على الحقيقة الموجعة، على شيء ما كنا نبحث عنه، ونؤجّله في الوقت نفسه؟



نظرت إليك خلف ضباب الدمع.. كنت أودُّ لحظتها، لو احتضنتك بذراعي الوحيدة، كما لم أحضن امرأة، كما لم أحضن حلماً. ولكنني بقيت في مكاني، وبقيت في مكانك، متقابلين هكذا.. جبلين مكابرين، بينهما جسر سرّي من الحنين والشوق.. وكثير من الغيوم التي لم تمطر.

استوقفتني كلمة جسر، وتذكّرت تلك اللوحة، وكأنني تذكرت الفصل الأهم من قصة، كنت أرويها لك وربما أرويها لنفسي أيضاً، عساني أصدّق غرابتها. وقفت وقلت:

- تعالي سأريك شيئاً.

تبعتني دون سؤال.
وقفت أمام تلك اللوحة. قلت لك وأنت تنتظرين مدهوشة ما سأقوله:

- أتدرين.. يوم رأيتك تقفين أمام هذه اللوحة، في ذلك اليوم الأول، سرت قشعريرة في جسدي. شعرت أن بينك وبين هذه اللوحة قرابة ما أجهلها. ولكنني كنت متأكداً منها، ولذا أتيت لأسلّم عليك عساني أكتشف خطأ حدسي.. أو صوابه.

قلت متعجبة:

- وهل كنت مصيباً في حدسك؟

قلت:

- ألم تلاحظي التاريخ المكتوب على هذه اللوحة؟

أجبت وأنت تبحثين عنه أسفلها..

- لا..

قلت:

_ إنه قريب من تاريخ ميلادك الرسمي. أنت تكبرين هذه اللوحة بأسبوعين فقط. إنها توأمك إذا شئتِ!

قلت مدهوشة:

- عجيب.. عجيب كل هذا!

نظرت إلى اللوحة وكأنك تبحثين فيها عن نفسك، فقلت:

- أليست هذه قنطرة الحبال؟

أجبتك:

- إنها أكثر من قنطرة.. إنها قسنطينة. وهذه هي القرابة الأخرى التي تربطك بهذه اللوحة.
- يوم دخلت هذه القاعة، دخلت قسنطينة معك..
- دَخَلَت في طلّتك.. في مشيتك.. في لهجتك.. وفي سوار كنت تلبسينه.
- فكرت قليلاً ثم قلت:
- - آ.. تعني "المقياس".. يحدث أحياناً أن ألبسه في بعض المناسبات.. ولكنه ثقيل يوجع معصمي.

قلت:

- لأن الذاكرة ثقيلة دائماً. لقد لبسته "أمّا" عدة سنوات متتالية،ولم تشك من ثقله. ماتت وهو في معصمها.. إنها العادة فقط!

لم أعتب عليك. كان في صوتي حسرة، ولكن لم أقل لك شيئاً. كنت تنتمين لجيل يثقل عليه حمل أي شيء. ولذا اختصر الأثواب العربية القديمة بأثواب عصرية من قطعة أو قطعتين. واختصر الصيغة والحليّ القديمة، بحلي خفيفة تلبس وتخلع على عجل. واختصر التاريخ والذاكرة كلها بصفحة أو صفحتين في كتب مدرسيّة، واسم أو اسمين في الشعر العربي..

لن أعتب عليك، نحن ننتمي لأوطان لا تلبس ذاكرتها إلا في المناسبات، بين نشرة أخبار وأخرى. وسرعان ما تخلعها عندما تطفأ الأضواء، وينسحب المصوّرون، كما تخلع امرأة أثواب زينتها.

قلت وكأنك تعتذرين عن خطأ لم تتعمديه:

- إذا شئت سألبس ذلك السوار من أجلك.. أيسعدك هذا؟

فاجأني كلامك. كان الموقف جزيناً شيئاً ما، رغم تلقائيته، وربما كان مضحكاً بحزن.

كنت هنا أعرض عليك أبوتي، وكنت تعرضين عليّ أمومتك. أنت الفتاة التي كان يمكن أن تكون ابنتي، والتي أصبحت دون أن تدري.. أمّي!

وكان يمكن أن أجيبك لحظتها بكلمة واحدة، أختصر فيها كل تناقضات موقفنا ذلك، وأختصر فيها كل ما أشعر به تجاهك من عواطف متطرفة.. وجامحة. ولكنني قلت شيئاً آخر.
قلت:

- يسعدني ذلك، ويسعدني أيضاً أن تلبسيه من أجلك أنت.

لا بد أن تعي أنك لن تفهمي شيئاً من الماضي الذي تبحثين عنه، ولا من ذاكرة أب لم تعرفيه، إذا لم تفهمي قسنطينة بعاداتها وتلتحمي بها. إننا لا نكتشف ذاكرتنا ونحن نتفرج على بطاقة بريدية.. أو لوحة زيتية كهذه.
نحن نكتشفها عندما نلمسها، عندما نلبسها ونعيش بها.

هذا السوار مثلاً، لقد أصبحت علاقتي به فجأة علاقة عاطفية. لقد كان في ذاكرتي رمزاً للأمومة دون أن أدري. اكتشفت هذا يوم رأيتك تلبسينه، وكان يمكن ألا تلبسيه. وتظل كل تلك الأحاسيس التي فجرها داخلي نائمة في دهاليز النسيان. هل تفهمين الآن.. أن الذاكرة أيضاً في حاجة إلى أن نوقظها أحياناً؟

كم كنت أحمق.. كنت دون أن أدري، أوقظ داخلي مارداً كان نائماً منذ سنين. وكنت أحوّلك في حمّى جنوني من فتاة إلى مدينة. وكنت تستمعين لي بانبهار تلميذة، وتتلقّين كلماتي كما يتلقّى شخص في جلسة تنويم مغنطيسي، تعاليمه وأوامره من منوم يفعل به ما يشاء.

اكتشفت يومها قدرتي على ترويضك، وعلى السيطرة على نارك المحرقة.

وقرَّرت في سرّي أن أحولك إلى مدينة شاهقة.. شامخة، عريقة.. عميقة، لن يطأها الأقزام ولا القراصنة.

حكمت عليك أن تكوني قسنطينة ما..
وكنت أحكم على نفسي بالجنون.

 
 

 

عرض البوم صور lost in memories   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
2004, أحلام مستغانمي, مؤسسة الفرات, ذاكرة الجسد
facebook




جديد مواضيع قسم الادباء والكتاب العرب
أدوات الموضوع
مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع
تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 01:11 AM.


 



Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO 3.3.0 ©2009, Crawlability, Inc.
شبكة ليلاس الثقافية