كاتب الموضوع :
طُعُوْن
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: يراقصها الغيم / بقلمي (الرقصة الاولى)
سلامٌ من الله و رحمة
الرقصة الثانية
اغلقت الهاتف و لا زالت ابتسامة عريضة ترتسم على شفتيها ..
للتو كانت تحادث ابنتها " فيديو " على احد برامج التواصل ..
تنهدت بعمق و الابتسامة تتلاشى
حتى حل مكانها جمود و حزن ..
يا الله ..
لقد كبرت ابنتها بعيدًا عين عينيها ..
لم تكن معها عندما سقطت أولى اسنانها ..
و لم تجهزها للمدرسة ..
لم تذهب معها أول ايام كي تطمئن ..
ولم تعلمها ابجديات الحروف ..
كما أنها لم تساعدها بمعرفة الأرقام ..
غصة خانقة تكونت بحلقها و قد تجمعت الدموع بعينيها ..
حاولت ابتلاع ريقها فغصت به ..
تنشقت بقوة تمنع انفلات بكاءها..
لقد وعدت نفسها بأنها لن تبكي أكثر ..
فيكفيها حتى الآن تلك الليالي التي لم تنم بها بسبب بكاءها
نعم ..
يحرقها ابتعاد ابنتها عنها ..
ولكنه كان الثمن ..
كان ثمن طموحها ..
ثمن تمردها ..
ثمن كسرها لقيوده الخانقة و التي لم تتقبلها نفسها
لقد حاولت بأقصى طاقتها أن تتكيف ..
ولكنها روحها التي انتفضت و صعب عليها ماكان يحدث ..
لقد كان الثمن غاليًا و لكنها توقن بأنها كانت ستصبح اخرى لو لم تقاوم ..
كانت ستفقد ذاتها فـ هدوءها لم يكن أبدًا رضوخ ..
و لم يكن سكونها تقبل ..
بل كان انحناء بإرادتها حتى لا يكسرها ..
و هو لم يعول أي شيء لم يفعله كي تنكسر ..
شهقة مقطوعة خرجت منها فضغطت على شفتيها تمنع باقي شهقاتها أن تسمع ..
لا تريد لأخاها أن يرى انكسارها ..
فلم يرى أي احد حتى الآن لحظات ضعفها ..
و لكنه قد رآها الآن و منذ بداية مكالمتها لابنتها ..
كان يريد أن يعطيها فسحة من الوقت كي تلملم نفسها و لكنه لم يستطع المقاومة أكثر ..
اقترب بخطوات هادئة ثم ناداها بهدوء ..
رفعت نظراتها إليه بصمت..
وبقيت نظراته معلقة بها لبعض الوقت ثم اكمل تقدمه بذات هدوءه حتى جلس بجانبها ..
بقيَ صامتًا لثوان ثم قال بتساؤل : كنتي تكلمين ريما ؟
هزت رأسها بصمت وهي تتنشق فقال بتعاطف : اشتقتي لها ؟
ابتسمت بسخرية ثم قالت بمرارة ولا زالت عبراتها تخنقها : وهذا سؤال ؟؟
ثم اردفت بحقد و خذلان : يوسف يحسب انه بيجبرني ارجع له بذي الحركات ..
يخليني اشوفها مرة و المرة الثانية يخليني أتمنى اشوفها ..
بس مارح اسكت له ..
كلها كم شهر و اخلص و ارجع و نشوف كيف بيمنعني عنها ..
زم شفتيه بضيق و قهر من ذلك المسمى يوسف ..
لو كان بيده كان سيخنقه من شدة قهره حتى يعلم بمن يتلاعب ..
ابتلع قهره ثم قال ببعض المنطقية : انتِ تعرفين اذا رحتي هناك محد بيوقف بصفش .. انتِ بنظر الكل الغلطانة و اولهم اهلنا .. محد راضي بالوضع ذيه..
هزت كتفيها بلا مبالاة و قالت ببرود و شيء من القسوة : وانت تدري انهم ما يهموني دام محد منهم وقف معي لما احتجتهم .. كان كل همهم كلام الناس وانا بالطقاق ..
ثم اكملت بإصرار نابع من كرهها و حقدها : برجع و بوقف بوجيههم كلهم .. بعلمهم ما يستهينون فيني ابدًا .. ابتهال البكاية خلاص ماتت ..
ربت على كتفها بمواساة ثم قال بمرح وهو ينغزها بجانبها : ومين اللي كانت تشاهق قبل شوي ..
بابتسامة هادئة و سخرية : لازم نفرغ دموعنا كل فترة و فترة .. والا ناسي ان وراي شمعة ما تخليني لين تتفلسف على راسي و تطلع كل عقدها فيني ..
ابتسم بالمقابل ثم وضع يده على بطنه بحركته الشهيرة وهو يتحسس معدته : فيه أكل جاهز والا .. جوعاااان ..
هزت رأسها وهي تشير إلى المطبخ المفتوح على المكان الذي يجلسان فيه : اكيد فيه .. طلعه من الثلاجة و سخنه ..
لوى شفتيه بعدم رضا : ابغى اعرف ليش ما تكونين سنعة و تقومين انتي تسخنينه لي .. اقولك جوعااااان ..
بلا مبالاة وهي تقف و تتحرك لجهة غرفتها : اخدم نفسك بنفسك .. كفاية علي صرت سنعة ثلاث سنوات عشان يوسف وليته فااد ..
،
في الطرف المقابل ..
اغلقت الهاتف و مدته لها فأخذته بابتسامة صادقة وهي ترى ابتسامة ريما ..
تعلم بأنها تفتقد امها مهما بالغت هي بتدليلها ..
و تشعر بالمقابل بألم ابتهال ..
و منذ متى كان يخفى عليها وجعها ؟؟
لقد شاركتها وجعها لحظة بلحظة منذ تزوجت وحتى حين تركت يوسف كانت هي أول من يعلم ..
رأت ريما تستلقي على الأريكة و تتابع الرسوم في التلفاز و شردت بأفكارها لقبل سنوات من الآن ..
وقد كانت ريما بنفس الوضعية و لكن بحجم اصغر ..
كانت لم تكمل العام ..
فقط بضع شهور هو عمرها ..
تستلقي على الأريكة نائمة بسلام ملائكي ..
بينما هي و والدتها قد اخذهن الحديث بشتى المواضيع ..
لم تكن ابتهال شديدة الشكوى من حياتها ..
بل كانت ترمي كل همومها و تستمتع بوقتها ..
تلك المرة كانت ثالث زيارة لها منذ تزوجت ..
لم يفتها منظر ابتهال و الحزن في عينيها ..
و لم تقاوم سؤالها حينها
فقد سألتها اياها بصراحة إن كان هناك ما يزعجها
فلم تجبها سوى بتنهيدة عميقة و ابتسامة باهته وهي تقول : خليها على ربك ..
و لم تشأ هي ازعاجها فصمتت و غيرت مجرى أحاديثهما ..
عادت من شرودها وهي تشعر ببرد قارص
و انتبهت على ريما و سكون حركتها ..
استقامت ببطء و تقدمت بهدوء ثم حملتها بحنان إلى فراشها الأرضي ببيت اهلها ..
فيوسف لديه عمل خارج المنطقة و هي تبيت لدى اهلها ..
وضعتها و غطتها بهدوء وهي تتحرك لتستلقي على فراشها ..
تنهدت بضيق و افكارها تأخذها إلى ابتهال ..
لن تنكر بأنها اصبحت تغار منها بشدة و السبب هو تعلق يوسف بها ..
ولكنها لن تستطيع ان تظلمها و تحرمها من ابنتها كما يريد يوسف ..
و لأنها عندما وافقت عليه كانت تعلم بأن حكايتهما قد انتهت ..
و قد أكدت عليها ابتهال ذلك ..
و لكن يوسف فاجأهن بإصراره و عدم رضوخه ..
ولم تكن تستطيع التراجع حينها ..
فما حدث قد حدث ..
و ما يصبرها حتى الآن بأنه لم يعاملها كما كان يعامل ابتهال ..
استلقت على جانبها وهي تفتح هاتفها ..
دخلت على برنامج الواتس اب و لم تجد منه أي رسالة ..
ارسلت له تسأله إن كان قد وصل إلى وجهته و أغلقت الهاتف ..
تنهيدة مثقلة فلتت منها ..
هي لا تشعر بالذنب ابدًا لاخفاءها مكالمات ابتهال لابنتها ..
فابتهال احق بها منه ..
وهو ابدًا ابدًا ليس من حقه ان يمنعها عنها ..
لن تنحدر إلى مستوى قسوته مهما بلغت غيرتها منها ..
فليست هي ممن تنكرن العشرة ..
و ليست ممن تخلفن الوعد ..
،
وضعت السماعات في اذنيها و اخذت ترقص بجنون و فرحة عارمة ..
كان الصوت يصدح بإذنيها بصخب و اخذت تتحرك بجسدها بأكمله وهي تضحك ..
فتحت هاتفها على الرسالة التي وصلتها و التي لم تكن بحاجة بأن يذيلها بإسمه ..
فهي تعرف بأنه المرسل ..
ولن يكون هناك غيره ..
اعادت قراءتها للمرة التي لا تعلم كم وقد حفظتها عن ظهر غيب ..
فبعد اسبوع من الغياب ارسل لها ..
و ذلك يعني بأنه لم يتردد بعد أن جاءها ..
لم يندم و لم يعد للاختفاء ..
فقد ارسل لها
،
"هل تهرُبين معي
من الزَمَن اليابسِ إلى زَمَن الماءْ؟
فنحنُ منذُ ثلاثِ سنينْ
لم ندْخُلْ في احتمالات اللون الأزرقْ
لم نُمْسكْ بأيدينا أُفُقًا
او حلماً. "
رصاص
،
صرخت وهي تقفز : يس يس يس ..
ثم استلقت على فراشها بابتسامة عابثة و وجه متورد ..
لن ترد عليه ..
و لن تظهر له لهفتها الحمقاء
حفاظًا على ما تبقى من رزانتها الناقصة دومًا ..
،
لا تدري لماذا تم استدعاءها إلى قسم الطوارئ ..
فأتت حتى تستعلم عن السبب .. وبعد أن علمت
أخذت تهرول بخوف و فجعة ..
لقد أصيب كما أخبروها ..
أخذت تدعو برعب أن تكون إصابته ليست بالغة ..
تجاوزت الممرات بخطوات شبه راكضة ..
و لم تتوقف خطواتها حتى وصلت إلى الغرفة التي اخبروها
عنها ..
ولجت إليها يسيرها رعبها عليه ..
حتى أصبحت تقف أمامه و الدموع تكاد تغشى عينيها ..
يجلس بانحناء شعرت بقلبها يلتوي منه..
كم ثوبه مقصوص من الساعد ..
و الدماء القانية تغطي اغلب ثوبه ..
كاد قلبها أن ينخلع من فجيعتها وهي ترى ذراعه ..
فقد التف عليها شاش ضخم غطى كتفه و جزء من ساعده
هتفت بحشرجة وهي تراه لا ينظر إليها : عيسى !!
تحركت عضلة خده من شدة ضغطه عليها
و لم ينظر إليها ..
تقدمت بخطوات بطيئة و قالت بلوم : كذا تعامل اختك الكبيرة ؟؟
حاول السيطرة على ملامحه المتغضنة و أن يكمل تجاهلها و لكن وجودها بحد ذاته مستفز له ..
يتمنى لو لم تكن هي الكبيرة ..
لو كان هو الاكبر حتى يفرض سيطرته عليها ولا يجعلها تغادر منزلهم إلى منزل أي كان ..
يشعر بوحشة كبيرة تحتل منزلهم
فهي لها مكانة عظيمة بأنفسهم بدءًا من والدته
و انتهاءً بأصغر فرد فيهم ..
قال بغضب و بصوت مقهور : لو إن اختي الكبيرة مقدرتني ماكان عاملتها كذيه ..
اخذت نفس عميق و زفرته بحدة ..
لن تجادله الآن
فليس المكان المناسب و ليس الوضع المناسب ..
تقدمت اكثر حتى وصلت بجانبه و تحسست ذراعه المغطى بشاش نظيف ..
تساءلت بوجع : من ايش تصاوبت ؟
ارتفعت زاوية شفتيه بتهكم و قال بمرارة شعرت بها تنزل على قلبها و تعتصره : تخيلي بس .. تضاربت مع واحد عشانه قال اختك الكبيرة وش شاف عليها ولد عمكم عشان ياخذ الصغيرة بدالها ..
تخيلي بس سمعته يلمح انش دكتوره و اكيد شاف عليش شيء .. بس هذا اللي صار ..
و بسخرية اعمق : مايستاهل اني اتصاوب عشان هالشيء صح ؟؟
لم يصله أي جواب ..
فرفع نظراته إليها ..
كانت لا تزال ترتدي نقابها و لا يرى سوى عينيها
التي كانت بهذه اللحظة و كأن احدهم قد اعتصر فيهن شيء حارق ..
حاول الاعتدال بجلوسه عندما رأى عينيها و الدمع الذي اصبح ينزل منها بشكل اخافه و اوجعه ..
هتف بندم : شمعة ..
رفعت كفيها و مسحت عينيها بصمت ثم استدارت و تركته خلفها يناديها ..
فتحت باب الغرفة بحدة و كادت أن تصطدم به ..
عقدت حاجبيها و شك راودها بأنه قد سمع ماحدث قبل قليل ..
ولكنها تجاهلته و خرجت
فتقدم هو حتى السرير المخصص لأخيها ..
اعتدل عيسى عندما رآه فابتسم له ناصر ببهوت وهو يعيد برأسه ما سمعه قبل أن يدخل ..
ليس و كأنه قد تنصت عليهم
ولكن الأصوات كانت تصله إلى خارج الغرفة
و قد حاول أن يعطيهما المساحة الكافية بعد أن جعل احدى الممرضات تستدعي شمعة كي ترى أخيها ..
ركز نظراته على ذراع اخيها
والذي احتاج منهم لإثني عشر غرزة ..
بذهن يتوجّع عليها ..
لذلك اذًا يرفض عيسى أن يقدم شكوى ..
لا يريد لإسم اخته أن يذكر ..
لا يلومه على ما فعل
فهو يشعر برغبة عميقة بالانهيال ضربًا على كل من يتجرأ و يلوك سمعتها ..
و بعد أن رأى احمرار عينيها يشعر بقهر شديد ..
هل لقب " اخصائية " يبيح لهم اطلاق الشائعات عليها و الخوض بشرفها ؟؟
قاطع افكاره صوت اخيها : فيه شيء دكتور ؟
هز رأسه برفض ثم قال بصوت لا يوحي بما يدور بداخله : تقدر تطلع بعد ساعتين .. بنركب لك الحين مغذي عشان يعوض الدم اللي فقدته و بعدها تقدر تطلع ..
اومأ عيسى بصمت و شرد بنظراته هو الآخر ..
يعلم بأن اعادتها إلى البيت لن تجعل الناس يبتلعون ألسنتهم ..
ولكنها ستقلل من الكلام عنها ..
لقد فتحت لهم بتصرفاتها الباب حتى ينطلقوا ..
و الله الذي يعلم ماذا يقولون عنها غير الذي سمعه ..
أما ناصر فقد ألقى عليه نظرة أخيرة و استدار خارجًا ..
سيذهب ليبحث عنها ..
يتمنى بأنها الآن قد تماسكت ..
يا الله ..
لم يكن يتصور بأنها قد تغلغلت فيه إلى هذا الحد ..
إلى الحد الذي يكره فيه فكرة بأنها تتوجع ..
فما باله وقد رأى عينيها و الوجع الناطق بهما ..
دار بعدة طوابق و لم يجدها ..
فـ يبدو بأنها قد دخلت إلى غرفة الاستراحة الخاصة بهن ..
زفر بضيق و عاد ادراجه إلى مكتبه ..
يتمنى فقط لو كان يستطيع رؤيتها أينما شاء ..
و كيفما شاء ..
حينها لم يكن سيقلق عليها هكذا ..
،
أما هي فقد ارتقت السلم بسرعة حتى وصلت إلى الطابق الأعلى و الذي يؤدي إلى سطح المشفى ..
جلست على أعلى درجة و خلعت نقابها ..
وضعته بجانبها و هي تهف على وجهها بيديها ..
انفاسها متسارعة و تشعر باختناق بحلقها ..
تمتمت بغضب لنفسها : بس شمعة .. بس .. انتي كنتي تدرين ان كل ذا رح يصير ..
وضعت كفيها على رأسها و اسندته عليهما و هي تأخذ انفاس عميقة و تزفرها ببطء ..
أن تتوقع ما يحدث شيء و أن يحدث فعلًا هو شيء آخر ..
يا الله ..
لكم يوجعها ما حدث ..
اخوتها يظنون بأنها قد غادرت بسبب فهد ..
و لكنه لم يحدث و تقسم على ذلك ..
ولكن من يصدقها؟؟
لقد كانت تتوقع بأن فهدًا ليس موافقًا على ارتباطهم..
و كانت قد بدأت تتقبل ذلك بعد ان تخرجت من الجامعة و لم يتقدم لها ..
ثم بعدها بسنة و نصف قد توظفت و لم يتقدم ..
ومع كل سنة كانت تمر كانت تدرك بشكل أكبر بأنه فعليًا لن يتقدم لها ..
و لكن أن يتقدم لاختها بدًلا عنها فقد جرحها ..
لن تكذب و لن تقول بأنها لم تجرح ..
حتى وهي التي لم تكن تعول عليه و لم يكن من اهم أولوياتها..
و لكن ان يستصغرها و يتجاهلها فذلك جارح بحق ..
و كان القاصم لظهرها هو موافقة سهام السريعة..
لقد أوجعتها بحق ..
هي التي كانت تعلم عنها كل شيء ..
لم تكن تخبئ عنها أي شيء ..
فلماذا فعلت ذلك ؟؟
لماذا وافقته على استصغارها و انشراخ اخوتهن؟؟
.. لقد كانت لها كأم اكثر منها كأخت ..
تنهدت بحزن ..
كلما تقول بأنها ستصبح أقوى يحدث شيء يجعلها تتقهقر و تعود إلى حيث كانت ..
إلى نقطة الصفر ..
مسحت ملامحها و اعادت ترتيب هيئتها ..
عدلت نقابها و استقامت لتنزل الدرجات بهدوء بعد أن تماسكت .. فليقول الناس ما يريدون ..
هي واثقة من أنها لم ترتكب أي شيء ..
لذلك لن تحني رأسها كـ من أذنب ..
وهي لن تستطيع أن تغلق أفواههم على أي حال ..
فليحدث ما يحدث فكله خير ..
تمتمت بهدوء وهي تغادر مخبأها السري : كله خير ..
،
عاد إلى المنزل بإرهاق ..
فاليوم كان جدول العمليات ممتلئ و بالكاد انتهى من آخرها ..
كان ينوي البقاء في المكتب ولكن المكالمة التي وردته جعلته يعود إلى المنزل ..
اوقف سيارته و نزل يجر خطواته بتكاسل حتى دخل المجلس الخارجي ..
ابتسم باتساع وهو يراه امامه بعد كل ذلك الوقت ..
اتسعت ابتسامته حتى تحولت إلى قهقهة خافته وهو يراه يتقدم منه بهيبته ..
احتضنه بقوة احتضان مليء بالفرحة و الشجن ..
ربت على كتفه بخشونه و ابتعد قليلًا و قال بعتاب : اخيرًا شفناك ..
ابتسم رصاص بالمقابل و بصوت هادئ و باختصار: الظروف
تجاهل ناصر ملامحه التي انغلقت و اشر له بالجلوس و بترحيب : يا الله ان تحييه ..
رصاص بهدوءه : الله يبقيك ..
اخذا اخبار بعضهما ثم قال ناصر بخبث : وش سبب تشريفنا بالزيارة
تنهد رصاص و قال بابتسامة مائلة وهو يرى خبثه : لي أمانة عندكم و جاي آخذها ..
بعبث محبب وهو يتراجع بجلوسه باسترخاء : ما تشوف إنك تأخرت كثير ؟؟
بابتسامة اوسع وقد اشتاق فعلًا لمناكفاته معه : والله زي ما قلت لك الظروف ..
حينها هتف ناصر بجدية وقد انمحت ملامح العبث : طيب وش اللي تغير الحين ؟
على خبري ظروفك باقي هي هي ما تغيرت ..
شرد رصاص بنظراته إلى الدلال القابعة أمامهم في الجلسة الشعبية ..
قال بعد لحظات بتنهيدة مُتعبة: تعبت ياخوك .. و ابغى ارجع لحياتي قبل .. و محد رح يساعدني غير اختك ..
رفع ناصر حاجبه بتفكير ..
يبدو بأن وضع رصاص النفسي اصبح ينحدر إلى حال مخيف
و ذلك واضح من الارهاق و التعب على ملامحه ..
و لن يكون هناك افضل من اخته لتعيده كما قال ..
قال بهدوء : زين انت شوف متى يناسبك عشان نسوي عشاء و نكمل من حيث توقفنا ..
رصاص بعملية : يناسبني الخميس الجاي ما هنا مشكلة .. بس شوف لي دارين اذا يناسبها او لا و رد لي خبر ..
ابتسم ناصر بخبث فعقد رصاص حاجبيه بتوجس وهو يسمعه يقول بتسلية : ماعليك متأكد انه يناسبها .. انت بس شوف لنا وحدة من هذي الاستراحات عشان نسوي عشاكم فيه و تتوكلون ..
" اكمل بداخله بمرح " لو بكيف دارين كان سبقتك على البيت الحين ..
ارتفعا حاجبا رصاص بشك وهو يدرس ملامح ناصر المبتسمة أمامه .. قال ببطء : متأكد انه يناسبها ؟
اومأ بموافقة وقال بضحكة حبسها : ما هنا مشكلة ..
تكتف رصاص و قال بهدوء و شك : متأكد ؟
هز رأسه بموافقة ثم قال بلا مبالاة مفتعلة : الا اذا انت غيرت رايك ..
استقام رصاص وقال بهيبته المعهوده : لا غيرت رايي ولا شيء .. اترخص الحين و نتقابل بعد اسبوع ان شاء الله ..
حاول ناصر ابقاءه ولكنه رفض و تحجج بالوقت المتأخر
فوافق على مضض ثم رافقه إلى الخارج ..
تابعه حتى غادر ثم التفت إلى المنزل خلفه و فلتت منه ضحكة مرتفعة ..
تحرك إلى الداخل بحماس و هو يصرخ : دااااريييين .. يااا داااريييين ..
وصله صوتها يهتف من المطبخ بصراخ مماثل : تعال نصور انا هنا بالمطبخ ..
دخل المطبخ و تقدم من والدته التي تجلس على المقعد و يبدو بأنها تسلي دارين حتى تنتهي من تنظيفها ..
قبل رأسها ثم تقدم من دارين و ضربها بخفة على رأسها و قال بصرامة : وش قومش تصارخين !! قد جيرانا يعرفون متى تنامين و متى تصحين بسبب ذا الصوت اللي يلعلع ..
عقدت حاجبيها بغيظ و قالت بسخرية : ابد سمعت اخوي الكبير و قدوتي يصارخ و سويت مثله ..
عاود ضربها على رأسها فأخذت نفس عميق كي لا تلتفت عليه
و تنهال على رأسه بالمقلاة التي كانت تقوم بتنظيفها ..
زفرت و تجاهلته وهو يناكفها ..
لم تبدي أي اهتمام حين سألها : زين ما سألتيني وش كنت ابغى ..
لم ترد فقال بخبث : باقي تبغين تروحين لبيتش؟
تجمدت يديها تحت الماء و لم تبدي أي ردة فعل سوى عينيها التي اتسعت ..
سمعت والدتها توبخه : وش تقول انت ؟
اغلقت صنبور الماء و التفتت عليه وهي ترى ابتسامته الواسعة بخبث تعرفه جيدًا ..
ضيقت عينيها وهي تحاول استكشاف ما يخفيه ..
رفع حاجبه بسخرية وهو يرى نظراتها المدققة ..
رد على والدتهم ولا زال ينظر إلى اخته : رصاص برا و يقول يبغى دارين ..
اتسعت عينيها بصدمة ثم تراجعت خطوة إلى الخلف دون أن تقول اي شيء ..
تحاول أن تستوعب ما قال ..
سمعته يرد على والدته من جديد عندما سألته اذا كان جادًا فرقص لها حاجبيه و قال بخبث : يللا يا حلوة جهزي اغراضش و توكلي ..
نفضت رأسها بعد أن استوعبت ماقال ..
تكتفت و نظرت إليه ببرود فقد ظنته يسخر منها ..
قالت ببرود اشد : قوله ماعندنا بنات يطلعون من بيوت اهلهم سكاتي بدون طنة و رنة ..
بسخرية و برود مماثل وهو يقف متكتفًا مقابلها : والله ؟ و مين اللي كانت تبغى تروح له سكاتي امس ؟
لوحت بيدها بلا مبالاة : هذاك قلتها .. كانت ..
ثم تركتهم خلفها و خرجت بهدوء يناقض صخب قلبها ..
يا الله ..
لوهلة ظنته صادقًا ..
ولكن الخبث الذي كان يقطر من نظراته اخبرها بأنه فقط يريد أن يجس نبضها إذا كانت لا تزال تفكر بالذهاب أم لا ..
تجمدت خطواتها و صوته يصلها بعلو و هو يقول بجدية تخللها المرح :
تراني جاد يا دارين .. رصاص كان هنا و الاسبوع الجاي بيكون عشاكم و تروحين لعند حبيب القلب ..
،
رمت الأوراق بتعب ..
منذ ساعات وهي تدرس بجد ..
و لا ينفك يزور ذاكرتها كل حين ..
لا تعلم لماذا عاد إلى ذاكرتها بهذا الاصرار وهي التي كانت قد استنزفت طاقتها كي تنساه ..
يبدو بأن حديثها مع اخيها بالأمس كان السبب ..
فقد عادت لتتذكر مواقفهما مع بعض ..
لن تنكر بأنه كان يعاملها غالبًا بشكل جيد ..
او بالأصح في بداية حياتهما مع بعض ..
و لكنه اصبح اكثر تباعدًا و برودًا بعد ان انجبت ابنتهما ..
لا تعلم حتى الآن أين كان الخلل ..
و لكنها تعلم بأنها قد بذلت ما تستطيعه كي تقوّم علاقتهما التي كانت تتردى كل يوم عما قبله ..
شردت بتفكيرها إلى ذلك اليوم الذي انفجرت فيه باكية امامه و قد تجمد لحظتها ..
كانت تكبت الكثير من انفعالاتها حتى خرجت بأسوأ طريقة ..
لم يرى لها دمعة واحدة منذ أن تزوجا ..
و لكن السيل قد بلغ الزبى ..
ولم تستطع المقاومة اكثر فأخذت تبكي بدرامية و شهقاتها ترتفع ..
تلفظت بالكثير الذي لم تدركه و لم تعرف ماذا قالت فيه و لكنه جعله يعاملها بعد ذلك الحين بلطف اكثر ..
وكأنه يخشى من انفعال آخر ليس له به حِمل ..
مضت بعدها أيامهما بهدوء و ركود من ناحيتها
و لطف حذِر من ناحيته ..
وقد كانت المرة الأولى و الأخيرة التي يراها تبكي بها ..
حتى كانت القاصمة ..
لم تكتفي ذلك اليوم ببعض البكاء و الكلمات ..
فقد امتدت يدها إلى اقرب شيء و حذفت به عليه ..
هزت رأسها برفض .. لا تريد أن تعود لنفس الذكريات ..
لنفس الوجع و الخذلان ..
و بإصرار عادت إلى الأوراق و قد اعطتها الذكريات حافز قوي كي تجتهد اكثر ..
ستثبت له و لأهلها و للجميع بأنها افضل ..
و بأن ما حدث لم يكسرها ..
بل جعلها اقوى ..
،
بعد عدة أيام ..
استلقت على أحد الكراسي في احدى الغرف الشاغرة بعد ان اغلقت الباب جيدًا ..
خلعت نقابها مع حجابها و وضعتها بجانبها ..
غطت عينيها بذراعها وهي تزفر بضيق ..
منذ ان استيقظت وهي بمزاج عكر ..
أو بالأصح منذ الليلة الفائتة و بعد جدالها مع عمتها ..
لقد كانت صارمة جدًا وهي تخبرها بأنها ستذهب إلى حفل العشاء الذي قد وصلتهم الدعوة إليه ..
وقد رفضت هي رفضًا تامًا أن تفكر بالحضور حتى
فتجادلت مع عمتها بشدة و اخبرتها بأنها ستسحبها سحبًا لو اضطرتها إلى ذلك ..
فالأفضل ان تستعد برغبتها ..
لم تستطع النوم ليلًا وهي تفكر بماذا ستكون ردة فعلهم على حضورها ؟؟
هي التي لم تحضر زفاف شقيقتها قبل ثلاثة اسابيع فقط ..
تعلم بأنها ستكون وجبة دسمة لألسنتهم ..
و تعلم بأنها ستكون محط انظار الكل ..
فالبعض سينظر إليها بشفقة و البعض الآخر سيتعاطف معها كذبًا ..
سيهمزون و يلمزون وهي بغنى تام عن كل ذلك ..
و لكنها عندما اخبرت عمتها كي تتفهمها فقد قالت لها بالحرف " رح تجين معي وانتي ماتدلين دربش و يا ويلش يا شمعة إن طلعتي لي بأعذارٍ مالها أول من تالي " ..
هي تتفهم رغبة عمتها ..
فهي تريدها أن تثبت للكل بأنها ما زالت هي هي ..
و بأن ما حدث لم يؤثر عليها
و عدم حضورها كان لتعب عمتها كما قالوا لكل من سأل ..
ولكنها لا تريد أن تثبت لهم أي شيء ..
تريد استجماع نفسها قبل كل شيء ..
تريد أن تلملم تبعثرها ثم بعد ذلك ستواجه الكل ..
ولكنها الآن اضعف من أن تتحمل ما سيقابلها في الحفل ..
تعرف نفسها جيدًا و تعرف بأنها هذه الأيام بأضعف حالاتها .. فأبسط شيء قد يعيث بجروحها ..
فمن أين لها القوة لمواجهة كل ذلك و الحفل من المقرر أن يكون غدًا ؟؟
ماذا ستفعل حتى الغد ؟؟ بأي درع ستحمي قلبها ؟؟
وما المفترض بها أن تفعل ؟؟
،
ماض
برجاء و توتر يناديه .. يستجديه أن يفيق : كابتن .. كابتن ..
لم يصله أي استجابة من الرجل الممدد أمامه بعد أن فقد الوعي .. نظر إلى المساعد الآخر بقلة حيلة و اعاد نظره إلى الكابتن .. عاود ضرباته على خده كي يفيق ثم صاح بتوتر اشد : وييين الزفت اللي ارسلناها تشوف لنا طبيب ؟؟
خرج مساعده بسرعة وقد راعه منظر الكابتن ..
فوجهه شديد الاحمرار و قد برزت عروق رقبته بشكل مخيف ..
و تحشرج انفاسه يصلهم بشكل بطيء و متقطع وكأنه يجد صعوبة في التنفس ..
اما هو فمد يده يتحسس نبضه ..
لم يصله أي نبض فعاود البحث عن النبض بتوتر و خوف رهيب ..
خوف لم يشعر بمثله في حياته ..
ضغط بشكل عنيف على الوريد للحظات ثم تنفس براحة ..
هناك نبض بطيء و ضعيف ..
بالكاد شعر به ..
خلع سترة الطيران ثم رفع اكمامه و بدأ باسعافه بنفسه ..
طبق الخطوات كما تدربوا عليها ثم بدأ بعمل المساج للقلب وهو يتمتم بتضرع : يارب يارب ..
قاطع عمله دخول المساعد مع المضيفة و شخص من المسافرين ..
عرّف عن نفسه بأنه طبيب و أمرهم بالابتعاد ..
اخذ منهم عدة الاسعافات و باشر بعمله ..
وضع له مضخة الاكسجين و بدأ بعمل مساج للقلب وهو يأمرهم بمساعدته..
اقترب منه و بدأ يضغط على المضخة و الطبيب يعمل المساج ..
بدأ اليأس يتسلل إلى قلبه وهو يرى لون وجه الكابتن المعتم ..
لقد انقلب الاحمرار إلى لون اغمق ..
لون الموت ..
لقد ادرك ذلك من قبل أن ينطقها الطبيب الذي رفع يديه ببطء و هدوء ..
و كأنه قد اعتاد على ذلك ..
تراجع إلى الخلف وهو يرى الطبيب يستقيم بأسف ..
يسمعهم يتبادلون بعض الكلمات بينما نظره قد ارتكز على الكابتن ..
وصله صوت المساعد الآخر وهو يعزيه فأومأ له بصمت .. وصله صوته مرة أخرى : يجب علينا تبليغ برج المراقبة بحالة الوفاة ..
رصاص بتحشرج و غصة عالقة : قم بذلك .. و أخبرهم بأننا سنقوم بالهبوط في اقرب مطار ..
اومأ له و استدار كي يبلغهم و لكنه هتف برعب بالغ ..
بصوت افزعه ..
صوت الموت مرة أخرى
و كأنه يأبى أن يغادر قبل أن يقبض المزيد : كااااااابتن ..
..
لنا لقاء يوم السبت إن شاء الله ..
في الرقصة الثالثة ..
دمتم بخير 🍃
|