المنتدى :
الدراسات والدواوين الشعرية
المعذب في الشعر العربي الحديث
ينشأ العذاب من وعي الإنسان لذاته في ظروف موضوعية واجتماعية تقف حائلاً دون تحقيق هذه الذات بالصورة التي تريد، ومن ثم فإن الواقع عنده مصدر للشرور التي أنتجتها العلاقات الاجتماعية والظروف الموضوعية السائدة.
ولاينطوي (المعذب) الذي تتراجع لديه قيم البطولة إلى درجة كبيرة على البطولي، والمثل الأعلى عند (المعذب) صعب المنال إذا ماقيس بالمثل الأعلى عند (التراجيدي)، ففسحةُ الأمل عند (التراجيدي) أوسع من تلك الموجودة عند المعذب. إذ يقترب (المعذب) في ظرف ما من مرحلة الانسحاق، بيد أن (المعذب) ليس ذليلاً أو وضيعاً، فعذاباته قائمة على صراع داخلي عميق محاولاً إعادة التوازن إلى ذاته المغتربة عن الظروف الموضوعية والاجتماعية.
والحقيقة أن عدم إمكانية أن يتحول (المعذب) إلى (جميل) و (بطولي)، بالمعنى الذي طرحه التيار الواقعي من الشعر الحديث، أي في أن يتحول إلى شخصية ثورية، وعدم قدرته على الاندراج في عالم القبح أيضاً، هو الذي يجعله معذباً، بمعنى أن إحساسه بفرديته يقف حائلاً أمام تحوله إلى ثوري جميل بطولي، وكذا فإن رفضه الجذري لعالم القبح والتفاهة، يمنعه من أن يكون قبيحاً أو تافهاً(1).
وقد يتعمم العذاب ليشمل الكوني والميتافيزيقي، وبذلك تتسع دائرة الصراع الداخلي لدى (المعذب) انطلاقاً من البيئة الاجتماعية، التي تقف حائلاً دون تحقيق الذات المعذبة.
لقد طرح الفن والأسطورة إضافة إلى البطل التراجيدي البطل المعذب، ذلك أن هذا الأخير يقوم في حياته بأفعال عبثية سلبية تدل على المزاجية وليست ذات قيمة اجتماعية، فعلى الرغم من أنه قوي على الصعيد الجسدي فهو معذب على الصعيد الروحي، ويُعاقَب على أفعاله هذه بعذاب أبدي تفرضه الآلهة (إشارة إلى أسطورة سيزيف)، بيد أن البطل التراجيدي إيجابي ويقوم بأفعال ذات قيمة اجتماعية هامة، وهو ممتلئ بالحياة وبالدوافع الثورية (إشارة إلى أسطورة بروميثيوس البطل التراجيدي الجليل)، كما أن (المعذب) قيمة جمالية قد تنطوي تحت قيم أخرى كالتراجيدي، وذلك استناداً إلى تداخل القيم الجمالية فيما بينها.
لقد شهد العصر الوسيط في أوروبا ظهوراً مميزاً للمعذب، حيث تحدث الفن في تلك المرحلة عن "التناقض بين وعي الشعب المتنامي وبين إذلال النظام له وإهانته لقيمه الإنسانية باستمرار. وصورةُ الإنسان المتألم المهان كانت الصورة الأساسية فيه، وهي تقف أمامنا مناقضةً للصورة الفنية في المجتمع العبودي، صورة البطل القوي الكامل ذي البنية الجسدية التامة، الذي لايفقد، حتى في العذاب، توازنه الهارموني وقوته الجميلة" لقد ارتبط الفن في العصور الوسطى بالانتقال من مرحلة العبودية إلى المرحلة الإقطاعية.
كما أن الفن عامة والأدب خاصة قد شهدا أيضاً ظهوراً مميزاً (للمعذب) في القرن العشرين وفي مختلف الأجناس الأدبية، فتسارعُ الإنجازات العلمية المذهل الذي رافقه الدمار الناجم عن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد ولَّد لدى الفرد شعوراً بالغربة والخوف من المستقبل القادم.
وكان للشعر العربي الحديث -من بين الأجناس المختلفة -نصيب وافر في عرضه لمفهوم (المعذب) بتجلياته المختلفة (الاغتراب، والقمع، والاستلاب الخ...) حيث شكَّلتِ الظروف السياسية والاجتماعية حاجزاً أمام الفرد الذي فَقَدَ توازُنَه النفسي أمام مجمل تلك الظروف.
للتحميل من هنا
|