كاتب الموضوع :
hind2006
المنتدى :
الارشيف
السلام عليكم أصدقائي أعضاء منتديات ليلاس
أتمنى أن لا أكون قد تأخرت عليكم قليلا وأتمنى أن تعذروني
أشكرك أميرة الود على مرورك الطيب وأكشر الصديقة زهرة أيضا، وأتمنى أن ينال إعجابكم هذا الجزء الذي سأضعه اليوم بين أيديكم
في مساء السبت، كان الضجر قد أخذ منها كل مأخذ، فسارعت إلى ارتداء ملابسها والخروج من المنزل، أقلها التاكسي عبر الشوارع التي غسلتها الأمطار ليلة البارحة نحو المدينة القديمة حيث يقع منزل الجدة والذي ورثته هي ووالدتها وأختها نادية التي تطالب اليوم بحصتها فيه، حدثت ضحى نفسها بأن مسألة بيع المنزل ما هي إلا حجة لافتعال الشجار مجددا، لكنها لا تصدق أنه قد يكون السبب وراء تصرف أختها البارحة، ربما تحتاج المال حقا ولكن كبريائها يمنعها من التصريح بذلك، وحتى لو أرادت الحفاظ على المنزل وذلك من خلال شراء حصة أختها فهي لا تملك المال الكافي، وأختها ستزن عليها في كل مناسبة، ستعيد وتعيد الأسطوانة حتى تجعل ضحى تستسلم، لكنها لن تفعل، إن اعتقدت أنها ستنتصر عليها هذه المرة فهي مخطئة لقد استسلمت لها في أمور كثيرة، إنما الأمر يختلف الآن المنزل ليس للبيــع...
لقد سرحت في أفكارها طويلا وهي تسير عبر الأزقة الضيقة للمدينة القديمة وعندما انعطفت يمينا نحو الزقاق حيث المنزل قائم شعرت بجسدها يرتطم بكتلة شخص آخر كان يتحرك بسرعة هائلة في الاتجاه المقابل، وكادت تسقط أرضا عندما شعرت بيد الشخص الآخر تمسك بكم معطفها تنقدها من ألم السقوط، كانت لا تزال تشعر بالدوار عندما سمعت الشخص يسأل مستغربا: - ضحى؟
نظرت إلى صاحبة الصوت، ولم يكن سوى إحسان قطبت جبينها وهي تلاحظ وجهها المخطوف وأنفاسها المتسارعة، كانت لا تزال مشوشة إثر اصطدامها بها لكنها استطاعت أن تسألها عن حالها:
- إحسان، هل أنت بخير
التفت إحسان إلى الخلف كان الزقاق الطويل خاليا، و ظلت لحظات طويلة تترقب في صمت متوتر السكون الذي حل بالمكان، ثم تنهدت أخيرا واستدارت لتواجه ضحى التي عادت لتسألها:
- هل أنت بخير؟
حركت إحسان رأسها محاولة أن تتحكم بالارتجاف الذي سار في كيانها و وابتسمت لضحى بصعوبة:
- إنني على ما يرام...
ثم تابعت في مرح سائلة:
- وأنت ضحى ما الذي تفعلينه هنا؟
- لقد جئت لزيارة منزل جدتي...
ثم أشارت إلى منزل مقابل لهما وأكملت:
- هذا هو.. هل تريدين الدخول أرى أن وجهك شاحب، هل أنت مريضة.
لوحت إحسان يديها في حركة وكأنها تطرد ذبابة من أمام وجهها وهي تقول:
- لا إنني بخير، في الحقيقة كان هنالك رجل مجنون يلاحقني، فأخافني حقا.
لم تصدق ضحى أن إحسان المرأة الحديدية والقوية والتي لا تخاف قول الحق ولو على رقبتها ولا تخاف غضب المسئولين في البلاد ولا أصحاب النفوذ وأرباب المال، تخاف من المجانين، إنه أمر مثير للاهتمام حقا.
لاحظت إحسان التكشيرة التي علت وجه ضحى، فضحكت وهي تقول:
- إنه أمر غريب حقا أن أخاف من المجانين أليس كذلك؟
ردت ضحى في صدق: - في الحقيقة نعم.
قالت إحسان في مرح : - لكل منا نقطة ضعف
عندما دخلتا المنزل الساكن والبارد، سارتا عبر ممر طويل مظلم قبل أن تجدا نفسيهما في فناء كبير عار يظهر سماء الخريف الباهتة الزرقة تتخللها بعض السحب الداكنة، وقد رصت على جوانبه أحواض صغيرة من الطين زرعت بها جميع أنواع الورود من القرنفل الأحمر والأبيض الذي عبق المنزل برائحته، و نباتات السرخس واللواية والحبق الذي خالطت رائحته القوية رائحة القرنفل، وفي الوسط شيد حوض كبير زرعت في وسطه ثلاث شجرات ليمون أصفر، الأولى كانت كبيرة ومثقلة بثمار الليمون الذي لم ينضج بعد، والثانية كانت متوسطة الحجم وهي أيضا محملة بالليمون ، والثالثة كانت لا تزال صغيرة. وقفت إحسان أمام الشجرات الثلاث تتأمل المنزل القديم وغرفه المحيطة بالفناء الأندلسي الطراز المغلفة حوائطه وأرضيته بالزليج البلدي القديم، بينما ذهبت ضحى لجلب الكراسي من الداخل، عندما عادت بالكراسي ووضعتها بالقرب من حوض أشجار الليمون علقت إحسان وعينيها لا تزالان تتأملان كل ركن من أركان البيت العتيق:
- إنه رائع.. قديم لكنه رائع
ابتسمت إحسان لها وقالت في أسف:
- إنه يحتاج إلى الإصلاح
- أعتقد ذلك.. هل قلت إنه منزل جدتك، هل تعيش هنا؟
- لا، لقد ماتت جدتي منذ مدة طويلة، ثم ورثه والدي قبل أن يموت فيتركه لنا أنا ووالدتي وأختي.
حركت إحسان رأسها دون أن تعلق فتابعت ضحى كلامها:
- أختي تطالب بحقها فيه.. تريد بيعه
لمحت إحسان الألم الظاهر في كلماتها الأخيرة فسألتها مستوضحة:
- وأنت.. هل تريدين بيعه؟
- لا.. لقد عشت أياما جميلة هنا عندما كنت صغيرة وعندما كانت جدتي لا تزال حية، وقبل وفاة والدي كنا نحظر إلى هنا في أيام العطل فنقضي أياما رائعة في رعاية النباتات و تنظيف البيت وشرب الشاي هنا.. لكن تغير كل شئ الآن ولا أستطيع أن أمنع أختي من حصتها في إرث والدنا، لو كان لدي المال لاشتريت حصتها، كما أنني كنت أنوي إصلاحه.
- ولماذا لم تفعلي ذلك؟
- بعد وفاة والدي أصيبت والدتي بصدمة فمرضت، فكان المبلغ الذي كنا نحصل عليه من معاشه لا يكفي حتى لسد حاجيتنا من دواء وطعام ومصاريف الدراسة، كانت السنوات التي تلت وفاة والدي صعبة جدا...
صمتت لحظة تنظر إلى إحسان قبل أن تقول معتذرة:
- آسفة إن كنت قد أزعجتك بحديثي هذا.
- لا بالعكس، أنا أيضا والدي مات، لكن الفرق بيني وبينك أنني لم أرى والدي أبدا لأنه توفي وأنا لا زلت في بطن والدتي التي ربتني وأبت أن تتزوج رجلا آخر غير والدي.. أتعلمين ضحى، إن أمي لا تزال تحب والدي رغم أنه مرت على وفاته ثلاثون سنة، في بعض الأحيان أجدها تأخذ صورته بين يديها وتتأملها في شوق وحب كبيرين... المسكينة أملت أن أتزوج وأعوض عليها بأولاد يحومون حولها وينادونها بجدتي...
ضحكت في أسى وهي تتابع كلامها:
- لكنني لم أحقق لها أمنيتها بعد.
اندفع السؤال عبر لسان ضحى من غير تفكير:
- ولما لم تتزوجي حتى الآن؟
ساد صمت طويل بينهما حتى ظنت أنها أخطأت بسؤالها
- لقد مات
تفاجأت ضحى من الألم في صوت إحسان، فندمت حينها لأنها طرحت هذا الموضوع فقالت معتذرة:
- أنا آسفة
حاولت ضحى أن تخفي معالم التأثر على ملامحها وصوتها فردت بمرح مصطنع: - لا تقلقي، كان ذلك منذ مدة طويلة...
ثم صمتت مرة أخرى وملامحها الصلبة التي اعتادت ضحى رؤيتها قد اختفت، عادت لتقول بصوت مثقل بالحزن:
- كنا ندرس معا في معهد الصحافة...
ابتسمت وهي تستعيد شريط الذكريات الذي مر بها قبل أن تتابع: - كان عثمان شابا وسيما ومغرور، تعرفت عليه ضمن مجموعة بحث، ولم نكن على وفاق أبدا كنت في نظره متكبرة وكنت أنظر إليه بالمثل وذات يوم تشاجرنا حول سبب تافه لا أذكر حتى ما هو ولم نكلم بعضنا البعض حتى نهاية السنة، كان هو من جاءني يعتذر، وأخبرني كم أنا مغرورة وكم انتظر ليخبرني بأنه معجب بي، تفاجئت حينها، لكنني لا أنكر أنني أيضا كنت معجبة به لكن غروري جعلني لا أصارح حتى نفسي بالأمر، أما السنة الثانية فقضيناها ننسج الأحلام ونرسم خطوط المستقبل المشرق بعد أن نجتمع معا في سقف واحد، كان قد أخبر والديه عني وقد فعلت بالمثل، وكنا ننتظر فقط أن نتخرج ليحظر والديه ويخطبني، ونعمل معا في نفس الجريدة التي كان سيؤسسها والد إسماعيل رئيس التحرير كما تعرفين، مع بقية الزملاء الذين كانوا في نفس دفعتنا وكان من بينهم رشيد الذي كان صديقا مقربا لعثمان، وهكذا كانت الحياة قد قدمت لي كل ما كنت أحلم به، عملا أحبه، ورجل الأحلام الذي تتمناه أية شابة في مثل عمري حينذاك، وأصدقاء رائعون، كل شئ كان كالأحلام الوردية المثالية حتى إنها لا تكاد يصدق، وفجأة ردت إحدى الشبكات الإعلامية الغربية على طلب عمل كان قد تقدم به، وقد كان عثمان من بين الخمسة الأوائل في دفعتنا تلك، كما أنه كان يتقن ثلاث لغات مهمة للإعلام بالإضافة إلى اللغة العربية، ما آلمني أنه لم يكن قد أخبرني يوما بنيته في العمل مع إحدى الشبكات الإعلامية الدولية حتى ردت على طلبه بالموافقة وهذا طعنني في العمق، طلب مني أن أذهب معه هناك وسيجد عملا لي في نفس الشبكة لكنني رفضت بشدة لأنه لم يكن ذلك هو حلمي الذي عشت من اجله، كما أني شعرت بأنني خدعت، وهكذا مات حلمي، وفسخت خطوبتي به رغم أنه كان متشبثا بي حتى آخر رمق.
ثم سافر وعمل مراسلا لتلك الشبكة في الشرق الأوسط وقد كان رشيد من يطلعني على أخباره، كان دائما بالقرب من خط النار، ثم أرسلته الشبكة إلى فلسطين وقتل هناك كان ذلك...
لم تستطع أن تحبس دموعها فقامت من مكانها مبتعدة عن عيني ضحى التي لم تحاول أن تعلق على الأمر أو تواسيها، لأنها شعرت أنه من الأفضل لها أن تبكي فهذا سيفيدها بكل تأكيد، أطلقت ضحكة مرتجفة بين دموعها وهي تقول:
- يا لغبائي.. لم أبكي حتى عندما سمعت خبر وفاته، وانظري إلي الآن أبكي على أمر أصبح ذكرى وأمام صحفية مبتدئة عرفتها منذ أيام.. أتمنى أن لا تخبري أحدا بذلك يوم الاثنين.
وعندما لمحت الغضب في وجه ضحى قالت بابتسامة ودودة:
- كنت أمزح معك فقط
طال صمت مقلق دفع ضحى إلى الإعلان:
- هل تريدين كوبا من الشاي المنعنع
حركت إحسان رأسها وقد تلاشت في تلك اللحظة معالم الألم التي كانت ترسم ملامحها قبل لحظات قائلة:
- ستكون فكرة جيدة.. سأصعد إلى السطح إن كان هذا لا يزعجك؟
ردت ضحى بابتسامة مشرقة:
- لن يزعجني أبدا.
|