كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: خطوات على الجمر
4-
كنتُ أرى عالمي في المشاغبة، وفي افتعال المشكلات
والغيرة والحقد على من تحبهم أمي، أكرههم وأغار منهم لأن أمي
تعطيهم مساحة كبيرة من قلبها، وأنا لا تعطيني شيئاً.
كنتُ شاحبة، هزيلة
صغيرة مشاغبة
تشتم فلا تبالي
تضرب فلا تبكي
كنت جافة كما ربيتُ، فاقدة لما يسمى الحب، وفاقدة لمعنى الخوف
والرهبة، غير مستوعبة لحقيقة الحياة بأكملها، فكيف لطفلة لم تعلم إلا
الاعتماد على النفس وعدم المبالاة بما حولها، أن تفقه شيئاً من مخاوف
الحياة.
ولكن تغيرت حياتي منذ ذلك الحين، وحينها أدركت معنى الخوف
والرعب، وأن هناك ما هو أقسى وأمر، وأن تجارب الحياة التي لم
أستوعبها في سنواتي السابقة، قد تفتح لها عقلي في ذلك الوقت!
كان هناك حفل زواج في قريتنا الصغيرة، كنتُ في العاشرة من عمري، في ذلك اليوم ارتديت فستاني الزهري وانتعلت حذائي الأبيض،
وركضتُ إلى منزل الجيران الذي يحاذي منزل العروس
وكما في عاداتنا وتقاليدنا وفي حفلات الزواج تكون هناك خيمتان
كبيرتان أمام منزل العروس واحدة للنساء والأخرى للرجال.
اختبأت وراء باب الجيران الكبير، كانت الظلمة ترسل ظلالها عليّ
وأنا أحدق إلى ألوان منزل العروس الذي تغطى بمصابيح ملونة
شعرت بالسعادة، فمنذ فترة طويلة لم أشهد مثل هذا الاحتفال،
قرب الجدار وأمامي مباشرة، بين شلال الضوء المنبعث من المصابيح
الصفراء،
كان يقف هناك رجل طويل القامة، ضخم الجثة، أسمر البشرة
يحمل بين يديه كيساً أسود كبيراً وعملاقاً
الكيس يتحرك، يعبر عن مقاومة خفية تختبئ بداخله
تحاول الأيادي الصغيرة الإفلات من ذلك المكان، والفستان الأبيض
يتحرك معها
وعينا الرجل تتحركان بحركة سريعة خوفاً من وجود متلصص
بالجوار، وقدماه تضربان الكيس لعله يكف عن مقاومته
أذكر أن الأضواء كانت خافتة، والهدوء سيد تلك اللحظات التي
لم أنسَها يوماً
كنتُ أراهُ أمامي بوضوح، وضوح جعلني أنفي الحقيقة، أنفيها بطفولة
لا تعرف معنى خلو القلب من الرحمة، ونزعة الشر وقتل النفس
البريئة.
كنتُ أرى الرجل الضخم يخنق إنساناً صغيراً، ومن فستانها الأبيض
استنتجتُ أنها فتاة!
في ذلك الوقت ظللتُ متصلبة أنظر أمامي غير قادرة على تغيير شيء
أو إنقاذ تلك الطفلة الصغيرة من يد ذلك المجرم
هو من كشفني، لولاهُ ما كنت كشفت!
فلم أكن أنوي الظهور وتعريض حياتي للخطر
ولكن ابن أمي اليتيم «يوسف » الذي يصغرني بثلاث سنوات
كان طفلاً صغيراً في ذلك الوقت
جاء إليّ عندما رآني مختبئة في الظلام ووراء الباب بالتحديد، وتحدث
معي بصوت عالٍ قائلاً: «ما الذي تفعلينه؟ » وكشف تلصصي على
ذلك المجرم
لم أستطع في ذلك الوقت إسكات فمه أو إعماء بصره
فهو قد أخذ بالنظر إلى ما أنظر إليه، وكشف ستار الحقيقة بشهقةٍ قويةٍ
وكشفني للعيون النائمة، والتي لم تعِ اكتشافي لها
هو وجه أسود قد غطته الظلال، هي نظرات حمراء، عيون جاحظة
تحمل هالة من السواد الوحشي، تنطق باللا رحمة، تشرب الدماء قبل
الماء.
نظرت إلينا صارخةً بالتهامنا والقضاء علينا، أخرج المجرم السكين
من حيث لا أدري، وقبض على الكيس وطواه بضربة واحدة من يده
واقترب من خطواتنا التي خرجت من الظلمة لتكشف عن أجسامنا
تشبث بي يوسف مرتجفاً من البكاء والرعب
استجمعتُ شجاعتي وركضتُ إلى داخل منازلنا المتصلة ببعضها
انطلقتُ إلى داخل المنازل وأنا أجر الصبي معي، أحمله مرة وأسقطهُ
مرة أخرى
أبكي بهستيرية مرعوبة من لحاق المجرم بي، وأنه في أيّ لحظة قد ينقض
عليّ ويقتلني
لم أعِ إلا بوصولي إلى المنزل ورمي جسمي وجسم يوسف على الأرض
انهرت باكية مختبئة في مكان لا يراني فيه أحد
أرتجف وأرتعد ببكاءٍ شديد، ولا أرى أمامي سوى الضباب
أمسكتني أمي وقد هلع قلبها لمَا حل بي
أخبرتها بما رأيت وأنا أبكي، أقسمت أنها الحقيقة، وافتعلتُ صخباً هز
جدران تلك الليلة المأسوية.
لم تنتهِ تلك الليلة على خير، ولم ينتهِ صخبها المروع
الزوبعة التي اختلقتها سرعان ما هدأت
لأنهُ ليس هنالك دليل!
فالشرطة قد فتشت المكان، وبحثت عن مفقودين
ولكن ليس هنالك مفقودون!!
فالبعض قال إنهُ قد خيّل إلينا الأمر، أما البعض الآخر فقد كذبنا تكذيباً
فالأطفال في منظورهم كاذبون وليسوا دقيقين، وقد يرون الأشياء من
منظور آخر فيه زوائد كثيرة
في تلك اللحظات الطويلة التي لا أنساها، اختبأتُ تحت أغطية سريري
أبكي وسرعان ما انتهى بكائي
فلم يبقَ منه غير الأفكار والخواطر
كنت غاضبة في ذلك الوقت، وكرهت حقيقة تكذيبهم لي
فأنا لستُ كاذبة، فكيف أكذب بمثل هذا الأمر!
لم تمر إلا دقائق قصيرة حتى عدت إلى حياتي الطبيعية
ونسيت ما حدث لمجرد تكذيبهم لي، وعدم تصديق ما رأيت وما زادني
ذلك إلا نفوراً من العالم
فالكل ينظر إليّ وكأنني قد فعلتُ شيئاً سيئاً، وأنني مجرد كاذبة!
بعد رعب تلك الليلة
أعادوا الأمر إليّ، وأني أخفت الصبي وأوهمتهُ
وأنني مشاغبة وفتاة لا تسمع الكلام، عاقبوني بشدة على كذبي
وأسموني الكاذبة
شوهوا نفسي التي لم تكذب قط في مثل هذه الأمور
اتهموني حتى إنني تخليتُ عن الحقيقة، وأن ما حدث محض خيال
كيف يكون خيالاً وقد رأيته وكوابيسه تلاحقني، ولكن ليس هنالك
دليل على ذلك حتى الآن!
وأمي التي زجرتني في ذلك الوقت، وحفرت كلماتها القاسية في قلبي
المزيد من الخدوش.
|