كاتب الموضوع :
lost in memories
المنتدى :
الادباء والكتاب العرب
رحل زياد..
ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.
كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.
رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.
لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.
ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.
كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.
سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟
أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!
في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.
كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.
كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.
وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟
أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.
كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.
كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!
كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.
تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟
تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..
أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.
كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها.
وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.
كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..
كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك.
تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.
تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله.
لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض.
كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.
كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.
كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!
كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك.
اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:
أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..
أجبتني بسخريتكِ الموجعة:
- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!
يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.
وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..
تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".
وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.
عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة:
- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!
أجبتك وسط تنهيدة:
- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!
ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:
"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".
كيف صدّقت يومها أنك كنت تخافين عليّ من العواصف والزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدميّ.. وتحرّضين القدر عليّ.
لم أتحرك أنا..
ظللت واقفاً بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات عدة.
كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين الأرض من تحت قدمي وأنني أنزلق نحو العمق.
كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنوات لتغتالني.
واليوم.. وسط الأعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة من الأحاسيس المتطرّفة والمتناقضة معاً.
"منعطف النسيان" قلتِ..
من أين يأتي النسيان..أسألك؟
***
مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على الهاتف، ليدعوني إلى العشاء في منزله.
فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها. فهمت منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا.
أعترف أنني كنت سعيداً ومرتبكاً بفرحي.
خجلت من نفسي لأنني منذ لقائنا الأخير لم أطلبه سوى مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليّ أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة معاً.
فجأة، أخذت قراراً ربما كان أحمق.
قررت أن آخذ إحدى لوحاتي لأهديها إياه.
ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد أتوقعها؟
سأثبت له دون كلام، أن لوحاتي لا تتداول إلا بعملة القلب وليس بالعملات المشبوهة.
بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى.
سأكون حاضراً في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلّقاً على جدار.
في اليوم التالي، حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء.
كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي الراقي بحثاً عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أولاً: عيناي.. أم قلبي.
عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط.
استقبلني سي الشريف عند الباب. رحبّ بي بعناق حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها بصعوبة.
بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماً أن تكون هدية له. تردد قبل أن يأخذها مني، لكنني استوقفته لأقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية لك.."
رأيت فجأة على وجهه فرحاً وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغلاف على عجل، بفضول من ربح شيئاً في اليانصيب.
ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة معلّقة وسط الضباب إلى السماء:
- هذي قنطرة الجبال!
وقبل أن أقول شيئاً عانقني وقال وهو يربت على كتفي:
- يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي.. تعيش!
لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، لأنه أهداني شيئاً ربما لم ينتبه لثمنه عندي.
رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك لوحتي باليد الأخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدّمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن يشهد الجميع على امتنانه لي. أو ربما على علاقتنا وصداقتنا الوطيدة، التي كان شائعاً عني أنني لا أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إلا على القلّة.
لفظ أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من يكون معظمهم.
لم أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسمّيه النبتات الطفيلية.. أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو من اللاشيء، في أي حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها ذات يوم على كل التربة.
لا أدري لماذا كنت دائماً أملك الحاسة القوية التي تجعلني أتعرّف على هذا النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختلاف أشكالهم وهيآتهم ومناصبهم يمتلكون مظهراً مشتركاً يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع.
نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل المتبادلة فقط، كانت كافية لأستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من وجهاء المهجر، الذين يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية.
من الواضح أنني كنت في كوكب ليس كوكبي..
راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء من الفخر والمودة معاً..
والتفت إليّ ليقول لي:
_ أتدري خالد.. لقد حققت لي اليوم أمنية عزيزة عليّ. كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. لا تنس أنك صديق طفولتي وابن حيّي "كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحيّ؟
كنت أحب سي الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء من سي الطاهر، من صوته وطلّته..
وكان في أعماقه شيء نقيّ لم يلوّث بعد برغم كل شيء. ولكن حتى متى..
كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم.
أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك الاسم الكبير الذي يحمله إرثاً من سي الطاهر من التدنيس.
ترى أكان شعوري ذلك حدساً، أم استنتاجاً منطقياً لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطاً به؟
فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في أية بحيرة سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. ولا حياة للأسماك الصغيرة المعزولة في هذه المياه العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟
كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة، أنّ سي الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى الأمر.
قال جاري الأنيق خلف سيجاره الكوبي:
- لقد كنت دائماً معجباً برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم في بعض مشاريعنا.. ولكنني لا أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا.
لم أكن أدري آنذاك من هو محدثي.. ولا عن أية مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، لأفهم أنه شخصية فوق العادة.
وكأن سي الشريف تنبّه إلى أنني أجهل هوية محدّثي فتدخل موضحاً:
- إن (سي..) مولع بالفن، وهو مشرف على مشاريع كبرى ستغيّر الوجه الثقافي للجزائر.
ثم أضاف وكأنه تنبّه إلى شيء:
- .. ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم ترَ بعد تلك المركّبات الثقافية والتجارية الجديدة.. لا بد أن تتعرف عليها..
ولم أجبه..
كنت أراه يتدحرج أمامي من سلّم القيم، غباءً أو تواطؤاً لا أدري. فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنية بُنيت حجراًً حجراً على العمولات والصفقات، وتناوب عليها السرّاق كباراً وصغاراً.. على مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابلاً.. لتلك الخيانة.
ها هو إذن (سي...) يبدو طيباً و رجلاً شبه بسيط، لولا بدلته الأنيقة جداً.. وحديثه الذي لا يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق.
ها هو إذن.. تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية في عالم الثقافة..
أم أن "الزواج المنافي للطبيعة" أصبح رمزاً طبيعياً مذ شاع وباؤه "رسمياً" في أكثر من قيادة أركان عربية!
كان الجميع يتملقونه، ويجاملونه، عساهم يلحسون شيئاً من ذلك العسل الذي كان يتدفق بين يديه نهراً من العملة الصعبة، في زمن القحط والجفاف..
وكنت أتساءل طوال تلك السهرة، ماذا كنت أفعل وسط ذلك المجلس العجيب؟
كنت أتوقع أن تكون تلك الدعوة، أو على الأقل موعداً نادراً لي مع الوطن، أستعيد فيه مع سي الشريف ذكرياتنا البعيدة.
ولكن الوطن كان غائباً من تلك السهرة. ناب عنه جرحه، ووجهه الجديد المشوه.
كانت سهرة في فرنسا.. نتحدث فيها بالفرنسية.. عن مشاريع سيتم معظمها عن طريق جهات أجنبية.. بتمويل من الجزائر.. فهل حصلنا على استقلالنا حقاً؟!
انتهت تلك السهرة في حدود منتصف الليل. فقط كان (سي...) متعباً وله ارتباطات ومواعيد صباحية.. وربما ليلية أيضاً.
إن المال السريع الكسب، يعجّل في فتح شهيتنا لأكثر من ملذّات.
وكان يمكن أن أكون سعيداً ذلك المساء. لقد كنت في الواقع محطّ اهتمام الجميع لأسباب لم أشأ التعمق فيها..
بل ربما كنت النجم الثاني في تلك السهرة مع (سي...) الذي فهمت أن الدعوة كانت على شرفه، وأنني دعيت لها، لأنه كان يحب أن يكون محاطاً في سهراته بالفنانين دليلاً على ولعه بالإبداع.. وذوقه غير العسكري!
والواقع أنه كان لطيفاً ومجاملاً.. وأنه حدثني يومها عن آرائه الفنية في مجالات مختلفة، وحبه لبعض الرسامين الجزائريين بالذات. بل وقال مازحاً، إنه يحسد سي الشريف على تلك اللوحة، وأنني إذا كنت آخذ معي لوحة حيث أذهب، فسيدعوني إلى بيته عند زيارتي للجزائر..
ضحكت من مزاحه.
ولكنني كنت حزيناً بما فيه الكفاية بعد ذلك لأكون على حافة البكاء، وأنا أنفرد بنفسي ذلك المساء في سريري، وأتساءل أي حماقة أوصلتني إلى ذلك البيت؟
بيت كنت أتوقعه بيتك، وإذا بي أدخله وأغادره دون أن ألمح حتى طرف ثوبك، وهو يعبر ذلك الممر الذي كان يفصلني.. عن عالمك.
في صباح اليوم التالي، دقّ الهاتف. توقعتك أنت، وكانت كاترين.. قالت:
- قبلات صباحية.. وأجمل الأماني لك..
وقبل أن أسأل عن المناسبة أضافت:
- .. اليوم عيد (السان فالنتان) القديس الذي يبارك العشاق.
فكّرت أن أطلبك بدل أن أبعث إليك بطاقة.. ماذا تريد أن أتمنى لك في عيد الحب؟
وأمام دهشتي.. أو تردّدي أضافت بلهجة ساخرة أحبها:
- اطلب أيها الأحمق.. فالدعوات تستجاب اليوم!
ضحكت..
كدت أقول لها أطلب شيئاً من النسيان فقط. ولكنني قلت شيئاً مشابهاً لذلك:
- أريد أن أحال إلى التقاعد العاطفي.. أيمكنك أن تبلّغي قديسك طلبي هذا!
قالت:
- با لك من مجنون.. أتمنى ألا يسمعك فيحرمك من بركاته إلى الأبد.. هل أتعبك موعدنا الأخير إلى هذا الحد؟
يومها ضحكت مع كاترين. ثم وضعت تلك السماعة لأبكي معك.
كنت أكتشف لأول مرة ألم ذلك العيد الذي لم أكن سمعت به من قبل.
لم يأت هاتفك حتى ليشكرني على تلك اللوحة، أو حتى على تلك الزيارة، وذلك الموعد المتعمد الذي حضرته وتغيّبت عنه.
جاء عيد الحب إذن..
فيا عيدي وفجيعتي، وحبي وكراهيتي، ونسياني وذاكرتي، كلّ عيد وأنت كلّ هذا..
للحب عيد إذن.. يحتفل به المحبّون والعشّاق، ويتبادلون فيه البطاقات والأشواق، فأين عيد النسيان سيّدتي؟
هم الذين أعدّوا لنا مسبقاً تقويماً بأعياد السنة، في بلد يحتفل كلّ يوم بقديس جديد على مدار السنة.. أليس بين قدّيسيهم الثلاثمائة والخمسة والستين.. قديس واحد يصلح للنسيان؟
مادام الفراق هو الوجه الآخر للحب، والخيبة هي الوجه الآخر للعشق، لماذا لا يكون هناك عيد للنسيان يضرب فيه سُعاة البريد عن العمل، وتتوقف فيه الخطوط الهاتفية، وتُمنع فيه الإذاعات من بثّ الأغاني العاطفية.. ونكفّ فيه عن كتابة شعر الحب!
منذ قرنين كتب "فيكتور هوغو" لحبيبته جوليات دروي يقول: "كم هو الحب عقيم، إنه لا يكف عن تكرار كلمة واحدة "أحبك" وكم هو خصب لا ينضب: هنالك ألف طريقة يمكنه أن يقول بها الكلمة نفسها"..
دعيني أدهشك في عيد الحب.. وأجرّب معك ألف طريقة لقول الكلمة الواحدة نفسها في الحب..
دعيني أسلك إليك الطرق المتشعّبة الألف، وأعشقك بالعواطف المتناقضة الألف، وأنساك وأذكرك، بتطرّف النسيان والذاكرة.
وأخضع لك وأتبرأ منك، بتطرّف الحرية والعبودية.. بتناقض العشق والكراهية.
دعيني في عيد الحب.. أكرهك.. بشيء من الحبّ.
تراني بدأت أكرهك يومها؟
ومتى ولدت داخلي تلك العاطفة بالتحديد، وراحت تنمو بسرعة مدهشة، وأصبحت تجاور الحب بعنفه؟
ترى إثر خيباتي المتكررة معك، بعد كل تلك الأعياد التي أخلفتها مروراً بذكرى لقائنا، أم بسبب ذلك التوتر الغامض الذي كان يسكنني، ذلك الجوع الدائم إليك، الذي كان يجعلني لا أشتهي امرأة سواك.
كنت أريدك أنت لا غير، وعبثاً كنت أتحايل على جسدي. عبثاً كنت أقدّم له امرأة أخرى غيرك. كنتِ شهوته الفريدة.. ومطلبه الوحيد.
الأكثر إيلاماً ربما، عندما كنت في لحظة حبّ أمرر يدي على شعر كاترين. وإذا بيدي تصطدم بشعيراتها القصيرة الشقراء، فأفقد فجأة شهيّة حبّي وأنا أتذكر شعرك الغجري الطويل الحالك، الذي كان يمكن أن يفرش بمفرده سريري.
كان نحولها يذكّرني بامتلائك، وخطوط جسدها المستقيمة المسطّحة تذكرني بتعاريجك وتضاريس جسدك.
وكان عطرك يأتي بغيابه حتى حواسي ليلغي عطرها، ويذكّرني كطفلٍ يتصرف بحواسه الأولى، أن ذلك العطر لم يكن العطر السري لأمي!
كنت تتسللين إلى جسدي كلّ صباح وتطردينها من سريري.
يوقظني ألمك السري، وشهوتك المتراكمة في الجسد قنبلة موقوتة، ورغبة ليلية مؤجّلة يوماً بعد آخر.
هل تستيقظ الرجولة باكراً حقاً، أم الشوق هو الذي لا ينام؟
أجيبيني أيتها الأنثى التي تنام ملء جفونها كل ليلة..
أَوَحدهم الرجال لا ينامون؟
ولماذا يرتبك الجسد، وأكاد أجهش على صدر غيرك بالبكاء، أكاد أعترف لها أنني عاشق امرأة أخرى، وأنني عاجز أمامها لأن رجولتي لم تعد ملكي، وإنما تتلقى أوامرها منك فقط!
متى بدأت أكرهك!
ترى في ذلك اليوم الذي لبست فيه كاترين ثيابها، مدّعية بمجاملة كاذبة موعداً ما لتتركني وحدي في ذلك السرير الذي لم يعد يشبع نهمها.
يوم اكتشفت وأنا أذرف دمعة رجالية مكابرة: أنه يحدث للرجولة أيضاً أن تنكّس أعلامها، وترفض حتى لعبة المجاملة.. أو منطق الكبرياء الرجالي.. وأننا في النهاية لسنا أسياد أجسادنا كما نعتقد.
يومها تساءلت بشيء من السخرية المرة، إن كان ذلك القديس (السان فالنتان) قد استجاب لدعوتي بهذه السرعة.. وحوّلني حقاً إلى عاشق متقاعد!
أذكر أنني لعنتك.. وحقدت عليك آنذاك، وشعرت بشيء من المرارة المجاورة للبكاء.. أنا الذي لم أبك حتى يوم بترت ذراعي، كان يمكن أن أبكي يومها وأنت تسرقين منّي آخر ما أملك.
تسرقين رجولتي!
ذات يوم سألتك "هل تحبينني؟..".
قلتِ:
- لا أدري.. حبك يزيد وينقص كالإيمان!
يمكن أن أقول اليوم، إن حقدي عليك كان يزيد وينقص أيضاً كإيمانك..
يومها أضفت بسذاجة عاشق:
- وهل أنتِ مؤمنة؟
صحتِ:
- طبعاً.. أنا أمارس كل شعائر الإسلام.. وفرائضه
- وهل تصومين؟
- طبعاً أصوم.. إنها طريقتي في تحدّي هذه المدينة.. في التواصل مع الوطن.. ومع الذاكرة.
تعجّبت لكلامك. لا أدري لماذا لم أكن أتوقّعك هكذا. كان في مظهرك شيء ما يوهم بتحررك من كل الرواسب.
عندما أبديت لك دهشتي قلتِ:
- كيف تسمّي الدين رواسب، إنه قناعة؛ وهو ككل قناعاتنا قضية لا تخصّ سوانا..
لا تصدق المظاهر أبداً في هذه القضايا. الإيمان كالحب عاطفة سرية نعيشها وحدنا في خلوتنا الدائمة إلى أنفسنا. إنها طمأنينتنا السرية، درعنا السرية.. وهروبنا السري إلى العمق لتجديد بطرياتنا عند الحاجة.
أما الذين يبدو عليهم فائض من الإيمان، فهم غالباً ما يكونون قد أفرغوا أنفسهم من الداخل ليعرضوا كل إيمانهم في الواجهة، لأسباب لا علاقة لها بالله!
ما كان أجمل كلامك يومها!
كان يأتي ليقلب ثنايا الذاكرة، ويوقظ داخلي صوت المآذن في صباحات قسنطينة.
كان يأتي مع الصلوات، مع التراتيل، مع صوت (المؤدّب) في كتاتيب قسنطينة القديمة. فأعود إلى الحصير نفسه أجلس عليه بالارتباك الطفولي نفسه، أردّد مع أولاد آخرين تلك الآيات التي لم نكن نفهمها بعد، ولكننا كنّا ننسخها على ذلك اللوح ونحفظها كيف ما كان، خوفاً من "الفالاقة". وتلك العصا الطويلة التي كانت تتربص بأقدامنا لتدميها عند أول غلطة.
كان يأتي ليصالحني مع الله، أنا الذي لم أصم من سنين.
كان يصالحني مع الوطن، ويحرّضني ضد هذه المدينة التي تسرق منّي كلّ يوم مساحة صغيرة من الإيمان.. ومن الذاكرة.
كنتِ يومها المرأة التي أيقظت ملائكتي وشياطيني في الوقت نفسه.
ثم راحت تتفرج عليّ بعدما حوّلتني إلى ساحة يتصارع الخير والشر فيها.. دون رحمة!
***
في ذلك العام.. كان النصر للملائكة.
قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كلامك، وربما أيضا للهروب منك إلى الله. أما قلت "العبادة درعنا السرية".
قلت سأحتمي من سهامك بالإيمان إذن..
رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في المدينة نفسها.
كم من الأيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول.. أحاول بترويض جسدي على الجوع أن أروّضه على الحرمان منك أيضاً.
كنت أريد أن أستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منك وحدك.
كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماً أنا، مكانته الأولى قبلك. هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب.
أعترف أنني نجحت في ذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أبداً.
كنت أقع في فخّ آخر لحبك. وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش بتوقيتك لا غير.
كنت أجلس إلى طاولة الإفطار معك. وأصوم وأفطر معك.
أتسحّر وأمسك عن الأكل معك، أتناول نفس أطباقك الرمضانية، وأتسحّر بك.. لا غير.
لم أكن أفعل شيئاً سوى التوحّد معك في كلّ شي دون علمي.
كنت في النهاية كالوطن. كان كلّ شيء يؤدي إليك إذن..
مثله كان حبّك متواصلاً حتى بصدّه وبصمته.
مثله كان حبك حاضراً بإيمانه وبفكره.
فهل العبادة تواصل أيضاً؟
***
انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموّي العابر، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه.
فقد كان في ذاكرتي ما عدا حزيران 67، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران 71 الذي قضيت بعضه في سجن للتحقيق والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهم بعد..
أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن (الكدية) الذي دخلته يوماً في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي 1945 حيث تمّت محاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية.
أيّ حزيران كان الأكثر ظلماً، وأية تجربة كانت الأكثر ألماً؟
أصبحت أتحاشى طرح هذه الأسئلة، منذ اليوم الذي أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن.
الوطن الذي أصبح سجناً لا عنوان معروفاً لزنزانته؛ لا اسم رسمياً لسجنه؛ ولا تهمة واضحة لمساجينه، والذي أصبحت أُقاد إليه فجراً، معصوب العينين محاطاً بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولة أيضاً. شرف ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا.
هل توقعت يوم كنت شاباً بحماسه وعنفوانه وتطرف أحلامه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجرّدني فيه جزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزجّ بي في زنزانة (فردية هذه المرة) زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المرّة..
الثورة التي سبق أن جرّدتني من ذراعي!
أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيّر من ذلك الشهر الذي قضم الكثير من سعادتي على مرّ السنوات.
تراني في ذلك العام تحرّشت بالقدر أكثر، ليردّ على تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلّت بي في شهر واحد؟
أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي لا تأتي سوى دفعة واحدة "كي تجِي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطّع السلاسل".
كانت تلك عبثيّة الحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظّ الذي لم تكن تتوقّعه.
ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كلّ السلاسل التي كنت مشدوداً إليها، معتقداً أنها أقوى من أن تكسرها شعرة!
قبلها لم أنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعة كشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سلاسل الأحلام، وسحبت من تحتي سجاد الأمان.
تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ستّ سنوات، تعود اليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهدّ السقف عليّ، بعدما اعتقدت أنني في حزيران 82 دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق شيء واحد قائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط..
كنت أجهل حين ذاك المادة الأولى في قانون الحياة:
"إن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء.. لا غير".
***
كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة، ومذاق اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرّة واحدة.
وكنت أعيش بين خبريْن: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية.
كان قدري يتربّص بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف، وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون عربي.. جاء ينزل بي عدّة طوابق في سلّم اليأس.
أذكر أن خبراً صغيراً انفرد بي وقتها وغطّى على بقية الأخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحراً بطلقات ناريّة، احتجاجاً على اجتياح إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض أن يتقاسم هواءه مع إسرائيل..
كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، ألم مميّز فريد المرارة.
فعندما لا يجد شاعر شيئاً يحتجّ به سوى موته.. ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضاً علينا.
ذهب قلبي طوال تلك الأيام عند زياد..
كان قديماً يقول: "الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعاً بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحراً أيضاً بطريقة أخرى احتجاجاً على خيبة أخرى..
تراه قالها يومها من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟
كنت أستمع إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل عدواه إليّ. فأقول له مازحاً: "يمكنني أن أسرد عليك أيضاً عشرات الأسماء لشعراء لم يموتوا في الصيف!".
فيضحك ويردّ: "طبعاً.. هناك أيضاً من يموتون بين صيفينْ! " فلا أملك إلا أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم!".
عاد زياد إلى الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه الأيام؟
في أية مدينة.. في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة للموت؟
منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك الحين؟
لم أكن قلقاً عليه حتى الآن. فقد عاش دائماً وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجلاً يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه بالجملة.
وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. ورحت أتشاءم وأنا أتذكّر كلامه عن الصيف.. وموت ذلك الشاعر منتحراً.
ماذا لو كان الشعراء يقلّدون بعضهم في الموت أيضاً؟ ماذا لو لم يكونوا فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتان البالين الضخمة يحبّون الموت جماعياً في المواسم نفسها.. على الشطآن ذاتها؟
لقد انتحر (همنغواي) أيضاً صيف 1961 تاركاً خلفه مسودّة روايته الأخيرة "الصيف الخطر".
فأية علاقة بين الصيف وبين كلّ هؤلاء الروائيين والشعراء الذين لم يتلاقوا؟
كان لا بد ألا أتعمّق كثيراً في تلك الفكرة، وكأنني أستدرج بها القدر أو أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف تلك الصفعة التي لم أنهض منها بعد، برغم مرور السنوات.
***
مات زياد..
وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة من مربع صغير في جريدة إلى العين.. ثم إلى القلب.. فيتوقّف الزمن. يتكوّر النبأ غصّة في حلقي، فلا أصرخ.. ولا أبكي.
أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة الفجيعة.
كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراته الأخيرة لي كانت تحمل أكثر من وداع؟
مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة مرات في اليوم وأنا أبحث عن أشيائي.
لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى كثير من الزاد لرحلته الأخيرة، أم كان يفكر في العودة ليستقرّ هنا ويعيش إلى جوارك كما كنت أتوهم تحت تأثير غيرتي؟
لم أسأله يومها عن قراره الأخير. لقد سكن الصمت بيننا في الأيام الأخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس إليه. وكأنني أخاف أن يعترف لي بأمر أخشاه أو بقرار أتوقعه.
لم يقل شيئاً وهو يسافر محمّلاً بحقيبة يد صغيرة. قال لي معتذراً فقط: "ألا يزعجك أن أترك هذه الأيام الحقيبة عندك.. أنت تدري أن مضايقات المطارات كثيرة هذه الأيام، ولا أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى من مطار إلى آخر.."
ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن لا شيء ينتظرني في المطار الأخير!".
لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى رصاصة الموت.
مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على يد الجميع متنا.. باسم كل الثورات وباسم كلّ الكتب.."
ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته هويته فقط!
نخب ضحكته سكرت ذلك المساء.
نخب حزنه المكابر أيضاً.. ذلك الذي لا يعادله حزن.
نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله الأخير.
بكيته ذلك المساء..
ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا.
وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر.
ولِمَ البكاء؟
لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً.
لقد هزمني حتى بموته.
تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها:
"لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!".
وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟
وأنتِ..
تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟
وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟
هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟
في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني.
وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق.
هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية.
وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية.
كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر).
وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها.
ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي.
فَلِمَ البكاء زياد؟
في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت.
هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا..
وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما..
وبين كلّ قطار وقطار.. قطار.
بين كلّ موت وموت.. موت.
فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار!
بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته..
بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا.
رحل زياد إذن..
وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها.
عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري.
ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب..
وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟
أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها.
أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات.
كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة.
سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات، اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم.
صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ما عدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة".
ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوا به؟
لم أجرؤ على السؤال.
كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنوات العشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي.
وكنت محاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأة لهن:
أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أو ربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة.
كلما عدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً.
فقد كان لبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟
هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أم أحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟
أهي عبء.. أم أمانة؟
وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعه بحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟
وإذا كانت أمانة.. ألم تتحول بموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأول عابر سبيل؟
وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبة أنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتالي ما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً من قبل.
ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني في الحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟
***
كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ.
أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد.
كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر..
ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟
من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟
ومن أدراني على يد من مات زياد؟
على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.."
فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟
في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.
شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة.
لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول.
شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج..
تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟
أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟
كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني..
لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت.
إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة.
رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها.
وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به..
ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة.
ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه.
ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ.
واجهة قماشية لمسكن من زجاج.
انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟.
بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك.
ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً.
ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس!
وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً.
أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه.
ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء.
لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟
من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟
وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك!
كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟
لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك.
ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق.
ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ (أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه.
أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني..
مربكة صور الموتى..
ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم.
فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم.
فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم.
فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم!
كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل.
تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا.
يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه.
وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة.
أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!"
ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة.
أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة..
كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟
كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة..
بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل..
كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب.
ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر.
من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟
كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى.
ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث.
ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته.
كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير.
قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة
|