تكومت جميع السجينات في ركن منزو في عنبر السجينات الواسع وبأعين مليئة بالفزع رحن يطالعن ( جـ ـ 18) التي انتصبت قامتها في تحفز عجيب في الركن المقابل بينما احتشد في العنبر عدد هائل من حرس السجن الآليين وتسابق عدد هائل من رجال الإسعاف في نقل (سنية ـ 15) ورفيقاتها علي محفات خاصة إلي حوامات الإسعاف النووية بعد تلك الإصابات الخطيرة التي حظين بها إثر معركتهن مع ( جـ ـ 18) والتي أحالت بعضهن إلي كومة من الخردة غير محددة المعالم تقتضي أن تبقي أقلها ضررا في ورشة الخراطة مدة غير معلومة من الزمن .. حتى أن (سنية ـ 15) نفسها قد فقدت عيينها الفوتونيتن وطاقم أسنانها الفولاذية وعدد غير معلوم من وصلاتها المحورية .. ولا ريب أنها فقدت قدرتها علي الإنجاب بعدما حدث لها من تلف جسيم في وصلاتها الداخلية ..
كل هذا كان يدور حولها بينما اكتست ملامح ( جـ ـ 18) ببرودة عجيبة وقد راحت تلقي بين الحين والآخر نظرة ثلجية باردة نحو بقية السجينات الناجيات من تلك المجزرة وقد رحن يتابعنها بدورهن في فزع وقد نجحت طريقتها في زرع الرعب في قلوبهن فقررن جميعا عدم البوح بما لديهن وأن تظل أحداث المجزرة التي رأينها سراً لا يغادر الكابلات البروتونية في أعماقهن .. كل هذا قرأته ( جـ ـ 18) في أعينهن المذعورة وهن يرصدن حركاتها في توتر كأنما ليبلغنها ما قد اعتزمن عليه والغريب أن هذا كان يسعدها بشدة .. كأنما راق لها هذا الشعور المطلق بالزعامة الذي انتابها في تلك اللحظة بشدة .. فارتسمت علي وجهها لا إراديا ابتسامة ظافرة بدت غريبة حقا مع ما يدور حولها من أحداث .. والواقع أنها لم تكن تدري أنها في هذه اللحظة كانت تخطو بقدميها أولي خطواتها نحو تلك الهوة التي ستبتلعها عن آخرها ..
هوة لا قبل لها بها..
وما كان يمكن أن يجب عما سيحدث سوي سيئ واحد
المستقبل ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
حاول القائد الأعلى للمخابرات العلمية أن يتحكم في انفعالاته بقدر الإمكان حتى لا يظهر ذلك التوتر الذي سري في جميع بدنه علي صوته حينما أتاه صوت (سلوى) عبر الهاتف تستفسر عن غياب زوجها (نور) ورفيقه (أكرم) ولوهلة لم يجد ما يقول قبل أن يحسم قراره قائلا:
ـ لا تقلقي يا (سلوى) لن يمضي الكثير من الوقت حتى تكون المهمة التي ذهبا في شأنها قد انتهت وعادا سالمين .. أم أنك نسيتي أنها ليست إلا واحدة من تلك المهام التي اعتدتم عليها
لم يجبه سوي صمتها هذه المرة مما جعله يتبع سريعا كأنما أراد أن يشتت أفكارها :
ـ ما هي أخبار (محمود) ... أخبريه أن الجميع هنا يرسل له تحياته من أصغر فراش في الجهاز
ومرورا بكل المخبرين والضباط ...
ثم صمت فترة ليتبع بعدها:
ـ قولي له عمك القائد الأعلى يرسل لك تحياته وتهنئته بسلامة الوصول .. وأخبريه أني سأحضر الأولاد وأمهم وسنأتي لنبارك له سلامة الوصول بأنفسنا قريبا
ثم أتبع سريعا:
ـ بالمناسبة يا (سلوى) .. طبق الفاصوليا الخضراء الذي تناولناه عندكم في المرة الماضية كان رائعا ..
مصمصت (سلوى) شفتيها بلا صوت ثم ضغطت على أسنانها قبل أن تقول:
ـ سأصنع لكم الكثير منه يا سيدي
اتسعت ابتسامة القائد الأعلى في سعادة قبل أن يتبع:
ـ لا يا (سلوى) لا نقصد.. ولكن ما دمت مصرة .. فاجعليها ملوخية بالأرانب فأنا أعشقها كثيرا ....
قاطعته (سلوى) وقد أوشكت علي الانفجار:
ـ علي الرحب والسعة يا سيدي
ثم أتبعت بغل حقيقي:
ـ ألا تريد شيئاً آخرا..؟
أجابها سريعا:
ـ سيكون ذلك كافيا هذه المرة .. ولكن لاتنسي المحشوات .. والحلوي والمشروبات
أرادت أن تصرخ في سماعة الهاتف ولكنهاكتمت مشاعرها بينما أتبع هو سريعا:
ـ مادام الأمر كذلك فسأتصل بزوجتي حتي لا تصنع طعاما اليوم وسأخبر كل أولادي وأحفادي حتى يجهز كل منهم نفسه
قالها ووضع سماعة الهاتف في سعادة وراح يدير أمر (أكرم) و(نور) في رأسه مرة ومرة ومرات عديدة .. دون أن يجد لهذا الموقف من حل ... لقد تعقدت الأمور كعادتها .. وهاهو (نور) و ( أكرم) في مكان ما وزمان ما لا يعلمهما إلا الله وحده ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
لم يكد بواب البناية يدلف إلي غرفته في مدخل البناية حتى اندفع نحو الهاتف علي الفور أمام أعين طفله الذاهلة والذي صرخ فيه بتعجب قائلا وهو يتناول أحد زراعي (البلاي ستيشن):
ـ إحنا مش هنكمل لعبة (الفيفا ) دي في سنتنا..؟
أشاح له البواب بيده في عدم اكتراث وهو يدير رقم خاص يحفظه عن ظهر قلب ولم يكد صوت محدثه يأتيه علي الطرف الآخر حتى ارتسمت علي وجهه ابتسامة ساخرة يجيدها كل من ظهر في الروايات من قبل وقد اكتسي وجهه بحمرة زرقاء مائلة إلي الاصفرار قبل أن يقول:
ـ أخبار جديدة يا سيدي .. هناك شخصان جاءا منذ قليل للسؤال عنك
قالها وصمت فترة ثم أتبع بعدها بنفس الحماس:
ـ نعم يا سيدي .. إنهما مخبران .. لا ريب في ذلك
ثم أتبع وهو يتحسس مؤخرة عنقه بنفس الثقة :
ـ أنت تعلم أني قد قضيت في السجن فترة طويلة ولا ريب أني أصبحت أعرف هذه الوجوه جيدا
قالها وصمت قليلا عاد ليتبع بعدها في حماس:
ـ لا تقلق يا سيدي سأبذل قصاري جهدي .. وسأنبئك بالتطورات في وقتها
قالها ووضع سماعة الهاتف في مكانها وقد علت وجهه ابتسامة أخري وهو يمتدح ذكائه في أعماقه ... كان هذا قبل أن تطرق مسامعه تلك الصرخة الحادة التي أطلقتها السيدة التي رأت (نور) و (أكرم) أثناء تسلقهمها المواسير الخلفية فحمل الشمروخ في يده واندفع خارجا من الحجرة بسرعة الصاروخ ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ـ لا يوجد ما يسمي نهر الزمن يا سادة ..!
قالها (محمود) بلهجة قاطعة حازمة لم تترك مجالاً للاعتراض .. وبعدها سادت تلك الموجة العاتية من الصمت ..!!
صمت غريب يشبه صمت الصحراء في يوم شديد القيظ .. والعجيب أن تدلت فكوكهم السفلية جميعا إلي الأسفل في بلاهة منقطعة النظير وقد بدوا جميعا كتماثيل شمعية نسي صانعها أن يغلق فمها أو تعمد ذلك .. حتى أن (محمود) نفسه راح يتطلع نحوهم ببلاهة بدوره .. ثم ازدرد لعابه في صعوبة وتنحنح قائلا:
ـ وحدووووووووووووووووووه
لم يجاوبه سوي الصمت مما جعله يعيد الكلمة مرة أخري .. مما جعل (رمزي) ينتبه لأول مرة قائلا:
ـ لا اله إلا الله
أما (سلوى) فقد التفتت نحو ( محمود) وبدت كما لو أنها لم تستفق من تأثير المفاجأة وهي تقول:
ـ ماذا قلت ..؟!!
هو (محمود) كتفيه في عناد طفولي قائلا:
ـ لن أعيد ما قلته .. وليكن ما يكون
ـ أطلقت (مشيرة) ضحكة قصيرة متوترة وهي تستدير نحوه قائلة:
ـ لابد انك تعني أنه لا يوجد ما يسمي نهر الزمن وإنما توجد ترعة الزمن مثلا أو ..
حدجها ( محمود) بنظرة نارية قاسية ألجمت لسانها ثم أتبع في حدة:
ـ قلت انه لا يوجد ما يسمي نهر الزمن أيها السادة كما لا توجد أي ترع أو مصارف للزمن .. ألا تفهمون ..!!
تبادل الجميع نظرة صامتة مرة أخري مما جعل (رمزي) يربت علي ظهر (محمود) قائلا:
ـ (محمود) يا صديقي هل مازلت تعاني من بعض المتاعب الجسدية أو الإرهاق من جراء ما عانيته في الفترة السابقة ..؟
استدار نحوه (محمود) وفي عينيه مزيج من الحنق والضيق قبل أن يقول:
ـ (رمزي) .. دعك من تحليلاتك هذه و انس كلام الكتب الذي تحفظه وانصت لما أقول
ثم استدار نحو الجميع قائلا:
ـ بل انصتوا جميعا لما سأقول
قالها و شرد بعينه في الجدار المقابل فترة حتى أنهم جميعا قد خشوا أن يكون قد أوشك علي السقوط في الغيبوبة السابقة مرة أخري .. لكنه اعتدل في جلسته قائلا فلذلك حكاية كبيرة تفوق الخيال
قالها وانطلق يحكي لهم سر أغرب حادثة حدثت له أو لفرد من أفراد فريق (نور) علي الإطلاق
بلا أدني مبالغة..!!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
تنهدت (سونيا جراهام) في حرارة وهي تستمع إلي الموسيقي الهادئة التي انبعثت من المذياع واستدارت تتابع صورة ابنها (خميس العترة) المعلقة بجوار صورتها فوق المدفأة وشردت بعقلها طويلا لتسترجع ذكرياتها مع ابنها (آدم) الذي أصبح الآن (خميس العترة) .. وكيف أن حنقها الدائم علي غريمها وزوجها السابق (أدهم صبري) قد سول لها إخفائه بعيداً عن عينيه دون أن تدري وقتها أنها كانت بذلك تحرم نفسها منه .. وتحرمه منها .. ولكن ها هي اللحظة التي انتظرتها طويلا .. سيعود (خميس) من مصر لا محالة .. سيعود إلي جوارها مرة أخري .. وستخبره حقيقة كونها أمه .. وستجعل منه السلاح الأخير الذي سيصيب (أدهم صبري) في مقتل .. سيكون في ذلك انتقاماً أخيرًا من (ادهم صبري) .. وكم سيحلو لها أن تري دموع الهزيمة في عينيه حينما يقتله ابنه (خميس) .. ويا له من انتقام .. انتقام سيشبع رغبتها الدائمة إلي الفوز .. سيروي عطشها القديم إلي إذلاله وإهدار كرامته وتاريخه الطويل كما فعل معها دوما .. حملقت مرة أخري في الصورة .. ثم انبعث من المذاع فجأة صوت مذيعة البرامج قائلة:
ـ هنا إذاعة (بيب بيب تل أبيب) ... نستمع معكم إلي المطربة الفضائية القديرة (هيداش) في أغنتيها الشهيرة (ديس بيابحلا أي ايانض تنا ) من فيلم (هأرملا هلوهجملا ) والتي شاركها فيها البطولة الممثل القدير (دامع يدمح ) و ( يركش ناحرس )
أطلقت (سونيا) تنهيدة حارة وهي تستمع إلي كلمات الأغنية التي أصابت قلبها في مقتل وراحت تتذكر ابنها (خميس) بينما تترنم المطربة الفضائية (هيداش) بكلمات أغنيتها الخالدة والتي تقول كلماتها :
ـ (ديس بيابحلا أي ايانض تنا .. أي لك يلما و ايانم تنا .. ) ..!!
ولم تكد كلمات الأغنية تصل إلي العبارة التي تقول فيها (هيداش) : ( ولوقت اي ام ام .. أي بلق ام ام .. يشعبشم يرمع ام هلكملا ايد ) .. حتى أطلقت لدموعها العنان وهي تحتضن صورة ابنها (خميس) في حنان بالغ ..
وما هي إلا دقائق معدودة حتى كانت قد استعادت رباطة جأشها ثم راحت تطالع البرق الذي لم يتوقف لحظة واحدة منذ أن بدأت الأحداث من النافذة وهي تتسائل في أعماق عقلها عما يمكن أن تكون (تفيدة جراهام) قد فعلته في مصر في سبيل استعادة ابنها (خميس) وبدا لها السؤال مبهماً
غامضا..
مجهولا..
وإلي أقصي حد
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كانت الكارثة محققة .. سفينة الفضاء في مجال غريب لا يعرف ماهيته أحد .. بينما يدنو الموت منهم جميعا مع كل لحظة تمضي في هذا المكان..!!
هكذا شعر (محمود) .. وهو يتابع بعينيه كل أفراد فريقه الذي راحوا يرتعدون أمام المصير الجديد الذي قدر له أن
يحتويهم معا في هذا المكان الذي وصفوه بأنه نهر الزمن .. و بأذنيه راح يتابع تعليقات الجميع
ـ الخروج يحتاج إلي طاقة هائلة لا قبل لنا بها..
ـ وما الفارق بالنسبة لنا لقد ضعنا في الحالتين ..!
ـ سنبقي هنا للأبد... وما المقصود بالأبد... سنبقي حتى ينفذ مخزوننا من الطعام والأوكسجين ثم..
ـ كنت اعلم هذا .. كنت اعلم أن ابننا لن يولد أبدا يا (نور)..
هكذا شعر (محمود) قبل أن تقع عينيه علي الأمل الأخير علي (س ـ 18) .. كان واثق أنهم سيجدونه هنا .. من المحال ألا يكون في انتظارهم .. أنها تبعية الأحداث بكل تأكيد لابد من (س ـ 18) في كل مكان حتى فيما تخيلوه نهر الزمن .. !
أخرج (محمود) الأوتوجراف الخاص به وفي صفحته الأخيرة طالع توقيع (بودون) تحت هذه العبارة
ـ (مادام الموت آت لا ريب ، فلأمت في سبيل من أحب .. )
وفي لحظات كان محمود قد حسم قراره ..
وكان قرارا خاصا جدا
جدا
جدا
جدا(*)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
كان (أكرم) يقف بجوار أحد أبواب سفينة الفضاء يطالع مع الجميع جسد (س ـ 18) الذي سبح في الفراغ أمامهم مباشرة .. وكانت لحظة خيار لا يمكن تجاهلها .. فتحت أنظارهم جميعا كان جسد (س ـ 18) يبتعد في إصرار ثابت .. وفي رتابة قاتلة راح الجميع يتابع هذا الأمل الوحيد الذي راح يبتعد .. وقتها كانت خطة(محمود) قد اكتملت دون أن يخبر بها أحدا لأنه لو أخبر احد فلن ينصاع لفكرته أي شخص منهم ... وربما تصدوا له بضراوة لذلك فقد قرر أن ينفذها دون الرجوع لأحد .. كانت هذه الأفكار تدور في عقله وهو يحمل كابل الطاقة في يده بينما يقترب من (أكرم) الذي توقف أمام الباب فاقد شعوره بمن حوله دون أن يعنيه كالجميع سوي جسد (س ـ 18) الذي راح يبتعد .. ويبتعد بينما تتردد كلمات (بودون) الموجودة في الأوتوجراف الخاص به في عقله لهذا اقترب أكثر من جسد (أكرم) وهو يتمم في داخله :
ـ سامحني يا (أكرم) ... لابد ان يضحي شخص منا ..
قالها واندفع بجسده إلي الأمام في محاولة منه لدفع جسد (أكرم) إلي الفراغ أمامه ... كانت هذه خطته .. سيدفع بجسد (أكرم) إلي الفراغ أمامه ثم يناوله كبل الطاقة علي الرغم منه ليدفع به في جسد (س ـ 18) ... أملهم الوحيد
فجأة حدث ما لم يتوقعه (محمود) ولم يرد له علي بال .. فقد تحرك (أكرم) من مكانه في اللحظة ذاتها بلا سابق إنذار دون أن يدري ما كان يحدث خلفه ... وقتها وجد (محمود) نفسه يحلق في الفراغ ... لم يدر وقتها هل انزلقت قدمه أم دفعه شخص آخر حاول تنفيذ فكرته .. كل ما شعر به أنه يهوي في نهر الزمن أو ما اعتقده نهر الزمن ..!!
كانت لحظة غريبة .. انتابه فيها إحساس بالرعب لم يصادف أحد من أفراد الفريق من قبل .. لهذا فقد حاول أن يستنجد بهم .. لكنه لم يكن يدري ما حدث .. كان يصرخ فيهم مستنجدات بعبارات ملتاعة .. لكنهم جميعا بدوا كما لو أنهم يفهمونه خطأ .. يا للأوغاد ..!!
لماذا ينظر نحوه (نور) هكذا.. لماذا لم يتحرك احد لنجدته .. هل يسمعون عباراته خطأ.. تبا لهم .. تبا لهم..!!
وقتها استدار إلي الخلف .. وقد بدا لهم الأمل ممثلاً في جسد (س ـ 18) الماثل أمامه .. سيدفع بأسلاك الطاقة إليه ... سيحرره من ثباته العميق .. وقتها سيكون هو أمله الوحيد بعد الله في هذا المكان ... وكانت الكارثة .. فتحتي الطاقة أقل حجما بكثير من طرفي السلك بكثير .. يا لها من كارثة ..!!
وقتها لم يجد ملاذا أخر مما سيقدم عليه .. دفع إصبعيه في فتحتي الطاقة علي أمل ألا يستغرق ذلك طويلا.. ثم أن المقاييس التي تتحكم فيه في هذا النهر لابد وأنها تختلف عن المقاييس الأخرى التي اعتاد عليها .. وكان هذا هو أمله الوحيد .. ألا تخضع الأمور هنا للقوانين الفيزيائية المعتادة كما قال (نور) نفسه منذ لحظات .. وهو كالجميع يعلم أن (نور) لا يخطئ .. هو لا يفعل وآلاف القراء يعلمون ذلك و... بتر أفكاره وقتها وهو يدفع طرفي السلك في فتحتي الطاقة عند (س ـ 18) وأغمض عينيه .. و ..
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
فجأة أفاق (محمود) من شروده علي يد (رمزي) التي راحت تربت عليه في هدوء وهو يقول:
ـ (محمود) .. أأنت واع لما حولك يا صديقي..؟
أدار (محمود) عينيه ببطء نحو (رمزي) ولم يكد يفتح فمه بالحديث حتى طرقت أذنه مع الجميع تلك الجلبة التي صدرت من باب المنزل .. فاستدار الجميع نحو الباب ...ثم اندفع (رمزي) نحو الباب .. بينما توقف الجميع في وضع تأهب .. استعدادا لما يمكن أن يحدث في تلك اللحظة ..
ولم يكد (رمزي) يحرك مزلاج الباب حتى طالعه وجه (ى ـ 60) الآلي وخلفه بقية أفراد عصابته الآلية المكونة من (برعي - 34) و (هريدي ـ 27) و ( أبو سريع ـ 41) ... ولم يكد (رمزي) يري هذا الشر المتمثل في أعينهم حتى تراجع إلي الخلف بغتة لا إرادياً بينما أزاحه (ى ـ 60) من طريقه في بساطة ثم اقتحم هو ورجاله الآليون المكان قبل أن يصرخ فيهم قائلا بصوته المعدني البارد:
ـ هو فييييييييييييييين ..؟؟؟
ثم أنه لم يترك المجال لتسائلهم وهو يتبع بصوت أكثر حدة:
ـ فين الواد اللي اسمه (س ـ 18)
في تلك اللحظة و دون أن يجيبه أحد ارتج باب حجرة (س ـ 18) الخاصة وخرج منها هذا الأخير مترنحا من أثر الإدمان وهو يحمل زجاجة أحماض كونية مسكرة قبل أن يقول بأحرف متلعثمة جاهد بكل طاقه حتى تخرج:
ـ مين .. مين إللي بيسأل عـ .. عـنـ عنـي ..هئ ..!!
ويبدو أن هذه العبارة قد استنفذت طاقته عن آخرها .. حتى أنه هوي كحجر بجوار باب حجرته
وفي تلك اللحظة صرخ ( ى ـ 60) في الجميع بينما يمسك (نشوى) من زراعها في عنف شديد:
ـ هو دا (س ـ 18) ..؟
صرخت فيه (سلوى) وهي تندفع لتخليص ابنتها من يده:
ـ نعم ... إنه (س ـ 18)
دفعها (ى ـ 60) مع ابنتها بعيدا ثم أشار إلي رجاله فاندفعوا نحو جسد (س ـ 18) فحملوه معهم .. واندفعوا جميعا خارجين من المنزل ... تاركين خلفهم علامات الاستفهام تملأ مخيلة الجميع بأحرف بارزة
دون أن يعلم الجميع أن (س ـ 18) في سبيله لخوض أعنف تجربة في حياته علي الإطلاق
وبدون أدني مبالغة..
بحق ..!!
___________________________________________________________
(*) راجع العدد رقم 100 (الزمن =صفر)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
ارتعدت فرائص أكرم وهو يتابع كل هذا العدد من الأشخاص الذي تجمعوا أسفل البناية التي يتسلقون مواسيرها الخلفية بينما كان يمسك أقلهم شأنا بسكين
مطبخ كبير.. وتملكه رعب حقيقي سيطر علي كل مشاعره و تجمد جسده للحظات حتى أن (نور) وكزه بيده في أسفل ساقه صارخا:
ـ هل ستقف هذا طويلا .. أم ستسرع بأقصى طاقتك حتى لا نقع في براثن هؤلاء المتعطشين للدماء ..؟
هز (أكرم) رأسه كأنما لينفض عن نفسه شعوره بالرعب وازدرد لعابه وهو يسب ويلعن ذلك اليوم الذي أنضم فيه إلي المخابرات العلمية وتمني أو أنه قضي نحبه في فترة الاحتلال أو ظل فاقدا لعقله إلي الأبد .. وعلي الرغم من ذلك فقد دفعت عبارة (نور) الدم في أوردته فاندفع كالمجنون يتسلق المسافة الباقية حتى أقرب نافذة وتبعه (نور) علي الفور كأنما تطاردهما شياطين الجحيم .. وللمصادفة العجيبة كانت النافذة الوحيدة المفتوحة في البناية بأثرها في تلك الفترة من الليل هي النافذة المطلة من شقة بالدور الخامس...
من شقة (أدهم صبري) ..!!
وبلا وعي ألقي (أكرم) بنفسه من النافذة علي الفور و بتفكير مماثل لم يجد (نور) أيضا سوي نفس الطريق فألقي بنفسه من النافذة بالمثل
وفي أسفل البناية كان بواب البناية يتابع ما يحدث كأنما راق له أن يحدث ذلك للمخبريّن الذيّن جاءا بغرض التحري عن (أدهم صبري) .. وما أن تابع (أكرم) و (نور) الذيّن اقتحما النافذة حتى ابتسم في شراسة عجيبة .. وهو يعلم ما يمكن أن ينتظرهما في هذا المكان من مصير لا يتخيلانه .. حتى أنه لم يتمالك من منع نفسه في إطلاق ضحكة ساخرة .. ترددت كثيرا في المكان ..
وكان رد فعل عجيب
جدا
جدا
جدا
وأغرب مما نتوقع
بكثير..!!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
لم يكد الدكتور (فريد عبد العزيز) يدلف إلي مكتب القائد الأعلى للمخابرات العلمية حتى هب هذا الأخير من مكانه صائحاً :
ـ ألم تتوصلوا بعد إلي مكان (نور) و(أكرم) ..؟!
تنحنح الرجل في توتر ثم حملق في القائد الأعلى فترة ما قبل أن يقول:
ـ الواقع يا سيدي أننا قد تمكنا من معرفة مكانهما .. ولكن
قاطعه القائد الأعلى في حيرة ولهفة قائلا:
ـ هات ما لديك يا رجل مباشرة بدلاً من هذه الدوائر الفارغة التي تقذف بي فيها ولا تنس أني أعاني من أمراض ضغط الدم المرتفع والسكر والبلهارسيا وتشقق جلد القدمين ..
ضم الرجل شفتيه وتقلصت عضلات وجهه قبل أن يقول في تعجب حقيقي:
ـ ولماذا تصمت علي نفسك كل هذا الوقت ..؟
ثم أتبع بنفس اللهجة:
ـ لقد كنت أعاني أنا أيضا من النمش و تقصف أطراف الشعر ولكني لم أصمت علي نفسي مثلك
شحذت عبارته انتباه القائد الأعلى فقال له علي الفور:
ـ أنا أعاني من هذه المشكلة أيضا ...قل لي سريعا كيف تصرفت
جذب الدكتور (فريد) مقعدا وجلس قبالته قائلا:
ـ هل تعرف (الخيار) ..؟
أومأ القائد الأعلى بتركيز شديد مما جعله يستأنف كلامه قائلا:
ـ أنت يا سيدي تجيب الخيار وتقطعه علي هيئة حلقات و..
ثم بتر عبارته ونظر نحو القائد الأعلى قائلا:
ـ ولكني جئت لأخبرك بشان أخر
زوي القائد الأعلى حاجبيه وهو يتبع :
ـ لقد كشف الفريق العلمي أن المركبة الزمنية التي استقلها (نور) و (أكرم) قد شردت في مسارها لتلقي بهما في بعد آخر .. أو مدخل زمني مختلف .. لم نحدد ماهيته بعد .. و
قاطعه القائد الأعلى بضيق شديد قائلا:
ـ ماذا بك يا دكتور (فريد) أحادثك في النمش وتقصف الشعر وتكلمني عن (نور) و(أكرم) والأبعاد الأخرى .. ألن نكف عن هذه السيرة أبدا.. لقد أصبحت سمجا بحق ..!
اصطبغ وجه الدكتور (فريد) بحمرة الخجل بينما لانت معالم وجه القائد الأعلى مرة أخرى قبل أن يتبع:
ـ هيا .. هيا .. أكمل .... ماذا بعد أن نقطع الخيار علي هيئة حلقات..؟
وانطلق الدكتور (فريد) يروي له التفاصيل بمنتهي الدقة بينما راحت عينا القائد الأعلى تتسعان في انبهار..
وذهول..
وإعجاب..
إلي أقصي حد ..!
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
انزوت جميع السجينات في ركن العنبر مرة أخري ورحن يتبادلن عبارات هامسة بينما راحت (جـ ـ 18) تتناول طعام الإفطار المكون من شرائح الصاج وقليل من المسامير وقدح من العدس الأيوني ... وراحت تلقي نحوهن نظرات سريعة كل وهلة وهي تلوك شرائح الصاج الصدئة بأسنانها وفي أعماقها كانت تشعر بمزيج عجيب من الندم والحسرة وتتذكر حياتها السابقة حيث كانت تأكل ما لذ وطاب من أصناف المعادن المختلفة وتشرب أجود أنواع الأحماض المركزة .. ولكن يبدو أن الأمور ما عادت تسير بها علي نفس الوتيرة مرة أخري ... فها هي ملقاة بلا قيمة في عنبر واحد مع مجموعة من الآليات ال********************************ات من السفاحات والقاتلات ... دون أن يعرف عنها أي شخص أي شيء .. أطلقت تنهيدة صامتة و راحت تطالع جنبات العنبر ال******************************** بطرف عينيها وتنهدت علي ما فات و احتواها شعور بالعجز والمهانة والرعب مما قد ينتظرها في هذا المكان هي وطفلها القادم .. ولم تكد تصل عند هذه النقطة حتى ارتج كيانها للمرة الأولي كأنما تذكرت ما قد نسيته طويلا.. طفلها القادم ... ودون أن تشعر بما تفعل هبت من مكانها وحملت اللوح المعدني الذي يحمل أطباق الطعام وألقت به نحو الحائط ثم أطلقت صرخة هائلة ألقت الرعب في قلب السجينات اللائي ارتسمت في ملامحهم أعتي صور الرعب والفزع بينما تقدمت (جـ ـ 18) منهم في هدوء أثار رعبهم ألف مرة ومرة .. ثم قالت بهدوء مخيف وقد بدا أن أمرا ما قد سيطر علي تفكيرها:
ـ أنتي يا بت منك ليها استعدوا
أمتزج التساؤل بالرعب في ملامح السجينات بينما قالت (جـ ـ 18) بنفس اللهجة الهادرة:
ـ أنا قررت إننا هنهرب كلنا الليلة
لم يجبها سوي الهمهمة الخافتة التي تجلت فيها أقسي علامات الرعب مما جعلها تتبع بلهجة لا تخلو من غموض بينما تتابع بعينيها لوح الطعام المعدني المكوم بجوار الحائط:
ـ أنا خلاص دبرت خطة الهرب..
قالتها وراحت تنسج في عقلها خطة الهرب
في إصرار
شديد
مخيف
مرعب
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
لم يكد (نور) يضع قدمه في داخل الغرفة المظلمة حتى طالعه وجه (أكرم) الذي التفت إليه في الظلام قائلا:
ـ إنها شقة (أدهم صبري) كما وصف لنا البواب
لم يري ملامح (نور) مما جعله يتبع بنفس اللهجة المتوجسة:
تري ماذا يخفي لنا هنا..؟
ـ أجابه (نور) بهدوء شديد:
ـ هل نسيت أن (أدهم صبري) هذا هو الذي قطعنا هذه الرحلة لملاقاته .. وأننا من كنا نبحث عنه ... لقد ساعدتنا الظروف .. المهم الآن أن نقابل الرجل قبل أن يلحق بنا هؤلاء المفترسون بالخارج .. قالها وهو ينصت إلي صوت الضجيج الذي بدأ يخفت في الخارج لسبب لا يعرفه... حتى انه حاول فتح فمه ليطلع (أكرم) على ما يدور في باله .... ولكن فجأة وبلا سابق إنذار .. وأمام عينيه الذاهلتين مع (أكرم) تطلعا إلي باب الحجرة الذي انفتح عنوة حتى أنهما قد تراجعا للخلف علي اثر المفاجأة ثم اقترب مع (أكرم) مرة أخري ليتطلعا إلي الأطفال الأربعة الذين حمل الضوء القادم من البهو صورتهم إلي أعينيهما والذين لا يتجاوز عمر أكبرهم سنا! السنوات العشر قبل أن يطرق أذنيه صوت (أكرم) الذي قطع الصمت المخيم علي الحجرة قائلا:
ـ من أنتم ..؟!!
لم يدريا في هذه اللحظة سببا لتلك الابتسامة الخبيثة التي ملأت وجوه الأطفال الأربعة قبل أن ينظر كل منهما للآخر في مرح خبيث بينما تسائل أحدهم في سخرية:
ـ لصوص ... ؟!!
ثم التفت نحو بقية الأطفال قائلا:
ـ مرحي يا رفاق .. لقد بدأ الملل الذي نحياه منذ فترة ينكسر
جاوبه الجميع بضحكة مماثلة قبل أن يتبع بأسلوب أكثر ثقة وسخرية :
ـ معذرة أيها السادة .. فقد نسينا أن نقدم لكم أنفسنا
قالها ثم أشار إلي نفسه بينما يتبع:
ـ (مايكل أدهم صبري )
ثم أتاهما صوت الثاني:
ـ ( كوهين أدهم صبري)
والثالث:
ـ (ريكاردو ادهم صبري)
والرابع
ـ (فرانسوا أدهم صبري)
أراد (أكرم) أن ينظر نحو(نور) ليرى إن كانت علامات الذهول قد أصابته بالمثل أم لا .. لكن ما حدث لم يعطه الفرصة لذلك فقد أتاهم صوت الطفل الأول صارخا في بقية الأطفال:
ـ هجوم يا رفااااااااااااااق