كاتب الموضوع :
مخمل الرجاء
المنتدى :
قصص من وحي قلم الاعضاء
الفصل الثاني
الفصل الثاني
ـــــــ
أنا ضياء، ساعة مرت، وها هي المجنونة مشغولة بتقطيع الخضر في المطبخ، أدخل ملقية السلام وأجلس على الكرسي راوية عطشي ببعض الماء بينما عقلي لا يفكر بشيء سواها، هذه المرأة حسب ما قالته السيدة سارا .. المرأة الستينية .. هي الخادمة الوحيدة في هذا المنزل، تدعى أنستازيا، جاءت من دولة أجنبية نسيت اسمها، لم تُذكَر ديانتها لكن وفقا لموقفها السابق اتجاه المؤمنين فهي ملحدة، إنها المرة الأولى التي ألتقي شخصا غير مسلما في حياتي، حسنا لا شأن لي في معتقدات الآخرين لكن كلامها المسيء جعلني أشعر بالغضب، كيف لها أن تتحدث عن المؤمنين باستصغار؟
أقف مقتربة منها بخطى بطيئة لأقول بجمود يكسو وجهي على خلاف التوتر المتأجج بداخلي:
ــ عذرا آنسة أنستازيا
ــ ماذا؟
تقولها بشراسة لأسرع في الابتسامة مخففة حدة الموقف وأردف:
ــ لا شيء مهم، لا شيء مهم، فقط أنا
أتوقف عن الحديث، ليس علي أن أكون متوترة، أعيده بتصحيح وصوتي تملؤه العزيمة:
ــ بل هناك شيء مهم أظنك أسأتِ فهمه، أردت إخبارك بأن ما حدث معنا .. اصطدامي بك .. قد يحدث مع الجميع، الحوادث واردة الحصول في أي زمان ومكان مع أيّ كان، لذا لا أرى أن لديك الحق في نسب الأمر للمؤمنين ووصف الجميع بالهمجية والبربرية لسبب سخيف كهذا، الاصطدام بك كان خطئي لذا أعتذر، سأحرص على أن أفتح عيني جيدا من الآن وصاعدا بإذن الله
لا أكاد أنهي كلامي حتى أراها تقول باستهزاء:
ــ ماذا؟ هل تم تعيين طفلة مثلك محامية على المؤمنين السفهاء؟
تتلاشى ابتسامتي لأرمقها بنظرات جادة:
ــ بالرغم من أني في الرابعة عشرة من عمري إلا أني أملك عقلا يسمح لي بالدفاع عن أي شيء أعتقده، كما يسمح لي بمعرفة قيمة صلواتنا وشعائرنا التي أسأتِ إليها مع أنها لا تسبب الانحطاط في المجتمع، بل العكس، هي تصلحه بتهذيب نفوس أفراده وزرع خشية الله وتعظيمه في قلوبهم، لذا أرجو منك أن تحترمي ديننا
تطلق ضحكة عالية ضاربة كلامي عرض الحائط لترد كمن لن يغير رأيه أبدا:
ــ كم هذا مضحك، من الأبله الذي قد يحترم خرافات وخزعبلات كهذه أيتها الطفلة، ستكبرين وتدركين الكذب الذي يغرقك به مجتمعك المسلم أو المسيحي أيا كان، ستصدمين بأنك أضعتِ فترة طويلة من حياتك الثمينة في عبادة إلاه غير موجود
أرد عليها بغيظ:
ــ إلاه غير موجود؟! إذا كيف سيكون هذا العالم متواجدا مادامه لا يملك خالق على حسب كلامك؟
ــ الصدفة هي التي أوجدت العالم، هي التي أوجدتنا، وهي التي ستأخذنا أيضا، نهايتنا هي الاختفاء وحسب، لا توجد حياة أخرى بعد الموت كما تدعون، لذا عيشي حياتك واغتنميها قبل أن يأتي وقت تحولك إلى وجبة عشاء للديدان، والآن .. انقلعي
تقذف كلمتها الأخيرة بصراخ لألتزم الصمت على مضض حامدة ربي على نعمة الإسلام، الحمد لله الذي لم يجعلني محل هذه المرأة، قالت الصدفة التي أوجدتنا قالت، جديا كيف لهذا العالم أن يوجد صدفة؟ كيف للصدفة أن تجعل الشجر أخضرا والسماء زرقاء؟ كيف ستخلق الجبال الشامخة صدفة وتثبت الأرض صدفة كذلك؟ كيف للصدفة أن تجعل الشمس بعيدة عن الأرض لا ملتصقة بها؟ ماذا عن جسم الانسان؟ هل الصدفة من قررت كم من خلية وعظمة وعصب يجب أن يتواجد به ليستطيع أداء مهامه الطبيعية؟
كل هذا ليس إلا دليلا على وجود إله عظيم مدبر عليم فكيف تستطيع تلك المرأة نفي وجوده، هداها الله، مجادلتها لن تجدي نفعا
أتنهد لأستدير عائدة للطاولة، أحمل إبريق الماء النصف ممتلئ لأتقدم نحو الثلاجة الواقعة بجانب أنستازيا ناوية إضافة بعض الثلج له، لكن فجأة دون أن أشعر أعبر فوق بقعة زلقة في الأرضية، يبدو أن بعض الزيت قد انسكب هنا، قدمي تنزلق قليلا للخلف، أحاول المحافظة على توازني والثبات لكن قدمي الأخرى تنزلق أيضا دون سابق إنذار ليندفع جسدي للأمام، أفلت الإبريق البلاستيكي محررة يداي لأثبتهما أرضا مانعة وجهي من الارتطام بالأرضية القاسية
ــ أووووه، الحمد لله نجوت من كسر أنف وشيك
أعاود الوقوف بحذر وأنفض ملابسي، أتذكر الإبريق لأجول بعيني باحثة عنه لكني سرعان ما أصدم من موقع سقوطه، إنه فوق رأس أنستازيا المبتلة والمتوقفة عن الحركة، تستدير نحوي ببطء ونظراتها تحمل من الصدمة الكثير:
ــ أ أنت من فعل هذا؟
أبلع ريقي بورطة، أتراجع للخلف مبتسمة ببلاهة لأجيب دون شعور:
ــ كلا، لست أنا بل هي الصدفة، هي من أوجدت الإبريق وصنعت الماء وكبته عليك للتو
ثوان حتى تمسك حبة البصل لتقذفها علي مزمجرة بحقد:
ــ فلتموتي أيتها الوغدة هل تظنيني غبية لأصدقك
أتفادى الحبة لأرد باستهزاء:
ــ لكنها قد صنعت العالم كله فكيف يصعب عليها رمي إبريق ماء عليك؟
لا أكاد أنهي كلامي وهابها تمسك حبة بصل أكبر هذه المرة ناوية قذفي إياها، لكنني أستطيع الفرار من المكان وسط شتائمها
.
.
.
أنا ضياء، منذ شجاري غير المقصود مع الخادمة مرت أيام ملؤها نظرات الكره من طرفها والابتسامات الباردة من طرفي، على الأرجح أنها تريد قتلي، أظن أني حصلت على أول عداوة في حياتي
مضت الأيام التي كانت شبيهة لبعضها البعض، هدوء يطغى عليها، أنام بعمق، آكل طعاما شهيا، لا أوامر ولا طلبات تعكر راحتي، لكني أصبحت كثيرة السباحة في الذكريات، أتذكر أي مشهد وأجزئ تفاصيله، أفكر في مشروع العائلة الذي واجهوا صعوبة لنهوضه، حساسية زوجة أخي التي تركتها تعاني منها في حالة مرضية حرجة، حتى ذالك الفستان الذي تشاجرت عليه الفتيات .. من ظفرت به يا ترى؟
لكن الأهم والذي يشغل بالي هو حال قريبة والدي وابنيها، كيف حالهم؟ هؤلاء الأشخاص هم من أخذني أبي فور انتقالنا من دولة الحسناء إلى النيزك للعيش معهم، بقيت شهرا كاملا عندهم، أسرة بسيطة كغيرها من الأسر المجاورة لها، ليسوا بالأغنياء ولا الفقراء، حالهم حال نفسهم يعيشون اليوم دون القلق على حال الغد، رغم شخصية الابنين .. ياسر والعنود .. الصعبة بعض الشيء، إلا أني قضيت شهرا مريحا هانئا
لكن الغريب هو ما حدث في آخر يوم لي عندهم، لقد اختفى ياسر وتلقت المرأتان اتصالا هاتفيا جعل الأم متيبسة من شدة الصدمة والأخت في حالة انهيار مفجعة، كانت غاضبة أشد الغضب، كسرت الأثاث وشتمت الجدران وسرعان ما وجهت هجماتها نحوي بشكل صادم، كيف ولماذا؟ مممم لا أعام، كل ما استوعبته هو أن أبي بعد أقل من ساعة أخرجني من ذاك البيت وأحضرني إلى هنا
لا أنكر أني صدمت من فعلتها تلك لكني لم أحزن أو أغضب، تلك الأسرة في النهاية مجرد أناس لا أعرف عنهم غير القليل، كانوا ولا يزالوا مجرد غرباء حالهم يهمني من باب الفضول لا غير، لكن الذي يثير تساؤلي حقا هو لما لم أتذكر ما حدث بالأمس رغم محاولاتي لتذكره؟ هل فقدت الذاكرة لمدة معينة؟
أتنهد متجاهلة الفكرة، لابد من أن إرهاقي آنذاك هو السبب، ها بالملل يعود مجددا لأقف باحثة عن مهرب منه، هاهو المطبخ أمامي وتلك المرأة في داخله كالمعتاد، أدخله ناوية إلقاء التحية لكنها تسبقني بنبرة ساخرة:
ــ سام عليك يا جرذة
أرد بهدوء:
ــ وعليك يا أختاه
تقبض بقسوة حبة الجزر لتستكمل تقطيعها شاتمة إياي في همس أستطيع سماعه
هذه المرأة حقودة، انعكاس كراهيتها يلوث الجو الذي حولها، كأي شخص عادي لا أظن أني سأكون مرتاحة لو ظللت معها لمدة طويلة .. هذا ما ظننته بعد شجارنا .. لكن بعدما أخبرت السيدة سارا عن ما فعلته بي طلبت مني عدم الحديث معها عن أمر الديانات لأنها سبق وأن تعرضت في طفولتها لصدمة بسببهم، بعض المتدينين المتطرفين قاموا بقتل عائلتها
كلامها جعلني أهدأ قليلا، إذا هذه المرأة تعاني من عقدة نفسية، حسنا إذا لن أجادلها وسأحاول كسب مودتها لعل كراهيتها تقل، لكن الأمر لن يعني إقراري لكلامها القبيح حولنا
أقول مقررة دخول الموضوع مباشرة:
ــ أنستازيا، أعتقد أن عليك الاهتمام بشؤونك بدل التدخل في شؤون الآخرين
ــ ماذا؟
تسأل باستنكار لأتجاهل النظر لها وأبدأ في ترتيب الأواني المغسولة في الدولاب مستكملة حديثي بسرعة قبل أن تنطفئ شعلة الشجاعة التي أوقدت بداخلي:
ــ كما قلت، فإمضاء الوقت في شتم الآخرين وتتبع زلاتهم وجعلهم همنا الوحيد ليس إلا تضييعا للحياة، من يعلم كم من الوقت يزال لدينا حتى يحين موعد الرحيل، ربما سنة أو أسبوع أو دقيقة، نحن لا نعلم لذا علينا فقط اغتنام الفرصة وعيش الحياة بطولها وعرضها قبل أن نذهب لذاك القبر الضيق، أنت الآن لا تكفين عن الإساءة لأشخاص لا يكادون يعلمون عن وجودك على متن الكرة الأرضية، أنت فقط تضيعين وقتك وتزعجين من حولك
لا أكاد أنهي كلمتي حتى أشعر بضربة قاسية على رأسي، لقد رمت علي حبة طماطم، ما مشكلتها مع الخضر؟ أنحني لألتقطها ثم أرتفع رامقة إياها بانزعاج، إنها تستشيط غضبا، أعتقد أنها لم تجد الكلمات المناسبة لشتمي، أضع الطماطم شبه المسحوقة على سطح الدولاب لأقول بلوم:
ــ أتعلمين أن هناك من يرون هذه الطماطم كمنقذ لهم من الموت جوعا بينما أنت قد أهدرتها للتو؟ ما هذا التبذير؟ فقط ضعي في قاموس معارفك أن ربنا الّذي لا تؤمنين به يغضب من المبذرين، لذا نحن كمسلمين نجتنب هذا الفعل ونفضل أن نصدق بالطعام الزائد الذي لا نحتاجه للفقراء لكي تتحسن أوضاع المجتمع، فالّذي قمتي به للتو هو عكس مبادئنا، إنه سلوك منحط، لو كان هذا الفعل عادي بالنسبة لك فأتساءل الآن من هو الجانب الّذي يدمر تطور المجتمع، أهم نحن المؤمنين الّذي نتبع أوامر ربنا المحسنة لحال الغير أم أنتم الذين لا تملكون مرجعا ثابتا صحيحا لأسس الحياة؟
جملتي الأخيرة جعلتها تنفجر غضبا، أعرف هذه النظرة التي تعتليها، إنها مطابقة للتي ترمقني بها أختي الكبرى بعدما تجدني أقرأ روايات الرعب، في العادة هي ستهجم علي لمعاقبتي لذا أعتقد أن أنستازيا ستقوم بالمثل، وأعتقد أن علي القيام أيضا بما اعتدت فعله لتفادي العقاب
قبل أن تنقض علي تلك الغاضبة أباغتها بحضن طويل، رغم كون الفتيات في بلدي الحسناء ذوات الأربع عشرة سنة من عمرهن لا يمتلكن أجسادا ناضجة إلا أني أمتلك جسما كجسم ذوات الثامنة عشر لذا استطعت السيطرة على انفعال أنستازيا ومنعها من الإفلات
ــ هيه أيتها الـ
تكاد تبدأ في سلسلة شتمها لأقاطعها سريعا مغيرة نبرتي للاستعطاف:
ــ رجاءً لا تغضبي ولا تعاديني، أنت الشخص الوحيد الذي أستطيع إمضاء الوقت معه هنا ريثما يعود أبي العزيز، فقط اعتبري كلامي رأيا شخصيا يمكنك الأخذ به أو تركه، كل إنسان لديه معتقداته الخاصة يجب احترامها وعدم الإساءة إليها، لذا كما أحترم معتقداتك احترمي معتقداتي حتى لو كنتِ رافضة لها
أبتعد عنها قليلا تاركة يدي على كتفيها، رغم الاعتراض البادي عليها لكن أظن أن كلامي قد جعلها تهدأ قليلا، أضيف لكلامي جملة أخرى وابتسامة تعتلي وجهي وأنا أشير لحبة الطماطم:
ــ و بخصوص حبة الطماطم فأرجو أن تحترمي حاجة غيرك وتتصدقي بها لهم بدل إهدارها، افعلي هذا من باب الإنسانية على الأقل
صمت يسود المكان لوقت من الزمن، تبعد يدي عنها لتعود لعملها، لكن قبل أن تبدأه أراها تمسك بحبة الطماطم، تنزع الجانب المتضرر لتتخلص منه والجانب الصالح تضعه جانبا لتردف:
ــ سأستأذن لاحقا السيدة سارا كي نتبرع لفقراء القرية بالطعام الزائد، لا أظنها سترفض لأن كميات كبيرة من الطعام تفسد نهاية كل شهر ويكون مصيرها النفايات، إطعام أولئك المتشردين لن يشكل مشكلة
وتكمل بنبرة شرسة رامقة إياي بكره:
ــ ليس وكأنني سأفعل هذا من أجلك لذا لا تسيئي الفهم، فقط هناك الكثير منهم يدقون باب المنزل مؤخرا باحثين عن ما يسد جوعهم وهذا مزعج للغاية
ــ حسنا شكرا
ــ لا تشكريني
تعود للنظر أمامها لأعود لترتيب الأواني مبتسمة بهدوء لكن سرعان ما أرمقها باستغراب من جملتها المفاجئة:
ــ وجدت أثناء تنظيفي ورقة ملقاة بقرب عتبة باب غرفتك علمت من سارا أنها رسالة من والدك، إنها في غرفتي سأحضرها لك عندما أنهي عملي، لا تلقيها بإهمال في المرة القادمة
ــ عن ماذا تتحدثين؟ أبي لم يرسل لي أيّ رسالة
ــ بلا لقد أرسلها في أول يوم لك هنا وقد سلمتك إياها السيدة، هذا ما قالته لي
ــ لا، آخر كلام بيننا كان عندما قال أنه سيعود بعد أيام لأخذي، هو لم يترك لي أيّ رسالة فعلا
ترمقني باستغراب لأبادلها نفس النظرات، لما قالت العمة سارا أن الرسالة لي؟ لا أذكر حصولي عليها، أساسا من أصبح يستعمل الرسائل الورقية هذه الأيام؟ نحن في عصر التكنولوجيا
أعود لعملي لتعود هي الأخرى لتحضير الغداء، إنها العاشرة صباحا، سأكمل مهمتي ثم أذهب لصلاة ركعتي الضحى وقراءة وردي من القرءان قبل أن يهاجمني كسل الظهيرة المعتاد
*
جو لطيف، ناس مبتسمة، وضحكات تنعش القلب والروح
أنا دميتري، أسير حول المتنزه شاتما كل ما تقع عيني عليه، ساعتان مرت وأنا هنا على الهامش أنتظر عودة ماكس من مهمته، ذاك اللئيم، فقط لو أستطيع لكم وجهه المتعجرف، كيف يجرؤ على تركي خارج المهمة في دور الكلب المنتظر لصاحبه، كان بمقدوره إخباري بالتفاصيل على الأقل، لولا أوامر الرئيس التي تجبرني على إطاعة أوامره المتغطرسة لكنت الآن أشحذ سكاكيني استعدادا للمهمة القادمة بدل البقاء وسط هذا الإزعاج والقرف
أرمق ابتسامات الغير باشمئزاز، لكن فجأة أتوقف عن السير إثر الجسد الذي اصطدم بي، أشعر بكتلة باردة على صدري، أنزل نظراتي سريعا نحوه لأجد قميصي مطليا بقطعة مثلجات شكولاطة ضخمة، أطلق شتائم ساخطة لأرفع نظري للغبي الذي تجرأ على فعل هذا بينما قبضتي تكاد تلقي لكمة على وجهه، لولا اندفاعه السريع بمسح البقعة بواسطة منديل قماشي ملقيا علي سيلا من كلمات الاعتذار
أبعده عني ملتزما الهدوء على مضض، لا أستطيع افتعال الضجة كي لا يُفضح أمر المهمة، لقد كدت أنسى هذا
ــ أنا آسف حقا، سأدفع ثمن قميصك و...
صوته يرتجف وكلامه مملوء بالتأتأة، إنه مرعوب، لكنته تدل على أنه ليس من أبناء البلد، حتى عينيه الناعستين شديدتا الضيق وملامحه دليل على أنه من دول الساحل الشرقي، أقاطعه لأربت على كتفه متعديا إياه بقلة حيلة
ــ لا بأس أيها الصعلوك، أستطيع معالجة المشكلة بنفسي فقط كف عن هذه التأتأة المزعجة
ينحني باحترام مؤكدا شكوكي حول أصله فلا أحد يقوم بهذه الحركة في غير تلك البلاد، إنهم يقدسون الاحترام والأدب
الأدب؟ أظنني كنت قليل أدب طيلة حياتي، والآن سأعدم آخر بقاياه بينما ماكس يتنفس معي نفس الهواء، لماذا تأخر؟
.
.
.
أنا وماكس الآن في شقتنا بعدما عدنا من المقر الرّئيسي لاجتماع أعضاء عصابة الأوركيد
طبيعة العمل في العصابة تنص على تجزئة الأعضاء إلى جماعات ثم فرق، أي أن العصابة مكونة من ثلاث جماعات، جماعة الشرق والغرب والشمال، وكل جماعة عبارة عن فرق، في الفريق الواحد قد تجد من عضوين إلى خمسة أعضاء ذوي مهارات مختلفة، فهناك المقاتل من المسافة البعيدة المعتمد على الأسلحة ومن المسافة القريبة صاحب القوة الجسدية والأحزمة السوداء في مختلف الفنون القتالية، إضافة إلى الهاكر والمخطط وغيرها من المهارات الأخرى
طيلة السنوات الأخيرة كنت في فريق واحد لا يوجد فيه غيري أنا .. دميتري، مقاتل المسافات البعيدة .. وماكس الجاسوس، لكن اليوم ولأول مرّة ينضم لنا عضو جديد، دانيال القناص، أتساءل إذ كان مستواه يتناسب مع مستوى عضوين مخضرمين مثلنا
ــ مرحبا، أنا دانيال الزميل الجديد، أتمنى أن تعتنيا بي
يقولها بتأتأة لينحني بعدها، نعم إنه الشخص نفسه الذي صدمني في المتنزه، جديا من كان يتوقع أن شخصا كهذا قد يكون رجل عصابات، سيفشل حتما ويولي هاربا إلى والدته
ــ أوه أخيرا أتى من يسليني لبعض الوقت بدلا من مقابلة وجه ماكس المزعج، تعال يا صاحبي سأعرفك على المكان
أقولها لأشد على كتفه محركا إياه نحو غرف المنزل ليقاطعنا ماكس بهدوء دون أن يرفع عينيه من على الكتاب الذي بين يديه:
ــ أيها المستجد، فلتفعل ما تشاء خارج الشقة ، لكن هنا عليك التزام الهدوء، لا تدع دميتري المزعج ينقل لك عدوى الضوضاء
أعبس بانزعاج
ــ فلتكن سعيدا بسماع صوتي أيها المتغطرس، ملايير البشر يتمنون أخذ مكانك، قال ضوضاء قال
لأردف مخاطبا دانيال بتجاهل لماكس الذي وضع السماعة بأذنه دون إضافة أيّ تعليق آخر:
ــ أما أنت فدعك منه واتبع كلام سيد المكان .. دميتري ..عندها سأتجاهل أمر قميصي الجميل الّذي أفسدته مثلجاتك
ـ حسنا يا سيد المكان
يجيب بتوتر وخجل بعدما غمزت له، هذا الفتى، أتمنى ألا يهرب في أقرب وقت فمن الممتع العبث معه
*
ــ فلتذهبي للجحيم أنتِ وسيدك، حتى لو كنت أعلم عن مكان ما تبحثون عنه فأفضل الموت على إعلامكم إياه
أنا ملاك، لا تمر أجزاء من الثانية على كلامي حتى تسدد هذه العملاقة الكريهة ركلة على بطني، أصرخ متأوهة بقلة حيلة لأسعل دما إثر قوة الضرر، إنها ليست المرة الأولى التي تضربني فيها، فمنذ إحضاري إلى هنا تم تعيينها كمعذبتي الشخصية، ورغم كوني أجيد الفنون القتالية إلا أن بنيتها الضخمة الرهيبة كافية لردعي عن المقاومة
ــ يبدو أنك اشتقتِ للشاب الوسيم الذي كان هنا بالأمس، قال بأنه يتوق لليلة أخرى يقضيها معك، أظن أن هذا كفيل لجعل لسانك أقل طولا
تلفظ كلماتها القذرة لتجعل قلبي يعتصر ألما وقهرا على الحال الذي آلت إليه الأمور، شهر مر على خطفي وترحيلي من بلدي إلى هذا المكان المجهول، شهر مر وأنا أعامل كبهيمة تعذب وينتهك شرفها وعرضها، شهر مر وهؤلاء الأوغاد يسألونني عن وثيقة لا أملك أدنى فكرة عنها حتى
تقترب مني عديمة الشرف لتدني وجهها لوجهي وتردف:
ــ ما رأيك؟ هل أناديه؟ أم تريدين تغييره بشاب أشقر ذو عينين زرق هذه المرة؟
أرمقها باستهجان وقد طفح كيلي منها للمرة الألف، بشكل مفاجئ أبصق على وجهها الكريه لتتراجع مبتعدة بصدمة لم تدم لأكثر من خمسة ثوان حتى اِنهالت علي بالشتم والضرب، تنتهي موجة جنونها لتخرج بعدما بللتني بدلو ماء بارد مالح يلهب جراحي بحرص على عدم حصولي على بعض الراحة حتى عند غيابها
الوغدة، بينما أصارع الألم أهمس مرددة بضعف ودموعي تنهار مدمرة سياج قوتي المزعوم
ــ حسبي الله ونعم الوكيل فيكم، حسبي الله ونعم الوكيل
*
صوت دق على الباب المصنوعة من الخشب النادر يليه صوته الهادئ:
ــ تفضلي أيتها العميلة 49
تفتح الباب لتلج وعلامات الاندهاش واضحة على محياها إثر معرفته لهويتها رغم عدم وجود كاميرات في المكان، لتقول باحترام:
ــ تحياتي سيدي الرئيس، العميلة 49 جاءتك بتقرير اليوم
يضع كأس العصير على المنضدة ليمسك أوراق التقرير الذي أحضرته صاحبة الهيئة الضخمة معلقا:
ــ هل طرأ أي جديد؟ تبدين أكثر غضبا من المعتاد، على الأرجح أنها لم تكف عن المقاومة كالعادة أليس كذلك؟
ــ صدقت أيها الرئيس، مضت فترة طويلة منذ أن صمد أحد أمام تعذيبها بهذه الطريقة، حتى أقوى الرجال ينهارون في وقت أبكر، إنها لا تكف عن المقاومة ومحاولة إذلالنا
تخبره بهذا وعلامات الغضب تتجدد على وجهها فور تذكرها لما فعلته ملاك ليقابلها الرئيس بضحكة مجلجلة:
ــ هذا الشبل من ذاك الأسد فعلا
في محاولة لتمالك نفسها تميل فمها بغيظ من كلام الرئيس المبهم لتستمر:
ــ لقد أجرينا التنويم المغناطيسي لكن لا جدوى، المرأة لا تعرف شيئا عن الوثيقة
تستقر ملامحه مجددا مع وجود ابتسامة خبيثة على محياه هذه المرة، يمسك كأس العصير مردفا:
ــ لا يهم هذا، استمري في تعذيبها ولا تنسي تصويرها أيضا، هناك من يجب أن يمتّع ناظريه بصور طفلته المدللة
يرتشف آخر رشفة مكملا بنظرة شيطانية انعكست عليها أضواء المدينة البرتقالية التي تظهرها النافذة الضخمة:
ــ أليس كذلك صديقي العزيز؟ عزام
*
أنا ريان، أجلس على طاولة الأكل متناولا العشاء، الصغار ينشرون فوضاهم وضجيجهم والأمهات يحاولن ردعهم، الشبان يتركون هواتفهم بعد أوامر جدي عزام، جدتي تغرق في هدوئها والرجال يتحدثون حول أعمالهم الخاصة، كل شيء كالمعتاد بخلاف غياب ثلاثة أفراد
فارس الذي سافر لإكمال دراسته الجامعية، ملاك التي لا تزال في مدرستها الداخلية، وضياء التي تقضي العطلة في منزل قريبة جدي، آخذ قضمة من الرغيف لأستمر في النظر لجدي بريبة، بخلاف موضوع سفر فارس الذي اعتدنا عليه هناك شك يراودني بخصوص ملاك وضياء، لقد مضى أكثر من شهر منذ حلول العطلة الصيفية فلما ملاك لا تزال في المدرسة الداخلية؟ بل كيف يتركها جدي في دولة أخرى؟ نعم إنها لا تزال في دولة الحسناء التي كنا نسكن بها سابقا، أما ضياء فما سبب بقائها في منزل القريبة التي لم نكن نعرفها من قبل؟ أعلم جيدا أن ضياء ليست من الأشخاص الذين يستطيعون البقاء بعيدا عن المنزل خاصة مع أناس غرباء، والمشكلة أن هواتف كلا من الفتاتين مغلقة ولا نستطيع الوصول لها، الشخص الوحيد الذي يستطيع هذا هو جدي لكن كيف؟ هل تحطمت هواتفهما واشترتا هاتفان جديدان؟ لو كان الأمر هكذا لما لم يخبرنا جدي عن الرقم الجديد؟
ــ جدي، كيف حال ملاك وضياء؟ ألم يحن موعد عودتهما بعد؟
سؤالي هذا جعل الجميع يصوب نظراتهم نحو جدي حتى الأطفال
ــ جدي أنت لم تبعهما صحيح؟ لا تقل أنك فعلت هذا واشتريت بذاك المال هذا القصر الرائع
تصرخ بهذا كارمن الصغيرة التي لم تتعدا السابعة من عمرها لتردف توأمتها ياسمين:
ــ هل زوجتهما لمليارديرين جدي؟ لا تقل أنك فعلت هذا، متى حفل الزفاف؟ علينا تجهيز الفساتين، أريد فستان أبيض مزين بورد الياسمين
ــ أما أنا فأريد فستانا أحمرا مزينا بورد الكارمن، أما أمي فعليها ارتداء واحد بورد الكاميليا
تقولها كارمن لتتنهد أمهما وتجبرهما على الصمت بعد قرصهما:
ــ يا الله أعني على هاتين الفتاتين، لا أذكر أني أكلت بعض المنشطات أثناء فترة حملي لأصبح أما لثرثارتين كهاتين
ــ دعيهما كاميليا، دعي حبيبتا جدهما تخططان لما سترتديانه
يقولها جدي لتقفز كل من ياسمين وكارمن عليه بفرحة
ــ أحقا سيكون هناك حفل زفاف؟
يسألانه في الوقت ذاته ليبتسم بحنان ماسحا على رأسيهما:
ــ كلا، لكن فلنصنع واحدا لدماكم الجميلة، أما ملاك وضياء فستعودان بعد العطلة بإذن الله، ملاك أرادت إكمال الدروس الصيفية وضياء أعجبت بالريف عند قريبتي، إنهما تستمتعان لذا لا تقلقوا
يختتم كلامه بنظرة هادئة موجهة لي:
ــ وأنت ريان أعرف أنك اشتقت لهما لكن جد شيئا تفعله بدل تضييع وقتك في تكرار هذا السؤال، أعلم أنك متعلق بهما لكنك لم تعد طفلا، أظن أن عليك مساعدة والدك في العمل الآن
ينظر لي التوأم بشماتة لأبتسم بتوتر ناهضا بسرعة من على المائدة:
ــ أتعلم جدي، تذكرت أني شاركت في دورة أنترنت والآن قد بدأت أول حلقاتها على الأرجح، أستأذنكم جميعا
أبتعد عنهم هاربا لغرفتي، من يريد أن يقضي عطلته في البقاء مع والده في ذاك المكتب والقيام بالأعمال الورقية المملة؟ أمسك مقبض الباب لكن قبل إدارته يجذب انتباهي ذاك الهاتف الموضوع على المنضدة القريبة، أذاك هاتف جدي؟ لقد أصبح ينساه كثيرا في أماكن عشوائية، حتى أنت يا عزام بدأت تعجز وتودع حلاوة الشباب
أمسكه ناويا إعادته له قبل أن تجده كارمن وتحطمه لكن الفكرة التي لمعت بذهني أوقفتني، صحيح، لابد من أن جدي يملك رقم ضياء وملاك، أعتذر على التجسس لكن لم تترك أمامي أي خيار جدي عزام
أفتح الهاتف لتظهر خانات الرقم السري، لا أعرفه لكن لا مشكلة، أخرج هاتفي لأستعمله أيضا، دقيقة وها بالقفل يفتح، نعم أنا هاكر ممتاز وهذا سري الصغير، طالما كنت عبقريا منذ طفولتي واستغللت ذكائي في هذا المجال دون إعلام أحد بخلاف عمي فارس، أسرع لقائمة الاتصالات باحثا عن رقمي الفتاتين لكن لا جدوى، تعبس ملامحي أكثر لأكاد أستسلم لكن يجذبني رقم أحدهم، يدعى "ذنبي"، من هو هذا ولما سماه جدي هكذا؟
أدون الرقم سريعا عندي والفضول بلغ ذروته لأعيد الهاتف لمكانه مسرعا لغرفتي، علي معرفة هوية هذا الشخص
*
أنا أنستازيا، أخيرا انتهى عمل اليوم وحان وقت النوم، تلك الفتاة لم تكف عن تتبعي طيلة الوقت والثرثرة، لا بد من أنها تعاني من الملل حقا، من الجيد أن هناك فترة الظهيرة التي استطعت الراحة فيها من حديثها عندما ذهبَتْ لأخذ غفوة
أدخل غرفتي ناوية الاستحمام ثم النوم لكن أتوقف بعدما وقع نظري على الرسالة المرمية على سريري والتي من المفترض أن تكون لضياء، أفتحها لأعيد قراءتها بانزعاج شديد
" ضياء، أنا والدك عزام، أعلم أن ما سأقوله سيغضبك لكن إنه خياري الوحيد، لو أخبرتك إياه وجها لوجه فأعلم أنك سترفضين القيام بما يجب القيام به، ما الذي جب القيام به؟ هو بقاؤك في هذا المنزل واعتباره منزلك الجديد من الآن وصاعدا، إنه منزل ذؤيب، لم أخبرك مسبقا بأني زوجتك له عندما كنت طفلة، لا تصدمي فالأمر ليس بذاك السوء، لقد أخذت عهدا منه أنه سيحترم عمرك الحالي ولن يعاملك كزوجة حاليا، أما السيدة سارا فهي شخص طيب ستحرص على الاعتناء بك، عيشي معهم كأنهم عائلتك الوحيدة أما نحن فامحينا عن ذاكرتك، لا أقول هذا كرها لك لكن بقاؤك معنا لا يسبب إلا المشاكل والصراعات مع أخوك سعد وهذا يؤثر سلبا على الجميع خاصة الأطفال ووالدتك المصابة بالاكتئاب، رغم أنك جزء من الأسرة إلا أنك كالشوكة في الوردة، شوكة لا تؤذي من يمسكها إنما تؤذي الوردة بحد ذاتها، لذا لو كنت تحبينا حقا وتهتمين لمصلحتنا لا تتواصلي معنا مجددا مهما سمحت الفرصة، ابقي بعيدة وحسب .. أبوك عزام"
وتختم الرسالة بتوقيع الكاتب الخطي، أي أب هذا؟ كيف يجرؤ على فعل هذا بابنته؟ لا أعلم ما مشكلاتهم لكنها ليست سببا للتخلي عن طفلته
أزفر بغضب لأتذكر ردة فعلها عندما سألتها عن هذه الرسالة، رغم أن سارا قالت أنها سلمت الرسالة لها لكنها تنكر معرفتها، ملامحها وصوتها لم يدلا على أنها حاولت الكذب، لو كانت قد كذبت حقا فأشهد أنها تستحق جائزة على تمثيلها المتقن مع أني أشك في الأمر فالأغبياء ليسو ممثلين جيدين، لكن بما أنها لم تقرأها فهل علي تسليمها لها؟
أمزق الورقة وأميها، رغم أن إعادتها هو السلوك الأصح لكني لن أفعله، لا أحب تلك الفتاة، لكني لن أكون سعيدة بجعلها تعرف مدى قبح والدها الذي تنتظره بفارغ الصبر، أحيانا البقاء جاهل أسهل من معرفة بعض الأشياء
ـــــــ
تم الفصل الثاني والحمد لله
|