كاتب الموضوع :
lonesome
المنتدى :
روايات أونلاين و مقالات الكتاب
شيفرة دافنتشي: متى يتعلم الغرب الحرية منا ؟
أثبتت رواية (شيفرة دافنتشي) أن الغرب ما زالت أمامه أعوام طويلة حتى يتعلم الحرية منا نحن العرب، وحتى يقبل الرأي والرأي الآخر كما نفعل نحن بالضبط .. يا أخي متى يتعلم الفرنسيون والبلجيكيون وسواهم أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وأن رأيي قد يختلف عن رأيك لكني سأموت لأسمح لك بقوله ؟
ما أتكلم عنه هو نغمة الشماتة الواضحة في وسائل الإعلام العربية التي اكتشفت فجأة أن الغرب ضيق الفكر جدًا. فرحة غامرة تغمرنا لأننا والغرب سواء في التعصب وما فيش حد أحسن من حد.. دعك من الانتشاء بفكرة أن هذه الرواية وجهت ضربة قوية للمسيحية بيد واحد من أبنائها، وفات الكثيرون أن المؤلف سحب في نهاية الرواية كل ما قاله عن الفاتيكان، بل يتضح أن من قال هذا الكلام هو شرير الرواية الأساسي.
الحقيقة أن رواية (شفرة دافنتشي) - الرواية التي طبع منها عشرون مليون نسخة بخمسين لغة - قد تحولت إلى حمى تجتاح العالم.. وكان مرشدو متحف اللوفر أول من لاحظ ذلك؛ لأن الناس يأتون لرؤية مسرح الرواية ويسألونهم عن كل مكان ورد فيها .. مئات من المقالات كتبت عنها، وعشرات المواقع الالكترونية أنشئت خصيصا لمناقشتها. الفاتيكان نفسه خصص موقعًا إلكترونيًا للرد على ما جاء بها. دفع الكتاب أيضا ثلاثة مؤلفين غربيين للرد عليه من خلال ثلاثة كتب: (الحقيقة وراء شفرة دافنتشي)، (حل شفرة دافنتشي)، و(الحقيقة والخيال في شفرة دافنتشي).
(دان براون ) مؤلف الرواية ومعلم الإنجليزية السابق ذو الأربعين عامًا، يسيطر عليه في كتاباته هاجسان: فك الشفرات والمؤامرات الحكومية السرية، لذا جمع الاثنين للمرة الأولى في قصته (القلعة الرقمية) عام 1996 .. ثم قدم (ملائكة وشياطين) التي تدور بين مختبر سويسري والفاتيكان.. لكن رواية (شفرة دافنتشي) وثبت به إلى طبقة المليونيرات، وجعلته – حسب ترشيح (تايمز) – واحدًا من أكثر مائة شخصية تأثيرًا في العالم.
قرأت الطبعة العربية التي تملك حقها الدار العربية للعلوم في لبنان.. ورأيي الخاص أن الترجمة ليست سيئة إلى الحد الذي شاع عنها، لكنها مليئة بالأخطاء اللغوية، ولم تعرب (ذو) مرة واحدة بشكل صحيح .. دعك من الطريقة الشامية في حذف أدوات النداء واستبدال حرف الجيم على غرار (مايكل أنغلو) و(لانغدون) فهذه أشياء تضايق القارئ المصري عادة. في الحقيقة ليست الرواية إلا قصة بوليسية عملاقة فائقة الإمتاع وأنا أوافق بشدة الناقد البريطاني مارك لوسون الذي وصفها بـ (الهراء الخلاب)، فيما عدا هذا تتعامل القصة مع شخصياتها من السطح تمامًا .. التكنيك عادي جدًا هو (البناء المتوازي) حيث تتحرك ثلاثة خيوط لثلاث شخصيات وتنمو معها .. ثم تتقاطع هذه الخيوط قرب النهاية. بطل القصة أستاذ جامعي أمريكي لكنه يأتي بما لم يأت به الأوائل، ويدوخ شرطة فرنسا وإنجلترا ويهرب من كل موقف تقريبًا، والكاتب نفسه قال عنه إنه (يشبه هاريسون فورد) أي إنه كان يتحدث عن صيغة أخرى من (إنديانا جونز) عالم الآثار الوسيم خارق الذكاء الذي لا يمكن قهره أبدًا. يقولون إنها تشبه كثيرًا رواية – لم أقرأها – هي (اسم الوردة) للكاتب الإيطالي (امبرتو ايكو) وإن كانت الأخيرة كما يقولون أعمق وأقرب لروح الأدب. .
تدور (شيفرة دافنتشي) حول جمعية سرية - حقيقية بالمناسبة - تدعى (سيون) كان من أعضائها ليوناردو دافنتشي وفكتور هوجو ونيوتن، تحمي سرًا خطيرًا يمس العقيدة المسيحية، وآخر أفرادها هو القيم على معروضات عصر النهضة في متحف اللوفر، الذي يترك أثناء احتضاره رسالة لصديقه الأمريكي (لانجدون) عالم الرموز الدينية. هذا الأخير هو بطل الرواية الأساسي الذي يستدعونه في ظروف غامضة إلى اللوفر ليعاين الجثة . يستغرق الصراع في اللوفر حوالي نصف الرواية، وطرفاه المحقق الفرنسي الذكي العنيف (فاش) والعالم الأمريكي الذي يحاول فك الشفرات العديدة التي تركها له أمين المتحف المتوفى. هناك خط آخر تمثله منظمة (أوباس بي) الكاثوليكية المتطرفة التي ترسل رجلها الأبرص المخلص لدرجة الموت (سيلاس) لقتل من يعرفون هذا السر .
يبدو عجيبًا أن يكون مخ الرجل الذي مات صافيًا وهو يحتضر إلى حد إعداد هذه السلسلة العجيب من الألغاز، حتى ولو كان أعدها من قبل. لغز يفضي إلى لغز إلى لغز: أصل النجمة الخماسية .. الرجل الفيتروفي .. متوالية فيبوناتشي .. نسبة فاي ..هذه الألغاز المرهقة تدل على بحث دقيق قام به المؤلف في تاريخ الفن واللغويات والأديان القديمة، وهذا هو الجزء المثير في القصة الذي أنقذها من أن تكون مجرد رواية لأجاثا كريستي. يحاول لانجدون حلها جميعًا مع صوفي حفيدة أمين المتحف وشريكته في الفرار؛ هذا الفرار المذهل الذي يذكرنا بأفلام الأكشن .. يبدو أن علماء الرموز الدينية الأمريكيين يتدربون على العمليات الخاصة وفرق الصاعقة ضمن دراستهم الجامعية.
على أن الجزء الخطر من الرواية يبدأ عندما يعلن المؤلف الحرب على الفاتيكان.. بل إنه جعله يلعب دور الشرير Villain في أكثر القصة.. إن العالم الفار من الشرطة بتهمة القتل يتذكر فجأة صديقًا بريطانيًا هو السير (لاي تيبينج)، وهو خبير آخر في الرموز الدينية وقد أفنى عمره في البحث عن الكأس المقدسة. لا يبدو ظهور هذه الشخصية المفاجئ مبررًا لكن هذا يعطينا الحق في سماع محاضرة طويلة عن دور الإمبراطور قنسطنطين الروماني في إخفاء دور مريم المجدلية المحوري في المسيحية، وأنه هو الذي قلص دور المرأة في المسيحية عامة وجعل فكرة الأنثى والجنس مؤثمة في أذهاننا (قرأت نفس الاتهام لكنه كان موجهًا لبولس الرسول في كتاب قديم للراحل صلاح حافظ).. مع تلميحات كثيرة لموضوعات مثل العقيدة المثرية وعبادة الشمس ومفتاح الحياة .. الخ ... خلاصة كلام السير المذكور أن الكأس المقدسة ليست سوى السر الذي حرص الفاتيكان على إخفائه طوال التاريخ ليحتفظ بسيطرة دنيوية مطلقة على المؤمنين. أما دافنتشي فكان ينتمي لعقيدة عبادة الأنثى الخالدة.. إنها عشتار .. أستير .. إيزيس .. فينوس .. لهذا حرص في كل الرسوم الدينية على أن يدس رموزًًا وثنية خفية .. الموناليزا ذاتها ليست سوى كائن خليط من ذكر وأنثى معًا (لاحظ أحمد رجب هذا منذ ثلاثين عامًا في مقال ساخر له) .. واسمها مزج بين اسمي (آمون) و(إيزيس). وهنا نجد أن الرواية تخلط بين عقيدة الأنثى المقدسة وسر مريم المجدلية ذاته.
في النهاية يقدم الكتاب اعتذاره للفاتيكان بأن يتضح أن المخرج الأساسي للمسرحية هو السير (لاي تيبينج) نفسه؛ على طريقة القصص البوليسية البريطانية التي يكون القاتل فيها آخر شخص ممكن.. إذن المؤلف يعتذر في النهاية: لا ذنب للفاتيكان في سلسلة القتل ..هذه الجماعة المجنونة هي السبب .. الرجل الذي تكلم بالسوء عن الفاتيكان هو المجرم الأصلي .. بل أكثر من ذلك يفضل لانجدون ترك السر حيث هو.. لأن الإيمان مهم للبشر ومن دونه يضيعون. لكن لا يبدو أن أحدًا قرأ هذا الاعتذار أو اهتم به ..
هذا الاعتذار الواضح في آخر الرواية لم ينقذها من غضب (المركز الكاثوليكي للاعلام) في بيروت الذي طالب بمنع تداول الكتاب. وتم هذا بالفعل. وفي فبراير الماضي وفي بلدة (فنتشي) مسقط رأس ليوناردو أجريت محاكمة للرواية .. لكن لم تكن المحاكمة بسبب ما قيل عن الفاتيكان فيها بل بسبب اتهامها دافنتشي بأنه (شاذ جنسي متطرف)، وفي هذا الصدد عرض المحاضرون صورًا رسمها ليوناردو تثبت أنه كان – بلا فخر - يشتهي الأنثى. كما فندوا اتهام الرواية له بأنه اخترع أسلحة خطيرة .. ثم ظهر مندوب منظمة (أوباس دي) التي اتهمها الكتاب بالسادية والمرض النفسي، والتي تنتمي لها أبشع شخصيات الرواية: الأبرص (سيلاس) الذي يربط فخذه بحزام شوكي ليعذب نفسه والذي يطيع أوامر قسه طاعة عمياء كأنه تابع فرانكنشتاين.. دافع الرجل عن المنظمة وقال إن ما ذكر عنها في القصة هراء.
كل هذا الجو الفكري المنغلق أثار ذهول العرب الذين اعتادوا حرية الرأي حتى صارت طبيعة ثانية ثانية لهم .. لا أحد يصدق هذا الانغلاق الفكري ورفض الآخر.. ربما لهذا تخلف الغرب وتقدمنا نحن..
يقول أحد مواقع الإنترنت: "منع رواية (شفرة دافنتشي) في بلد يتمتع بحريات غير محدودة مثل لبنان، بحجة ان الرواية تسيء للفاتيكان كمؤسسة دينية، هي حجة واهية ولا تتناسب مع حرية الرأي والفكر والعقيدة، التي هي من ابرز سمات الدولة في لبنان! ". وينقل موقع سعودي خبرًا يقول: " قال كريس اليسون وزير العدل الاسترالي يوم الثلاثاء ان المسؤولين الاستراليين مزقوا نسخة من رواية «شفرة دافنتشي» للكشف عن مخدرات غير قانونية كانت مخبأة داخل نسخة للرواية الاكثر مبيعا بعد ان ارسلت الى استراليا من بريطانيا. ".. وعنوان الخبر يوحي بأن الحكومة الأسترالية مزقت الرواية لأنها لا تطيقها. هناك مواقع إنترنت تناقش الآن نظرة الغرب الدونية للمرأة تلك النظرة التي فضحتها هذه الرواية .. ترى لماذا لا تعامل المرأة على قدم المساواة مع الرجل مثل مجتمعاتنا ؟
الحقيقة أن هذه الرواية جاءت في وقتها لتقنع الفكر العربي بأننا (كويسين جدًا) وأن الغرب يعاني ذات عيوبنا وربما ألعن.. لكن على قدر علمي لم يطالب أحد بمصادرة الرواية هناك. لقد صودرت في بيروت لكن من قال إن اللبنانيين ليسوا عربًا ؟..
سيستمر (دان براون) في الكتابة .. ويبدو أنه لن يتخلى عن بطله (لانجدون) لأنه سيقدمه في قصة جديدة يواجه فيها الماسونية .. وهذا يدعم فكرة إنديانا جونز التي قلناها من قبل. ولسوف تغضب منه الجهات الدينية هناك... لكن هذا كل شيء.. لن يتطوع أحد بغرس سكين في عنق الرجل دون أن يقرأ روايته .. لن يضعوا كشك حراسة ينام فيه (بسطويسي) أمام باب بيته..لن يفر إلى هولندا مع زوجته بسبب دعوى حسبة .. لا داعي للشماتة إذن لأننا عائدون إلى دورنا المعتاد قريبًا.. سوف يكتب مؤلف عربي كتابًا ما يشعل الفتيل، ولسوف يصادر هذا الكتاب على الفور وبلا مناقشة .. من كان منا بلا خطيئة فليرجم الغاضبين على (شيفرة دافنتشي) بحجر !
|