رغم مرور ثلاث سنوات وهي تسير في دهاليز المحاكم لتترافع في القضايا فإن ذلك لم يقلل من خوفها وهي تدخل قاعة المحكمة . كان الصمت الذي يلف المكان وارتفاع سقفه والمنصة المرتفعة التي يتوجها القاضي كل ذلك ساهم في إخافتها .منتديات ليلاس
كانت موكلتها مارجريت ترتدي طاقما من التيل لونه بيج وكانت تميل إلى الثرثرة أكثر من المعتاد ولاشك انها كانت تعمل ذلك لتداري قلقها وبدا انها لا تلاحظ العصبية المتصاعدة عند باتريشيا . اعترفت مارجريت :
- لقد احسست بالارتياح لأن جيف ديفيز نجح في إبعاد ميليسا عن كل ذلك.
- اوه , نعم لقد كان جيف متفاهما في هذه النقطة خاصة انه لابد من تهنئتكما انت وريك على الرغم من انكما لم تكن لديكما هذه الحمية التي اظهرتماها لحماية الابنة .
انهى وصول ريك وجيف المحادثة وغرست باتريشيا اظافرها في جلد حقيبة أوراقها وبدا لها ان صوت ضربات قلبها يتردد بين جنبات القاعة. احست بالخلاص عندما اكتفى جيف بإيماءة بسيطة من رأسه قبل ان يأخذ مكانه بجوار موكله عن يمين المنصة , تنفست باتريشيا بعمق وحاولت ان تستعيدهدوءها همست في إذن صديقتها :
- أنا عصبية . منتديات ليلاس
اجابت موكلتها مارجريت :
- لا تنخدعي بديكور المحكمة.
بعد ذلك ظهر القاضي الذي كان في منتصف العمر وقد ارتدى باروكة سوداء طويلة , ورغم ان باتريشيا لم تكن تعرفه شخصيا إلا انها كانت تعرف سمعته كرجل محافظ وهو ماقد يكون في صالح موكلتها .ريحانة
عندما جاء الدور عليها للكلام اقتربت من المنصة وهي تحاول ألا تنتبه إلى وجود جيف.
- يا فخامة القاضي إن القضية موضع النزاع اليوم يمكن ان تشكل خطراً في التأثير على حياة إنسان ...إنسان صغير جدا من الناحية الشرعية بحيث لا يستطيع ان يكون له حرية القرار في شأن هذه القضية . إن الابنة ميليسا داريان في الحقيقة طفلة ولكن الحياة جعلتها تمر بتجارب عاطفية لا يستطيع حتى البالغ تحملها إلا بصعوبة . ومع ذلك وكما يدل على ذلك درجاتها المدرسية الممتازة في الفصل وعلاقاتها الطيبة مع زميلاتها ونجاحها في مجال الرقص يثبت انها تأقلمت مع الوضع بدرجة رائعة, وهذا النجاح لا يمكن ان ينسب إلا إلى شخص واحد وهو امها مارجريت درايان...
قاطعها القاضي قائلا :
- تحدثي بصوت أعلى !
- نعم يا فخامة القاضي ! كما سبق ان قلت إن هذا النجاح الذي حققته ميليسا في كل شيء هو نتيجة للرعاية الدائمة التي وفرتها لها أمها .
قال القاضي بصوت خال من التعبير :
- هذه النقطة لم توضع في الحسبان .
- إنني مدركة لها يا فخامة القاضي ! ولكني اظن ان لها بعض الأهمية في هذه القضية .

- لقد ذكرت كل هذا في الملف الذي قدمته للمحكمة ؟
- نعم يا فخامة القاضي!
- هل ممكن ان تدخلي في الوقائع ؟
احست باتريشيا ان الدماء تتصاعد إلى رأسها ولكنها نجحت في احتواء غضبها . لو اصرت فإن ذلك سيضايق القاضي. وعليها أن تتخلى عن جزء كبير من دفاعها حول تاريخ القضية . استمرت .
- نحن نتعامل مع مشكلتين مختلفتين . تسوية حساب النفقة المتأخرة لشهرين وهما شهرا مارس وابريل , وزيادة قيمة النفقة الواجبة لموكلتي .
تدخل القاضي قائلا :
- ولكنك نسيت مشكلة زيادة حق الزيارة التي يطالب بها الخصم .
كانت ههذ النقطة السبب الرئيسي لا ستعراضها الذي قاطعه القاضي فإن المطالبة بمد الزيارة هو أمر غير معقول .
- اوه ! نعم يا فخامة القاضي ! سأصل إلى هذه النقطة .ريحانة
- إذن يا آنسة موران لدينا ثلاث مشاكل لدراستها اليوم إذا كنت اجيد الحساب.
كان القاضي قد ركز عن عمد على كلمة آنسة وكانت لهجته المثبطة قد جعلت الدماء تفور في عروق باتريشيا ولكنها لم تدع ذلك يبدو عليها .
- هذا هو العدد بالضبط يا فخامة القاضي.
- حسنا جدا يمكنك الاستمرار.
رغم مقاطعات القاضي فقد استطاعت المحامية ان تقدم حججها ببراعة كبيرة قبل ان تنتهي إلى موضوع مد فترة الزيارة . أصرت على ان هذا المد لن يزيد إلا من اضطراب الطفلة النفسي والوجداني التي تواجه موقفا عصيبا .
- هل انتهيت يا آنسة موران ؟
لم تكن باتريشيا قد انتهت بعد ولكنها فهمت من لهجة القاضي القاطعة ان من غير المجدي ان تلح أكثر :
- إيه ! نعم يا فخامة القاضي.
- ممتاز . سنستمع الآن الى محامي الخصم السيد ديفيز .
كانت باتريشيا قد انهكمت في مرافعتها حتى نسيت وجود جيف الجالس على بعد امتار قليلة منها . استدارت نحوه واحمر وجهها إزاء نظراته الثاقبة والتي يصعب الكشف عما وراءها بينما هي تعود إلى مقعدها .ريحانة
- يا فخامة القاضي! لقد قدمت الآنسة موران ملفها بكل أناقة وإقناع حتى ان موكلي نفسه أكد لي انه سيقوم بالوفاء بالنفقة المتأخرة ويقبل الزيادة في قيمتها .
لم تصدق باتريشيا اذنيها. ورغم فرحها إلا انها ظلت متشككة وتتساءل عما إذا كانت هذه التنازلات تخفي وراءها الرغبة في انتزاع حكم من القاضي بإطالة فترة الزيادة . استمر جيف بعد فترة صمت .
- ومع ذلك فإن موكلي متمسك بطلبه بمد حقوق الزيارة , لقد قدمت الآنسة موران دفاعها ضد هذا الطلب وسأتمسك الآن بإثبات ان هذه الدفاعات ليست صحيحة .
اعجبت باتريشيا بسيطرة جيف على نفسه وبراعته امام القاضي وهو يذهب ويجيء في خطوات بطيئة وكأنه منهمك في التفكير العميق :

- واسمحوا لي الآن يا فخامة القاضي ان اقدم لكم موكلي ريك داريان والذي تعرفون انه مثال للنجاح , ومع ذلك فإن صعوده سلم المجد لم يخل من عقبات بل على العكس فقد بذل كل جهده طوال سنوات ليكرس نفسه لمهنته حتى يصل إلى المكانة التي يحسدها عليه الكثيرون والتي وصل إليها الآن وهو لم يفعل ذلك من اجل إرضاء غروره يا فخامة القاضي. وإنما هدفه الوحيد ان تتربى ابنته في احسن الظروف الممكنة وبكل الكرم الذي تميز به والذي قدم الدليل عليه .
فهمت باتريشيا الآن لماذا قبل بكل شروطها .ريحانة
- والآن اسمحوا لي يا فخامة القاضي ان اعارض بعض النقاط التي قدمها الطرف الخصم . إن الأب ليس قيمة مهملة بل له قيمة تساوي قيمة الأم وهذه حقيقة يبدو ان العدالة كثيرا ما تتجاهلها .منتديات ليلاس
توقف جيف فجأة ورفع رأسه لينظر إلى القاضي حتى يزيد من تأثير كلامه ثم استدار نحو باتريشيا التي اخذ قلبها يدق بسرعة . واستأنف :
- وحب الأب مثله مثل حب الأم يمكن التعبير عنه بطرق شتى وفي حالة ريك داريان فإن حبه لابنته ميليسا ينصب على وضع كل إمكاناته حتى لا تشعر بالعوز والحاجة .
اخذت باتريشيا تتململ فوق مقعدها . لماذا يسمح له القاضي بالكلام بينما قاطعها هي عدة مرات ؟
وكانت مارجريت بجوارها تحاول السيطرة على نفسها وهي تبحث عن منديل في حقيبة يدها .
- إذا كان موكلي قد كرس كل جهده لمهنته فلا يجب ان نزيد من حزنه ومصاعبه بسبب الأنانية , وهو يعمل من اجل مصلحة ابنته باعتباره المورد المالي الوحيد لها واليوم يكافأ على هذه السنوات من الجهد بأن يطلب فقط حصاد ثمرة عمله .
لم تستطع باتريشيا ان تمنع نفسها من الاعجاب بعمق مرافعته وبراعتها واخذت مارجريت تمسح دموعها بمنديل ورقي مما يدل على ان خطبة جيف أتت أكلها ونجحت . ولكن القاضي لم تكن تنقصه الخبرة وربما لم ينخدع ببلاغة جيف الذي اكمل قائلا :
- وختاما يا فخامة القاضي ! اود ان أصر على نقطة اعتبرها اساسية , إن ريك داريان لا يطلب سوى شيء واحد وهو ان يشرع من الآن في ممارسة تجربة لا يمكن تعويضها في حياته وهو دور الأب واتمنى من صميم قلبي يا فخامة القاضي بما لكم من حكمة بالغة ان تمنحوه هذا الشرف وشكرا.
هبط الصمت على القاعة واضطرت باتريشيا إلى الاعتراف بأن اداء جيف كان على أعلى مستوى كان بارعا ومقنعا وممثلا ومناورا بلا منازع.
طلبت باتريشيا راحة منحها لها القاضي وهو متضايق :
- عشر دقائق فقط.
استدارت باتريشيا نحو مارجريت التي اخفت احمرار عينيها خلف المنديل المجعد وقالت لها :
- من فضلك يا مارجريت , ارجوك ألا تستسلمي واللعبة لم تنته بعد وسنعود إلى المنصة ونذكر ريك بكل المرات التي ...
قاطعتها مارجريت :
- لا , ليست هذه هي المشكلة .
- هيا بنا نناقش الأمر في مكان أكثر هدوءا .ريحانة
تركت المرأتان المحكمة امام عيني جيف وجلست مارجريت على اريكة خشبية في الدهليز الواسع وبدأت تفتش في حقيبة يدها فناولتها باتريشيا منديلا ورقيا . اخذت تنتحب وتقول :
- لم اعد اتحمل أكثر من هذا يا باتريشيا أنا آسفة وكنت اتمنى أن أكون أكثر قوة ولكن عند سماعي مرافعة السيد ديفيز .

- إنها مجرد بلاغة خطابية وقد سبق ان حذرتك منها لأنها تشكل جزءاً من اللعبة .
- اعرف ولكنه ذكر اشياء كثيرة حقيقية .
- الحقيقة هي انه طوال هذه السنوات كان ريك غير مهتم بميليسا !
- هذا صحيح ولكن مهنته كانت تمنعه ولم يكن امامه حرية الاختيار وأنا مدركة لذلك اليوم والسيد ديفيز لديه حق عندما قال إن الطفل يحتاج إلى والدين .
- ولكن يا مارجريت ...
سكتت باتريشيا في الحال وهي تدرك ان عليها التصرف حسب غريزتها وليس حسب المنطق.
- أتدركين معنى ما قلته الآن ؟
- نعم , لقد رفضت طويلا الاعتراف بذلك ولكنه اصبح من المستحيل الآن .
- هل تقبلين مد فترة الزيارة ؟
- نعم وهذا افضل حل لجميع الأطراف.
- هل انت متأكدة ؟ لأننا لو قبلنا فلن نستطيع ابدا التراجع عن قرارنا , ربما كنت قد تأثرت بكلام السيد ديفيز , هل تحتاجين لوقت كي تفكري؟
- لقد فكرت واعتقد حقا ان هذا افضل شيء نفعله إن ميليسا في حاجة إلى قضاء بعض الوقت مع ابيها .ريحانة
- حسنا ! ما دام يبدو عليك التصميم فساذهب بسرعة واخبر السيد ديفيز قبل استئناف الجلسة .
ابتسمت لها مارجريت ابتسامة باهتة زاد من تأثيرها لون عينيها المحمرتين , قالت لها باتريشيا :
- لم لا تعودين إلى منزلك ؟ فلم أعد بحاجة إليك الآن وسأتصل بك فيما بعد .
- شكراً.
قبلت باتريشيا صديقتها وعادت إلى قاعة المحكمة وكعبا حذائها يرنان على الارضية الرخامية , قالت لجيف:
- يجب ان أن اتحدث معك.
اخذت نظرات ريك تنتقل بين باتريشيا وجيف ثم عرض عليهما الانسحاب فوافقت بهز رأسها .
سألها جيف عندما غادر موكله القاعة :
- ماذا هناك يا باتريشيا ؟
قالت ببساطة :
- لقد ربحت أنت القضية !
- ماذا تودين قوله ؟
بذلت باتريشيا جهدا حتى تستطيع ان تحتفظ بهدوئها المهني:
- يبدو ان مارجريت تأثرت جدا بخطبك العصماء حول الأب وقبلت مد حق الزيارة .
قال جيف وهو يرفع حاجبه دهشة :
- أنا لم أربح يا باتريشيا , لقد رحبنا معا. وحصل كل من وكلينا على ما يريده .

- ارجوك يا جيف احتفظ بخداعك للقاضي فلست ساذجة إلى هذا الحد.ريحانة
- اعرف أنك ترفضين دائما تصديقي ولكن حدث ان ريك داريان يحب ابنته بعمق.
- إنه يحبها لدرجة انه لم يهتم بزيارتها في المستشفى عندما أجرت عملية استئصال اللوزتين .
- إنه لم يذهب إلى هناك لأنه لم يستطع حيث كان عليه ان يفي بواجبات مهنية عاجلة , ثم إن مشكلتك أنك عنيدة بحيث لا تعترفين بالخطأ.
ادركت باتريشيا مرة ثانية انها انساقت وراء انفعالها واصبح من المتعذر عليها التراجع حيث اعلن القاضي بصوت امبراطوري:
- ماذا يجري هنا ؟ ما هذه الضجة والصخب ؟
استدار جيف نحو باتريشيا.
- هل ستخبرينه أم اخبره أنا ؟
- لا اهمية لذلك.منتديات ليلاس
شرح جيف ان الطرفين توصلا إلى اتفاق واخذ القاضي يتأملهما بابتسامة ساخرة اعتبرتها باتريشيا غير مقبولة وأمر ان يتم ذلك كتابة .
شكرته باتريشيا بابتسامة ماكرة ثم تحولت نحو جيف لتلقي عليه آخر نظرة قبل أن تغادر القاعة بخطوات مسرعة .
بدت الحرارة في الخارج خانقة بالنسبة لها . وقفت كي تخلع سترة المحاماة باضطراب لأنها كانت لا تزال ترتجف من الغضب . وصلت إلى ساحة الانتظار وبحثت عن مفاتيح سيارتها في حقيبة يدها عندها احست بيد توضع على رسغها :
- باتريشيا لابد أن اتحدث معك.منتديات ليلاس
كان صوت جيف يتردد كالنغم وسط الانتظار رفعت عينيها ورأت انه فك رباط عنقه الذي زاد من جاذبيته . كان قريبا منها لدرجة استطاعت معها ان تشم رائحة التبغ . قال :
- أنا آسف جدا لأنني كنت وحشيا !
- اعتقد ان علي ان اعتذر إليك . إنك على حق فهذا هو احسن حل لموكلينا . ولم يكن من الواجب أبدا ان اتعصب ضدك ولست ادري ما الذي حدث لي وأثار حنقي !
- أنا اعرف ذلك . إنه ذلك القاضي الذي تصرف معك بطريقة غير لائقة . ومنذ مزاولتي لهذه المهنة لم أواجه بهذا التصرف المتحيز ضد النساء.
امام عمق صوته وصدق نظراته احست بصدقه فصاحت :
- إذاً لم أكن اتخيل , لقد تساءلت هل اصبت بجنون الشك؟.
- لا اطمئني, لقد كان متحيزاً جدا ضدك ولا غرابة في أنك فقدت برودة اعصابك ونظرا للظروف استطيع ان أقول إن أداءك كان رائعا .
- إيه حسنا ... هذا يعني ... على اية حال هذه أول مرة أجد فيها نفسي في مثل هذا الموقف.
- وصدقيني لقد نجوت منه بأعجوبة .
قالت وهي تشعر بالإطراء :
- لقد حاولت , إن القضاة من ذلك الجيل يحسون بصعوبة في التأقلم على حقيقة وجود محاميات .
- لا تحاولي ان تجدي له عذرا فمسلكه لا يمكن ان يغفر .