اتسعت أعين جميع رواد الحافلة المزدحمة حينما توقفت في محطتها المعتادة ليطالعهم وجه الفتاة بارعة الحسن التي استقلت الحافلة في بساطة لا متناهية بينما ارتسمت على وجهها الرقيق ابتسامة أكثر رقة كما لو أنها تهم بركوب سيارتها الخاصة شديدة الرفاهية والتي توقفت برهة بجانب الباب ولم تكد تلقي بنظرها نحو ساحة الحافلة المزدحمة بالبشر حتى أعادت نظرها إلي الخارج مرة أخرى كأنما تهم بالنزول ولكن يبدو أن تحرك الحافلة نفسها في تلك اللحظة قد أحبط عزمها فلم تملك إلا أن أعادت نظرها نحو الداخل مرة أخرى في استسلام ولم تكد عيناها الجميلتان تقعان على المكان مرة أخرى حتى بدا كما لو أن موجة كهربية قد سرت في الجميع ... حيث اندفع الركاب في كل الاتجاهات لا شعورياً وهم يحملقون في ملامحها بأسلوب عجيب وفي ثوانٍ معدودة كان ممر صغير يتوسط الحافلة فألقت نظرة نحو " الكمسري" الذي تجمد وجهه وهو ينظر نحوها وبدا كما لو أنه صورة مجسمة للبلاهة وهو يتناول منها ثمن التذكرة قبل أن يمد يده بها نحوها في بلاهة أشد حتى أنها رسمت علي وجهها ابتسامة أكثر رقة اختلجت لها قلوب الجميع وهي تتابع هيئته في تعجب مما دفع أحد الركاب مال على جاره قائلاً:
ـ هو الأتوبيس احلو النهاردة ولا أنا اللي بيتهيأ لي ..؟
بينما تصلب وجه آخر وهو يحملق فيها ببلاهة حتى فاجأته قبضة زوجته البدينة التى تجلس بجانبه والتي هوت على رأسه كالمطرقة قبل أن تقول ساخطة:
ـ أنت بتبص فين ..!! .. بص لي هنا يا منيل ..
حملق في وجهها للحظات بامتعاض ثم نظر أمامه مكرهاً قبل أن يحاول استراق النظر بطرف عينيه مرة أخرى فهوت عليه قبضة زوجته مرة أخرى بضربة أشد ..
أما الفتاة نفسها فقد بدأت في التقدم داخل الحافلة بينما انطلق
عبير عطرها الثمين يفوح في المكان وقبل أن يندفع أحدهم من مكانه ليفسح لها مكاناً لتجلس فيه ولم تكد تتوسط الحافلة حتى ارتطمت حقيبة يدها الصغيرة بأحد الأعمدة المعدنية التي تتوسط الممر فانفلتت ثم انفرطت كل محتوياتها علي أرضيه الأتوبيس ... وقبل أن تفكر في الانحناء لجمع محتوياتها كانت أيادي الجميع تسابقها حتى أن البعض قد ارتطم بها لا شعورياً وفي ثوانٍ معدودة كانت الحقيبة قد عادت بكامل محتوياتها ... ولم تكد تتناولها حتى كانت الحافلة تعلن توقفها في المحطة التالية ... فاندفعت تغادر الحافلة علي عجل بينما تابعتها الأعين في حسرة علي المدة القصيرة التي مكثتها في الحافلة والتي بدت لهم جميعها كالحلم بينما أمسكت الزوجة البدينة بوجه زوجها وأدارته ناحيتها وهي تعدل من هيئة شعرها في دلال ... ولم تكد تمر لحظات قليلة حتى تعالت صرخة من وسط الحافلة
ـ حافظة نقودي .... حافظة نقودي ...... لقد سرقت .... سرقتني الفتااااااااااااااة
ولم تكد الصرخة تنتهي حتى تعالت صرخة ثان ...
وثالث ...
ورابع ...
وخامس ...
* * *
ـ لم يكد الدكتور ( فريد ) يتفوه بعبارته حتى زوى (ممدوح) حاجبيه في تساؤل وهو يحتفظ بمدفعه في نفس وضع التأهب حتى أن ملامح الدكتور (فريد) نفسه قد لانت عن ابتسامة حينما قرأ التساؤل في عينيه ثم أتبع بنفس الهدوء بينما تخلت إحدى يدي (ممدوح) عن التشبث بالمدفع وبدأ يحك أحد جانبي ذقنه في هدوء ثم تسارعت الحكة بينما أجاب الدكتور (فريد):
ـ لا تدع معرفتي لاسمك تثير تعجبك حتى لا يصيبك الذهول حينما أفاجئك بمعرفتي الكاملة شديدة الدقة لتفاصيل حياتك ..
أما ( ممدوح) فقد أهمل عبارته بقدر الإهتمام الذي ازداد به تركيزه في يده التي انتقلت من حك جانب ذقنه إلي حك رأسه بنفس الهمة وتابع الدكتور (فريد) بقدر كبير من الذهول يده الأخرى التي انضمت لسابقتها وذلك النهم الذي بدأ يحك به جميع جسده حتى أنه تراجع للخلف قليلاً في توجس حقيقي قبل أن يقول :
ـ هل تعاني متاعب من أي نوع يا (ممدوح) ..؟!!
أما (ممدوح) نفسه فقد أهمل عبارته وهو ينهمك في حك جسده بشراسة أكبر حتى أن الدكتور (فريد) قد تراجع للخلف أكثر وهو يقول:
ـ ألم تستحم منذ عشر سنوات يا (ممدوح) ..؟!
لم يلتفت (ممدوح) ناحيته هذه المرة وهو يجيب:
ـ لا تبالغ يا سيدي .. الأمر لم يصل بعد إلى كل هذه المدة الطويلة
ازدرد الدكتور (فريد) لعابه في خوف حقيقي بينما طرق صوت (ممدوح) مسامعه وهو يقول:
ـ لا ريب أن طبيعة الجو باتت غير مناسبة هذه الأيام حتى أني بدأت أعاني من الحكة بصورة مبالغ فيها مؤخراً
ازدرد الدكتور (فريد) لعابه للمرة الثانية وهو يتراجع للخلف أكثر بينما كف (ممدوح) عن حك جسده بغتة وتشبث بالمدفع مرة ثانية في وضع تأهب ثم قال في توجس أكثر كأنما تذكر ما قد نسيه مرة أخرى:
ـ ألن تخبرني عن سبب تشريفك لي بهذه الزيارة؟
حاول الدكتور (فريد) أن يجيب ولكن مشاعر التوجس لم تنقشع من داخله خاصة حينما اقترب (ممدوح) منه بضع خطوات كانت كافية لأن تتقلص عضلات وجهه ثم ارتدت يداه نحو صدره لا إرادياً قبل أن يهز رأسه بالنفي لا إرادياً ثم يتبع بنفس التوجس:
ـ أرى أن نتحدث على هذه المسافة أفضل
لم يع ِ (ممدوح) مغزى عبارته وهو يتبع:
ـ أخبرتني منذ لحظات أنك تعرف عني كل شيء علي حد قولك فما الذي تعرفه عني على وجه الدقة ...؟!
اتسعت ابتسامة الدكتور (فريد) مرة أخرى كأنما يحاول أن يتصنع الغموض من جديد ... كان هذا قبل أن تنطلق يد(ممدوح) لتحك مؤخرة رأسه بنفس همته السابقة مما جعله يتراجع للخلف وقد عاودته مخاوفه من أن يعيد الكرة مرة أخرى لكنه وعلي غير توقعه أنهى ذلك سريعاً ثم نظر نحوه مباشرة وبدا كما لو أنه يتفرس في ملامحه مما جعله يسأله بعمق شديد:
ـ أخبرني يا (ممدوح) ماذا تعرف أنت عن (أدهم صبري) ...؟؟
تصلب جسد (ممدوح) لثوان وبدا كما لو أنه يترنح حينما طرق الاسم مسامعه وأمام عيني الرجل الذاهلتين تحجرت عينا (ممدوح) علي نظرة عجيبة لم يرَ الدكتور (فريد) مثلها من قبل وهو يتبع هدوء:
ـ يا لها من أيام ... يا لها من أيام ..
ثم هز رأسه في أسى والتقط نفسا شديد العمق وأطرق برأسه نحو الأرض قبل أن يأتيه صوت الدكتور (فريد) مرة أخرى متسائلاً:
ـ ماذا تعني يا (ممدوح) ... ولما كل هذا الحزن؟
رفع (ممدوح عينيه نحوه لثوانٍ ثم قال بأسي :
ـ يكفي أنني لم أكن وقتها ألقي بالاً من أين سأحصل علي القوت الضروري كهذه الأيام ...
حدجه الدكتور (فريد) بنظرة متعجبة أعطته دافعاً ليتساءل:
ـ خبرني أولاً لما هذا التساؤل ..؟!
تطلع الدكتور (فريد) في وجهه لحظات قبل أن يجيب قائلاً:
ـ إن لهذا علاقة وثيقة تتعلق بسبب مجيئي إليك اليوم ..
وعلى الرغم من أن العبارة لم تشف فضول (ممدوح) إلا أنه أعاد المدفع إلى زر الجاكيت الذي يرتديه مرة أخرى واستدار بوجهه في أنحاء المكان قبل أن يجيب بإحباط عجيب:
ـ لقد تبدلت الأمور كثيراً يا سيدي منذ تركت العمل قديماً في هذا المكان ...
قالها ثم تعلق بصره بعينيه لحظات قبل أن يتبع بنفس اللهجة:
ـ وقتها كنت أعمل لمدة أربعة أشهر أو خمسة علي أقصى تقدير بينما أقضي باقي العام في ترف حقيقي ناهيك عن السفر إلي بلدان مختلفة تحفل بشواطئ ساحرة هذا بخلاف الشهرة الحقيقية التي كنت أحظي بها والتي كانت تدفع بالحسناوات في طريقي أينما ذهبت ...
ثم أطرق برأسه إلي الأرض في أسى وهو يتبع بنفس اللهجة:
ـ أما الآن ...!!!!
قالها وألقى المدفع الذي يحمله أرضا ثم أتبع بلهجة تفيض بالألم:
ـ لقد تبدلت الأمور حقا...
مرت فترة من الصمت قطعها صوت الدكتور (فريد) الذي طرق أذنيه متسائلاً:
ـ ماذا حدث يا (ممدوح) خبرني يا رجل ماذا حدث لك بعد أن تركت العمل ..؟
رفع (ممدوح) عينين تفيضان بالأسى ثم خرجت أحرف كلماته مثقلة بالألم وهو يتبع :
لقد تغيرت الأمور معي كثيراً يا سيدي .... تغيرت كثيراً..
قالها وبدأ يلقي علي مسامعه ما حدث ...
بكل التفاصيل ..!!
* * *
ـ الحقني يا أسطىىىىىىىى
انطلقت العبارة كالصاروخ في أذني مسئول الصيانة الـ ( تكنو- سمكري ) الذي انتفض من مكانه حينما دخلت الممرضة من خلال باب حجرته في هرولة ثم نظر إليها صارخا:
ـ فيه إييييييييه؟؟؟؟
أجابته وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة
ـ المريضة يا أسطى المريضة
ضم قبضته في تحفز وكاد يلكمها في أنفها صارخاً :
ـ مش أنا حذرتك ألف مرة متقوليليش كلمة أسطى دي ؟؟
وأراد أن يتبع في شراسة :
ـ وهو الفرق بيني وبين الدكاترة يعني في إيه ؟؟؟!!
لكن نظرة الذعر في عينيها جعلته يندفع خلفها علي الفور حتى وصلا إلي غرفة (سنية ـ 15) وما أن ولجا باب الحجرة حتى راعه منظر جسدها الممدد وتلك التشنجات النيوتروإليكترونية التي سرت في جسدها بأثره حتى أنه تراجع للخلف وقد ارتسمت في ملامحه أعتى معالم الذعر ... حتى أنه صرخ في الممرضة بينما تطل من ملامحه كل معالم الرعب :
ـ اتصلي بدكتور فوراً
صرخت فيه بدهشة وحنق قائلة:
ـ أمال أنت إيه لزمتك هنا ؟؟؟
تلعثم وهو يتراجع للخلف بينما تشنجت عضلات وجهه في حرج وراحت الكلمات تتلعثم علي لسانه وهو يتبع:
ـ هو يعني الواحد ميعرفش يهزر معاكي ؟
ولم يكد يلفظ عبارته حتى تراجعاً سوياً للخلف حينما هبت (سنية ـ 15) من مكانها على نحو جمد سريان الدماء في عروقهما ثم وثبت إلى الأرض التي يقفان عليها في برود عجيب قبل أن تتقدم منهما برتابة مخيفة وهي تمد يدها نحو وجهيهما على نحو أشد هولاً من سابقه بينما يتحرك فكها حركة آلية مصدراً أصوات معدنية مفزعة حتى أن الممرضة قد التصقت بالحائط في فزع وهي تصرخ بهستيريا :
ـ الحقني يا أسطى ... الحقني يا أسطىىىىى
أما هو فقد تراجع للخلف أكثر في رعب مماثل لكنه لم يكد يسمع عبارتها حتى التفت نحوها في غل صارخاً :
ـ مش قلت لك مبحبش الكلمة دىىىىىىى ؟؟!!
ولم يكد يتفوه بهذه العبارة حتى أحاطت ( سنية ـ 15) بعنقه بيديها وجذبته باتجاهها على نحو شديد العنف مما جعل الممرضة تصرخ فيه في رعب:
ـ ودا وقتتتتتتتتتتتته ..!!!
قالتها ثم اندفعت لتتشبث بذراع ( سنية ـ 15) التي تخلصت منها بلطمة هادرة وألقت بها نحو الحائط المقابل في عنف حتى أنها قاومت دوامة عنيفة حاولت ابتلاعها بعنف وهي تحاول جاهدة الوقوف على قدميها مرة أخرى حينما أفزعتها صورة الرعب التي ارتسمت في معالم مسئول الصيانة و الحشرجة التي راحت تصدر من حنجرته حتى أن الرجل راح يجاهد بكل ما أوتي من قوة لدفع الهواء داخل رئتيه بينما تجمدت يد ( سنية ـ 15) على رقبته في استماتة حتى أن جسد الرجل قد بدأ يتهاوى شيئاً فشيئاً بينما ينسحب وعيه رويداً رويداً حتى أنها أغمضت عينيها لوهلة كأنما توقعت أن يلفظ الرجل أنفاسه أمام عينيها ثم لم تلبث أن انتزعت نفسها من جمودها انتزاعاً حينما طالعت كابل الطاقة الفوتونية المعلق بجوار السرير الذي كانت تحتله (سنية ـ 15) منذ لحظات والذي يتم إمداد جسدها به كل فترة كبديل للغذاء الضروري الذي يحتاجه جسدها طوال فترة النقاهة والذي يبدو أن خللاً ما قد أصاب وصلاته الداخلية فراحت تتحرك على هذا النحو .. كل هذا دار في عقل الممرضة الشابة لأجزاء من الثانية لكنها تجاهلت كل هذه الخواطر بينما يتشبث عقلها بحقيقة واحدة تحتل كل تفكيرها .. لقد أصبحت المريضة الآلية تمثل خطراً جسيما عليهما هي و الأسطى ولابد من القضاء عليها ... سيطر هذا الخاطر على كيانها بأثره حتى أنها اندفعت نحو كابل الطاقة بحزم شديد كأنما تحول هذا الأمر إلى مهمتها الأخيرة ..ثم ضغطت بيدها الأزرار المتصلة بمنبع الطاقة الصافية المتصل بنهاية الكابل ثم تشبثت بطرفي الكابل المزدوج الحرين بكل قوتها في حذر وثبات وآلية ثم استدارت نحو جسد ( سنية ـ 15) التي كان يفصلها بين القضاء على الأسطى ثوانٍ معدودة ثم رصدت بعينيها سريعا فتحتي الطاقة في جسدها قبل أن تدفع الكابل داخلها في وضع عكسي الأقطاب بكل ما أوتيت من قوة وأغمضت عينيها وهي تضغط أذنيها بكلتا يديها بينما انطلق وميض الشرارات الكهربية هادراً يملأ المكان ثم راحت أجزاء ( سنية ـ 15) المعدنية تصدر صوتاً معدنياً عنيفا كأنما توشك على الانفجار ثم لم تلبث أن راحت تطلق صرخات رهيبة مخيفة جمدت الدماء في عروقها ...
بمنتهى العنف ...
والقوة ..
* * *
ارتجت إحدى عربات قطار المترو المتجه في طريقه إلى محطة حلوان بالضجيج دفعة واحدة على إثر تلك الصرخة الأنثوية التي انطلقت هادرة في أرجاء المكان حتى أن ركاب العربة أنفسهم قد تزاحموا حول صاحبة الصرخة التي افترشت الأرض وقد تكورت بطنها على نحو عجيب بينما راحت تعض في ذراع إحدى السيدات بجوارها في نهم فتطلق الأخرى صرخة أشد هولاً بدورها حتى أن سيدة ثالثة نهرت الجميع بقسوة صارخة:
ـ أنتو بتبصوا على إيه ..!! " الولية " باين لها بتولد ...
لم تمنع عبارتها بقية ركاب العربة من التزاحم حول السيدة التي تحولت صرخاتها إلى ما يشبه أصوات "سرينة" منتظمة تفوق صافرات المترو نفسه ولم يكد قطار المترو يتوقف في محطته حتى تكالبت أيد مجموعة من الرجال لحملها خارج العربة في لحظات معدودة للحاق بباب العربة قبل أن يعاود الإغلاق مرة أخرى في آلية كأنما يتشارك الجميع الرغبة في التخلص منها... ولم تكد السيدة تستقر فوق رصيف المحطة وتتأكد من إقلاع قطار المترو حتى اعتدلت وانتصبت قامتها دفعة واحدة وتحسست حقيبة يدها المتاخمة بحافظات النقود ثم ألقت ابتسامة ساخرة نحو عربات القطار التي اختفت داخل النفق ثم استدارت نحو سلم الخروج واندفعت في طريقها ...
* * *
دوامة عنيفة أحاطت بعقل (س ـ 18) في ضراوة .. دوامة عصفت بكيانه بأثره وأخلت بتوازنه حتى أنه تشبث ببقايا قوته بالقيود القوية التي تربطه بالجدار حتى لا تخور قدماه ويسقط متعلقاً بها .. وكانت المرة الأولى التي يشعر أن وصلاته الداخلية وشرائحه الفوتونية تمر بهذه الحالة العجيبة من الاختلال والإعياء وتخذله على هذا النحو ... وببقايا الطاقة الموشكة على الانتهاء بداخله رسمت مخيلته صورة كبيرة لـ (جـ ـ 18) احتلت كل كيانه للحظات ثم لم تلبث قواه أن خارت مرة واحدة فانهار على ركبتيه فوق الأرض وتشوشت الرؤية أمامه ... ثم لم يلبث عقله أن سقط في هوة عميقة ... وتسارعت الصور المخزنة بذاكرته الفوتونية الجبارة أمام عينيه إلى الخلف إلى زمن سحيق ...
قديم...
غابر...
ثم توقفت دفعة واحدة
* * *
ـ أمال فين (س ـ 18) يا عمي ..؟
نطقها (ك ـ 18) صديق (س ـ 18) المقرب في تساؤل حينما هزت والدة (س ـ 18) كتفيها في حيرة وهي تنظر إلية بقلة حيلة قائلة:
ـ (س ـ 18) يا سيدي بقى له يومين وهو حابس نفسه في أوضته ومش عارفة ماله ..!
تناول منها والد (س ـ 18) الذي كان يجلس على أريكة مقابلة ويطالع الجريدة الإلكترونية طرف الحديث قائلاً:
ـ الواد دا أحواله مش عجباني اليومين دول ..
أطلقت والدة (س ـ 18) تنهيدة حارة قبل أن تتبع بدورها:
ـ على قولك يا أبو (س ـ 18) الواد من يوم مخلص جامعة وهو أحواله اتغيرت
ثم استدارت نحو (ك ـ 18) قائلة:
ـ انتوا لسه ما لقتوش شغل يا (ك ـ 18) يا بني ؟
هز (ك ـ 18) رأسه بقلة حيلة بينما أتبعت هي مباشرة:
ـ وعملتوا إيه في الوظيفة اللي قدمتوا لها أوراقكم من فترة؟
أجابها (ك ـ 18) بعد تنهيدة حارة:
ـ مانت عارفة أحوال البلد دلوقت يا طنط ... أطلنطس كلها بقت ماشية بالوسايط وماعادش خريج واحد عارف يشتغل إلا لو كان معاه واسطة كبيرة ..
اقتربت منه والدة (س ـ 18) في قلة حيلة مماثلة وربتت عليها مشجعة ثم أتبعت:
ـ معلش يا ضنايا بكرة ربنا يكرمكم بشغلانة كويسة
قالتها ثم أشارت نحو حجرة (س ـ 18) وهي تتبع
ـ ادخل له يا بني اقعد معاه شوية وأنا هعمل لكم عصير منجنيز ماللي بتحبوه وهجبهلكم على طول..
* * *
ـ " خايف مرة أحب وعارف ليه أنا قلبي خايف... شوفت الحب بيعمل ماس ملو سلوك ولفايف ... بس لو ألاقي اللي أحبه واللي ........"
اندفعت النغمات تملأ جنبات حجرة (س ـ 18) وتنساب إلى مسامعه في نعومة بينما توقف هو في شرفة حجرته التي تطل على الميحط حينما بدت شمس أطلنطس في رحلتها نحو المغيب وقد تصلب هذا الأخير في مكانه وهو يتابع المشهد في هيام حتى أن أشعتها قد انعكست على وجهه الأخضر والتمعت فوق صلعته البراقة حتى أنه بدا لعيني (ك ـ 18) الذي اقترب منه في هذه اللحظة كما لو أنه جزء من مشهد الغروب ذاته ... والغريب أن أجهزة الرصد الخاصة بـ (س ـ 18) الدقيقة بدت كما لو أنها لم ترصد اقترابه منها أو كما لو أنه يتجاهله على الرغم منه حتى أن (ك ـ 18) قد حملق فيه برهة قبل أن يستدير نحو مشغل الأقراص الذي راحت الأغنية تنبعث منه قبل أن يستدير نحوه مرة أخرى قائلاً:
ـ إش إش إش ... سرحان وغروب وأغاني
رومانسية ... إيه يا بني دا ... اللي ميعرفكش كويس يقول إنك غرقان في الحب لشوشتك ..!
استدار (س ـ 18) نحوه للمرة الأولى ثم مط شفتيه في استهزاء وتحرك نحو الحجرة بينما علت معالم الدهشة وجه (ك ـ 18) الذي اندفع خلفه قائلاً بحيرة حقيقية:
ـ اوعي يا واد تكون حبيت بجد ..
استدار (س ـ 18) نحوه بتعجب قائلاً بصوته الآلي:
ـ وفيها إيه يعني ..؟
تجمد (ك ـ 18) في مكانه لحظات قبل أن يتبع:
ـ يعني الكلام اللي طنط قالته صحيح ..؟
علت معالم التركيز وجه (س ـ 18) وهو يسأله:
ـ كلام إيه ..؟
أشاح (ك ـ 18) بوجهه وهو يستدرك:
ـ إنك قافل اوضتك على نفسك وما بتكلمش حد بقى لك فترة وأحوالك اتغيرت
أشاح (س ـ 18) بوجهه إلى الناحية الأخرى دون كلمة واحدة مما دفع (ك ـ 18) للاستدراك قائلاً:
ـ أنا يا (س ـ 18) مقدر شعورك لكن أنت عارف أننا لسه عاطلين ومن يوم متخرجنا ورجلنا حفيت على شغل وأهو أنت شايف الحال ... ولا فكرك يعني عمي هيصرف عليك كمان بعد جوازك أنت وهي ..؟
هذه المرة لم يكتف (س ـ 18) بالصمت بل احتوت عقله دوامة هائلة وراح سؤال كبير يحتل عقله بأحرف بارزة
" ماذا سيفعل ؟؟" ...
والعجيب أن عقله الآلي بكل ما أوتي من قوة ودقة لم يجد إجابة واحدة لهذا التساؤل لم يجد لها إجابة قط ..
* * *
أرخى (س ـ 18) مجسات الضوء الفوتونية في عينيه وهو يتبابع الأفق في رومانسية حالمة قبل أن يستدير في هيام أشد ليطالع (ش ـ 17) التي أرخت قدميها فوق رمال الشاطئ في نعومة واستدارت بدورها تطالع عيني (س ـ 18) في هيام مماثل ولم تكد عيناها تقعان على عينيه التين راحتا تحملقان فيها حتى اصطبغ وجهها بأثره بلون ناري مخيف من شدة الخجل الذي اعتراها ثم لم تملك إلا أن أطرقت برأسها إلى الأرض في خجل وازدرت لعابها الذري في صعوبة وهي تهمس بنعومة شديدة:
ـ (س ـ 18) مالك ..حاسة إنك عايز تقول حاجة..
ابتسم بخجل وهو يخرج ورقة من جيب بنطلونه الجينز الجديد قبل أن يتبع:
ـ أحسن حاجة بحبها فيكي إنك بتفهميني من غير ما أتكلم ..
تطلعت نحو الورقة في يده قبل أن تتساءل:
ـ إيه دي يا (س ـ 18) ..؟
فرد الورقة أمامه قبل أن يجيب:
ـ دا شعر سهرت طول الليل إمبارح أكتبهولك ..
ارتسمت ابتسامة خجلى على وجهها وهو تقول بهيام:
ـ صحيح يا (س ـ 18) كتبته عشاني أنا ..؟
أومأ (س ـ 18) برأسه وهو يتطلع في عينيها قبل أن يسألها بنعومة:
ـ تحبي أسمعهولك..؟
أومأت برأسها وهي تشيح بوجهها في خجل ففرد الورقة أمامه وبدأ في القراءة قائلاً:
سرت ليالي الشوق بعد تبايل الهبايط في صـــراع الطنبل
واشرأب الهوى نحو الهوامش والبرادش بارتفاع العيغل
واستحال العشـق بالأسطفاج في ليل البحــــاط مقرمطـاً متكلـكل
حتى استجار العاشقـون من المستباط بمهجة البحطــوش بكندل
أنا في سماء الليل بمهجة المشاحـــط كلها متشنكل
وأنت في بعراط البحر بمستقر البحصريط المزركل
أفديك لو عزم البقابق في الهوى بفاكش ٍ وتكرنفت الليالي بطنجل
فأنت في قلبي حيـاحيل عمـري المنشـــــوط وبغــرقفـوش الهيكـل
ولم يكد ينتهي من قصيدته حتى تطلع في وجهها فتساءل في تعجب:
ـ (ش ـ 17) مالك ... مبلمة كدا ليه ؟؟
لم يبد عليها أن سمعت عبارته فحرك يديه أمام عينيها بجدية قبل أن يتساءل في فزع:
ـ (ش ـ 17) أنت شيفاني .. (ش ـ 17) ردي عليا مالك .. أنت حاسة بتعب ولا حاجة ..؟
لم يتلق رداً أيضاً فهزها في عنف قائلاً :
ـ (ش ـ 17) أنت سمعاني ..؟؟
هذه المرة تحركت رأسها في صعوبة وأصدرت أنيناً خافتاً قبل أن تتساءل في تعجب:
ـ أنا فين ..؟
ارتسمت معالم الخيبة على وجه (س ـ 18) وهو يسألها:
ـ يعني مسمعتيش القصيدة ..؟
هزت رأسها بوجوم قبل أن تجيب:
ـ لا سمعتها
تهللت معالم وجهه قبل أن يسألها بلهفة:
ـ وإيه رأيك ..؟
ازدردت لعابها الذري مرة أخرى قبل أن تجيب:
ـ بصراحة حلوة بس فيه كلمة واحدة مش فهماها ...
حملق في الورقة مرة أخرى وهو يسألها:
ـ كلمة إيه ..؟
أجابته بنفس الوجوم:
ـ " اشرأب "
تطلع نحو الورقة بحيرة ثم تنتح قائلاً:
ـ يعني فهمت باقي القصيدة ..؟
أجابته على الفور وهي تزدرد لعابها:
ـ طبعا طبعا ..
تهللت أساريره قبل أن يتبع:
ـ خلاص مادمت فهمتي باقي القصيدة ملهاش لزوم الكلمة دي ..
قالها ثم تطلع في عينيها بهيام شديد مما دفعها لسؤاله:
ـ (س ـ 18) أنت بتبص لي كدا ليه ..؟
ابتسم (س ـ 18) وهو يمد أصابعه ليعيد وجهها في مقابلة وجهه قبل أن يتبع في رقة:
ـ نفسي أفضل أبص لك كدا لحد مخبيكي تحت رموشي ..
زوت (ش ـ 17) عينيها في تعجب وهي تنظر نحوه قبل أن تتبع في تعجب أشد:
ـ بس أنت ملكش رموش يا (س ـ 18) ..!!
تحسس عينيه في تعجب قبل أن يستدرك :
ـ أيوة صحيح معاكي حق ... بس أنا بسمع الآدميين بيقولوا كدا في الأفلام اللي بنشوفها ..
تنهدت على الرغم منها قبل أن تقول دون أن تتخلى عن هدوء صوتها:
ـ أيوة يا (س ـ 18) بس أنت عارف إن الآدميين دول ناس فاضية وبيضحكوا على بعض بالكلمتين دول .. عشان كدا أنصحك تخليك في السينما الآلية أحسن ..
اتسعت عدستا عينيه قبل أن يتبع في دهشة:
ـ قصدك إيه مش فاهم ...؟
ثم صمت برهة قبل أن يتبع بنفس الدهشة:
ـ قصدك أن كلامي مش عاجبك ..؟
أشاحت بوجهها لحظات قبل أن تستدير نحوه مرة أخرى لتتبع:
ـ مش قصدي كدا يا (س ـ 18) وأنت فاهمني كويس ... أنا بس قصدي إن..
تساءل مباشرة مرة أخرى:
ـ أمال إيه قصدك ..؟
أجابته وهي تنهض من مكانها باستدارة رأسية معقدة:
ـ قصدي إنه ضروري نفكر دلوقت ِ هتتقدم لي إمتى ...
لحق بها باستدارة رأسية أشد تعقيد دون كلمة واحدة حتى أنها استدارت نحوه قائلة:
ـ مبتردش ليه يا (س ـ 18) .؟
هذه المرة لم يغالب زفرة ضيق شديدة خرجت من صدره قبل أن يتبع:
ـ إحنا سبق واتكلمنا في النقطة دي يا(ش ـ 17) .. وقلت لك أني قدمت ورقي للانضمام في الإمدادات الأمنية الأطلانطيسية المتجهة لمساندة الفراعنة في حربهم ضد الهكسوس ...وأنت عارفة أن المكافأة اللي هآخدها هتكفي مصاريف الجواز واللي هيفيض هأبدأ بيه مشروع نأمن بيه مستقبلنا و...
بتر عبارته حينما هزت رأسها بأسلوب لم يرق له هذه المرة ثم استدارت تنوى الرحيل ... أما هو فقد تفجر في داخله بركان جديد من القلق والحيرة...
بركان كان يعني بكل صرامة أن علاقته بـ (ش ـ 17) سوف تخضع لعاصفة عاتية ...
عاصفة قادرة على اقتلاع العلاقة من جذورها ...
ولم يكن وقتها مخطئاً ...
أبداً ...
* * *
اتخطبت ...!!!
ارتد (س ـ 18) للخلف كالمصعوق وهو يحملق في وجه (ك ـ 18) الذي استكان فوق طرف الفراش بصمت وهو يردد هذه الكلمة في ذهول حتى أن (ك ـ 18) لم يجد في نفسه الجرأة ليرفع رأسه نحوه وهو يتبع بأسى:
ـ أيوة يا (س ـ 18) هو دا اللي حصل .. البلد كلها ملهاش غير سيرة خطوبتها من رجل الأعمال الآلى ( مازنجر الإسترليني )...
انهار (س ـ 18) فوق أقرب المقاعد نحوه بلا تصديق حتى أن (ك ـ 18) قد اندفع نحوه على الفور وتشبث بكتفيه وراح يهزه في عنف صائحاً:
ـ متعملش في نفسك كدا يا (س ـ 18) ... بكرة تلاقي أحسن منها ...
لطمه (س ـ 18) بيده لطمة قوية دفعت به إلى آخر الحجرة ثم انتفض من مكانه صارخا:
ـ مطمرش فيها سندوتشات المعادن ولا المشروبات النارية اللي كنت بجيبهالها
قالها ثم اندفع بقوة نحو أحد الأدراج المجاورة لفراشة وأخرج صورتها قبل أن يتبع وهو يوجه حديثه نحوها في غضب هادر:
ـ لكن لأ ... مش أنا اللي يتعمل فيا كدا ... وحياة كل سندوتش
نحاس أكلتهولك وكل كوباية عصير تيتانيوم شربتهالك لازم تدفعي تمنهم غالي أوي يا (ش ـ 17) ...
ثم صمت فترة عاد بعدها ليتبع كأنما تذكر شيئاً:
ـ وحياة كل قصيدة شعر كتبتها فيكي لازم تندمي لازم ... لازم ...
أتاه صوت (ك ـ 18) الواهن من آخر الحجرة متسائلاً:
ـ ناوي تعمل إيه يا (س ـ 18) ... اوعى تتهور وتقتلها ...
أجابه (س ـ 18) في حزم ...
ـ مش أنا اللي أعمل كدا يا (ك ـ 18) ..
ازدادت لهجة التساؤل في صوت (ك ـ 18) وهو يتبع:
ـ أمال ناوي تعمل إيه فهمني ...
استدار (س ـ 18) بوجهه نحو باب الشرفة حيث طالعته أمواج المحيط الهادرة قبل أن يجيب:
ـ هأسافر مع الحملة الحربية لتدعيم حرب الفراعنة ... هأثبت نفسي ... هعرفها مين هو (س ـ 18) ... هخليها تبكي بدل الدموع حمض كبريتيك إنها سابتني وفضلت عليّ شخص تاني ...
وقتها ارتطم موج أطلانطيس بصخور الشاطئ في غضب هادر .. عنيف ..
كأنما يعلن أن القدر يخفى لـ (س ـ 18) الكثير جداً ...
وأن الفترة المقبلة من حياته ستجعل منه أحد الأساطير الخالدة ليس في سجل الدولة الفرعونية فحسب ..
بل في سجل الكوكب بأثره ...
كوكب الأرض ...
وإلى الأبد ...
* * *
لم تكد أجراس الإنذار تدوي في المكان حتى اندفع عشرات الحراس الآليين صوب عنبر السجينات الآليات وسطعت كشافات الإضاءة في المكان بلا مقدمات حتى أن المكان بأثره غرق في الضوء المبهر دفعة واحدة قبل أن تسود حالة من الصخب ويتم إغلاق الأبواب العنابر الرئيسية تلقائياً بأقفال إليكترونية احتياطية جعلت أمر الهروب من المكان أشبه بالمستحيل حتى أن (جـ ـ 18) لم تكد ترصد الأصوات الصادرة عن خطوات الحراس السريعة فوق أرض الممر الفاصل بين غرف الأمن وعنابر السجينات حتى كان عقلها قد درس الأمر برمته ووضع خطة بديلة في ثوان معدودة حيث انقضت في لمح البصر على أقفال عنابر السجينات المجاروة للعنبر الرئيسي وما هي لمحات خاطفة حتى كانت الأبواب قد انفتحت على مصراعيها بينما سادت حالة هائلة من الهرج والمرج حينما اندفعت كل سجينات هذه العنابر بالإضافة إلى نزيلات العنبر الرئيسي في ممرات السجن الرئيسية حيث أثيرت جلبة هائلة اندفعت على إثرها صافرات الإنذار مدوية في جنبات المكان وكإجراء أمني متبع في مثل هذه الأحوال فلم تكد شاشات الرصد الداخلية تنقل لرئيس السجن صورة مفصلة لما يحدث في ممرات السجن الرئيسية بالإضافة إلى صورة الحارسة الفاقدة للوعي والتي تمدد جسدها الآلي في ممر السجن الرئيسي انتفض في مكانه حيث انتبه عقله أنها حتى قام باستدعاء وحدات أمن إضافية لتدعيم الموقف حتى لا يتحول الأمر لكارثة ... ولكن فجأة وبدون إنذار مسبق جحظت عيناه وراح يحملق في شاشات الرصد حينما نقلت له صور متفرقة من مجموعة الحرائق التي اندلعت بدون مقدمات في عدة أماكن مختلفة من عنابر السجينات وكان هذا كفيلاً بإثارة الهلع في عنابر السجينات اللاتي انطلقن كأنما تطاردهن شياطين الجحيم بينما يطاردهن اللهب في الممرات الرئيسية للسجن ... حتى أن أقفال الأبواب الإليكترونية وكإجراء أمني تلقائي متبع في مثل هذه الحالات قد انفتحت تلقائياً واندفعت نظم الإطفاء التقليدية تغرق المكان بالماء وسادت فوضى عارمة كانت كفيلة بإلغاء أي نظام أمني متبع في المكان حتى أن عيني رئيس السجن قد اتسعتا أكثر حينما تابع السجينات اللاتي اندفعن نحو الساحة الخارجية للسجن حتى لم يعد يفصلهن عن العالم الخارجي سوى أمتار قليلة ... وكان هذا كفيلا بإثارة غضبه ...
وثورته ...
وجنونه ...
وإلى أقصى حد ...
ولكن في ظل هذه الفوضى التي تسيدت المكان لم يكن لأحد حتى هذه اللحظة أن يكتشف أن (جـ ـ 18) قد اختفت في المكان دون أن تترك خلفها أثراً واحداً ...
* * *
سرت انتفاضة عارمة في جسد موظف البنك وارتد للخلف لا شعوريا ًفتطايرت بعض رزم النقد من يده حينما ارتفع مسدسان آليان أحدهما في وجهه والآخر في وجه إحدى عميلات البنك التي كانت تقف في هذه اللحظة أمام شباك الصرف مباشرة حتى أنه شعر بجفاف شديد في حلقه حينما أتاه ذلك الصوت الأنثوي الحازم من صاحبة المسدسين بأن يغلق الحقيبة التي عكف على وضع رزم الأوراق النقدية بداخلها ويدفعها ناحيتها بهدوء ... وبلا تفكير وفي آلية مطلقة دفع الحقيبة في اتجاهها دون تردد دون أن يحاول التركيز في ملامحها التي أخفتها بمهارة خلف الـ "شراب النايلون" الذي ترتديه في رأسها ... حتى أنها انحنت سريعاً والتقطت الحقيبة ثم قربت المسدس أكتر من العميلة البدينة التي رفعت يديها لا شعوريا لأعلى بينما علت الصفرة وجهها كأنما خلا من الدم فلكزتها صاحبة الصوت بالمسدس وهي تستحثها للسير أمامها باتجاه الباب بينما علت الصرخات وعمت الفوضى المكان بينما ارتفعت مسدسات رجال الأمن بدورهم في اتجاه المقتحمة التي لم تكد تشعر بذلك حتى تشبثت بأحد ذراعي العميلة وألصقت فوهة المسدس في صدغها أكثر ودفعتها بعنف ناحية الباب وهي تطلق عبارات النذير لرجال الأمن بعدم التعرض لها و إلا أصبحت رأس العميلة مصفاة ... تراجع رجال الأمن للخلف وإن لم تنخفض مسدساتهم وهم يتابعون الموقف بعجز خاصة أن المقتحمة قد أجادت الاختيار حينما انتقت تلك العميلة البدينة الطاعنة في السن محنية الظهر والتي انصاعت لها تماماً حتى أنها ابتسمت في أعماقها ابتسامة كبيرة وهي تدنو برهينتها من الباب أكثر وأكثر دون أن يعترضها شخص واحد ولم تكد تقترب من الباب حتى أصبحت يفصلها عن الباب قيد خطوات وهي تدفع تلك العميلة أمامها حتى تصلبت ملامح الأخيرة فجأة وارتفع العرق الغزير فوق جبهتها وارتفعت يدها لتتشبث بكتفها الأيسر وهي تحاول أن تلتقط أنفاسها بصعوبة قبل أن تسقط بين ذراعيها مباشرة وقد اصطبغ وجهها باللون الأزرق ثم حاول الاستنجاد بها وهو يشير نحو صدره قائلاً :
ـ الأزمة الـ ... الـقـ ... القلبية ... قرص الـ .. الـ ..
ازدردت المقتحمة لعابها في صعوبة وهي يحاول استيعاب الموقف ثم دفعتها بعيداً عنها في عنف وهي تصرخ في جزع:
ـ اللعنة ... هل هذا وقت أزمات قلبية ..؟!
قالتها وهي تحاول الاستدارة نحو باب البنك الذي انغلق تلقائياً في وجهها قبل أن توشك على الفرار ... ثم ارتفع صوت تلك الأعيرة النارية في المكان خلفها حتى أنها تجمدت في مكانها وألقت الحقيبة أرضاً حينما أتاها صوت أحد رجال الأمن الصارم بأن تطرح مسدسها أرضاً ...
وبارتباك شديد وأعماق مضطربة ألقت المسدس بجانبها في استسلام ... وبخيال مشوش راحت تتخيل المصير الذي ينتظرها على أيد مخبرين الشرطة ...
ذلك المصير المخيف ...
المرعب ...
وبحق ..
* * *
بدت الرؤية مشوشة أمام ( سنية ـ 15) وهي تجاهد لتفتح عينيها في صعوبة بالغة ... وتردد هدير هائل في عقلها شعرت معه أن رأسها قد أوشك على الانفجار بينما راحت كل وصلاتها الإلكترونية وصواميل جسدها الآلية تئن في ألم ... ثم لم تلبث مشاعرها بأثرها أن انتفضت دفعة واحدة وهي تتابع كم الضمادات والأربطة التي تحيط بهيكلها المعدني وأطرافها التي تم رفعها على دعامات معدنية تحيط بسريرها من جميع الاتجاهات حتى أنها أهملت كم الأشخاص المحيطين بها وهي تصرخ في أقربهم إليها قائلة:
ـ حد يفهمني أنا فين وإيه اللي جرى لي ..
حملق أكبرهم في وجهها لحظات ثم تحسس عينيها الفوتونيتين قبل أن يطرق عدة طرقات خفيفة متتالية فوق بعض مفاصل جسدها بمفك صواميل كبير الحجم كأنما يختبر ردود أفعالها الإلكتروعصبية ثم لم يلبث أن استدار نحو الجميع بمن فيهم الأسطى والممرضة قبل أن يتبع بآلية معتادة:
ـ كدا أقدر أقول العملية نجحت ..
قالها ثم استدار نحوها قبل أن يستطرد بنفس الآلية:
ـ مبروك يا أستاذ على نجاح العملية ..
قالها ثم اندفع مغادراً الحجرة دون أن ينتظر منها أي رد فعل حتى أنها تابعته بعينيها قبل أن تستطرد في ذهول:
ـ أستاذ ..!!
قالتها في ذهول ثم لم تلبث أن انتفضت كالعاصفة ناحية بقية الأشخاص في الحجرة كأنما تبحث لديهم عن تفسير وهي تصرخ كالبركان:
ـ حد يفهمني إيه جرى لي والراجل دا بيقول أستاذ إزاي .... هو مش عارف إني (ولية آلية) ..؟!
ارتسمت ابتسامة عصبية على وجوه الجميع وتبادلوا فيما بينهم نظرة قلقلة ثم لم تلبث الممرضة أن تقدمت نحوها في تخاذل وقالت بعد أن ازدردت لعابها مرات متتالية في صعوبة :
ـ هدي نفسك يا أستاذ أصل .. أصل ...
لكنها لم تقو على استكمال حديثها حينما جاءتها صرخة ( سنية ـ 15) الهادرة مرة أخرى:
ـ أنت ِ كمان هتقولي أستاذ ...؟
اصطبغ وجه الممرضة باللون الأصفر وهي تجاهد للحديث قبل أن تكرر نفس الكلمة بلا شعور:
ـ أصل .. أصل الـ ...
هنا بلغ الغضب والثورة بـ ( سنية ـ 15) مبلغيهما حتى أنها أطلقت سبة بذيئة في وجهها قبل أن تتبع بغضب أشد:
ـ أصل إيه وفصل إيه اتكلمي على طوووووووول ..
ازدرت الممرضة لعابها مرة أخرى ثم حسمت أمرها بإرادة فولازية قبل أن تقول:
ـ كل اللي حصل إن ... إن الـ ... أصل ... شحنة الطاقة اللي وصلت لجسمك بطريقة عكسية يعني ... عملت خلل و ... و ....
حاولت أن تجد كلمات مناسبة بلا فائدة فرفعت عينيها بقلة حيلة نحو وجه ( سنية ـ 15) قبل أن تتبع كأنما تبغي الخلاص :
ـ الخلل الداخلي عمل تلف في أعضاءك الداخلية و... و المسئو... المسئولين يعني ... يعني عملوا أقصى جهدهم عشان ينقذوا الموقف بس حصل تغيير جوهري مش متوقع ... و ...
ولما لم يأتها أي تعليق من ( سنية ـ 15) التي تجمدت في مكانها من هول المفاجأة كأنما توقعت ما حدث فقد وجدت في ذلك دافعاً لأن تستكمل وبذلت مجهوداً مضاعفاً حتى بدت كما لو أنها توشك على فقدان الوعي وهي تستطرد:
ـ والخلل دا اتسبب في ... في .... في أنك اتحولتي لراجل وبقى اسمك ( بسطاويسي ـ 15)...
قالتها وأشاحت بوجهها إلى الناحية الأخرى كأنما تفر من نظرات ( سنية ـ 15) التي شعرت أنها تخترقها ... أما (سنية ـ 15) / ( بسطاويسي ـ 15) نفسها / نفسه فلم تكد العبارة تطرق مسامعها / مسامعه حتى تجمدت / تجمد لحظة كأنما لم تستوعب / يستوعب الأمر قبل أن تطلق / يطلق صرخة هادرة ...
مخيفة ...
صرخة تردد صداها في المكان طويلاً ...
طويلاً جداً ...
جداً ...
جداً ...
جداً ...
* * *
هيمن الصمت على المكان داخل حجرة الاستجواب الملحقة بقسم الشرطة للحظات حتى قطعه ضابط الاستجوابات الذي حدج فتاة البنك بنظرة نارية ثم هز رأسه باستخفاف وهو يحمل فردة الـ " شراب النايلون" قبل أن يعبث بعصا ضخمة يحملها في يده ويطوح بها في الهواء بطريقة واضحة كأنما يبعث لها إنذاراُ ما وهو يستدير نحوها قائلاً بحدة:
ـ لسه مش عايزة تعترفي مين شركاءك ..؟
لم تجاوبه الفتاة بكلمة واحدة مما جعله يتبع بتلذذ:
ـ واضح إنها هتكون فرصة كويسة عشان نجرب معاكي طرقنا الجديدة في انتزاع المعلومات...
ولم يكد ينطق هذه العبارة حتى انفتح الباب على مصراعيه ودلف إلى المكان فريق من الحارسات ضخام الجثة واللاتي يتمتعن بملامح تكفي أكثرهن رقة لبث الرعب في قلب أكثر الوحوش ضراوة ... والغريب أنه لم يبد عليه أنه شعر بدخولهن إلى المكان حيث لم يكترث لذلك كثيراً وهو يتبع :
مازالت أمامك الفرصة لمراجعة نفسك وإلا فلا تلومين وقتها إلا نفسك ..
قالها وهو يهز عصاته في يده بأسلوبه التهديدي الواضح قبل أن يمط شفته علامة عدم الإكتراث وهو يتبع بينما يشير بعصاته نحو فريق النسوة المصطفات في ركن المكان واحدة تلو الأخرى بينما ارتسمت على وجوههن ابتسامة متحفزة وهم يحدجنها بشراسة مفزعة:
ـ (
فتكات الدموية) قاتلة مأجورة ولدت وترعرت في الباطنية ... ببيستعين بيها رجال المخابرات الشرطة في عمليات الاستجواب الصعبة ...
ـ
(كوارث عزمي) مسجلة خطر ... الوحيدة اللي اعترف لها خبراء الجستابو في زيارتهم الأخيرة لتبادل الخبرات مع المعتقلات المصرية بالبراعة الفائقة في استخراج المعلومات من المعتقلين الميئوس منهم ...
ـ (
حسنية عاهات) موهبة فريدة من نوعها في انتزاع الأصابع ... الخبراء النفسيين بيحذروا من التعامل معاها ... لكنها بتعتبرها هوايتها الوحيدة ... تم احتجازها في غرفة انفرادية في مصحة نفسية تحت حراسة مشددة فترة طويلة لحد ماقررنا الاستفادة من موهبتها ...
ـ (
لعنة ربنا جمالات) الاسم دا اتشهرت بيه بعد الشكوك اللي حامت حواليها في قتل جوزها وولادها وأبو جوزها وأمه واخواته الستة لكنها أقنعت المحكمة ببراءتها لعدم كفاية الأدلة ومن يوميها قررنا ضمها لصفوف فريق الاستجواب الخاص بينا ..
ولم يكد ينتهي من سرد المعلومات على أذنيها حتى صمت فترة كأنما يترك لخيالها العنان لتصور ما يمكن أن يحدث لها بينا علت وجهه نظرة شرسة وهو يبتسم في تشفٍ عجيب كأنما يروق له أن يتابع مقدار الهلع الذي ارتسم في ملامحها ... ولم يكد يحاول فتح فمه مرة أخرى للاستطراد في إفزاعها حتى دلف أحد الأشخاص إلى المكان وهو يحمل في يده ملفاً صغيراً لم يكد يتناوله منه ويقرأ ما فيه حتى التمعت عيناه وارتسمت في ملامحه ابتسامة شرسة قبل أن يتبع كأنما يستعرض ما قرأ على مسامعها:
ـ اسم الشهرة (
منى سبرتو)
انتفضت في مكانها وهو يتبع بنفس الشراسة:
ـ متورطة في عمليات سرقة هائلة العدد تتراوح ما بين نشل حافظات النقود العادية من الأتوبيسات وقطارات الركاب إلى اقتحام البنوك ...
قالها واستدار مرة أخرى خلف مكتبه قبل أن يجلس في مقعده ثم استند برأسه على راحتيه قبل أن يتبع:
ـ قلتي إيه في الكلام دا يا .... ولا تحبي أناديكي باسمك الحقيقي ...
قالها قبل أن يتبع بنفس اللهجة:
ـ منى هيثم توفيق ...؟؟
* * *
لثوان التمعت الدموع في عيني (ممدوح) وجاهد ببسالة دمعة كادت تنفلت من عينيه حتى أن الدكتور (فريد) لم يجد في نفسه ما يقال فاحتفظ بالصمت لحظات حتى التقط (ممدوح) نفساً عميقاً قبل أن يلتفت نحوه وهو يهز رأسه بشرود قائلاً:
ـ ماذا أقول لك يا سيدي .. هل أقص على مسامعك ما عانيته بعد أن تركت العمل في المكتب رقم 19 ... أم ما كابدته من مشاق وأنا أبحث عن عمل في مكان آخر ...
قالها قبل أن يلتفت نحوه ثم أتبع بنفس اللهجة المغرقة في الحزن:
ـ هل تصدق ... لقد حفيت قدماي وأنا أبحث عن عمل آخر في أية إدارة ... لكنهم رفضوني جميعاً لأني لم أمتلك واسطة مناسبة في كل مكان أذهب إليه ... عانيت الأمرين ... طردت ... تنكر لي أصدقائي القدامى ... ادعى الكثيرون عدم معرفتهم بي على الرغم من أني ساعدتهم في بدايتهم بل وتوسطت للكثيرين منهم للالتحاق بأعمال مناسبة لا يحلمون بها...
زوى الدكتور (فريد) حاجبيه بدهشة لا متناهية وهو يتساءل:
ـ وماذا فعلت ..؟!
تابع (ممدوح) حديثه كأنما لم ينتبه لعبارته:
ـ ولما يأست من أصدقائي هنا اتصلت بكل من أعرفهم في الخارج ...
ثم صمت فترة قبل أن يتبع بنفس الأسى:
ـ وكل ماحدث ممن هنا حدث منهم بكل التفاصيل ... (أرسين لوبين) رحب بإتصالي وسألني عن أحوالي وحينما علم سبب الاتصال ادعى أن شبكة المحمول قد أصابها عطب وأنه لا يسمع صوتي جيداً ... ومنذ ذلك اليوم وهو لا يرد على اتصالي ... (جيمس بوند) منذ أن علم بما حدث لي وهو يدفع من يرد على اتصالاتي ليخبرني أنه لم يخرج من الحمام بعد ... (شيرلوك هولمز) أيضاً قطع تعذر لي بحجة أنه مشغول بالإعداد لخطوبته المقبلة ...
قالها ثم صمت فترة قبل أن يهز رأسه في أسى وعاد بعدها ليتبع:
ـ عن أي شيئ أخبرك... تلك هي الدنيا ...
حاول الدكتور (فريد) أن يستدرك في التساؤل حينما أشار له (ممدوح) بيده ثم يشيح بعينيه إلى الناحية الأخرى كأنما يهرب من ذكرى يبغضها قبل أن يقول بحزم:
ـ لا تذكرني بهذه الفترة أرجوك ..
تمثلت الحيرة في وجه الدكتور (فريد) مرة أخرى قبل أن يستطرد بنفس اللهجة:
ـ لم أقصد إزعاجك ولكني أقصد أنه من المنطقي أن تكون قد فعلت شيئاً و ...
ثم استطرد مرة أخرى كأنما تذكر مالا ينسى:
ـ وماذا عن اللواء (مراد) ... ألم تفكر في الاتصال به ليساعدك في الحصول عن عمل مناسب إن مكانة الرجل تؤهله بالطبع لـ ...
هذه المرة قاطعته ضحكة (ممدوح) المريرة الطويلة التي ترددت في أرجاء المكان قبل أن يتجه إلى باب الشرفة التي تطل على الشارع بلا مقدمات ويفتحه دفعة واحدة دون أن يتفوه بكلمة واحدة ثم أشار نحوه بالاقتراب دون كلمة واحدة... ولم يكد الدكتور (فريد) يستجيب له ويقترب من النافذة حتى أشار بيده إلى عربة ترمس تقف على الرصيف المقابل ويقف خلفها رجل في جلباب تقليدي قد قاربت العتة على التهامه بصورة كاملة قبل يتبع بنفس اللهجة:
ـ إليك اللواء (مراد) ..
اتسعت عينا الدكتور (فريد) في ذهول قبل أن يردد:
ـ ماذا ..؟؟
أثارت عبارته كل مشاعر (ممدوح) دفعة واحدة حتى أنه انفجر في البكاء دفعة واحدة فوق أقرب المقاعد إليه ... بينما التمعت الدموع في عيني الدكتور (فريد) بدوره قبل أن يهمس في رفق:
ـ يكفي هذا يا (ممدوح) لقد قطعت قلبي ...
انهار (ممدوح) في البكاء أكثر وهو يقول بصوت مختنق:
ـ أنت لا تعرف إلى أي حالة من التدهور وصلت بنا الأمور ...
قالها ثم التقط أنفاسه قبل أن يقول:
ـ لقد أصبحنا على الحديدة يا سيدي ... لا يكاد اليوم يمر حتى نفكر ماذا سنفعل في اليوم التالي ... أصبحنا نحيا على الديون لصاحب المنزل والبقال وبائع الخبز واللبن وكل المحلات المجاورة ...
قالها ثم انفجر في بكاء شديد لم تجدِ معه محاولات الدكتور (فريد) المستميتة لتهدئته فانفجر في البكاء بدوره مما شجع (ممدوح) على الاستمرار في الحديث قائلاً:
ـ حتى هاتفي ... هاتفي المحمول لا أجد ما يكفي لشحنه... أرأيت إلى أي درجة من السوء وصلت بي الأمور ..؟
أثارت عبارته الأخيرة مشاعر الدكتور (فريد) فانفجر في بكاء هستيري حتى أنه أخرج منديله وتمخض فيه بصوت مسموع ... ثم امتدت يده مرة أخرى إلى جيبه حتى أن (ممدوح) قد تهللت أساريره بينما يتابع يده التي أخرجها من جيبه وهو يتبع:
ـ لقد أثارت حالتك شفقتي يا (ممدوح) ...
امتدت يد (ممدوح) نحوه وقد تبدلت ملامحه قبل وهو يتسائل:
ـ أهذا كارت ائتمان مصرفي يا سيدي ..؟
هز الدكتور (فريد) رأسه في نفي ثم قال وهو يمد يده نحوه أكثر:
ـ لا يا (ممدوح) هذا كارت شحن رصيد كنت قد ادخرته لنفسي ... أرى أنك أولى به الآن ...
قالها وانهمك في البكاء مرة أخرى بينما تقلصت ملامح (ممدوح) وهو يتناول منه كارت شحن الرصيد ولم يكد يطالع قيمته حتى ألقاه ناحيته مرة أخرى وقد اكفهر وجهه في غضب وهو يقول في استنكار:
ـ ما هذا ...!!
ارتسمت معالم الدهشة على وجه الدكتور (فريد) ونظر نحوه بدهشة بينما أتبع (ممدوح) بنفس اللهجة:
ـ أهذا كل ما فعلت بعد كل ما ألقيته على مسامعك ..؟
لم يبد على وجه الرجل أنه قد فهم مغزاه بينما أتبع هو بعداء:
ـ ألا ترى أنك لم تخبرني بعد بسبب تشريفك لي بهذه الزيارة ..؟!!
ارتسمت نظرة عجيبة على وجه الدكتور (فريد) كأنما تذكر سبب مجيئه إلى المكان دفعة واحدة قبل أن يقول:
ـ في الواقع يا (ممدوح) لقد جئت لك بعرض عمل ...
انتعشت ملامح (ممدوح) دفعة واحدة للمرة الأولى قبل أن يتبع:
ـ هذا هو الكلام ... لماذا لم تقل ذلك منذ البداية ..؟
قالها قبل أن يتبع بنفس الحماسة:
ـ هيا هات ما لديك يا سيدي فكلي آذان مصغية ...
لم يكد ينطقها حتى راح الدكتور (فريد) يلقي على مسامعه كل ما كان من أمر (نور) و (أكرم) وما حدث منذ بدء المهمة حتى انحراف المركبة الزمنية بهما في بعد آخر ... ولم يكد يصل إلى هذه النقطة حتى تساءل (ممدوح) في دهشة:
ـ مازلت لا أفهم مهمتي تحديداً بعد كل ما ألقيته على مسامعي ...
هنالك اعترى الاهتمام وجه الدكتور (فريد) قبل أن يجيب في حسم:
ـ مهمتك تنحصر في ملاحقة مركبة (نور) و (أكرم) الزمنية ومحاولة إتمام المهمة والعودة بهما سالمين ...
اعترت الدهشة وجه (ممدوح) للحظات قبل أن يتساءل في حذر:
ـ ولماذا لم يتم تكليف رجال مخابراتكم العلمية بالمهمة ...؟
ارتسمت الجدية على وجه الدكتور (فريد) قبل أن يجيب:
ـ لقد تم اختيارك للمهمة على مسئوليتي الخاصة يا (ممدوح) أي أن هذه المهمة ستتم بصورة غير رسمية ..
زوي (ممدوح) حاجبيه بدهشة حقيقية ثم ازدرد لعابه قبل أن يتسطرد بحرج:
ـ ولكنك تعلم أن سني لم يعد يناسب مهام من هذه النوعية يا سيدي و ...
ارتسمت ابتسامة مشجعة على وجه الدكتور (فريد) قبل أن يتبع في حسم:
ـ مازلت أراك الأنسب لهذه المهمة يا (ممدوح) على الرغم مما تقول...
ثم صمت فترة تطلع فيها إلى عينيه مباشرة قبل أن يتبع:
ـ أم أنك تريد أن تخذلني أمام القائد الأعلى ..؟
تصلبت ملامح (ممدوح) لوهلة قبل أن يستطرد بنفس الأسلوب:
ـ كما أنك لاريب تعرف أني كنت أعمل في سلسلة بوليسية ولم نملك مقاتلة زمنية في وقت ما ...
لانت ملامح الدكتور (فريد) عن ابتسامة قبل أن يجيب:
ـ هذه النقطة سيتم تداركها ...
ارتسم التساؤل في وجه (ممدوح) دون أن يتفوه بكلمة واحدة مما جعل الدكتور (فريد) يستدرك بنفس الثقة:
ـ هذه مهمتك أيضاً ...
لم يملك (ممدوح) هذه المرة إلا أن سأله على الفور:
ـ ماذا ...؟؟!
أجابه الدكتور (فريد) وهو ينهض من مكانه ويستدير نحو النافذة ليطالع وجه اللواء (مراد) سابقاً والذي انهمك في هذه اللحظة في بيع بعض الترمس لفتى وفتاة يبدوان في مرحلة الخطوبة قبل أن يستدير نحو (ممدوح) مرة أخرى ليجيب بلهجة خاصة:
ـ ستقوم بسرقة مركبة زمنية من العهدة الخاصة بسلسلة (نوفا) ...
هنالك تراجع (ممدوح) إلى الخلف وقد اعترته الدهشة ..
والتعجب ...
والذهول ...
وإلى أقصى حد ...
* * *
(أدهم صبري) ...
العجيب أن يحظى اسم ما بكل هذا البريق ..
العجيب أن يتملكك اسم واحد ويحتل في كيانك كل هذه المكانة...
مكانة لا يشاركه غيره فيها...
يتفرد بها دون كل الأسماء التي حفظتها في حياتك أو مرت بك يوماً ..
حتى لا يساورك الشك لحظة وإن لم تكن رأيته من قبل أن مكاناً ما تتردد فيه أنفاسه الحية ...
والأعجب ...
أنك تنتظر أن تلاقيه يوماً في مكان ما وزمان ما ... قد لا تعرف أين ولا متى ... لكنك توقن أنك ستلاقيه يوماً ... وربما تقنع نفسك أنك ربما تكون قد التقيته بالفعل ... وفي غفلة من عقلك يتملكك التساؤل لما لا يكون صاحب الشارب الضخم في نهاية الحافلة هو أدهم صبري متنكراً ... وربما تحملق مرة أخرى وأنت تتابع مشية رئيسك في العمل ... إن قامته أطول اليوم ... تراه يكون ....!!!
أما ما يقنع به الكثيرون أنهم ينتظرونه ... وهذا هو العجيب بحق ... لا تلبث أن تمر بموقف ما تشعر فيه بالظلم والمهانة إلا ويدفعك تفكيرك تلقائياً إلى هذا الاسم ... أو على الأقل تحلم به وتتمنى لو أنه بجوارك الآن ليعيد لك حقك المسلوب على الرغم من كل شيء ...
لقد أصبح حقاً أسطورة ... في زمن ندرت فيه الأساطير ... وباتت ضرباً من المستحيل ...
لهذا كان جديراً باللقب الذي تحلى به ..
رجل المستحيل ..
- - - - - - - - - - -
كل هذا دار بعقل (أكرم) وهو يتطلع بعينيه نحو هذا الشخص الماثل أمامه بفوديه الأشيبين ومنكبيه العريضين ووسامته المفرطة ... واعترته ارتجافة عجيبة شملت جسده بأثره حينما التقت عيناهما ... كان لقاء عجيب ... لقاء اعتقد كثيراً في استحالته وإن تمناه كثيراً ... ومرت برهة وهو يحملق في وجهه دون أن يقوى على التفوه بكلمة واحدة ... وقبل أن يتفوه بكلمة واحدة وقبل حتى أن يحاول تناهى إلى مسامعه صوت (نور) الذي أطلق أنة واهنة وهو يجاهد ليتشبث بجدار الوعي مرة أخرى قبل أن يرفع يده ليتشبث بكتفه ويجاهد للاعتدال في جلسته ثم لم يلبث أن تساءل في تعجب:
ـ ماذا حدث يا(أكرم )... ما الذي فعل بنا ذلك ...؟
ولما لم تأته إجابة (أكرم) فقد هزه بيده في خشونة قائلاً:
ـ (أكرم) ... ماذا هناك ... أمازلت فاقداً للوعي ... (أكرم) ... (أكرم) ..!!
قالها وهو يرفع عينيه للمرة الأولى ليحملق في الشخص الواقف أمامهما قبل أن يتساءل مرة أخرى:
ـ من هذا يا (أكرم) ...؟؟
أما (أكرم) نفسه فقد استغرق فترة كبيرة قبل أن يستدير نحوه في آلية ليجيب في برود عجيب:
ـ إنه (أدهم صبري) يا (نور) ...
ازدرد (نور) لعابه بصعوبة شديدة وهو يحملق في (أدهم) للحظات ثم لم يلبث أن ألقى نظرة على نفسه أتبعها بأخرى نحو (أكرم) كأنما يقارن طوليهما به ...قبل أن يقول بلهجة خافتة بلغت أذني (أكرم) بصعوبة:
ـ لم أكن أتخيله بهذا الطول ...
أجابه (أكرم) دون أن يلتفت نحوه:
ـ نعم ... انظر أيضاً إلى حلته إنها بالغة الذوق ... لا ريب أنه يتقاضى راتباً ضخماً في سلسلته حتى يحصل على مثلها...
ثم لم يلبث أن استطرد وهو يتحسس ملابسه:
ـ سأطالب برفع راتبي بمجرد عودتنا يا (نور) ...
حاول (نور) أن يخبره في غيظ أنه يمتلك مؤسسات (أميجو صاندو) الصناعية الكبرى في أمريكا ولا يلتفت بأي حال من الأحوال إلى الراتب البخس الذي يتقاضاه أويتقاضاه أمثالهما لولا أن أتاهما صوت (أدهم) هذه المرة وهو يحمل حسماً عجيباً جمد الدماء في عروقيهما:
ـ من أنتما ..؟؟
استدار (نور) باتجاه أحد الأبواب الجانبية حيث احتشد الأطفال الأربعة كأنما يحاولون الاستماع إلى الحديث المثار بينهم ... بينما توقفت سيدة حسناء في الجانب المقال لهم بينما اندفع (أكرم) في الحديث قائلاً:
ـ لقد جئنا من المستقبل ...
مط (أدهم) شفتيه كأنما لم يستوعب عبارته بينما اندفع (أكرم) قائلاً بنفس لهجة الانبهار:
ـ لقد أرسلنا القائد الأعلى برسالة لك ...
زوي (أدهم) حاجبيه قبل أن يتبع بتعجب أشد:
ـ من ..!!!
استطرد (أكرم) مباشرة:
ـ لقد طلب منا أن نأتي بك إلى المستقبل فقد ظهرت (سونيا جراهام) زوجتك السابقة والخبراء في المخابرات العلمية يرون أنك خير من يتعامل معها ومهمتنا تنحصر في ...
لم يبدُ على ملامح (أدهم) أنه قد فهم كلمة واحدة مما قيل حتى أنه أطلق ضحكة غريبة بتر على أثرها (أكرم) عبارته وهو يوجه نظره نحو (نور) الذي عقد حاجبيه للحظة كأنما يدرس الموقف لكن ما حدث لم يمهله كثيراً هذه المرة إذ اندفعت الحسناء نحو المكان صارخة وهي تقبض على (أدهم) من ياقة حلته كأنما لم تسمع من عبارة (أكرم) سوى نصفها الأخير:
ـ إذا فقد تزوجت (سونيا) أيضاً أيها الوغد بل وأنجبت منها أيضاً ...أيأتي كل هذا منك بعد ما فعلته من أجلك وأجل أولادك الشياطين ...!
لم يبدُ على (أدهم) للمرة الثانية أنه يعي حرفاً واحداً مما يحدث حتى أنه صرخ فيها:
ـ دعك من هذا الهراء يا (كارولينا) كل هذه افتراءات لا أساس لها من الصحة ...
اتسعت عينا (نور) و (أكرم) حينما اندفعت (كارولينا) بعيداً عنه ثم تناولت هاتفها المحمول وهي تستطرد:
ـ أما كان يكفيك أنك تزوجتني على "ضرة" لتفاجئني بالثالثة ... انتظر حتى تعرف زوجتك الأخرى (جيهان) أيضاً بهذه الكارثة وستفعل ما يكفي لإحالة حياتك جحيماً حقيقياً ... قالتها وضغطت أزرار هاتفها ولم يكد يأتيها صوت محدثتها حتى اندفع (أدهم) في محاولة منه لإثنائها عما تفعل بينما جاهدت هي للحديث قائلة:
ـ دعي ما في يديك يا (جيهان) واحضري هنا فوراً ... الخائن تزوج علينا ثالثة في السر كأنما لم يكتفِ بزيجاته السابقة المتعددة ... احضري فوراً ولا ...
لم تكمل حديثها حينما التقط منها (أدهم) الهاتف فاندفعت نحو الداخل وهي تصرخ:
ـ افعل ما يحلو لك ولنرى ماذا ستفعل حينما أخبر أخي (مايكل) ويأتي ليصفي حسابات هذه الفعلة معك ...
أما (أكرم) فقد ازدرد لعابه حينما استدار (أدهم) ناحيتهما هو و (نور) وبدأ في الاقتراب منهما حتى أنه استدار نحو (نور) قائلاً برعب:
ـ هل قلت شيئاً خاطئاً يا (نور) ..؟
لم يبد على (نور) أنه يسمعه هذه المرة وهو يتراجع للخلف ويدور بعينيه في أرجاء المكان وهو يتمتم في حذر:
ـ حاول أن تجد لنفسك ساتراً جيداً يا (أكرم) ..
بدأ (أكرم) في التراجع للخلف بدوره وهو يبحث بعينيه في أرجاء الحجرة عما يصلح لاتخاذه ساتراً حينما قبضت قبضة (أدهم) القوية على ياقته فأغمض عينيه في استسلام كأنما قرر ترك مصيره للظروف ... لكن فجأة ارتفع صوت هائل عبر مكبرات صوت من أسفل البناية:
ـ
" سلم نفسك يا (أدهم) ... شريكتك (منى) اتقبض عليها واعترفت عليك ... وقبضنا على شريكم التالت (قدري) ... البيت محاصر وإياك تفكر في الهرب ..."
ولم تكد العبارة تبلغ مسامع (أدهم) حتى كان قد اتخذ رد الفعل المناسب كالعادة ففي الجزء الأول من الثانية كان قد اتجه للنافذة وبنظرة إلى أسفل وأخرى إلى الأعلى كان قد درس الموقف تماماً واستوعب عقله توزيع رجال الأمن حول المنزل وفوق السطح وفي الجزء الثاني كان قد وضع خطة الفرار وبدأ تنفيذها على الفور ... وأمام عيني (نور) و (أكرم) اندفع نحو الشرفة دون أن يطرف له رمش واحد وبوثبة واحدة كان قد أصبح خارجها ... حتى أن (أكرم) قد حملق في الموقف لوهلة قبل أن تعيده يد (نور) إلى الواقع وهو يصرخ فيه:
ـ ماذا تنتظر ...؟!
لم يفهم (أكرم) عبارته لوهلة مما جعله يستكمل:
ـ لقد تم تعديل المهمة بناءاً على ما سمعناه الآن ..
لم يبدُ على (أكرم) أنه يستوعب حرفاً واحداً مما قيل وهو يتساءل في تعجب:
ـ ماذا تقصد ..؟
أجابه (نور) وهو يتجه نحو الشرفة في عجل:
ـ ألم تسمع ماقيل ... أم أنك تظن أننا سنتركه يفر بعد ما قيل في مكبرات الصوت منذ لحظات ..؟
حرك (أكرم) رأسه في عدم فهم حقيقي مما جعله يتبع بنفس الحزم:
ـ منذ هذه اللحظة أصبحت مهمتنا تنحصر في شيء واحد ...
قالها قبل أن يتبع بحسم جعل الارتجافة تسرى في أعماق (أكرم) لتشمل جسده بأثره:
ـ أصبحت القبض على (أدهم صبري) وتسليمه للعدالة ..
قالها ثم اندفع من الشرفة خلف (أدهم) فتبعه (أكرم) بدوره ...
وبدأت أغرب مطاردة في حياة (نور) و (أكرم) على الإطلاق ...
مطاردة (أدهم صبري) ...