كاتب الموضوع :
hind2006
المنتدى :
الارشيف
بعد يومين من مقتلها، شيعت جنازة إحسان، وقد حضرها كل الصحفيين والعاملين بقطاع الإعلام في البلاد والمسئولين الكبار وكل أهلها وأصدقاءها وحتى العامة الذين عرفوها وقرؤوا لها مقالاتها وأحبوها، اجتمع كل هؤلاء أمام باب الجريدة بعد الانتهاء من دفنها ووفقوا صامتين معبرين عن احتجاجهم وغضبهم لما وقع.
نظرت ضحى إلى المتظاهرين كان من بينهم رئيس التحرير وكل الصحفيين الذين يعملون بالجريدة يقفون مع بعضهم البعض، تحركت عيناها حول المجتمعين محدثة نفسها: لا يعقل أن تكون إحسان قد ماتت بهذه الطريقة، إنني حتى الآن غير مصدقة للخبر، ربما هي مجرد مزحة أو ربما غرقت في كابوس مريع لم أستيقظ منه بعد.
لمحت المحقق الذي يعمل على القضية فسرت في جسدها رعشة حين تذكرت تحقيقه معها وسؤاله لها متى كانت آخر مرة التقت فيها إحسان، لم تعرف لماذا لم تخبره بأنها التقتها قبل يوم من وفاتها وأدخلتها منزل جدتها حيث تحدثتا طويلا وارتشفتا الشاي بالقرب من شجيرات الليمون المغروسة في فناءه، لم تخبره بأنهما افترقتا في وقت متأخر مساء ذلك السبت. وكادت بعد ذلك أن تعود لتخبره الحقيقة، فهي لم ترتكب أي جرم أو خطأ تستحق عليه عقابا، لكنها بقيت صامتة، ولو عرف المحقق بأنها كذبت عليه فسيشك بأن لها يدا في مقتل إحسان، لامت نفسها لأنها كذبت عليه، أما الآن فقد فات الأوان لإخباره بالأمر لأن ذلك سيثير الشكوك حولها.
أشاحت ببصرها عن وجه المحقق لتصطدم بوجه مألوف لديها، وجدت نفسها تعيد شريط ذاكرتها إلى الخلف قليلا، لعلها تستطيع أن تتذكر متى رأته، انتفض قلبها فجأة وطرق بقوة، وهي تتذكر ذلك الرجل النحيف الذي كسا الشيب شعره، والذي كان متوترا عندما أتى إليها يسأل عن إحسان، كما تذكرت كيف ارتبك وبدا عليه الرعب حينما التقته مرة أخرى في تلك المستشفى حين ذهبت لزيارة صديقة لها. نعم إنه هو بالتأكيد، كان مطأطأ رأسه بحزن،عاقدا يديه خلف ظهره، لكنه حرك رأسه فجأة لتلتقي عينيه بعينيها المتفحصتين، ابتسمت بحزن له مطمأنة، بدا عليه الارتباك الشديد، فتراجع إلى الخلف محاولا الهرب من عينيها، لكنه اصطدم بكتل من البشر خلفه، فزاد ارتباكه وهو لا يزال ينظر إليها بقلق، أحست أنها فرصتها لتكلمه وتحاول طمأنته، هي حتى لا تعرف لماذا وكيف، لكنها أدركت أن هذا الرجل يخفي سرا لا تعرفه سوى إحسان، وقبل أن تتجاوز نصف المسافة بينها وبينه شعرت بيد قوية تضغط على ذراعها وتجرها خارج الحشد دون أن يعطيها الفرصة لتعترض.
شعرت بالهلع، و فكرت حينها أنها ربما ستلاقي مصير إحسان، كيف تختطف من بين كل ذلك الحشد من الناس دون أن يحرك أحدهم ساكنا، وكيف بقيت متماسكة لأعصابها حتى تلك اللحظة، ولماذا لم تصرخ طلبا للنجدة؟
ذلك راجع لأن الفترة بين الفعل ورد الفعل كانت أقصر من التي عرفت فيها هوية مختطفها، فلم تقم سوى بشهقة مخنوقة، وحل محل الخوف شعور آخر بالدهشة والغضب.
نظر إليها بعينين غاضبتين قبل أن يزمجر في وجهها:
- أخبريني الآن.. ما اللعبة التي تلعبينها؟
نظرت إلى رشيد بعينين واسعتين غير مصدقتين فأضاف قائلا وهو لا يزال يمسك بذراعها:
- إنك يا آنسة في ورطة كبيرة.
لم تفهم ضحى ما كان يقصده رشيد بكلامه فهمست بصوت مخنوق:
- ماذا؟
حرك رأسه بقوة قائلا:
- إنني أعرف جيدا أنك كنت مع إحسان يوم السبت وقضيتما وقتا طويلا معا.. لكن ما لا أفهمه، هو لماذا كذبت على المفتش.
ترجته بخوف وهي تحاول نزع ذراعيها من بين يده المطبقة عليها بقوة:
- أرجوك دعني..نعم لقد كنت معها، لكن من أخبرك؟
انتزع يده عن ذراعها قبل أن يرد عليها بسخرية:
- لا يهم الآن كيف عرفت، بقدر أهمية السبب الذي دفعك للكذب على المفتش.
ردت بغضب مدافعة عن نفسها:
- أنا لم أكذب عليه.. فقط لم أخبره بأنني كنت معها، ولو سألني ذلك لكنت أجبت.
أطلق ضحكة قصيرة لا مرح فيها ثم قال ساخرا:
- أنت لم تكذبي حقا.. لكنك احتلت على المفتش.. نعم هذه هي الكلمة المناسبة.. أنت محتالة وصولية، لا أفهم كيف وثقت بك إحسان.. ولا أعلم لما لم أخبر المفتش عنك حتى الآن.
صرخت ضحى في رعب:
- أرجوك لا تفعل
تنهد بنفاذ صبر قبل أن يقول:
- لكنني أريد أن أعرف لماذا كذبت على المفتش، لماذا أخفيت الأمر عنه إلا إذا كنت...
قاطعته بحدة:
- تأكد أن لا علاقة لي بموت إحسان، لقد كانت طيبة معي جدا، لا يمكنني أن أؤذيها أبدا.
أمعن رشيد النظر في ملامحها المرتعبة ثم قال أخيرا:
- حسنا أصدقك..لكن هناك حلقة مفقودة في هذه القصة.. لا أعرف حتى الآن ما هي غير أنني متأكد من أنك قد تساعدينني بالمعلومات التي تملكينها.
اعترضت ضحى على كلامه:
- أنا لا أملك أية معلومات...
- أنت تعتقدين أنك لا تملكين معلومات، لكنني واثق بأن إحسان وثقت بك لأنها علمت جيدا أنك لن تفهمي شيئا مما يجري حولك.
- وكيف تعرف ذلك؟
رد رشيد بتشدق:
- لأنني عرفت إحسان مدة طويلة تجعلني أفهم ما كان يدور في رأسها حتى لو لم تخبرني بذلك، وأعرف جيدا أن وفاتها كانت نتيجة تحقيقاتها الأخيرة والتي لم تشأ أن تطلعنا عليها إلى أن تكتمل خيوط الأحجية كما كانت تحب أن تسميها، المشكلة هي أنني لا أعرف بداية الخيط لهذه القضية.
سألته في مرارة ساخرة:
- وهل تعتقد أنني بداية هذا الخيط؟
صحح لها:
- أعتقد أنك ستقودينني إلى بداية هذا الخيط.
هزت كتفيها باستسلام قائلة:
- حسنا، ماذا تريد مني الآن.
أمسك بذراعها يجذبها بعيدا عن الحشد القريب منهم لكن هذه المرة لم يفعل ذلك بخشونة وقال بصوت هامس:
- أريد كل المعلومات التي عرفتها عن إحسان مهما اعتقدتها تافهة.
عندما نطق بتلك الكلمات الأخيرة تذكرت أن إحسان كانت تكرر عليها نفس الكلمات كلما طلبت منها البحث في موضوع ما، فكرت حينها كم هما متشابهان.
سألها رشيد عندما سرحت بعيدا عنه:
- بماذا تفكرين الآن؟
أجابته بثقة:
- بأنني ربما لدي شئ مهم لك
- وما هو؟
ردت بعد أن استدارت نحو الحشد الذي لا زال واقفا يستمع لبعض الخطابات المعزية التي تلقيها بعض الشخصيات الحاضرة هناك من مسئولين ورؤساء جرائد وصحفيين بارزين. وألقت نظرة حيث كان يقف ذلك الرجل غريب الأطوار فلم تجده:
- كان هناك واقفا.
سألها رشيد: - من؟
التفتت مرة أخرى لتواجهه:
- لا أعلم، لكنني أعرف أنه قد يساعدنا.
- سيد رشيد لقد حان دورك لإلقاء خطاب التعزية خاصتك.
أبعد رشيد عينيه عن وجهها لينظر إلى الخلف حيث مصدر الصوت وقال له في نفاذ صبر:
- سأحضر فورا.
ثم عاد لينظر إليها:
- سنكمل حديثنا لاحقا...
ثم أضاف بلهجة محذرة:
- وإياك أن تستغلي ثقتي بك... لاقيني هذا المساء على الساعة الخامسة في مطعم "النجمة المضيئة".. هل تعرفينه؟
ردت عليه: - نعم أعرفه.
حرك رأسه تعبيرا عن الرضا، ثم استدار واختفى بين الحشد، بينما بقيت هي مسمرة في مكانها تفكر في الحفرة التي أوقعت نفسها بها، لقد عرفت أن رشيد لن يتركها حتى يأخذ منها كل المعلومات التي تهمه، لكنها لا تعرف الكثير، بل ربما هي تعرف أكثر مما تعتقد كما أخبرها هو بذلك، إنها لا تعرف سوى ذلك الرجل الغريب الذي يظهر فجأة ويختفي فجأة، كما لا يمكنها أن تنكر بأن إحسان كانت خائفة من شئ أو شخص ما عندما التقت بها في المدينة القديمة، كما أن قصة خوفها من ذلك المجنون لم تعد قادرة على استيعابها.
إلى ماذا سيأخذها هذا التفكير المتواصل، يجب عليها أن تبحث أولا عن بداية الخيط كما قال رشيد وستصل في النهاية إلى معرفة الحقيقة كاملة والتي ستكشف بالتأكيد سبب مقتل إحسان.
|