اجتازت السيارة مدينة لندن وبدأت باجتياز الريف, كانت السماء رمادية قاتمة تنذر بتساقط الثلوج بين لحظة واخرى . فحمدت ميلاني الله على خروجها باكراً من المنزل فهي لا ترغب في إثارة الانتباه في حال وصولها متأخرة .
وانفرجت أساريرها اخيراً عندما احست بتوقف السيارة الفخمة فنظرت من النافذة ورأت الكنيسة وعدداً كبيراً من الاشخاص والسيارات . فقد وصلت قبل الوقت المحدد بخمس عشرة دقيقة .منتديات ليلاس
هبطت من السيارة فتقدم لاستقبالها رجلان يلبسان بدلتين سوداوين فصافحها احدهما قائلاً :
- هذا لطف منك يا سيدتي ان تحضري لتمثيل زوجك في هذه المناسبة فقد كتب لي معتذراً واخبرني بسفره إلى النمسا.منتديات ليلاس
- انه يعتذر عن عدم تمكنه من الحضور شخصياً . اجابت ميلاني .
- اسمحي لي ان اقودك إلى المكان المخصص لك يا سيدتي فالطقس بارد جداً.
كانت قاعة الكنيسة مليئة بالناس واحست ميلاني بعيون الحاضرين تنظر إليها هي تجتاز القاعة . ولم تفاجأ عندما أشار الرجل إلى المكان الذي ستجلس فيه . فقد وضع اسم زوجها السير في الصف الأمامي إلى جانب باقي افراد أسرة اللورد المتوفي . فجلست في مكانها واخذت تصلي بكل خشوع وتذكرت والدها الذي لم يمرّ على وفاته بضعة أيام دعت الله أن يرحمه وصلت طويلاً لأجله .
عندما انتهت صلاتها لاحظت وجود رجل كهل يرتدي زي أميرال بحري يجلس في الطرف الآخر في المقعد الخشبي الذي كانت تجلس عليه, فيما جلس إلى يمينها رجل اسمر شاب وسيم جداً في حوالي الثلاثين او الثانية والثلاثين من عمره .ريحانة
ومالت ميلاني برأسها فالتقت عيناها بعيني الرجل الشاب . وتسمرت عيناها في عينيه لحظة أومأ لها بالتحية بطريقة مألوفة كما لو انه يعرفها . وابتسم لها قائلاً :
- اعتقد انك تمثلين زوجك السير مالكولم . إنني أدوارد تيلور أقوم ايضا بتمثيل والدي في هذه المناسبة .
تحدث بصوت خافت وهادئ كالهمس . ولم تجب ميلاني واكتفت بالابتسام .

- إنني أكره مراسيم الدفن . تابع قائلاً . وأرى أنك لا تحبينها ايضاً. افضل ان ترمي جثتي في البحر او في فوهة بركان بعد موتي , إنها افضل طريقة للتخلص من جثث الأموات .
ضحكت ميلاني لما قال وخشيت ان يلاحظ الحاضرون ذلك فتمتمت :
- ارجوك لا تحاول ان تضحكني فأن ذلك سيزعج الآخرين .
- من الذي يهتم بأمرنا الآن ! فالكل يفكر في حصته من الإرث , فقد كان اللورد العجوز رجلاً غنياً.
مرة اخرى شعرت ميلاني انها على وشك ان تنطق ضاحكة لملاحظته تلك , لكنها اكتفت بالإبتسام وحاولت ضبط اعصابها والسيطرة على الموقف. فنظرت إلى يسارها وتناولت كتاب الصلاة الصغير الذي وزع على الحاضرين اثناء دخولهم الكنيسة . فبدأت بقراءة المقاطع الدينية , وفيما كانت تحاول ان تشغل نفسها في قراءة الكتاب الديني احست بنظرات الرجل مسلطة عليها فاحمر وجهها بشدة وفي نفس الوقت تقدم من المذبح ستة اشخاص يحملون النعش.
حاولت ميلاني تجاهله ووجهت انظارها لما كان يدور أمام المذبح لكنها ارتجفت بشدة عندما اقترب منها وهمس في أذنها :
- كم يليق بك اللون الأسود يا سيدتي , انه يمنحك سحراً وغموضاً .
وتظاهرت بعدم سماع ملاحظته والتقطت حقيبتها لتخرج منديلها فأضاف:
- إن نظراتك رائعة حقاً . فيما كان قس الكنيسة يتابع الصلاة .
- ارجوك . قالت ميلاني عابسة . إن هذه التصرفات غير لائقة في هذه المناسبة فأرجو ان تلزم الصمت .
لكنه تجاهل ردها واضاف :
- ستحضرين إلى القصر بعد انتهاء هذه المراسيم ؟
ووجدت نفسها توميء بنعم بطريقة لا شعورية .
- في هذه الحال سأراك هناك .منتديات ليلاس
ولزم الصمت حتى نهاية الحفل , لكن ميلاني كانت تشعر بوجوده إلى جانبها وبنظراته التي لم تفارقها , فقد كانت هناك جاذبية غريبة تنبعث منه وقد احست بانجذابها الشديد نحوه منذ اللحظة الأولى . شيء ما حوله ذكرها بوالدها ربما جاذبيته او صوته الرجولي العميق الذي سحرها عندما همس في اذنها منذ لحظات.

لم تكن ميلاني قد تعرفت في قريتها على رجال بمستوى والدها فكانت تظنه رجلاً خارقاً يختلف كثيراً عن بقية الرجال وكانت والدتها تؤكد لها ذلك فقد قالت لها ذات مرة :
- لم أقو على مقاومة والدك يا ميلاني . كنت احس في كل مرة أنظر إليه بجاذبية قوية تشدني إليه . وعندما عبر لي عن حبه وطلب مني الهرب معه لم أتردد لحظة واحدة .
- انك حقاً شجاعة يا اماه .منتديات ليلاس
- لا ياعزيزتي , كان تصرفي أنانياً بعض الشيء فأحزن والديّ وإخوتي . لكنني لم استطع مقاومة الحظ والسعادة اللذين طرقا بابي عندما تعرفت بوالدك . ان السعادة تطرق باب الانسان مرة واحدة في الحياة فخفت ان تفوتني هذه الفرصة. كما أن والدك وهبني اثمن ما في الحياة فقد وهبني الحب الصادق والصريح .ريحانة
- صحيح لقد كان والدي ذي جاذبية كبيرة .
قالت ميلاني في سرها , في الوقت الذي كان فيه ستة رجال يتوجهون بنعش اللورد إلى الباب الغربي للكنيسة , ألم احس بنفس الجاذبية تنبعث من هذا الرجل الجالس إلى الجانبي ؟ تساءلت ميلاني في نفسها.
- كنت أفضل حضور حفلة زفاف . قال الرجل اخيراً . كل هذه المشقة والتكاليف لن تجدي نفعاً فقد مات اللورد وارتاح.
ومرة اخرى احست ميلاني برغبة في الضحك لكنها تمالكت نفسها وانشغلت بالنظر نحو الباب الغربي للكنسية حيث كان يوضع رفات اللورد في سرداب الدفن الخاص بعائلته. لقد اجتمعت عائلة اللورد لوداعه ولإلقاء النظر الأخيرة عليه , لم يكن هناك عدد كبير من الأشخاص . فبلإضافة إلى المرأة العجوز وفتاتين في مقتبل العمر كان هناك ثلاثة او اربعة رجال وقفوا مكشوفي الرأس وقبعاتهم بين ايديهم فيما كانت أولى حبات الثلج تتطاير في الريح .
ارتعدت ميلاني فجأة عندما احست بيد تمسك بذراعها وتجرها نحو باب الكنيسة . والتفتت فوراً لتجد ادوارد تيلور وهمست :
- لا , ارجوك , لا اريد الانسحاب قبل الوقت .
- كانت والدتي تقول دائماً إن مراسيم الدفن في الشتاء تجر مراسيم دفن اخرى فلا داعي لأن تصابي بنزلة صدرية.
- اوه , لا تخف ! إنني احتمل البرد عادة ولا اخشى النزلة الصدرية .

- اما أنا فأخشاها , ولا ارغب في قضاء اسبوع في الفراش دون حراك, هذا عدا ارتفاع الحرارة والزكام والسعال.منتديات ليلاس
ودون ان يترك يد ميلاني جرها إلى الباب الخارجي , قائلاً :
- سنذهب إلى القصر , مسكينة الليدي ايفلين , كان يجدر بها ألا تخرج من المنزل في مثل هذا الطقس الرديء, اخشى ان تلحق باللورد عما قريب.
- الليدي ايفلين ؟ . سألت ميلاني .
- إنها شقيقة اللورد التي تعيش معه , ناهز عمرها التسعين عاماً , انها تصغير شقيقها اللورد بخمس سنوات وهي أرملة .
لم تحاول ميلاني الاعتراض فقادها ادوارد نحو السيارة دون ان تنبس بكلمة .
- هل تسمحين لي بمرافقتك ؟ سأطلب من سائقك ان يتبعنا .
وساعدها على الصعود إلى السيارة , دون سماع ردها وجلس خلف المقود وأدار المحرك . وما ان بدأت السيارة بالتحرك حتى ألقى بنظرة خاطفة إليها قائلاً :
- هل لك ان تردي على سؤالي الآن ؟
- أي سؤال ؟
- اية حورية أنت ؟ وكيف التقطك وليم ؟
احمر وجهها بشدة وشعرت بالارتباك وفكرت هل يعرف شقيقتها وزوجها حتى انه يتحدث عنها بهذه الطريقة الساخرة ؟ وشعرت بالغضب واجابت :
- لم يلتقطني وليم , بل تعرف بي في بيت جدي ريتشارد هارفي .ريحانة
- أهو جدك ؟ انه من كبار رجال المال والأعمال وقد سمعت عنه الكثير من والدي, لكنني شخصياً لا اعرفه .
وسكت قليلاً ثم قال :
- اخبريني لماذا تزوجت امرأة فاتنة مثلك برجل في سن والدها ؟ أهي الحاجة إلى المال ؟ لا اظن ذلك .
وسكت مفكراً ثم غمز بعينه واضاف :
- لا يبدو عليك انك امرأة باردة باستطاعتها العيش مع رجل عجوز لا يقوى على إطفاء نيران امرأة في عنفوان شبابها .

احست بالارتباك واحمر وجهها من جراء وقاحته وفكرت , لو ان كارين في مكانها فبماذا ترد عليه . وشعرت بالارتباك أكثر , فليست لديها خبرة شقيقتها حيال الرجال وفضلت ايقافه عند حده فأجابت:
- هذا ليس من شؤونك يا سيد .منتديات ليلاس
- ادوارد تيلور هو اسمي أم أنك تفضلين استعمال الألقاب !
ظلت ميلاني على صمتها وخشيت ان هي تمادت في الحديث معه ان تبوح بشيء عن شخصيتها الحقيقة . وسمعته يقول :
- لقد كنت في بعثة الى الهند ولم اتمكن من حضور حفلة زفاف ابن عمي وليم .
وكتمت صرخة اوشكت ان تنطلق منها . هو ابن عم زوج شقيقتها إذن . ترى إلى أي حد يعرف شقيقتها كارين ؟ وتابع قائلاً :
- لم يتسن لي رؤية ابن عمي لأهنئه على اختياره لأنني كلما عدت من رحلة عمل يصادف ان يكون مسافراً في مهمة رسمية لسوء حظ . لكن سبق لي ان رأيتك على ما اذكر . مرة في إحدى حفلات الليدي ماري واتفيلد ومرة اخرى في حفلة اقيمت على شرف السفير النمسوي لكنك بدوت مشغولة إلى درجة انك لم تلحظي وجودي ! . قال جملته الأخيرة والتمعت عيناه بخبث.
تساءلت ميلاني في نفسها , مع من كانت شقيقتها مشغولة ؟ هل كانت برفقة كارل ؟ وردت قائلة :
- آسفة , انني لم اتعرف بجميع أقارب زوجي بعد , لكن كان على الليدي ماري ان تعرفني بك.
فقهقه قائلاً :
- لقد جئت إلى الحفلة متأخراً , والليدي ماري كانت متوعكة اثناء حضوري واعتذرت عند عدم تمكنها من الجلوس مع ضيوفها وأصرت على متابعة الحفلة , فكان ان وقعت عيناي على أجمل حورية رأيتها في حياتي . ريحانة
والتمعت عيناه قائلاًَ بسخرية :
- لو كنت في مكان ابن عمي العزيز لما تركت سيدة رائعة الجمال مثلك تذهب إلى الحفلات بمفردها !
فارتعشت ميلاني وارتبكت , لكنها سيطرت على نفسها وردت :
- إنني غالباً ما اذهب إلى الحفلات اثناء غياب زوجي وهو لا يعترض على ذلك .