كاتب الموضوع :
lonesome
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
عن العلم وشبه العلم
كتاب أنيق هو يحمل ذات الطابع (ابن الناس) الموحي بالثقة لدار المعارف، تلك التي بدأنا القراءة مع سلسلتها (كل شيء عن)... سلسلة علمية صدرت في الزمن الجميل كتبها عالم أمريكي محترم وترجمها عالم مصري محترم، والتي لم أندهش عندما وجدت أن عدد طبعات أجزاء منها تجاوز التسع, ثم كبرنا فعرفنا سلسلة (إقرأ) التي قدمت لنا المعلومة والأدب الراقي. لهذا كان لي الحق كل الحق أن أتحمس لشراء هذا الكتاب الذي يحمل اسم (أسرار الوحوش الخفية والإنسان العملاق - 1999) للدكتور (علي علي السكري) وهو من المهتمين بمفهوم العلم من الناحية الإسلامية كما تدل على ذلك مؤلفاته السابقة.
الصورة على الغلاف لديناصورات تتصارع، وهي منسوخة من غلاف سلسلة أخرى هي (الكتب العلمية المبسطة)، وبرغم هذا هناك اسم لمصمم الغلاف.. أما عن محتوى الكتاب نفسه فيلخصه المؤلف في المقدمة بقوله (الغرض من هذا الكتاب إثبات وجود الديناصور والرخ والصناجة والتنين وغيرها) .. تبدو العبارة غريبة طموحًا لكن لا توجد أحكام مسبقة في العلم. المهم هي طريقته العلمية في إثبات ذلك. يقول إنه اعتمد على كتابات القدماء مثل القزويني والدمشقي وسواهم. ويقول (الواقع أن ما حكاه هؤلاء ليس أساطير لأنها رؤيت رؤية العين وتم التعرف عليها وقياس أبعادها).
ثم يحدد الدكتور منهجه العلمي منذ البداية: "يقول العقاد في كتابه (الإنسان في القرآن): لعل الكشوف الكثيرة قد أقنعت أكثر الباحثين بأن الرفض بغير برهان أضر بالبحث من القبول بغير برهان"... طبعًا العقاد يتكلم عن القرآن الكريم وهو حالة خاصة جدًا، وقد استخدم الدكتور هذه العبارة ببراعة ليوحي بأن من يرفض مقولاته العلمية يمكن أن يرفض أشياء أخرى أكثر قداسة. لكن ما علاقة كلام العقاد بقصص حكاها القزويني والدمشقي ؟... لقد رسم البحارة في القرون الوسطى رجالاً في الهند لهم قدم واحدة يتواثبون عليها ويرفعونها في المطر لتحميهم، ووصفوا قومًا لهم رءوس كلاب يعيشون حول دلتا الجانج، ووصفوا ناسًا بلا رءوس عيونهم في صدورهم يعيشون في افريقيا، مع عمالقة لهم آذان عملاقة يمكن أن يتغطوا بها كالبطانية عند النوم... كل هذا معروف وموثق وهناك خرائط كاملة عليها هذه الرسوم. بمنطق الدكتور يجب علي أن أنفي وجود هذه الكائنات وإلا فهي موجودة .. منطق غريب جدًا .. المفترض أن البينة على من ادعى .. وهو ذات منطق الولايات المتحدة في بدء الحرب على العراق: على صدام أن يثبت أنه لا يملك أسلحة دمار شامل .. طيب لماذا لا تثبتون أنتم أنها عنده ؟
ينتقل الدكتور إلى مقدمة علمية رصينة جدًا عن الديناصور يختمها بالسؤال: هل اندثر الديناصور حقًا ؟ .. ثم يختمها بمقتطف من كلمات الإمام القزويني يحكي عن ظهور تنين عظيم في حلب عام 1226 ميلادية و426 هجرية، ويخرج من فمه نارًا تحرق الشجر والنبات. فاستغاث الناس بالله تعالى فأرسل سحابة حملته. يحلل الدكتور المعطيات بدقة ليصل إلى أن هذه الصفات تنطبق على ديناصور.. هكذا توصل الدكتور إلى وجود ديناصورات حية في حلب عام 1226 م، ومعنى هذا أن الديناصورات لم تنقرض مع نهاية العصر الطباشيري منذ سبعين مليون سنة. كل هذا التراث العلمي الجيولوجي والباليو إيكولوجي يهدمه الدكتور بضربة لازب، والسؤال هنا هو ماذا كان هذا الديناصور يعمل طيلة سبعين مليون سنة فلم يظهر إلا في ذلك العصر ؟.. لماذا لم يحك عنه مؤرخ آخر ؟.. أين آثاره ؟.. لكني لست متعصبًا يا سيدي .. لو أتيت لي من (حلب) بعظام ديناصور يثبت الكربون المشع أنها تمت للقرن الثالث عشر فلسوف أصدقك وأنحني احترامًا لك والقزويني معًا.
ثم ينتقل الدكتور إلى هدم نظرية فناء الديناصورات مستخدمًا كلامًا علميًا موثقًا.. هكذا تبتلع أنت شبه العلم وسط العلم الحقيقي، على طريقة قشر البطيخ الذي يقلونه مع السمك في الموالد، من ثم يأكل الطاعمون هذا الخليط على أنه سمك.
لكن وحوش الدكتور لا تكف عن الظهور مما يوحي بأن العالم العربي في العصرين الأموي والعباسي كان حديقة ديناصورات تتحدى حديقة (مايكل كرايتون) .. تنين آخر يظهر في نابلس يبدو من وصفه أنه فيل عملاق من نوع الماموث.. وقد كسر الأهالي نابه لذا سموه بلدتهم (نابلس) أي (ناب بدون)، على الطريقة الإنجليزية في إلصاق less بنهاية الكلمات بمعنى (بلا)..
ثم يقتطف مقالاً علميًا يحكي عن احتمال وجود أفيال عملاقة في أصقاع سيبيريا .. هذا ممكن يا دكتور في الأماكن غير المطروقة .. هناك ألغاز كثيرة على وجه الأرض، وهناك وحوش عديدة لم نرها من قبل، بل لا أستبعد وجود ديناصورات لم تنقرض بعد، لكن لا تقل لي إن هذا الماموث قد ظهر في نابلس فلم يره ويحك عنه إلا القزويني. هناك كتب كاملة عن رجل الثلوج المخيف (الياتي) و(الساسكواش) لكن العلم لا ينظر لهذه الأمور بجدية ما لم يجد رجل جليد كاملاً ويشرحه ويعرف كل شيء عنه، ولم يتخذها ذريعة لإصدار كتاب يؤكد أن الإنسان أصله قرد مثلاً.
الآن ننتقل إلى حيوان الصناجة، الذي ليس هناك حيوان أكبر منه والذي عاش في أرض التبت، والذي ما أن ينظر لحيوان آخر حتى يموت الحيوان، وإذا رآه حيوان آخر مات الصناجة. تصور هذا !.. حيوان حياته تتوقف على ألا يراه حيوان آخر !.. طيب وعايش إزاي ؟..وكيف يبحث عن رزقه ؟.. هنا يرى الدكتور أن الكلام دليل قاطع على وجود ديناصور في التبت..
هناك قصة أخرى حكاها (ابن أثير) عن الطائر الضخم الذي ظهر بعمان عام 985 م ووقف على تل وصاح بلسان فصيح: قد قرب .. قد قرب .. ثم غاص في البحر .. هذه القصة يأخذها الدكتور كحقيقة لا شك فيها على وجود ديناصورات مجنحة منذ ألف سنة ثم انقرضت .. طيب من قال إنها انقرضت ؟.. ربما هي ما زالت بيننا تبعًا لمنطقك ؟ ... أثبت لي أنها غير موجودة ...
هناك فصل كامل عن الرخ، وفصل كامل عن الناس الذين هم مشقوقون إلى نصف إنسان لأنهم من نسل النسناس (بن أميم بن لاوذ)، لكنهم يتكلمون ويقولون الشعر .. وهناك نساء بثدي واحد في جزر البحر الهندي وهي صفة تورث كما هو واضح .. وبعد كل قصة يقول: "هذه القصة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على وجود كذا وكذا ......"
ثم ينتهي الكتاب بمجموعة هائلة من المراجع ..
لماذا اهتممت بهذا الكتاب ومثله بالآلاف ؟.. السبب أنه لا ينتمي لتلك الكتب الصُفر الرخيصة، فناشره دار محترمة أثق بكل ما تنشره، ومؤلفه رجل علم قد بحث بحثًا مرهقًا بلا شك. من هنا مكمن الخطر لأنه كتاب يجيد التخفي في صورة كتاب علم., لقد بذل المؤلف كل هذا الجهد ليبرهن لنا على أن كل حرف قاله الأقدمون صحيح.. قد أقبل هذا بالنسبة لتفسير ديني أو فقهي، لكني لا أقبله بالنسبة لحقائق علمية تتعلق بالرخ والتنين الذي ظهر في حلب في القرن الثالث عشر .. خاصة إذا استخدم مؤلفها كل حجة علمية يملكها لإثبات أن هذا صحيح. على طريقة (سرعة الصوت هي ثلث كيلومتر في الثانية .. وهذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أبو رجل مسلوخة وجد في عصور تاريخية معينة) .. هذا يعطي القارئ ثقة بالكلام .. من المؤكد أنه كلام محترم مادام يقول (سرعة الصوت) وما إلى ذلك ..
المشكلة أن هذا بالنسبة لأكثرنا هذا هو العلم ولا علم سواه ..
في فيلم الأب الروحي مشهد يمسك فيه بابا الفاتيكان بقطعة حجر مبتلة فيهشمها، ويقول لآل باشينو: "هذا الحجر مثل أوروبا .. مبتل بالماء من الخارج لكن الماء لم يبلغ قلبه .. هكذا اوروبا لم تبلغ المسيحية منها موضع القلب برغم كل هذه القرون".. نحن كذلك عندنا شهادات عالية جدًا ولدينا أبحاث تحمل أسماء براقة .. لكن التفكير العلمي الممنطق الذي أهداه لأوروبا ديكارت وكانط بلل عقولنا من الخارج لكنه لم يبلغها قط من الداخل.
|