المنتدى :
القصص القصيرة من وحي قلم الأعضاء , قصص من وحي قلم الأعضاء
جريمة قتل
ـ جريمة قتل (Murder) بقلم: فاسنثي (Vasanthi) لغة النص الأصلي: التاميلية (Tamil)
ولدت فاسانثي في العام 1941، نشرت أكثر من ثلاثين كتاباً في التاميلية، من بين أعمالها الإبداعية: أكاشا فيدوغال (Akasha Vedugal ، مونابويال Mouna Puyal ونيجانجال نيزها لاغومبوثو (Nijangal Nizhalagumbothu) .
فازت بجوائز كثيرة بما في ذلك جائزة أناندا فيكاتان (Ananda Vikatan) للقصة القصيرة، وجائزة أمودا سورابي Amuda Surabi للرواية. إنها كاتبة نشيطة مقروءة على نطاق واسع، تقيم في تشينَّاي (Chennai)
??
************************************************************ **************
شعر العجوز سومايا ثاثا (Somaeya Thaatha) بعينيه تتثاقلان. كان سيغرق في نوم مريح لو لم يبدأ هذا المغص المستمر في معدته. كانت الشمس لطيفة الحرارة رغم أن الوقت كان ظهراً. لقد نمت شجرة مارغوسا (Margosa) التي زرعت منذ زمن بعيد لغابة ما، وأصبحت اليوم شجرة طويلة غزيرة الأفنان مشكلة مظلة هائلة كجبل غوفاردان (Govardhan) الذي يجعله كريشنا (Krishna) عالياً شامخاً أبداً. يلطف ظل هذه الشجرة حرارة الشمس. وكان يقيم تحتها سومايا وسريره المصنوع من الحبال بصورة دائمة وثابتة. ويمكن أن يجده المرء على هذا السرير في جميع الأوقات ما عدا الأوقات التي يكون فيها مشغولاً بمراقبة العمل في حديقة الخضراوات الواقعة خلف البيت أو عندما يكون في البيدر. يوحي منظر هذا السرير بالعرش. والواقع أن سومايا ثاثا كان ملكاً في هذا المكان، وسيظل كذلك طالما أن الأرض مسجلة باسمه؛ وكان كل ما يقوله قانوناً.
وكان هذا المكان مريحاً لـه ومناسباً للجلوس فيه، فمن ذلك المكان يستطيع أن يراقب كل ما يجري في البيت، كان النسوة يتابعن عملهن دون ثرثرة طالما هو جالس هناك، خوفاً منه. كيف يدار البيت إن استمر النسوة بالثرثرة؟".
ورغم أنه كان متكئاً في السرير، كان يحرص ألا ينام، فيتقلب على جنبه. وكان صخب الأطفال يجعل المرء يظن أنه قد دخل إلى السوق. برغم كل هذا الضجيج فقد انتبه ثاثا فوراً إلى أن أزيز المجاريش التي كانت النسوة تطحن عليها الدخن قد توقف. فاستند مهتزاً صائحاً: "ما هذا الضجيج؟". ونظر إلى المنصة أمامه.
شرعت غوماثي (Gomathi) وناغا لاكشمي (Nagalakshmi) اللتان كانتا تجلسان قبالة بعضهما وبينهما المجرشة بالطحن ثانية، شعر بدفقة غضب:
"ما تلك الثرثرة التي تلهيكن عن عملكن".
تبادلت النسوة النظرات، وأطرقن رؤوسهن ولذن بالصمت. تمتعت ميناكشي (Meenskshi) التي كانت تطحن على جاروشتها قرب بقية النسوة إلى ساراسواثي التي كنت تجلس مقابلها: "للعجوز عينان كالشعلتين".
"هيا، أيها الصغار هناك، أليس عندكم مدرسة الآن؟".
"لقد عدنا الآن من المدرسة، ثاثا".
لاحظ أن بعض الصبيان كانوا في الزي المدرسي، وكانوا كلهم بالنسبة لـه "صبيان صغار" فهو لا يتذكر اسم أحد منهم، ولا يعرف أبناء من هم رغم أنه هو الذي عَمَّد كلاً منهم وأعطاه اسمه.
"ثاثا، لقد ولدت راجو (Raju) طفلاً.
"أية راجو هذه"؟
"حفيدة أخيك الأكبر، يرجى أن تسمي المولد الجديد".
"سموه ناثاراجان".
"هذا اسم ابنه الأكبر، وأنت سميته".
"حسناً، سموه إذن ثايا غاراجان(Thayagarajan)".
ذلك هو اسم ابن شاندران (Chandran).
"أي شاندران؟".
"أوه، دع عنك هذا".
وبعد "ليس هذا"، "وليس هذا" لا بد من اختيار اسم في النهاية، ولسوف ينسى الاسم كلياً في هذه الفوضى الضاربة، ومع ذلك ظلت ولادة أي صبي في الأسرة تدخل على قلبه السرور، وكلما ولد للأسرة مولود أتُي به ملفوفاً بقطعة قماش إلى شجرة المارغوسا ويوضع بين يدي ثاثا وهو جالس على سريره، فينظر ثاثا إليه لبضعة ثوان، مفتوناً بمشهد هذا التراب الذي صب حديثاً في قالب بشري، فإن كان المولود صبياً تضاعف فرحه.
ويخرج من محفظته المربوطة إلى وسطه روبية ويضعها في يد الطفل الرقيقة ويباركه، قائلاً: "عساك تكبر بصحة جيدة وحظ سعيد". حتى ولو كان المولود بنتاً، لا يكون ثاثا تعيساً بمولدها بغير حق، إذ ينبغي أن يتساوى عدد الإناث بعدد الذكور، وبذلك لا يحتاج ابن القبيلة إلى الزواج من فتيات من خارجها، لأنَّ الفتاة الغريبة تجلب الخطر معها، إذ تشق الأسرة، مثلما فعلت زوجة ثانغابان (Thangappan) الذي أقام لنفسه أسرة مستقلة ولكن هل حقق من ذلك أي شيء؟ إننا بحاجة إلى أطفال كثر. فهم قوة الأسرة، ومثلهم كمثل الجذور الهوائية التي تنعكس إلى الأرض فتنمو كأعمدة تسند شجرة البانيان (Panyan). لم يسمح ثاثا لعربة المشفى ذات المثلث الأحمر الاقتراب من بيته. ربَّما لا تكون أرض المرء أكبر من كفه، ومع ذلك فإنه بحاجة إلى الرجال كي يعملوا في الحقل. ولهذا انفجر كالزلزال عندما جازف كوماريسو (Kumaresu)، بعد تردد، فطرح فكرة الذهاب وزوجته إلى المشفى أمام ثاثا في يوم من الأيام.
"ثاثا، إنني وزوجتي ذاهبان إلى المشفى".
"لماذا؟ ما خطبكما؟
"لا شيء، يتعلق بصحتنا، بل نريد فقط استشارة الطبيب".
"ولم؟".
"لقد خَلَّفنا أربعة أطفال، وذلك يكفي... لا نريد المزيد".
رقص شارب العجوز غضباً.
"اسمع، مازلت حياً، ونابضاً بالحيوية، فهل بدأتم تقررون كل هذه الأمور من تلقاء أنفسكم؟ فإن خفضتم عدد أطفالكم، فهل هذا يعني أنكم تنوون استجلاب عمال خارجين ليعملوا في حقولكم؟".
"لقد أنجبنا من الأطفال ما يكفي لحاجات العمل في أرضنا".
نظر إلى جهة ذلك الصوت، فأخذ على حين غرة، لابدَّ أن واحدة من تلك النسوة الجالسات على المنصة الأمامية ـ واحدة من تلك النسوة اللائي لم يرفعن رؤوسهن المنهمكات في طحن الدقيق.
سأل كوماريسو: "أي امرأة تجرأت على قول ذلك؟".
فقال كوماريسو محاولاً التغطية عليها: "أوه، دع ذلك، يا ثاثا، لا تأبه به، فالحكومة نفسها تنشر هذه الرسالة في الشوارع، معلنة للناس أن مولوداً واحداً يكفي، ولا يجوز إنجاب أكثر من اثنين".
زأر العجوز وزمجر: "ماذا تتوقعون من حكومة تديرها عصبة لا تنفع لشيء؟ يجلسون جامدين لا يستجيبون لطلباتنا من القروض لحفر بئر أو لتركيب مضخة، ما يقولون سوى "لن نساعدكم وأنتم تعرفون ذلك جيداً، ولهذا لماذا تنجبون أطفالاً؟ انسوا موضوع المشافي الآن، اشغلوا أنفسكم بعملكم...
وقف كوماريسو مطأطئاً رأسه، يبدو أن شخصاً ممَّن هم على المنصة قال شيئاً. "
"من تلك المرأة التي تتذمر هناك؟".
كُنّ جميعاً منهمكات في عملهن، مقفلات أفواههن.
قال صبي صغير وهو يلف الخيط حول دُردوره: "إنهن يسألن، "هل نحن مجرد ماكنات تفريخ؟".
وعندما اندفع كوماريسو إلى الطفل رافعاً يده لضربه، هرب الطفل وهو يضحك، ارتعد العجوز من رأسه إلى أخمص قدمه.
"يا لـها من وقاحة، من تلك التي قالت ذلك؟".
نهضت ناغا لاكشمي (Nagalaksgmi) التي كانت تطحن الدخن محمرَّة الوجه، نظرت إلى أسفل المنصة ومن ثمَّ رفعت بصرها إلى العجوز ونظرت في عينيه مباشرة، في حين كان الباقون يراقبون ما سيحدث في هلع.
"أنا التي قلتُ ذلك". قالت ذلك ووجهها يتوهج حمرة وشفتاها ترتجفان.
لقد تجعد ساريها، فارتفع إلى ما فوق ركبتها بسبب الجلوس أربع ساعات متواصلة على الأرض تطحن الدقيق، وكان الجزء الذي يغطي صدرها مخروقاً.
وقفت والطحين يغطي جسمها حتى مرفقيها، ووجهها، ورأسها، يلفها في سديم أبيض جعلها ذات مظهر غريب مخيف.
نظر إليها ثاثا حائراً مرتبكاً، نحيف الجسم لا لحم يكسو عظمه، صارماً عنيفاً، وعلى الرغم من أن ناغا لاكشمي هي حفيدته ـ ابنة ابنته ـ لم تكلمه بحياتها وجهاً إلى وجه، كما أن قرابتها الوثيقة منه لا تستحق الآن أي اهتمام.
"هل ينبغي أن نستمر في حمل الأطفال كالغنم والبقر؟ ألا نحتاج لقليل من الراحة؟".
شعر العجوز بالغضب والانزعاج لدى رؤيته الجميع يقفون حوله في صمت مطبق.
"لقد بلغت الوقاحة بالنسوة مبلغاً هذه الأيام، هل لديكن وقت تقضينه في الثرثرة التي لا طائل منها؟ وإن كان لديكم فراغ أكثر فإنكن ستخرجن من البيت وتشاهدن أفلاماً سينمائية، خلق الله النساء للإنجاب ومتابعة النسل، لزيادة ذريتنا، وأنتم أيها الرجال، يا من لا حياء في وجوهكم، خير لكم أن تفهموا أزواجكم هذه الحقيقة، انصرفوا الآن، عودوا إلى عملكم جميعاً.
متجاهلاً وجود المرأة الواقفة أمامه مذهولة، التقط ثاثا دثاره من على السرير، نَفَّضه، وألقى به على صدره العاري، وضرب الأرض بعصاه صائحاً فيهم: "ليتبعني أحدكم إلى البيدر" وخرج. تفرق الجميع، وعادت كل منهن إلى عملها. وجاءت ناغا لا كشمي وجلست أمام جاروشتها. وجهها مفعم بالإذلال وكأنها عانت من هزيمة نكراء.
"أتعرفن كيف أشعر أحياناً؟ أشعر كأني ألوي عنق هذا العجوز".
لم تستغرب النسوة اللاتي كن يطحن الدخن ممَّا سمعن. بل ابتسمن وكأنهن سمعن نكتة، بيد أن شيلا (Chella) التي كانت تهز طفلها في سرير مصنوع من القماش أجفلت لدى سماعها تلك العبارة، لأنَّ الغضب البادي على وجه ناغا لاكشمي كان قوياً لدرجة تجعل كلامها أكثر من مجرد فكاهة.
قالت ناغا لا كشمي: "إن لم يكن بالإمكان فعل ذلك، فإن كل ما يمكن فعله هو أن ينهي المرء حياته". حتى هذه الإشارة قوبلت بالصمت من قبل النسوة، بدا كأنهن غير راغبات في قول أي شيء.
جعلت هذه الكلمات شيلام تتجمد خوفاً. ما الذي جرى للعمة ناغا لا كشمي اليوم؟ لقد أصيبت بالحمى من قبل وصارت تتشاجر مع كل الناس منذ ذلك الحين. عندما كانت الحمى تشتد عليها، كانت تتصرف تصرفات غريبة. فقد ألقت البطانية الصوفية عنها ذات مرَّة وأخذت تركض وتصرخ، قائلة: "شيلا ثايي Chella )
Thayi تناديني". أمسك بها والدها وعمتّان من عماتها وأعادوها إلى فراشها، ثمَّ أشعلوا البخور، والدموع تترقرق في عيونهم، وأقاموا لـها بوجا (Puja) وتوسلوا إلى ثاثا.
قال ثاثا: "لابدَّ أن ذلك من عمل روح شريرة. اذهبوا وعلقوا حزمة من أوراق شجرة المارغوسا على الباب". فقطعوا غصناً كاملاً من شجرة المارغوسا ووضعوه داخل البيت، كما أدخلت حزمة من أوراقها فوق الباب المقفل للغرفة التي كانت شيلا ثايي (Chella thayi) قد شنقت نفسها فيها.
أمَّا فيما يتعلق بأسباب هذه الحادثة، فليس لدى شيلام الصغيرة أيّة فكرة عنها.
وقعت الحادثة قبل اثنتي عشر سنة عندما كانت شيلام طفلة لم يتجاوز عمرها بضعة شهور. كان اسم شيلام أيضاً هو شيلا ثاثا. لكنه أصبح شيلام بعد أن شنقت شيلا ثايا نفسها. كانت عماتها يقلن لـها إن شبح شيلا ثايا يظهر من حين إلى حين، وكان يسمع الشبح في أحلك ليالي الشهر القمري الجديد، يبكي وهو جالس على شجرة المارغوسا. ومع ذلك، لم يؤذ ثاثا أبداً رغم أن ثاثا كان دائماً يجلس على السرير تحت الشجرة وكأنه ثبت هناك بمسمار. بل ربَّما كان الشبح يخاف من ثاثا، كما تعتقد شيلام، فضلاً عن كون الشبح أنثى، فهل من المحتمل أن يكون لدى امرأة ميتة القدرة على استجماع شجاعة لم تكن تملكها في أثناء حياتها؟ طبعاً، لا.
كان سومايا ثاثا يتذكر شيئاً ما، وهو ينظر إلى الأطفال يلعبون في زيهم المدرسي، كان يتذكر أنه حان وقت الغداء.
"هاي، هل تغديتم جميعاً؟".
"لا، ثاثا، لم يطبخ الرز بعد".
"أمر فظيع، لابدَّ أن الساعة الآن الواحدة والنصف، ألم يجهز الطعام، فماذا كانت هذه النسوة تعمل؟".
التقط العصا التي كان قد تركها إلى جانب سريره وغرزها في الأرض بقوة، ثمَّ وقف. انتفخ بطنه إلى الأعلى وبدأت معدته تقرقر، وزأر فيهن قائلاً:
"لماذا لم ينجز الطبخ حتى الآن؟".
خيم الصمت على فناء الدار ومن فيه لدى سماعهن هذا الزئير. إنه يألف هذا الصمت، ورده عليه مزيد من الغضب، وهكذا كان هذه المرَّة أيضاً.
وبينما كان متجهاً نحو المطبخ يتمتم: "يبدو أن الأمور خرجت عن السيطرة في هذا البيت". هاجمته فكرة مزعجة: "فكيف ستكون الأمور عندما تغمض عيناي إلى الأبد؟".
كانت رساما (Rasama)، زوجة راجو (Raju) تجلس خارج المطبخ تهرس الخضار المسلوقة والعدس. جلوسها في الحر قرب موقد الحطب جعل وجهها يصطبغ بحمرة داكنة.
"أهو دورك في الطبخ اليوم؟ لماذا لم يجهز الطبخ حتى الآن؟".
أجابته دون أن تكلف نفسها بإدارة رأسها نحو ثاثا، ودون أن تتوقف عن الهريس، قائلة: "ليس دوري اليوم، إنه دور كامالا أكا (Kamala-Akka) لكنها مرضت، فأحضروني من الحقل، وكان (علي) أن أسلق العدس بعد مجيئي من هناك ومن ثمَّ أطبخ الرز لـهذه الكتيبة الموجودة هنا، وهذا يستغرق وقتاً بالتأكيد، أليس كذلك؟".
سألها العجوز متجاهلاً عدم الرضا والإرهاق الظاهر في صوتها: "أية كامالا تعنين؟ زوجة كوماريسو؟".
"نعم".
"ما خطبها؟"
"الأمر العادي، دوخه وإقياء".
"حمل؟".
نادت برأسها موافقة دون أن ترفع رأسها، فقال العجوز، وقد شعر بالارتياح "أهذا كل ما في الأمر؟ كان بإمكانك أن تطلبي مساعدة طالما أن الوقت متأخر، أليس كذلك؟".
"لكل امرأة عملها منهمكة فيه".
"انظري إلى شيلام الواقفة هناك، إنها لا تعمل شيئاً سوى هز السرير؛ فلم لم تطلبي منها مساعدتك؟".
"لماذا تقوم بمثل هذا العمل وهي في هذه السن المبكرة".
"قيامها بمثل هذه الأعمال لن يؤذيها، فهي في النتيجة فتاة، وأظن أنها في سن تؤهلها للعمل".
"ما زالت في الثانية عشر، ثاثا".
"فقط اثنتا عشر سنة؟ كانت زوجتي في الثامنة من العمر عندما تزوجتها.
وكانت حينها تعرف كيف تطبخ الكولامبو (Kulambu) والرز، حسناً، متى ينجز الطبخ؟
"على وشك الانتهاء، يمكنك الانصراف الآن".
وما أن عاد إلى فناء الدار حتى أخذ ينادي بأعلى صوته: "شيلام، شيلام". عندما ركضت البنت إليه بسرعة وخفة كالسنونو ووقفت أمامه. نظر إليها شارد الذهن. لقد لفَّت طرف ساريها السفلي على وسطها وربطته كالكبار، وكان نهداها قد برزتا من وراء نصف الساري ذاك.
سألها: "ما ذاك الذي بيدك؟".
"كتاب". فتحته وأرته إياه.
"من أين أتيت به؟".
"إنه كتاب أخي الأصغر، كتاب مدرسي".
"لم تريدينه، أيتها البنت؟".
"أوه!! أتفرج عليه فقط، إنه جميل، فيه صورة جميلة، أشعر وكأني أقرأ فيه".
"دعيه. لا تضيعي وقتك بمثل هذه الأشياء التي لا نفع فيها ولا فائدة".
اعملي ما يناسب الفتاة فقط، اذهبي وساعدي رساما في المطبخ، صففي الصحون وصبي ماء الشرب، وكل ذلك. هيا اذهبي".
عندما عادت شيلامي إلى المنصة مطأطئة رأسها ابتسمت ناغا لاكشمي لـها ابتسامة ساخرة، شعرت شيلام بأنها أهينت.
شعرت بطعنة أسى وبالدمع يترقرق في عينيها.
يجب كسر رقبة هذا الثاثا، بالتأكيد، كما قالت العمة. اعترضتها في طريقها إلى المطبخ، بعد أن دست الكتاب في حقيبة أخيها، دجاجة تدفع بمنقارها إلى الأمام والخلف وتقود موكباً من الصيصان. طردتها شيلام بغضب، قائلة:
"كش، كش، أيتها التعيسة"، فتبعثر الصيصان وهم يصدرون أصواتاً تدل على الخوف.
انتهى إعداد الطعام أخيراً. عاد الأعمام والأخوال كلهم من الحقل وتناولوا غداءهم، كذلك أزواجهم اللائي ذهبن إلى الحدائق قد عدن وأخذن حماماً وتناولن طعامهن. وعندما عادت أخوات هؤلاء الرجال وتناولن طعامهن أخذت الجواريش التي نعمت بفترة هدوء قصيرة تئز مرّة أخرى.
خيم ثقل ما بعد الطعام على كل من في البيت، كانت العمات والخالات يجرشن وهن نصف نائمات، صدر شخير بسيط عن ثاثا الذي كان ممدداً على السرير تحت شجرة المارغوسا. لم يكن للأطفال أي أثر في أي مكان وكان الطفل حديث الولادة نائماً في مهده القماشي.
مَرَّت شيلام بالمطبخ، وفتحت البوابة الخيزرانية للفناء الخلفي، ودخلت حديقة المطبخ. وعندما قفزت إليها ممسكة بطرف خراطتها مارَّة بمساكب العكوب والبامية والبندورة، كانت الفراشات ترفرف من حولها. رفعت يدها لتمسك فراشة، فزلت قدمها في المسكبة الطينية فلوثت خراطتها بالطين، فقالت مخاطبة الفراشات: "انظرن، أيتها الفراشات، ماذا حدث كل ذلك بسببكن".
كانت الحقول تقع وراء حديقة الخضار. وكانت طيور السنونو تحط على عرانيس الذرة الناضجة. طردتها بأسلوب ثاتا (Thatta) : "ماذا؟! نحن نعمل وأنتم تسرقون؟! كش، انصرفوا".
حلقت طيور السنونو في الجو برشاقة. وما أن رفعت شيلام رأسها لترى الطيور، حتى كانت طيور السنونو قد اختفت برمشة عين وراء الجدار المشاد على طرف الحقل.
تمَّنت شيلام قائلة: "لو أن لي أجنحة لذهبت إلى هناك وعدت دون أن يلحظ غيابي أحد، ولن أحتاج عندئذ لإزعاج ثاثا أبداً".
هناك مضخة على ربوة في وسط الحقول الخضراء الكثيفة، فصعدت شيلام المنحدر بخطوات سريعة وكأنها مترلق، ولدى وصولها إلى القمة رأت المدرسة في الجانب الآخر. مدرسة بنات. بنات من جيلها يلبسن خراطات صفراء طويلة، وأنصاف سواري بيضاء. شعرهن مجدول جديلتين مربوطتين بشريطة صفراء، وأوحت الفتيات الحاملات كتباً في أيديهن إحساساً بالخوف في نفسها.
كان والدها قد قال لـها ذات يوم: "تلك مدرسة يديرها مسيحيون".
"ماذا تعني كلمة "مسيحي"؟
"إنهم أناس مختلفون؛ يعبدون إلهاً آخر".
"رجاء، دعوني أذهب إلى هناك، إنها قريبة جداً.
"لا، يا بنيتي، لن يسمح بذلك ثاثا".
"ولم لا؟".
"يقول إنهم يتبعون كتاباً مختلفاً كلياً عن كتابنا، وينبغي ألا يُقرأ ذلك".
"إذن دعوني أذهب إلى المدرسة التي يدرس فيها أخي."
"سيقول ثاثا، لا".
"أرجوك توسل إلى ثاثا كي يقبل".
أحال زئير غضب ثاثا ذلك اليوم الأغنام والأبقار والدجاجات والسنونو إلى صمت مطبق، حتى أوراق شجرة المارغوسا تجمدت بلا حراك.
"لا حاجة إلى تعليم المرأة، أبداً، أليس كذلك؟ فجرش الدُّخن والطبخ لا يحتاجان إلى مؤهلات".
"حسناً، يبدو أن البنت تواقة لذلك، ولهذا أعتقد أن بإمكاننا أن ندعها تتعلم حتى تبلغ سن الرشد، على الأقل".
"لا، لن نسمح بمثل هذه الأشياء، وكأن النساء قد بدأن يتحدثن بوقاحة، فإذا ما تعلمن، فإنهن يخرجن عن سيطرتنا، وسوف يتلطخ شرف الأسرة".
كانت المدرسة بادية للعيان أمام شيلام الواقفة على الأكمة.
رأت شيئاً كالسلة مثّبتة بعمود تلقي فيها البنات كرة كبيرة بالنسبة لأيديهن.
البنات أكبر سناً من شيلام، لا شك أنه لا يوجد ثاثا في بيوت هؤلاء الفتيات.
ففي هذا البيت لا تستطيع فتاة أكبر من شيلام أن تخرج من البوابة. والمتزوجات لا يذهبن إلى أي مكان سوى إلى العمل في الحديقة.
أمَّا العزباوات فليس أمامهن إلا أن يَدُرْن في أرجاء الفناء، هذا إذا وجدن فرصة للاستراحة من العمل قليلاً، كانت شيلام تذهب مع الأطفال الآخرين إلى مهرجان السيارات، وبعض المناسبات المماثلة في الهيكل، بيد أنها حرمت من ذلك منذ سنتين.
قال ثاثا: "لا حاجة لك بالذهاب إلى هناك، لم تذهبين كل سنة؟ وتزعجيننا بشراء هذا أو شراء ذاك؟ فهذا المكان ليس مفروشاً بالنقود، كما ترين".
هذا المكان قلعة. لـها باب ضخم ـ تماماً كالقلعة ـ باب مُلَّبسٌ بالقصدير ومدهون بلون الصدأ.
وفيما وراء ذلك الباب، يقع العالم، عالم الضحك والألوان والموسيقى. حيث تمشي النساء بشجاعة دون حماية أي ذكر. حيث يفتحن حقائبهن ويخرجن النقود ويشترين ما يشأن. حيث يلبسن حللاً حديثة أنيقة تحت سارياتهن وخراطاتهن، تماماً كبطلات الأفلام.
كانت شيلام تصف ذلك لعماتها وخالاتها عندما تعود من السوق، والمعارض، وهي التي أخبرت ناغا لاكشمي عن وجود صندوق أي شاشة صغيرة في الدكاكين، وعن عرض أفلام على تلك الشاشات، وأن والدها قال لـها إن الناس يشترون هذا الصندوق ويستخدمونه في بيوتهم هذه الأيام.
وضح رامو، ابن عمها الأكبر، الأمر بقوله: "هذا يدعى تلفزيون، وتستطيعون مشاهدة الأفلام وأنتم جالسون في بيوتكم".
جحظت عيون العمة ساراسواثي (Saraswathi) والعمة غوماثي (Gomathi) وتوقفتا عن الجرش مستغربتين: "ماذا؟ والناس في بيوتهم جالسون؟".
اعترضت العمة ناغا لاكشمي دون أن تتوقف عن الطحن قائلة: "انسين ذلك كله. تابعن علمكن، كلكن".
"ولكن، أتعرف، يا رامو، كم يكلف هذا الشيء؟".
"أكثر من ألف وخمسمئة".
"أو، الويل لي، هذا كثير، إه".
"قلت لكن أن تتابعن عملكن، أليس كذلك؟".
"ولكننا يا عمة نعمل عملاً شاقاً طول النهار محبوسات في البيت، فهل طلبنا مرّة أن يأخذونا إلى السينما؟ لا، فإن يشتروا واحداً من هذه الأشياء، يمكننا عندئذ الجلوس لمشاهدته مساء، ألا يمكننا ذلك؟".
"يا لك من غبية! وهل يستطيع أحد أن ينفق بيزة واحدة دون إذن ذلك القابع تحت شجرة المارغوسا؟".
طأطأت كل من ساراسواثي وغومثي (Goamthy) رأسها واستأنفت الطحن.
"أشعر كأني أهرب".
"أين ستذهبين؟".
كان الصمت هو الرد على هذا السؤال وكأنه لا جواب لـه.
"يكفي الحصول على تلفزيون، ولا حاجة للهرب".
"إذن لتقل كل منا ذلك لزوجها، فإن اجتمع الرجال كلهم وطلبوا ذلك من العجوز، يمكن عندها الحصول على تلفزيون.
ولكن، لا، لم يتم الأمر. الواقع أن المسألة لم تتعد العجوز ثاثا. والرجال أنفسهم لم يتفقوا على الفكرة. وقالوا يمكن صرف النقود على ما ينفع. فإن جلست النسوة لتشاهد التلفزيون فإنهن سيهملن عملهن. وأضافت جدة شيلاما لأبيها، وجدات أخريات القول: "انظرن إلى هؤلاء النسوة وهن يلهثن وراء هذا الشيء ووراء ذلك الشيء!! ما الذي يجعلهن مشهورات جدّاً بحيث يطلبن مثل هذه الأشياء؟".
كانت البنات في خراطاتهن الصفراء وأنصاف سارياتهن البيضاء، يقفزن ويلقين بالكرة وينفجرن ضاحكات. ربَّما تقبل شيلام ألا يكون عندهم تلفزيون شريطة أن يسمح لـها بالذهاب إلى المدرسة، ولكن لابدَّ من موافقة ثاثا ووالدها حتى على هذا الأمر.
أعلن ثاثا ذات يوم تصريحاً عاماً: "المال والنساء يجب أن يقفل عليهما بالمفتاح، وإلا وقعت في المزالق".
كانت طيور السنونو تحلق فوق عرانيس الذرة.
"ألا يموت، هذا العجوز؟".
"أبداً، أبداً هكذا بدا كأن السنونو تجيب على السؤال بزقزقتها. وبدا كأنه ما لم يكسر أحد عنقه؛ كما قالت العمة ناغا لاكشمي، فإنه لن يموت. وإلا فما على المرء إلا أن ينتحر، ليتخلص من حياته، كما فعلت شيلا ثايي، ولكن لماذا شنقت نفسك، يا شيلا ثايي؟
رن الجرس في المدرسة، تدفقت الفتيات خارجات من المدرسة في أزيائهن البيضاء والصفراء كالفراشات. رفعت شيلام يديها وكأنها تطير. أصبحت واحدة من ذلك الجمهور إذ اندمجت نفسها بأنفسهن.
"هاي، شيلام، صحا أخوك الصغير وأخذ يبكي، تعالي، لقد ذهبت أمك إلى الحقل".
قالت شيلام دون أن تتحرك: "دعيه يبكي".
كان سومايا ثاثا يحوم بين النوم واليقظة. كانت ليلة ساكنة قاسية لا نسمة فيها: تذكر أن يومين قد انصرما، ويوم قمري جديد، وظلام حالك. كانت البعوضات تئز فوق رأسه مباشرة، سحب الملاءة حتى عنقه لكي يغطي وجهه، كانت أذناه مشنّفتين، رغم أن عينيه مغمضتان، يقظتين حذرتين تسمعان أدق الأصوات. بكاء الأطفال في ركن أقصى الأماكن في البيت، وجلجلة الأساور والخلاخيل، ونباح كلاب الشوارع؛ حتى تنفس البقرات في زريبتهن كان يسمعه في بعض الليالي بوضوح. كان من عادة ثاثا أن يأخذ عصاه ويسير مشاوير طويلة عندما يأرق في الليل ولا يستطيع النوم. وكانت رائحة الأرض المسمَّدة، والأبقار والأغنامfأبداًأاا في الزريبة، وبكاء الأطفال، تدب الحياة في عقله.
نام هذه الليلة نوماً متقطعاً؛ ولو نهض لـهجره النوم تماماً.
صوت بكاء. استيقظ ثاثا على الفور، أزاح الغطاء عن وجهه. ونظر حوله، لم يعرف مصدر صوت البكاء، هل من البيت؟ أم من شجرة المارغوس؟
تصبب جسمه عرقاً، بصورة مفاجئة. كأنه صوت امرأة تبكي. كانت الشجرة ساكنة كوحش أسود. ربَّما يكون عواء كلب ـ عواء ضعيف يائس وكأن الكلب قد تعرض للضرب. ربَّما يكون حلماً سيئاً، فليس ما يمنع الكلب من الحلم.
***
قلب ثاثا نفسه على جنبه. عيناه مفتوحتان، البيت كظل ـ كأنه ظل وحش أسود. كان التعامل مع هذا الوحش في النهار أسهل وأيسر. (آمّا) في الظلام فقد بدا مخيفاً وخارج نطاق قبضته. تولد الأسرار من هذا الظلام ـ الأسرار التي أفلتت منه، فأخذت ترتاد المكان (كالا)شباح. ومن المصادفة أن كان النساء هن هدف هذه الأشباح.
"هل نظل نحمل بالأطفال كالغنم والبقر؟" ترددت هذه العبارة في ذاكرة ثاثا فقال في نفسه: "حسناً، هل هي هذه الطريقة التي تتكلم فيها المرأة؟". وأخذ غضبه يتعاظم، وتابع حديث النفس: "لا، إنه الشبح الذي كان يتكلم. حتى تلك البنية الصغيرة ـ شيلام ـ قد بدأت تسأل أسئلة غريبة. بالمناسبة، هل كان اسمها شيلام، أم شيلا ثايي؟ سرت في جسمه رعشه كأنها هبة ريح مفاجئة. في تلك الغرفة المغلقة التي تبدو أمامه كصورة ظليلة في الظلام شنقت نفسها شيلا ثايي البالغة من العمر الرابعة عشر. فتاة بلهاء، لم شنقت نفسها؟ كان والدها يفتخر بأنها فتاة ذكية وكانت ستتخرج في المدرسة لو كانت صبياً، وكانت تقفز كطائر مرح في الحقول والغابات. ولكن ليس من المناسب لبنت أن تخرج إلى ما وراء ذلك الباب الأمامي، عندما تبلغ سن الرشد. ذلك ما قلته لـها، وكان ذلك ما أثار غضبها. ولكن هل يعد هذا سبباً لأنَّ يموت المرء؟ والآن، هاهي قادمة تبكي".
بدا كأن أوراق الأشجار قد تحركت، نهض ثاثا مذعوراً، وبدا لـه كأن ظلاً حالكاً يسير إلى جانبه، فتصبب عرقه ثانية، ودب الهلع في قلبه وقبض معدته.
قال بلسان مرتجف لا يكاد يوضح الكلام: "من هناك!".
أسرعت الظلال.
"أغربي، يا شيلا ثايي، سأقدم لك قرباناً، أرجوك انصرفي".
ارتخت ساقاه، وتبلل جسده بالعرق. وعندما استيقظ في الصباح، كانت الشمس تسطع حارة على وجهه.
وعندما عاد في الظهيرة بعد جولة قام بها في الحقول، هرعت إليه ساراسواثي فاتحة فمها تقول:" العمة كاملا مريضة، لا بد من أخذها إلى مشفى المدينة".
"لماذا؟ ما خطبها؟"
"إنها تـنزف، حرارة عالية، هذيان".
"ظننت أنها حامل".
"كانت، ولكنها أجهضت".
"متى؟"
"الليلة الماضية".
تذكره لما رآه في الليل جعله يرتجف ثانية، فقال: ربَّما كانت هجمة من روح".
"لا، ثاثا يجب أن تؤخذ إلى المشفى، على الفور".
"لقد سمعت ما قلتُه. اذهبي وأدخلي حزمة من أوراق المارغوسا في عتبة البيت، وسوف نقدم قرباناً لشيلا ثايي اليوم".
انفجرت ساراسواثي بالبكاء.
"ما بالك أيتها المرأة؟ لم تبكين؟".
"ليس شبحاً، وليست روحاً، لابدَّ من أخذ العمة إلى المشفى. ذهب الرجال كلهم إلى الحقول، وليس في البيت ذكر، حتى الأطفال ذهبوا جميعاً إلى المدرسة".
فرد عليها ثاثا غاضباً: "وماذا تريدينني أن أفعل؟ عليكن الانتظار حتى يعود الرجال. أعطها مغلي الزنجبيل الجاف. كيف يمرض المرء فجأة هكذا؟"
حشت ساراسواثي طرف ساريها في فمها وأخذت تنتحب.
لاحظت شيلام التي كانت تهز سرير أختها الصغيرة أن الكرب يعلو وجوه عماتها، إنهن يشتركن في سرٍ ما، إذ كن يتحدثن همساً. ولدى سماع شيلام ضجة في الممر الأمامي هرعت لتستكشف الأمر. عاد العم راجو من الحقول، فعادت راكضة وأخبرت عماتها: "عاد العم راجو".
هرعت ناغا لاكشمي وساراثواي على الفور إلى الممر الأمامي حتى دون أن تنفضا عنهما الطحين، كما لم تلاحظا أن شيلا قد لحقت بهما.
قالتا: "يجب أخذ العمة كامالا إلى المشفى فوراً".
"ما الخطب؟".
عقد الخوف لسان العمة ناغا لاكشمي: "يبدو أنها طلبت الممرضة الليلة الماضية لتجهضها" فأفسدت الممرضة كل شيء.
أخذت العمة ساراسواثي تبكي، بدت الصدمة واضحة على محيا العم راجو.
"إذن، شرعتن أيتها النسوة بفعل كل ذلك؟ أليس كذلك؟".
"رجاء، رجاء، لا تسأل شيئاً الآن، بل خذها إلى المشفى فوراً، ولا لزوم لإخبار ثاثا بتفاصيل ما حدث".
وما إن حصل العم راجو على النقود من ثاثا وعاد بتكسي، حتى كانت ستائر المساء قد أسدلت، كان السقف يهتز من صراخ العمة كامالا.
آوت الدجاجات والصيصان إلى أقنانها وجثمت صامتة. ورفضت الغنمات والبقرات إعطاء حليب بسبب ما أصيبت به من هياج.
ظل ثاثا يكرر: "سوف نقدم قرباناً إلى شيلا ثايي... كانت النسوة في البيت "عمات وخالات" يبكين وكأن شخصاً ما قد توفي. ربَّما كان هذا هو سبب عدم مقدرتهن على البكاء عندما أعيد جثمان العمة كامالا من المشفى في منتصف الليل، بل على العكس عكست عينا العمة ناغا لاكشمي غضباً وكرهاً شديدين.
لم يبك إلا العم تانغاراسو (Thangarasu) الذي أخذ يلطم على رأسه، ويقول: "أوه، أنا الملوم، أنا المذنب".
صدم الأطفال وذعروا. وعندما لم يعودوا قادرين على مقاومة النوم لفَّ كل منهم جسمه على نفسه ونام حيث اتفق. لم تشعر شيلام بالنعاس. كان ما سمعته من العمات والخالات من كلام وما رأته من بكاء خارج نطاق سيطرتها.
أصيبت بمغص شديد في معدتها لدى رؤيتها العمة كامالا سليمة معافاة مبتهجة صباح اليوم السابق، ورؤيتها الآن لـها وهي جثة هامدة لا لون في وجهها. ربَّما تكون كامالا قد ماتت للسبب نفسه.
كانت عينا سومايا ثاثا مثقلتين بالنعاس. وذهب كل من كان في الفناء إلى النوم. وكان نواح تانغاراسو يسمع متقطعاً ولكنه خمد فيما بعد.
لم يحدث هذا النوع من الموت في البيت من قبل. هكذا أخذ ثاثا يفكر، حتى إنه لم يحدث إسقاط في أي وقت. لا شك أن هذا من فعل الأرواح الشريرة.
لهذا أحس بقشعريرة خوف أول أمس عندما رأى شيئاً يتحرك في الليل كالظل، ولهذا نطق لسانه اسم شيلا ثايي. كان ينبغي أن يرتب أمور القربان أبكر من ذلك. كان مخطئاً إذ أهمل الأمر.
لقد اقتحمت فكرة ثانغابان (Thangappan) وعيه الآن.
كان رجلاً قوياً، حسن البنية، لم يجدوا فتاة مناسبة لـه في القبيلة، فأتوا لـه بزوجة من مادوراي (Madurai). كانت المرأة مثقفة نوعاً ما، وكانت تسأل عن كل شيء، وبدا كأنها تؤثر فيه. وقف ثانغابان ذات يوم كالعمود أمام ثاثا قائلاً: "سوف نرحل من هنا لنقيم بيتاً لنا مستقلاً".
صدمة العمر لثاثا، إذ صاح فيه ثاثا قائلاً: "كيف تجرؤ على مثل هذا الكلام؟" وبينما وقف الجميع صامتين، وقف تانغابان، متحدياً، لدى قول زوجته: "هذا سجن، إنه بيت مسكون، أملنا الوحيد في الراحة هو النجاة من هذا البيت". تذكر ثاثا، الآن، كيف تبع تانغابان زوجته وخرجا من البيت.
لم ير ثاثا أنه من الممكن الصفح عن تانغابان وزوجته حتى اليوم، ولم يراوده الفضول ليعرف أحواله، هل هي سيئة أم حسنة، ولكن هل يفلح رجل يصغي إلى زوجته؟ تذكر زوجته سورنام (Sornam). كانت صامتة كالبقرة في الزريبة، لم تخالفه بأمر قط، والحقيقة أنه لا يتذكر أنها تكلمت بحياتها أصلاً.
أنجبت لـه عشرة أطفال شاعرة بأنها ملزمة بذلك.
وعلى الرغم من أن أذني ثاثا تستطيع سماع جلجلة الخلاخيل الخفيفة، وخشخشة القماش، وقشعريرة الهواء، كانت عيناه متعبتين مثقلتين غير قادرتين على أن تظلا مفتوحتين. أحس بشيء على عنقه، شعر بشيء ثقيل يسحقه، ارتجف جسمه.
حلم؟ أم حقيقة؟ فتح فمه خوفاً، وأخذ يصرخ: "شيلا ثايي، اتركيني، أرجوك، سأقدم لك قرباناً. ولكنه أحس كأن شخصاً ما قد خنق الكلمات، حاول أن يفتح عينيه ويصرخ، ولكن محاولته ذهبت سدى.
عندما استيقظت شيلام في الصباح، كان ثاثا مُسجّى على المحفة بجانب العمة كامالا. كان مقمَّطاً بقماش أبيض، لم يظهر منه إلا وجهه. كان الجيران يجلسون في الساحة الأمامية.
كانت النسوة مطأطئات رؤوسهن جميعاً، لا يتكلمن حتى لأنفسهن.
كانت جدة شيلام لأبيها تبكي وتقول لشخص ما: "ظل يئن قائلاً سأقدم قرباناً".
كان باب المدخل الملّبس بالقصدير مفتوحاً على مصراعيه.
ترجمة: غوماثي نارايانان (Gomathi Narayanan)
|