كاتب الموضوع :
شتات الكون
المنتدى :
المنتدى العام للقصص والروايات
رد: رواية: أحببتُ حُطاما سَبق أوان الرحيل\ بقلم شتات الكون
Part23
اللهُمَّ يا من لا يُهزم جُنده ولا يخلف وعدُه، ولا إله غيره، كُن لأهل فلسطين عوناً ونصيرًا، و معينًا و ظهيرًا، اللهُمَّ انصرهم ولا تنصر عليهم اللهُمَّ لا ترفع لليهود في القدس راية، ولا تحقق لهم غاية واجعلهم للناس آية .
.
.
.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
(لا تلهيكم الرواية عن الصلاة، اللهم بلغت اللهم فاشهد)
.
.
.
.
.
.
يسرق من عينيها حقيقة الرغبة الخالدة وراء اللّسان، يُدرك هويتها ضائعة أين لا يدري؟ تخاف ردت فعله وتخاف من أن تقسو ولكن هي من تقسو على نفسها،الوجع يتأجج ما بين عُرق عُقدت جبينها.
الحقيقة ترقص على مرفأ شفتيها، يُدرك ارتجاف حواسها وهي تترقّب ردّت فعله، بؤبؤ عينيه ثبّت في محلّه.
ماذا حدث؟ هي اصرّت بالزواج منه..رغم مخاوفه الذي احتضنته في السّابق ما الذي يدفعها على لفظ حُبٍ يشع من عينيها الحزينتَين رُحبًا، هو مدرك مُنذ فترة طويلة إنها ليست على ما يرام، ولكن كيف الظروف آلت لتحوّل رغباتها إلى انفصال؟
هذا السؤال كسير..يحمله ببدايته في سكون الأحرف وفي آخره يحرّكها على موج البحر وريّاح الشمال الموسمية!
يفهم عقلها المُتعب بالتفكير..ربما فهم ما تقصده..هي تريد الطلاق من صاحبه لا بل من أخيه.
هل تقبل لي أن انفصل عن أخيك..هكذا المفترض تنطق سؤالها الخفي بالنوايا.
ماذا يقول؟ هل تظن مكانة ليث في قلبه تعلو مكانتها ليقدّم بقاؤه على بقاؤها؟
تهتز عينيها ويبلل شفتيه يطيل النظر وتطيل هز رجلها اليسرى علامةً للتوتر
: أمل..أنتي مو مرتاحه مع ليث؟
يعود لنقطة الإنهيار..لم تكن مرتاحة قط..أينما تجد ليث في وجهها تتوتر..تشتعل بمزيج مشاعر حُبّها لتمتزج بفيض كره..هو اعترف بحبه..وهو يتيقن بحبها له..ولكن العَيش تحت سقفٍ واحد مؤذي..هو يلوم..وهي تبكي..هو يصرخ..وهي تدّعي النوم..تحبه وهو يحبّها خفف من وطأة العتاب وإلقاء اللّوم الكلٍي عليها حينما شعر بفضح امرهما امام ركان لا تنكر ذلك.
تلك الدقائق القليلة التي مضتها لوحدها..اشعلتها بمتناقضات التفكير اكثر..ليث متناقض وجدَا تناقضه مخيف..حبّه دفعه لأذيّتها لتبرير فعلته..لامنطق مُفيد في علاقتهما..لا شيء يدل على طبيعة نفسيتها..هي اسهبت في عقوبة نفسها..تغمّست في دور الخرساء والصماء لتجبر قلبها على حبه..لتغرق في النهايات اللامعروفة.
ولكن ركان نقطة ضعفها..هدرت كرامتها بالركض من خلف ليث من أجل الّا تبكيه..ولكن بعد ما رأته الآن تجزم انهما غير طبيعيان في علاقتهما الزوجية..ووجود رحيل وإن لم تكن تغار منها ستكون عالقة معها على طريقٌ مشابه لها..ما رأته بالأمس..اشعل حوّاس الماضي بالحاضر.
ربما الطلاق مؤذي ومبكي ولكن لا وجود لها في حياة ليث موقع ثابت وإن أحبّها..لن ينصفها بهذا الشعور..ستبقى غائبة في حضرته ربما حاضرة في دمه..ولكن سيبقى متذبذب هو الآخر..وإن وعدها بأن يكف عن أذيّتها..قُربه لن يكون محبب ولم يكن مرحب به يومًا في واقعها..وسيعودان في نقطة هي حاولت الخروج منها.
في لحظة اعترافه بالحُب لها..شعرت وكأنها ملكت احلامها جميعها ولكن بعد رؤية رحيل وبعد ان توالت عليها الصدمات شعرت بعودت عقلها لأرض المنطق والواقع
ماذا تقول له؟
أمل تتنهد: مو مرتاحة...
ركان لم ينصدم في الواقع لو لم تخبره بذلك سيعلم إنها كاذبة
: وليش تبين الطلاق؟
أمل تخرج من قوقعة الصمت: انت قولي لو تطلقت منه راح تتأثر صداقتكم في بعض؟
يفتح عينيه منصدما بما تفكر بهِ؟ لا تفكر بنفسها بل تفكر به وبعلاقته مع ليث
ينفعل: امل..ليث صاحبي وعزيز وغالي..لكن انتي اختي..قولي لي هو مضايقك بشي...لا تخبين علي شي على مبدأ مابي اخرّب بينكم.
امل تهتز مشاعرها دفعة واحده: مو ماضيقني..بس انا ...احسني ..
يخونها التعبير..لا تدري كيف تخرج نفسها من وحل الماضي بلا فضيحة امام ركان..تخشى الطلاق يُفسد علاقة اخوية مضت عليها سنين طويلة..تخشى على اخيها من القهر..وتخشى ان تفقده للأبد..هي ضحية ليث وضحية نفسها .سلكت طريق الفضول عنفًا ولم تفكّر به وقتها..عاقبة نفسها بملاحقة ليث لسد فجوات النُقصان الذي شعرت به، احرقها ليث الهب فؤادها ابكاها ليالٍ طويلة.. كرهته..مزّقت وجدانها وهي ترجوه من إغلاق افواه النيران بالزواج منها لتدخل في عُزلة اقناع النفس بالحب..قست على نفسها لتجد روحها متيّمة بوجودة..ولكن عقلها يرفض هذه العلاقة وقلبها شاق في مشاعره...تريد الراحة ولكن لا راحة مع ليث.
وركان من الواضح سيطيل الأمر
تحدثت بلا عقل: ابي أطلّق بدون ما اقول السبب.
ركان يرمش مرتين يمسك بكف يدها يتحدث بعدما سكت ربما لخمسة عشر ثانية: عشان اللي صار؟ عشانه بس جاب رحيل هنا؟
تهز رأسها نفيا لتنظر لعينيه وتكذب: عشاني ما اتحمل ضرّه يا ركان!
يُخرج ضحكة خفيفة تنّم عمّا خافه طيلة هذه السنوات، نظر لها ونهض ليأخذ خطوتين من تنهيداته أمامها ثم عاد ليحدّق بها ويحدّق للمسافات التي سيعود بها للوراء
تحدث: قلت لك على كل شي لم تقدم لك وخطبك...قلت لك هو رجال مزوّج ويعز زوجته والظروف احتدت وانسجنت ظلم..سالفة الزواج جات براسه يمكن عشانه محتاج حُرمة توقف معاه في ذيك الظروف..ونبّهت علييك انتي بعدك صغيرة وقدامك العمر بس انتي شنو قلتي....
نهضت لتنفعل وهي تتذكر كل حديثه هذا، تتذكر دخوله عليها في الغرفة وجلوسه بالقرب منها مثل الآن..تتذكر خوفه..تتذكر نظراته..تتذكر نبرته التي ترجوّانها على عدم الموافقة ولكن هي
انفعلت لتهتز الدموع في عينيها: قلت موافقة...موافقة يا ركان...
ارتفع صدرها بضيق: لكن ...لكن..لم انحطيت في الصورة حسيت بكتمة تجثم على صدري..احس اني انهيت نفسي بنفسي وما نيب قادرة اتخطى هالشعور عشان ارتاح..
تتحدث بجدية، تتحدث وتنسلخ من ذعرها امامه لتبوح بما تشعر به بصدق
تشق دموعها طريقًا لتوضيح شتاتها المنفعل: عارفة ليث يحبني...ويحبها...بس انا...ما...
ينظر لها تنظر له
.
.
انا خائنة يا ركان..غير قادرة على البوح..على لفظ الحقيقة التي تجثو بثقلها على صدري..اريد مشورة وخلاصة مما انا احذره واخافه ولكن انا ضعيفة امام هذا الوقوف الشامخ امام هذين العينين التي تحدّقان بي بوجع..انتَ من ربَت على يدي حينما فقدت الحنان..انت لم تكن أخ وحسب...أنت أبي وامي..فقدتهما مرةً واحدة لا اقوى على تجرّع مرارة الفُقد مرة اخرى وبشكل متتالٍ..فُقد الموت يخنقني ولا زال يرفعني للسماء ثم يهوي بي على الارض ليفتت عظامي جميعُها.
.
.
تعود بالسؤال: لو تطلقت راح تتأثر صداقتكم!؟
ينفعل ليتقدم أمامها: شلون تفكرين أمل كذا؟
ينهار بالحديث:قولي لي ليث وش مسوي لك... هاللي خلّاك تفكرين في الطلاق؟...فهميني الحقيقة عشان اكون...
قاطعته وهي تنتفض وتسحب اطنانًا من الهواء: ماسوى شي...بس انا ابي الطلاق...
ركان مسح على وجهه يتوه ما بين الخوف عليها وما بين الخوف على صديقه ليث ايضًا لا يلومهما الظروف احاطتهما من كل جانب ولكن اتخاذ اي قرار في تحت ظلها سيكون خانق وغير عادل
تقدم لناحيتها وضع يده على كتفيها: أمل..اذا ليث صديقي..أنتي اختي..لا تحطين ببالك راح ازعل لو قلتي لي ..
تبحلق في عينيه ترى خوفه يلهبها ...تبتعد
: ليث قلت له ما سوى شي..
ركان يردف سريعا: الطلاق مو شي سهل يا امل..
انفعل بالحديث: انا صرت ضد عمي بو عبد المجيد لم شفت اصرارك على الموافقة..دخلت في مشاكل معه عشانك ومو ندمان وبالأخير تطلبين الطلاق على سبب مبهم ...امل...اصدقي معي وقولي..
تعلم زواجها من ليث لم يكن سريعا ولم يكن محببا لدى عائلتها ولكن ركان وقف معها الى أن توّج هذا الزواج.
هي تفهم كل هذه الأمور وتفهم خوفه من كل شيء..عمهم..وخوفه من خسران ليث...تفهم كل هذه العُقد ولكن لا حياة لها..هزمها ليث وجدًا اجبرها على ان تمرّغ غضبها في الوحل دون تلطيخه به..اثقلها من كل جانب..قسى عليها..حتى مجيء رحيل هنا كان قاسيًا لا تستطيع ان تمرر كل شيء وحسب..ولكن يبدو السلاسل اللعينة ستبقيها على حُبٍ يقتات عليها بمقابل لا شيء..تخاف اعترافه وتخاف المواجهة لأهله..اطمأنت ولم تطمئن من ناحية مشاعره..هي تدرك علاقتهما غير طبيعية ابدًا.
.
.
امل لتنهي النقاش: جاني الجواب يا ركان..عن اذنك
ثم كادت تخرج من الغرفة ولكن امسكها ليهزها بقوة: أمل..
قاطعته: خلاص ركان..لا تهتم..اهتم لنفسك وزوجتك..لا تنسى تخبر عمي عن زواجك...وانا بحاول اتأقلم مع الوضع.
ركان يريد التخفيف عنها: ليث ما ينعاف يا امل..كبري عقلك..انتي تدرين بكل ظروفه..
امل تنظر لعينيه: اي ادري..ولا تشيل هم..بحاول..بروح اشوف زوجتك...أمس لقاءنا غبي كان..
ركان ابتسم على مضض: تعالي طيب.
.
.
أنا لستُ قاسيًا ولستُ "جلمودًا" لا يشعر ولا يحس..أنا مليء بالجُروح ومليء بالمخاوف التي تُثقلني..قلبي هذا لا يهدّأ..من السّهل على الإنسان الهروب ليوم أو يومين أو سنة أو حتى خمسون سنة ولكن ما إن يحين موعد المواجهة..كُلّ شيء يتساقط يبسًا على الأرض تطئهُ الأقدام ليتفتت ويُصبح حُطامًا..تلك القرارات التّي اتخذتُها في حقّهم لم تُكن ظالمة أبدًا "أو" أنا آراها ليست ظالمة على الأقل.
هل شعرتم كيف يعِيش المرء منبوذًا من قِبل أهله..أنا تجرّعت لوعة هذا الشّعور..شعور مُخزي لا يتحمّله المرء .
العَيش منبوذًا أو العَيش منعزلًا عن جماعته..رُغم ذلك عُشت كل هذا دفعة واحدّة..لم أكن مسؤولًا عن خسار أبا سعد ولكن ثقتهم بي..وبإدارة بعض الأمور التجّارية أوقعتني في فخٍّ هم لم يلحظوه قط..هم لم يستوعبوه..جميعُنا كُنّا ضحايا ذلك الرّجل..ولكن أنا وعلى وجه الخصوص تحمّلت الكثير..النّظرات والنميمة والغيبة والحديث اللّامنتهي في الضّرب والطّعن..تجرّعته بمرارة..دفعت ضريبة كوني "مغفّل" سُجنت..ربما لفترة قصيرة ولكن هُدمت في هذهِ الفترة حصون قوّتي.
اجتاحني شعور بالذّل ، شعور غليظ في وجعه..الجميع سحبوا أيديهم من يديّ ليتركوا مسؤولية العقوبة على عاتقي..جننت ..شعرت بالإهانة..شعرت بالخُذلان..شعرت بالضعف وعجزي من إثبات براءتي .
الله رحيم..يرحم ضعف عبده يستمع لهُ ويستجيب ويُظهر الحق ويزهق الباطل لو بعد حين..ولكن كل ما في الأمر "صبر" نحن بحاجة كبيرة للصبر ولحسن الظن بالله..خرجت براءتي لتُعلن بياض صفحتي ولكن لا أحد تقبّلها!..سُمعتي بالتجارة اصبحت ملطّخة بألقاب كثيرة..حزمتُ أمتعتي وأولادي وزوجتي للخروج من "الديرة" لم يكن الأمر سهلًا..أن تُفارق جماعتك..تبتعد عن الرّائحة الأصيلة التي تذكّرك بأي إنتماء أنتَ تنتمي، موجع ..كانت أعينهم شامته..سحقوني بالحديث وبالأباطيل..رغم تعويضي لكل ما تُلف..ولكن يبدو ما حدث من خسارة كانت لا تعوّض أبدًا..رحلت..عزمتُ الرّحيل إلى "الخُبر" كل شيء جديد..وكل شيء مُختلف عمّا عشتهُ وآلفته...ولكن بدأت من الصّفر..ألتحقت في وقت زماني إلى شريكة "أرامكو" كان كلّ شيء مليء بالغرابة ، ومليء بالغُربة رغم إنني لم أسافر خارج البلاد..فقط انتقلتُ إلى منطقة أخرى للعَيش بعيدًا عن التنابزات والمضايقات..حاولت حماية أبنائي..وصد الحديث عنهم.
نجحت..ولكن هم لم يتوقفوا عن إيذائي..كثرت الأقاويل ليدخلوا في النّوايا..وليبتدئوا القذف..خشيت هذهِ المرة كيف لعجوزٍ مثلي آل بهِ الزّمان إلى وهن الجسد يحمي أحفاده بضعف؟
لم أمتلك سوى سلطة الكلمة..ولكن بداخلي ضعف رهيب..حينما علمت بسجن رحيل..هل تعرفون شعور الإحتضار؟
تزفر زفراتك الجنونية ليزداد ثُقل الروح على الجسد أكثر..تتكأ على العالم بضعفك ويُسقطك مليًّا على تُرابٍ مفخخ بالقنابل المُدمية.
رحيل حفيدتي القريبة وجدًا من قلبي، رحيل أدمعت عينيّ حينما أتت وكُنت أخشى من أن تُدمع عينيّ بالرّحيل..ندمتُ على تسميّتُها بـ "رحيل"..فهي أخذت من اسمها وكثيرًا..رحلت وكأنها تنتقم لتسميّتي التي جاءت بعد تذكر وفاة والدتها..لم أكن أرد تسميّتها برحيل ليرتبط برحيل والدتها ولكن لا أدري كيف أتى هذا الإسم ليتقبله الجميع..وترحل هي في وقت صغير عن أعيننا!
سعادتنا لم تكتمل بتزويجها بليث..كل الأمور بدأت بالسيطرة بالضرب على مواطن أوجاعنا..انعزلتُ عن العالم..لأصبح في نظرهم قاسي..لا يعرف كيف يُبدي بأحاسيسه..ولكن هل تعلمون؟ وددتُ لو اُسجن بدلًا عنها..كيف تُسجن وهي صغيرة لم ترى الحياة بعد؟ كيف تُسجن وأنا الذي اعلم جيّدًا ماذا يفعل السجن بصاحبه؟ هزّني الخبر..اسقطني على فراش الإحتضار الصّامت بالمرض..ولكن ما أوجعني..الحديث الذي يوصله لي أبا سعد وكأنه يريد الإنتقام..خشيت من وصول خبر السجن إليه..فاصبحت اركض وراء بقاؤها على ذمّة ليث لكي لا يلطخّون سمعتها..فأنا اعلم و أفهم كيف يكون المرء منبوذًا..كيف يحاول مقاومة هذا الشعور بالهرب..لم أرد لها حياة تُشابه حياتي ولكن على مُفترق طرق مختلفة.
لم أمنع أحد للذهاب إليها ولكن منعت ذكر رحيل في مجلسي لماذا؟
لأنني اتألم.."يتجمّر قلبي" ويحترق..يُصبح بخورًا لا رائحة له..أظهر لهم وكأني قاسي ولكن خلف هذه الصورة جرحٌ لا يبرأ بعد..فالجروح تبرأ استنادًا للأعمار وعمري أنا لا يقبل جروحات عميقة..فكيف أستطيع لملمته ليبرأ؟
ولكن الآن..لا قدرة لي على البقاء هُنا للإستمرار في قساوة خارجية ولّدها الزّمن على لحيتي وشيبتي!
لا أستطيع أن أبقى نازفًا بلا تعقيم..وبِلا تطبيب..فرؤية رحيل هي شفائي..أدرك وجعها..ربما حُنقها ولكن فلنتخطّى هذا الجُزء الكبير من الآلام فالنتخطّاه دون أذيّة.
أمر الإنجاب ربما سيزيد من التّرابط بعد هذهِ الذبذبة وإن كان الوقت غير مُناسبًا ولكن هي بحاجة كبيرة إلى الإلتهاء. ربما الطفل سيمحي جراحاتها العميقة وسيخرس أصوات كثيرة تقتاتُ على اسمي وسُمعتي..إلى متى يهرب المرء؟ إلى أي حد يمكنّه أن يكون منبوذًا؟
أريد لها حياةً طيّبة..أريد أن انتزع الندوبات من على قلبها وألصقها على نفسي لا أمانع.
ولكن فالتعود رحيل..ابنتي الصّغيرة المدللة..تركض هُنا وهُناك لتُثير غبار الحُزن وتستبدله بالقهقهات العالية..فلتعود لأمسك بكف يدها الصغيرة ونذهب إلى المزرعة "النّخل"..سأشتري لها المثلّجات التي تحبّها..ابنتي تحب آيس كريم"أبو هدية" كما هي تسميه..تستلذ بطعمه وبهديّته الذي يتركها أما على شعرها كـ"بنس فراشة" أو خاتمًا صغيرًا في وسطى أصبعها اليمين..صغيرتي تحب الفراشات..تتبعها أينما ذهبت إليه..تحب الشّمس ودفئها..تكره البرودة وحساسيتها المفرطة للجو البارد سببًا في ذلك، تحب البقاء لأيام كثيرة هنا في منزلي..تُطيل النّظر في عيني وتمسد بيديها الصغيرتين على لحيتي..تلعب وتدور تصرخ وتضحك في الأرجاء هُنا..ثم تتعب وتنام على صدري.
فكيف لي لا اتألّم على غُربتها، وعلى ظلمهم لها وعلى سجنها؟
كيف لي لا أتوجّع؟
وكيف لضعفي لم يستطع إمتصاص ذكرياتها التي توارد ذهني بالتذّكر.
رحيل طفلة ليست عاديّة..رحيل طفلة ملكت بطفولتها القلوب..فجروحها لا تقبل التوّقف عن النّزف حساسة وجدًا..الخدوشات لا يختفي أثرها..تستمر في رسم خارطة الوجع بإتقان شديد.
رحيل
أودعت في قلوبنا صخبًا من الأوجاع
والكثير من الذّكريات.
.
.
يضم كف يده اليُمنى على اليسرى ويشد بعصاته..جسده يميل يمنةً ويُسرى ..أدرك قُرب موعد اللّقاء، عيناه متيقضّتان على نُقطة السنوات التي ولّت بمرورها على حاضره العنيف، يحدّق بجُمرة عينيه..وبهيبة جلوسه على الكنبة التي تقبع أمام التلفاز في المجلس..يُرمش مرّتين ويرى..ما لا يستطيع نسيانه.
.
.
يوم الأربعاء..اليوم الموعود والمليء بالحماس..اليوم الذي تضع كُتبها فيه جانبًا على الطاولة بالقرب من التلفاز..تأتي إلى هُنا بعد خروجها من المدرسة..ترتدي مريولًا بلونه الكحلي، شعرها الناعم مفروق على جانبين من رأسها لتُمسك بهما الشريطة البيضاء..لها قُذلة جميلة تخبّأ جبينها وتزيد من جمال ابتسامتها البشوشة..تحدّق بهِ..وهو يبتسم..تأتي ليفي بوعده في آخذها إلى "البقالة" بنفسه..هذا اليوم يوم "مفتوح" في الشّراء تشتري كل ما يطيب لها في الخاطر..تركض هُنا وهناك تلتقط"كاكاو أبو ملعقة" تعشقه تستلذ بطعمه تبتدأ بأكل الطرف الأبيض ثم البُني..تمشي بخطى ابطأ وتلتقط"بطاطس مرحبا" تنظر
لجدّها بحب: عشان مناهل وصايف ..يصلح لهم هم صغار!
يهز برأسه..يراقبها أينما تتجّه وتقفز وتركض ..يخشى عليها لا يتركها لوحدها ..يمضي معها..لتسحب هذهِ المرة" حلاوة البراقع"..حبّات شوكولاتة..موزّعة بشكل دائري لتعطي شكل النظارات..هي تشتريها من أجل أن تثقب جزء بسيط من الطرفين منه..وتدخل في الثقبّين الجانبين ..خيطًا من الصوف ثم تعقده وترتديه كنظارات للعب دور الطبيبة!
في الواقع يثقبه لها جدّها وهي تقف فوق رأسه تستعجله في الأمر.
تستمر في الشرّاء ويستمر في الضّحك والمراقبة..تسحب"كوكو الكرات الملوّنة" تصرف في أكل الشكولاته..وبسببه تسوّست أسنانها..حتى أبيها ذات يوم
اخبر والده"يبه لاعاد توديها انعدمت أسنانها تشتري بالهبل بهالكاكاو وتقرض فيهم ليل ونهار"
يجيب بابتسامة وهو يحتضنها"عليها بالعافية..انا بودّيها لدكتور الأسنان"
تنكمش تخاف الأطباء عمومًا.
.
.
وتنكمش ذاكرته بدخول زوجته تراه يقبع وراء حُزنه الشديد وعينيه التي تحدّقان لطفولة رحيل، رمشه الأيمن ينفض حُزنًا ضعيف في خروجه أمام هذهِ الجدران..يهز جسده وكأنّه يعزّي روحه على حقيقة ابتلعها في الداخل لتغوص ولتتجرّأ في إحداث تشققات في روحة المعتصرة..يشد على عصّاته وكأنّه يشد على حبل الذّكريات لكي لا تنقطع صورة رحيل الصغيرة في ذهنه.
أوجعه حديث ليث ولكن لا أحد ألتمس هذا الشيء، يخشى عليها من الإنكسار من الجنون..يخشى عليها من كل شيء وحتّى نفسه..يضعف..يأن من الدّاخل..يزداد ضعفًا حينما يواجه حقيقة عودتها..بأي حال ستكون الآن..ماذا فعل السجن بها؟
"وماذا فعل بها بُعدي؟ وقساوة حُزني؟ ماذا حدث لها مع تناقضات مشاعري؟"
جلست بالقُرب منه..وضعت يديها على فخذه الأيسر..تفهم زوجها..تفهم تجاعيده الحزينة كيف لها ترتسم على ملامحه بقسوة بعد كل هذا الرّحيل..الرحيل من الروح إلى الأوطان اللامرئية إلى الذكريّات الخفيّة إلى الخروج من الجسد بالأذهان!
: عبد العزيز؟
ترتجف شفتيه المتجعدتين
قهرًا
تنظر له لتضعف..لم تراه ضعيفًا طيلة هذه الفترة..ماذا حدث لقلبه؟
: لا تهد حيلي بنظرتك الضعيفة ..
يتحدث بصوت ثخين: وإذا قلت لك ما عاد لي حيل بعد؟!
تزدرد ريقها..تمسح على عينها اليسار بوجع
: ومن اللي سحب منك هالحِيل؟
يلتفت عليها: ضوى عيني!
تفهم لتهمس اسمها بحزن: رحيل؟
الجد: مانيب قاسي يا حسنا..ما نيب قاسي؟
تبتسم رغما عنها وتبلل رمش عينيها بقطرات استحلّت تجاعيد وقارها عنفًا: أدري والله أدري...ما سويت كل اللي سويته إلّا من زود خوفك عليهم...
الجد بجدية وبوضوح: يمكن ما توفقت بقراراتي لهم..ويمكن اللي قلته غلط...بس وش حيلة اللي مربّط؟..وش حيلتي وأنا حيران يا حسنا؟
تنظر لحزنه ولتعبه تشد على كفّه المتجعدتان: لا عاد تقول تسذا..يا عزيز..ارجع قوي مثل الأوّل..بشوفة عينك كلنا ضعاف...وبو فهد محتاج لوقفتك معه بشموخك وهيبتك وقوّتك...
الجد: بلعت الحزن لين انتفخ صدري.
الجدّه: يا بعد عيني ..لا تقولها..وانا حاسه فيك..ومانيب غشيمة...
وبحزن: ليّن قلبك..بس لا تضعف...كلّم ليث..يلين على زوجته...وأنت لين مع ولدك...ليّن القلوب اللي تظّاهر بالقساوة يا عزيز..بس لا تضعف...تكفى محنا بقد الضعف...ولا حنّا من أهله.
يهز رأسه ويمسح على شيبته: ولدك ليث مزوّج ثانية على رحيل..
تخبط على صدرها: يا ويح قلبي ...ورا تزوّج؟
الجد ينظر لها: ما اقدر اقوله شي..مير انا ما يهمني شي غير بنيّتي...خاطري يجيبها عندنا هنيّا وتجلس معنا...
الجده: اترك لهم الشور بحياتهم يا عزيز..يكفي..
قاطعها وهو يهز رأسه: ادري..والله ادري...بس خايفن عليها..تحسبيني ما نيب حاس..جرّبت السجن...وجرّبت..
تقاطعه: اقطعها من سيرة ولا عاد تهذي أبها قدام أحد...لا توجعن يا عزيز..
يربت على كتفها: انا بقوم..بروح النخّل..مع السايق..
الجده بتعجّب..هو لم يذهب لمزرعته لسنوات..ما باله اليوم يريد الذهاب إليها
خشيت عليه وعلى هذا الحال الذي يلتهمه: وشوله؟
الجد: بينيّتي تحب النّخل...وأنا نذرت..ما أطبّه ولا أروح فيه إلّا لم ترجع...أبي أروح وأشوف شلون حاله بعد هالسنوات...
الجده: لا تروح ...واترك العيال يروحون بدّالك...تلقاه النخل يبس والماي جف...وصار خرابة...لا تروح...والطريق طويل وأنت ما تقدر على الجلسة الطويلة ...
الجد يهز رأسه: لالا...بروح...ودي أودي عمّال ينظفونه...ورتبونه...وقومو..
قاطعته: والله إني حلفت عليك ما تروح...بلّاك يا عبد العزيز...اذكر الله..وكل شيء بالهون يجي..تقول لصارم ولا فيصل ..يروحون وسنعونه...الحين اجلس اذكر الله...
الجد تنهد بضيق، جلس يمسح على جبينه ويتمتم بالإستغفار روحه في حالة ضجيج واستنفار عظيم..يشعر ما عاد صلبًا يشعر بشوقه فجأة يتدّفق من فوّهة رأسه ليحثّه على الإمساك بكل شيء يذكّره برحيل.
.
.
الوقت يمضي، يزداد أذى جُرحه يرتفع الضجيج..تشتد زغللت عَينيه روحه لا تأبى البقاء في مكان واحد..تتجلّى من الثبّات لتذهب هُنا وهُناك في اللّاشيء..فكّر مليًّا هي الأخرى مُتعبة..مليئة بالأشواك..هي تعد قُنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة..وهو لا ينكر اثقلها..جعلها تتفخّم في الكتم لتظهر بعد كل هذا الوقت في هذهِ الصورة.
سيذهب لشراء ما يحتاجانه في الشقة سريعًا..سيشتري أشياء بسيطة ولكن لن يجعلها تعود إليه في شقة خاوية من كل شيء..مضت ربما ساعتين..حمّل الأغراض في سيارته..وعاد ليفتح الشقة..يتنهّد وكثيرًا..لا سرير هُنا..لا مفارش ...لا شيء تستطيع أمل النوم عليه..هو لا ينوي النّوم أبدًا..ستبقى عينيه مفتوحة إلى حين يأتي موعد الرّاحة..ويبدو موعد الرّاحة بعيدًا عنه في الواقع..اقفل الشقة.. سمع تنبيه هاتفه ..واستوعب رغبة فهد الشديدة في الإلتقاء مع رحيل.
وهو يخرج نظر لفيصل وهو يدخل
كان وجهه مشحون بالحُمرة..عينيه محمرتّين..أرنبة أنفه تشتعل..قوّس حاجبيه
: علامك؟
.
.
يرفع رأسه ينظر لأخيه، وينظر لقلبه الذي يخونه..ينظر إلى أشياء نحن لا نراها ولكنّها مؤلمة..لها صداها الخاص في إثارة المشاعر العاطفية وخاصة مشاعر الشفقة..عضّ على شفته السُفلية..لا يريد خيانة أخيه..ولا يريد أن يوجع أحد بعد الآن..فرغبته بالبكاء علنًا تطول..يشعر قلبه يُمسك البكاء باعتصار نفسه بشكل لا إرادي مُقلق..مُثقل بهِ شعور ارتخاء لعين يستولي على كف يديه..وبه شعور غريب ناحية صدره..يحاول التنفّس ولكن كل شيء يحدث بصعوبة..اقترب من ليث..الذي يُبحلق لشتاته وحُطامه..انتهت صداقته وانتهى الخلاف ورُفعت رايات الحُزن علنًا أمام ليث..احتضن أخيه..ليخبّأ وجهه في رقبته ويبكي..بكى بصوته..حتى جعل ليث يرتعب وينتفض.
ليث طبطب عليه: الله الله...تبكي؟...ما تبكي عين الرّجال إلّا لوجع كايد..شصاير؟
فيصل يغمض عينيه يشد على أخيه يتذكّر مواقف عدّة تفتك في عقله: ماهر مات!
يدخل بشكل مفاجأة محمد..كاد قلبه يقع من احتضان أخويه لبعضهما البعض
هو ليس في مزاج عالٍ، وعقله شرد في أمر دانة..وأمر رعد..تقدم لناحيتهما
تحدث بذعر: شصاااااااير؟
ليث نظر لمحمد وابعد أخيه نظر لوجهة فيصل المخنوق: الله يرحمه...وعظم الله اجرك...
محمد ينفعل: منننننو مات؟
ليث يلتفت عليه: اهدأ...مات ماهر صديقه..
سكت محمد ونظر لفيصل الذي يلوذ بدمعته ويحاول أن يحبسها في صدره
ليث: اذكر الله لا تدخل داخل وأنت كذا...أمي واصايل وهيلة بيرتعبون..
محمد طبطب على كتف اخيه: الله يرحمه...كلنا على هالطريق...قول لا إله إلا الله...
فيصل هز رأسه مكسورًا وهو ينظر لهما
ليث بهدوء: مضطر اطلع...وبإذن الله برجع..بعد كم ساعة...
نظر لمحمد: محمد لا تترك فيصل لحاله...
محمد هز رأسه وتقدم لناحية أخيه
: فيصل...
خرج ليث وبقيا واقفان ليقول: راح وقهرني...ما ترك لي مجال...
قاطعة: قول لا إله إلا الله ..هذا يومه...لا تجلس تخربط...اترك عنك ابليس وادعي له...لا تجلس تلوم حالك...
فيصل هز رأسه ومسح على وجهه ولحيته المبللة بدموعه..
ثم قال حينما أدرك أمر: هجدوا شياطينك؟
محمد ابتسم رغمًا عنه: فيك حيل والله!
فيصل مختنقًا ولكن يريد أن يخرج من طور رغباته: وضعك قبل كم ساعة ما طمّني..وكلامك للعلم ضايقني...
محمد يدفعه من كفه: نعتذر على الكلام...بس كل تبن...وادخل...
فيصل ابتسم بسخرية: تهرب ما تبي تكلّم..
محمد ينظر له وبعبوس: أي والله ما فيني حيل للكلام...
ثم مشيا للدخول إلى الصالة لم يكن أحدًا موجودًا فصعدا كلًّا منهما في غرفته.
|