كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: خطوات على الجمر
عودة
مر عامان على سفر يوسف، عامان قضيتهما في ترتيب نفسي وتكوينها،
بعد أن اختفت لحظات عودتي إلى الماضي، اختفت من دون سبب كما
جاءت!
وجعلت الحنين يئن في داخلي، والشوق يجعلني أقضي أيامي بإيجابية
فلقد تغير الكثير، وتغيرتُ أنا، فبعد رؤية أبي بذلك الشكل المحزن،
ورؤية انكساره الذي ناقض شخصه، وعيش تلك الذكرى التي
أيقظت جميع ذكرياتي ونثرتها أمامي، جعلتني أفكر جديّاً بالبدء أولاً
حتى لو للمرة الأولى أو العاشرة، حتى لو كنت لا أعني لهُ
شيئاً، وحتى لو لم يكن يعطني بالاً!
حدث ذلك عندما أخذت رقم أبي من خالي،
فللأسف لم أكن أملك رقم أبي، ولم أفكر سابقاً بالتواصل معه، لقد كنت عمياء، ألعب دور الضحية دون تبديل، لقد أردت التصالح مع محيطي قبل أن اتصالح مع ذاتي، فالتصالح مع الذات يبدأ بالتغيّر أولاً!
وبعد تردد طويل ككل مرة عزمت على الاتصال، لم يكن الأول فالأول كان منذ شهور طويلة، حينها كنت أتمنى ألا يجيب، لا أعلم إن كان خوفاً أم تهرباً، ولكنني قويت نفسي لكيلا أضعف عن التغير!
أجاب بعد فترة طويلة، وعندما
أخبرته من أنا صمت في استغراب وتعجب ظهر في صوته الذي ألقى
عليّ التحية لاحقاً، كانت كلماتنا سريعة متوترة مترددة، لم يكن فيها
شيء يذكر حتى النهاية التي سمعت فيها صوت الهاتف يغلق.
وتوالت الاتصالات بعدها مرة في الأسبوع أو في الأسبوعين.
هذه المرة أمسكت بالهاتف وككل مرة يصيبني التوتر والخجل، ضغطت على
رقمه، مضت ثانيتان والرنين متواصل، وقبل أن تبدأ الثانية الثالثة رُفع
الهاتف على صوته الخشن: «السلام عليكم» لقد رد بسرعة لم أتوقعها
ووترني، نبرة صوته كانت مختلفة أكثر هدوءاً واسترخاءً، أجبته:
«وعليكم السلام » سألته عن حاله وكيف هي الأجواء وأجابني بشيء
من الهدوء بعيداً عن صرامته المعتادة، وعند نهاية مكالمتنا التي لم تستمر
إلا دقيقتين قال لي وبسرعة: «شكراً على اتصالك» وأغلق بعدها ولم
أستطع إجابته، لم يكن لدي رد له، إلا الصمت وإحساس مليء
بالمرارة، فلم يكن شيئاً رائعاً أو ثميناً هي اتصالاتي بالنسبة لنفسي التي
تشعر بالتقصير.
وبعد هذين العامين من التنقل في الدورات والأنشطة التي طورت
الكثير من المهارات لديّ، حصلت على وظيفة مؤقتة، وظيفة مكتبية
غير متعلقة بتخصصي جعلتني أقضي فيها وقتي، لعلي بعدها أجد
ضالتي وما أريده حقّاً.
وبعد زواج خولة الذي مر عليه سنة، حاولت بصعوبة التغلب على
الفراغ الذي صنعته بذهابها
كان صعباً في البداية، مليئاً بشعور الوحدة
ظل مكانها خالياً، وسريرها الذي في الوسط تعود على وضعه أياماً
طويلة دون وجودها
كنت أرتبه بشوق ولهفة لها عندما تأتي لتقضي معنا ليلة أو عدة ليالٍ،
وعند ذهابها أتركه لعدة أيام قبل أن أرتبه وكأنني بهذا أبقي مكانها حيّاً ولأيام!
في النهاية تأقلمت، حاولت بناء الصداقات وتقوية العلاقات ببنات
خالي وخالتي بخلاف فاطمة التي تزوجت بعد خولة.
عدت إلى المنزل بعد نصف يوم من العمل، وجدت عائلتي مجتمعة
من فاطمة وأخواتي جميعهن وكل أفراد أسرتي، وكان المنزل في حالة
صخب وابتهاج.
أصابني التوتر إلى جانب الفرح، فمنذ أيام مضت سمعت بخبر
يعيدونه مراراً وبلا ملل «هو أن يوسف سيعود» لم
أخض معهم في أي حديث، لم أسأل عن موعد وصوله، بل تركت
الأمر وكأنه لا يخصني، لكيلا يشعر أحدٌ بلهفتي إليه، ولكيلا أرى
نظرتهم المستغربة مني، والتي تجعل مني شخصاً مذنباً!
أفلت الشمس وهم
محتشدين عند باب المنزل الداخلي، منهم الصغار الراكضون حولنا
والكبار الذين تعالت أصواتهم بين كلمات وضحكات.
وعاد يوسف، الذي خرج من السيارة مع خالي، خرج بطوله الفارع،
والابتسامة على وجهه الذي كثفت لحيتهُ، وعيناه العسليتان ترسلان
فرحته إلينا، الكل التف حوله، الكل طوقه بأصوات عالية مرحبة
به، حجبت رؤيته عني.
أتقدم خطوة مع خطواتهم وأتأخر أخرى، أحاول اختطاف النظرة
إليه، أرى اتساع ابتسامته واحمرار وجهه وهو يقبل أمي، يضمها
فتضمه بشدة، يضم خالتي فتبكي يمسح دموعها بأصابعه، يحيي
أخواته، يضم سميرة فتبكي هي الأخرى!
عيناه تطوفان حول الجميع، يخبأ نظراته المحمرة، يأخذ نظرة، يخفضها
بسرعة، تلتقي عينايَ بعينيه، يقف لثوانٍ وهو ينظر إليّ، تعلق نظراته
بي، يطيلها ويتأمل، أرمش تنخفض نظراتي وتعود ثانية إليه، تتوسع
عيناه، يبعدهما وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيه.
أصابتني ابتسامته بالدهشة إلى جانب شعور عميق بالسعادة والخجل
هناك شيءٌ غريبٌ فيه، وغريبٌ جدّاً، هناك تواصل ملموس وإحساس
منبعث، فنظراته كانت وكأنها تعبرني وتتحدث إليّ وتحدق بي فعلاً!
مر الوقت سريعاً بين ترحيب وتهليل وبين جلسة اجتمع فيها الكل في
حلقة في الصالة، جلست فيها معهم، كنت مجرد
شخصٍ مستمع، أثرت الاستماع على الحديث، لأنه هذا هو وجودي بوجد يوسف معهم،
شعرت بالبهجة
تطوقني لرؤيته بعد هذا الزمن الطويل، ورؤية هيئتهِ التي لم تتغير كثيراً،
إنما ازدادت حيوية، وابتسامته ازدادت إشراقاً.
تفرق الجمع الذي اجتمع طويلاً، بعد أحاديثَ طويلة جمعت كل
مشاعرهم وذكرياتهم، وبعد الانتهاء من الطعام، لم يبقَ مع يوسف إلا
خولة وبنات خالتي وأمي، نهضت معهن في إتمام بعض المهام في المطبخ
وترتيب بعض الأشياء، وعدت بعدها إلى غرفة الجلوس، جلست
قرب خولة الجالسة بعيداً عن البقية، نظرت إلى بطنها المنتفخ وأنا
أهمس لها: «دعيني ألمسها» أكملت وأنا أتحسس بطنها في فرحة: «أما
آن الأوان لكِ لكي تلدي ونرى صغيرتنا الجميلة ياسمين»
ابتسمت خولة وقالت: «ومن قال لكِ إنني سوف أسميها ياسمين» كان
صوتها ممزوجاً بضحكة قصيرة، وعالياً جدّاً لجذب انتباه الجالسين بقربنا،
الذين ألقوا نظرة خاطفة علينا، إلا يوسف الذي تجعد ما بين حاجبيه
وهو ينقل نظراته بيني وبين خولة لثوانٍ قبل أن يعيدها إلى من حوله.
لم تمر إلا دقائق قليلة على جلوسي بصمت قرب خولة، حتى نادتني
أمي، تركت مقعدي وذهبت إليها، رأيت فاطمة تجلس مقابل أمي ويوسف، وبيدها كوب الشاي الأحمر، بينما سميرة بجانب يوسف، ترفع يدها إلى الطاولة الزجاجية التي وضع عليها إبريق الشاي الزجاجي لتصب لها كوباً، اقتربت من أمي حتى حاذيتها وقبل أن تصدر منها أي كلمة أخرى، قد لا ترضيني، أو تكشفني أمام يوسف، قلت بخفوت:" نعم"
لم تعرني أمي انتباهاً في البداية، بل أظنها قد نسيتني، فوضعت يدي على منكبها، فاستمرت في الحديث، تلاقت عيناي بيوسف
يوسف الذي
غرقت في عينيه، كان ينظر إلي، وكأنه يبحث عن شيءٍ ما، أبعدت نظري عنه متحاشية النظر إليه، شعرت بيد توضع على كتفي جعلتني ألتفت إلى صاحبها بسرعة، استندت خولة عليّ وكأنها تآزرني، تعرف ترددي وما تخفي نفسي، فنطقت بصوت أعلى من صوتي: «أمي»
أخيراً انتبهت أمي إلينا
فقالت متذكرة: «ياسمين أحضري بعض المكسرات
الموجودة في غرفتي.»
لم يكن وجهه بعيداً، كان مقابلاً لي قرب وجه أمي التي أبعدت بصرها عني،
اتسعت عينا يوسف فجأة، حلت الصدمة على وجهه، عيناه تحدقان بي، بينما ظل يعقد حاجبيه حتى وصل وجهه إلى مرحلة العبوس، مما جعلني استغرب نظرته الشفافة والتي لم تجد استقراراً مريحاً لها في نفسي! ولتدارك الأمر وليتهم ظهري، مشيت محتارة محبطة مشككة به... لمَ نظر إليّ بنظرة لم أرها منه طوال مدة معرفتي به؟
لمَ عيناه طبيعيتين بطريقة مخيفة!
ولكنني حاولت تجاهلها، إنه لا يراني ولا يعرفني، لقد خيل إليّ ذلك، ولكنني شعرت بنظرته، أحسست بمشاعر الصدمة في وجهه!
مما صدم، هل عرفني؟
هل اكتشف أنني ياسمين!
هل أخبره أحد ما؟
ما الذي سأفعله لو حدث ذلك؟
ولكن من سيخبره وهو لتوه عائد!
إني اتوهم الأمر، ولا أريد أن يحصل ذلك، لأنني من سأخبره بالحقيقة، سأكون واضحة معه ولن أخدعه مرة أخرى!
أريد أن تسنح الفرصة لي لمحادثته!
فأنا متشوقة للحديث معه بعد كل هذا الوقت، وتوضيح الأمور والاعتذار!
عدت إليهم، وجدت أمي وبنات خالتي كما كن قرب يوسف، بينما وقفت خولة مودعة قبل أن تمشي بخطوات ثقيلة صاعدة السلالم، وضعت المكسرات على الطاولة وفتحتها لهم دون أن التفت إلى يوسف، وعدت إلى مقعدي الذي كنت أجلس عليه، انشغلت بهاتفي لعلي أبعد الملل عني، بينما عيناي تخطفان النظرة إليهم بين لحظة وأخرى، حاولت الانعزال لكيلا يكتشف أحدٌ ما بنفسي، ولكنني أصختُ السمع إلى أحاديثهم، لعلي ألتقط نبرة صوته وموجتها، أعرف مستجداته، أخباره التي تجنبت الخوض في تفاصيلها منذ أن سافر، وما الذي فعله، هل ظل مثلما هو أم تغير! ألا زال يذكرني!
استأذنت أمي أولاً متعللة بالتعب، تلتها فاطمة، ثم سميرة التي ظلت قليلاً في حديث لم أسمع تفاصليه، ورحل الكل بعدها دون أن يشعروا بوجودي!
ووجدت نفسي وحيدة مع يوسف الذي يبعد عني مسافة قصيرة
اجتاحني إحساس من التوتر!
لم أستطع تقويت نفسي على مواجهته، لم أعلم لم الوقوف كان صعباً عليّ، كنت خجلة ومترددة، لا أعرف كيف أبدأ، كيف اتغلب على نفسي التي تخاذلت حينما واجهت اللحظة الحاسمة.
بقوة أخرجتها من داخلي المتردد، وقوة ارتديتها لعلي بها أتغلب على
ضعفي الذي يتهرب منه.
وقفت متوجهة إليه، رأيته يجلس على الأريكة يطالع جهازاً بين يديه، لم أتبين ما هو، هل كان هو ذلك الجهاز الذي يسمع فيه الكتب سابقاً! أم أنه هاتف محمول! لأني رأيت نوراً خفيفاً... أصابعه تضغط بسرعة عليه، ركبتاه تتعلقان بالطاولة الموضوعة أمامه، كوب من الشاي الأحمر شبه فارغ قربه، تمتد إليه أصابعه، تلتقطه ثم يفرغه في جوفه ويعيده..
لم يكن منتبه لحركتي المسموعة، فجل اهتمامه مصوب نحو الجهاز، إلا عندما لمست قدمي الطاولة بالخطأ، وكادت توقع مزهرية منها، تداركت الأمر سريعاً والتقطتها، ولكن صوتها كان عالياً ليجذب الاهتمام لي، التفت إليّ متفاجئاً من الصوت الصاخب الذي أحدثته، وعند رؤيته لي، لانت نظراته ثم أخفضها سريعاً...
عدت أدراجي، هربت إلى المطبخ، خطواتي تسرع إلى الباب، افتحه وأدخل إلى الظلام، استند على الجدار دون أن أغلق الباب، أضع كلتا يدي على صدري، اتحسس نبضاته في الظلمة لعلها تهدئ، أقف للحظة أعيد ترتيب أفكاري، هل أعود أدراجي إليه؟ لا يمكنني تفويت هذه الفرصة! عليّ محادثته، إني مشتاقة لتأمل ملامحه دون أن يعرف هو بذلك!
للأحاديث الطويلة التي جمعتنا، للمشاعر التي يكنها لي وتظهر جلية في وجهه، لمشاعري التي لم تختف طوال تلك السنتين إنما بقيت تزورني في كل حين، أفتح الباب وأخطو عازمة على المضي إليه، مشيت إلى أن وصلت إلى تلك البقعة المنارة الجالس فيها، عندما وصلت إلى هناك وقابلتُ ظهره، احترت في صياغة الكلمات، ترددت كثيراً في اخراج الحروف، لأنها كانت متعسرة صعبة الولادة، ظهر يوسف لا يزال يقابلني، لم يتحرك ولم أتحرك أنا، في لحظة شوق أعادت الذكريات، أعادت آخر المواقف والنظرات، كل تلك المشاعر والاحاسيس اجتمعت في أعماق روحي، نطقت باسمه في لحظة تهور وشجاعة: «يوسف »
قبل أن انطق رأيته يقف، ولكن عند نطقي لاسمه، توقف مكانه ولم يتحرك ولا يزال ظهره يقابلني، ولكنه استدار سريعاً إليّ،
وعند استدارته وقبل أن أرى ملامحه، ابتسمت
وأنا أقول: «الحمد لله على سلامتك»
ابتسامتي ظلت كما هي، ولكنها بدأت بالتلاشي شيئاً فشيئاً،
عند رؤية وجهه الذي تجمد فجأة، سقطت نظراته عليّ، عبرت إلى
داخلي، عيناه المتسعتان اللتان أغمق لونهما العسلي تحدقان بوجهي،
تقرآن تفاصيله، تعيدان النظر إليه مراراً وتكراراً.
كانت الصدمة جلية على وجهه الخالي من التعابير، فحاجباه ظلا مثلما هما، أما عيناه فازدادت حدتهما، أما شفتاه فلم تظهرا إلا الجمود،
وكأن لا وجود للمشاعر في نظراته، كان الإحباط والاستنكار كل ما
ينبعث منه!.
أبعد نظراته عني، وبصوت جاف حاد قال لي: «اعذريني إنني مضطر
للذهاب حالاً»
ودون أن يلقي نظرة أخيرة عليّ، أو يجيب على كلماتي، مشت
خطواته مصدرة صوتاً عالياً، فتح الباب وخرج، اغلقه خلفه بهدوء
ناقض الفوضى التي خلفها وراءه.
كنت متجمدة في مكاني أراقب كل انفعالاته، نظراته التي استغربتها
، وجهه الذي لم يصدر أي ردة فعل لصوتي الذي سمعه،
كانت ردة فعله غريبة جدّاً، وكأنني شخص لا يعرفه، أو شخص لا
يطيقه!
صحيح إنه يبدو على عجلة من أمره، ولكن لماذا عاملني بتلك الطريقة!
وبهذا الأسلوب الجاف والخالي من المشاعر!
هل يمكن أنه عرف من أكون!
أشك في أمري!
أم أن خولة من أخبرتهُ بذلك، لا يمكن فخولة لن تفعل هذا بي من
دون أن تخبرني بذلك!
شعرت بالصدمة للحظة عندما أغلق الباب وراءه، تلاهُ الألم والانهيار،
انهرت من هذا اللقاء القاحل، ومن هذا البرود القاتل، الذي سيطر
على كل ذرة في المكان، جمد كل المشاعر وجعلها تفتقد للحياة، هذا
اللقاء الذي انتظره أياماً طويلة، كنت أشعر بالاشتياق والحنين
إلى كل التفاصيل التي جمعتنا، أردت التغير،
التكفير عن ذنبي بعدم إخباره بمن أنا، أعترف له بشكل تدريجي.
فكم فكرت في خطة تكون أقل ضرراً، وكم كان يؤرقني ويؤلمني
التفكير أن ألا يسامحني!
ولكن الآن وبعد رؤيته بهذا الشكل وقبل أن يعرفني، جعلني أتخلى عن
كل شيء، وأستسلم نهائيّاً قبل البدء
وحيدة ظللت واقفة قرب تلك الأريكة ولا زالت رائحة المكان تُدقدق أنفي، هل هي رائحته أم رائحة عطور من سبقوه، أم أنها من كتمت على صدري واشعرتني بالضيق، هناك ألمٌ في صدري، ألمٌ لم أشعر به منذ زمن طويل، إنه الألم نفسه الذي كان موجوداً سابقاً
منذ سنوات وكان يأتيني متقطعاً وخفيفاً، الآن عاد شديداً بعودة يوسف
التنفس صعب، الألم يمزقني، أمشي بخطوات سريعة نحو السلم، أحاول كتم موجة بكاء ارتفعت فجأة وخنقتني، أصعد السلم، أقف عند العتبة، أجلس على البلاط البارد، اضع كفاي على وجهي اخنق لحظة ضعف، لحظة انهارت فيها قوتي التي حاولت تغطيت نفسي بها، تساقطت دموعي بحرقة، لم أكن أريد البكاء ولكن الكتمان صعب في أشد
المواقف خذلاناً.
***
بعد ذلك اللقاء، كان التهرب وسيلة لإخفاء تأثري الشديد من ذلك
اللقاء، ولكن الصدمة أن يتهرب يوسف مني هو الآخر، فكلما جئت
أنا ذهب هو، أو أنهى حديثه بطريقة سريعة أو انشغل بأمور تجعله
يتفادى فيه لقائي حتى لو كان صدفة!
شعرت أن هناك شيئاً مخفياً بشأنه، إنهم يتحدثون به ولكن لم افهمه، لأنني عزلت نفسي عنهم...
وتفاقم الأمر لأيام، شعرت فيها أنني شخص غير مرغوب به لديه
وكأنه يشعر بي متى جئت
يسمع صوت خطواتي، ويرى جسمي القادم من البعيد.
أصبحت أجلس لأغيظهُ في كل جلسة يجتمع فيها كل أفراد العائلة
أسترق النظر إليه متى سنحت لي الفرصة، أبعدها متى شعرت
بطيف انتباه منه!
شعرت بالبرود الذي يرسله لي متى مر بعيداً أو قريباً مني،
برود لا ألتقط منه سوى الألم، ألم ينغرس في أقصى مكان في قلبي
ويجعلني حزينة يائسة من تصرفه، لا أعرف ما الحل!
ألا يكفي كرهه لياسمين لأكون أنا التالية، أنا التي لا يعرف أنها
ياسمين نفسها، حالة من اضطراب المشاعر عشتها، كنت فيها في لحظة
أتهرب منه وفي اللحظة الأخرى أنتظره بشغف.
ولكن غير قادرة على مواجهته!
.
.
جلست في غرفتي بعد يوم شاق من العمل الذي بت مرهقة منه، ومشغولة البال عنه،
غير راغبة به، كنت أريد أخذ إجازة لأختلي بنفسي بعيداً عن
أي إزعاج.
طرق الباب عدة طرقات قبل أن تدخل أمي، بوجهها المستدير الذي
عاد لونه وامتلأ قليلاً، وبرز خداها عليه ليعطياها إشراقاً وحيوية
افتقدتها منذ زمن طويل، ظهرت ابتسامتها وهي تقول: «السلام
عليكم» تقدمت ناحيتي ونظراتها تلتقي بنظراتي، جلست على سرير
خولة، وهي تضع يديها على لحافها وتلمسهُ عدة مرات، تتأمل الغرفة،
تنتقل عيناها إلى الأسرة البيضاء القريبة من بعضها، ويقابلها
الدولاب وإلى كل جزء من الغرفة حتى الصغير منها، أخيراً استقرت
نظراتها عليّ لتقول وابتسامتها تذبل: «لقد مرت السنوات سريعاً
وكبرت بناتي وكُل واحدة منهن استقلت وأسست عائلة لها، ولم تبقي
إلا أنتِ معي إلى الآن وعلى الأكيد قريباً ستنضمين لأخواتكِ، هذه هي
الحياة في النهاية كُلٌّ لهُ طريقه فيها.»
أخفض نظراتي ثم أرفعها مع كل كلمة تنطقها أمي بحزن، وكأن كلماتها تحفر داخلي وتعبر عن الألم بداخلها، تكلمت برضا وقناعة لم أرها تتكلم بها من قبل، وكأنها تؤمن أن هذه هي الحياة ويجب عليها أن ترضى بقدرها حتى لو ظلت وحيدة...
عند انتهائها من جملتها، كنت أود النطق والإفضاء بما في داخلي، وددت
قول: أمي إنني لن أذهب عنكِ وسأظل معكِ، ولا يهمني إن لم أتزوج،
فأنا لا أفكر بالزواج ولا أرغب به.
أكملت أمي لتعود ابتسامتها إلى وجهها: «لقد تقدم إليكِ خاطب
من أقربائي، هو من عائلة معروفة والرجل ذو أخلاق عالية، وتاجر
غني ذو تعليم جامعي، هم لا يبعدون عنا إلا مسافة قصيرة وهو ابن
عم زوج خولة.»
تشكلت المفاجئة على وجهي، وأنا أحدق بعينين متسعتين إلى وجه
أمي، هززت رأسي وأنا أقول في مفاجئة لم تختفِ: «لست موافقة» انعقد
حاجبا أمي في تعجب وتساءلت: «لماذا! ما السبب؟!»
ازدردت ريقي باضطراب، ونظراتي تطوف على وجه أمي المستغرب، اخفضت بصري ثم أجبت
: «لست مستعدة، ولا أريد الزواج الآن»
كان جوابي غير مقنع بالمرة لأمي، تصاعدت الحمرة إلى وجهها، وبان الغضب عليه، كتمته بصعوبة وهي تقول: «كيف
تكونين غير مستعدة، وكيف أنكِ لا ترغبين بالزواج، عمركِ الآن
سبع وعشرون، أنتِ لست صغيرة، أنتِ كبيرة وكبيرة جدّاً أيضاً»
أخذت نفساً قصيراً قبل أن تكمل بصرامة: «أنتِ لم تعطي نفسكِ
فرصة حتى للتفكير، فكري وقرري بعدها، وصلي صلاة الاستخارة،
وكفاكِ إهداراً لحياتكِ بما يسمى لست مستعدة»
لم تختفِ الانفعالات ولا الغضب عن وجهها، وهي تقوم من جلستها
وتمشي إلى الباب لتفتحه وتخرج منه.
رفعت قدماي ووضعتهما على السرير، ثم وضعت رأسي على ركبتاي، شبكت أصابعي ثم حررتها من التوتر، غرقت في التفكير، إني أرفض الفكرة بأكملها، لا أشعر أنني مستعدة ولا قادرة على تقبل
الزواج حاليّاً.
هناك العديد من الأسباب، وأولها الخوف، الخوف من الخوض في مثل
هذه التجارب التي تجعلني أفكر فيها مراراً، وأحسب لها ألف حساب
بسبب ما عشته في حياتي!
وأيضاً هناك، في البعيد في أعماقي نبض خفي ينبض، نبض أعرفه جيداً
خاص بيوسف، ولا أستطيع تجاهله أبداً
نبض الآن أكتشفه، إنه يحزنني، مرتبط بكل جزءٍ مني وفراقه صعبٌ
جدّاً.
ما زلت على وضعي، أجلس تحت ضوء المصباح الخافت، وحيدة
حزينة، أتنفس بصعوبة بسبب ألم صدري
الذي عاد ثانية.
بعد فترة من الزمن، استمرت طويلاً جدّاً تنفست فيها عميقاً، اتصلت
فيها بنفسي، رفعت رأسي الذي أصابه الألم، ووجدتني أجلس على
أرضية باردة جدّاً في زاوية ضيقة خلف باب خشبي ضخم، تسللت
أشعة الشمس من النافذة المفتوحة لتنير بقعة مربعة بعيدة عني، نقلت بصري في كل ركن من
أركان ذلك المكان، إلى الرفوف البيضاء كما أذكرها، البلاط الأبيض
المزخرف الواسع، الموقد الكبير، المنطقة القريبة منه وعلى
الأرض كنت فيما مضى أجلس فيها مع يوسف نأكل المعكرونة، وفوق
الطاولة بجانبها نقشر البطاطس قبل أن نضعها في الفرن أو في الزيت، وهناك في تلك الزاوية التي ضمت زيت الطبخ رأيت
تلك العلبة التي رششتها على وجه يوسف وسببت لهُ العمى.
كان كُل شيءٍ في مكانه، وكان مطبخنا كما هو في الماضي، الذكريات
تحاصرني عندهُ، تذكرني بكل نفس فيه!
أخرج من تلك الزاوية، أمشي بقدمين حافيتين، أسير إلى الخارج
فتضربني أشعة الشمس، أحدق حولي فلا أجد أحداً، المكان هادئ
والجو حار وأوراق الأشجار تتحرك في الأعلى، إنها تظلني وأنا أمشي تحتها، أشم رائحة الياسمين، وورد شجرة النيم، أمشي بسرعة منتقلة من
تحت أشعة الشمس الحارة إلى تحت ظل الشجرات، أقف قليلاً
لأعود للركض إلى أن وصلت إلى باب المنزل ووقفت عنده، اختبأت خلف
الحائط بقربه عند سماعي لأصوات في الداخل، استرقت النظر
بهدوء، ينحسر لون الباب الخشبي لأرى يوسف الجالس على الأرض
بعينين معصوبتين، كان يضم قدميه، يمسك بكوب أبيض بين يديه،
يرتشف منه رشفة ثم يخفضه، ينظر أمامه ولا يحرك رأسه في أي اتجاه.
أصدر شهقة عالية، ارتجف من هول الصدمة، لم أستطع
المشاهدة أكثر، هناك انقباض شديدٌ في صدري إنه يمزقني، يؤلم كثيراً، حركت قدميّ إلى الخلف وانطلقت راكضة، إلى ذلك المكان الذي كنت فيه،
وصلت إليه ثم اختبأت خلفه وجررتُ الباب عليّ إلى أن لم تبقَ إلا
زاوية صغيرة تضمني، وأجهشت بالبكاء!
رفعت رأسي بعد موجة عميقة من البكاء الطويل، وأنا على وضعيتي
نفسها ولكن في غير ذلك المكان، فلقد كنت في غرفتي ووراء بابها،
بقلب موجوع مسحت دموعي التي لا تزال رطبة، ونظرت إلى يديّ
الكبيرتين كفاية لتكونا يدي أنا وليس يديْ ياسمين الصغيرة.
ذهبت باتجاه سريري، اضطجعتُ عليه، غطيت جسمي بأكمله
باللحاف، انطويت فيه، أتتني صورة يوسف مرة أخرى، فبكيت ثانية،
كنت لا أريد تذكر تلك الأيام ولا العودة إليها، فيا ليتها لم تعد، يا ليتني أنساها!
قمت من على سريري، متألمة من ألم صدري، أشعر بالضيق والاختناق، فتحت الأدراج بجانبي باحثة عن دواء فلم أجد أي شيءٍ يطفئ الألم
ارتديت حجابي، ذهبت إلى دورة المياه وغسلت وجهي مرة وعشر
مرات لعل أثر بكائي يختفي، خرجت ذاهبة إلى المطبخ، كان الوقت
قريباً من منتصف الليل والهدوء يسكن المنزل.
دخلت المطبخ، أغلقت الباب علي، شربت كوباً مليئاً بالحليب
البارد، شربته برشفات طويلة، أتجرع برودته لعلها تطفئ ذلك
الانصهار الذي يحدث في داخلي، سمعت صوت الباب يفتح فلم
ألتفت، بقيت في مكاني أفعل ما كنت أفعله ولكن بسرعة أكبر.
ألتفت بعد سماعي صوت الإغلاق الذي حدث سريعاً، فلم أجد أي
شخص، أنهيت كوبي وأنا أضغط على صدري أتحسس أذهب ألمه أم
لا!
سرت نحو الباب وخرجت
وقفتُ بدهشة وأنا أرى يوسف أمامي، وقفنا للحظة نحدق ببعضنا البعض، سرعان ما أبعدت عيناي عنه عندما شعرت بالتوتر من طريقة تحديقه بي، هناك حديثٌ في عينيه، حديث لم أفهم رموزه، ولم أفهم لم مشاعري تتعرى الآن بوجوده، لمَ بت أشعر أنه ليس هو نفسه!
أعدت بصري إليه، رأيت التوتر يسكن وجهه كما وجهي، فتح شفتيه ليطبقهما سريعاً، وكأنه يخنق الكلمات قبل خروجها، بعد تلك اللحظة وفجأة أخرج من جيبه ذلك الجهاز الذي كنت أراهُ سابقاً في
الماضي معه، وضع سماعته على أذنيه، وتجاهلني ببساطة وكأنني غير موجودة أمامه... حتى بعد أن حاولت الحديث بصعوبة قائلة:
" مرحبا" بصوت خافت..
عند هذا الحد تساقطت حصوني، التي هي بالفعل هشة ورقيقة
وبات ألم صدري لا يحتمل، إنه يخنق
ينشر حرارته إلى كل خلية في صدري، ويصل إلى أعلى بلعومي يسد
مجرى تنفسي
بت لا أطيق الكتمان، ولا أطيق إمساك ذلك الانفجار العميق في داخلي
حاولت التماسك، وحبس شهقاتي من الانفلات لكيلا يسمعني!
ولكنه سمعني، فترك ما بيده وحدق بي، وصلني صوته الهادئ: «أتبكين!»
كتمتُ صوتي الذي بدى واضحاً لنفسي، مسحت
دموعي وأنا أجيبه بصوت حزين: «لا، أنا لا أبكي!»
رفعت نظري إليه وأنا أمسح وجهي مستعيدة انفاسي منهية لحظة بكائي تلك، كان عاقد الحاجبين، عيناه لامعتان تنظران إليّ بألم، انحسر كل ذلك التوتر واللامبالاة من وجهه، حلت محله تلك النظرات المألوفة لي،
نظرات يوسف الصغير، وجعلتني غير قادرة على ابعاد نظري عنه!
ببطء ابتسم يوسف، ابتسامته المميزة بالنسبة إلي، وارتفع حاجباه
الغليظان وعيناه تقابلان عينيّ، وقال: «سلمكِ الله، اعذريني في ذلك
الوقت كان لدي ظرف، فصديقي قد أصابه حادث ولم أكن في
تركيزي»
في تلك اللحظة اختفى كل ذلك الألم والحزن، وحل محله إحساس بالراحة، لقد اراحني عذره، طمأنني أنه ليس بسببي، خفت حدة توتري ولكنها عادت بعودة الصمت، ظللنا متقابلين، ولكن الوضع مختلف، يوسف ينظر إليّ بثبات، جعلني أشعر أنني أقف أمام رجل أخجل منه واتردد بالحديث معه! ليس كيوسف الذي أريد تعويضه! لا أعلم لم اختلفت المشاعر فجأة؟
أهو الإحساس الجديد الذي أشعر به نحوه؟ أم أنه البعد الذي خلفته السنتين الماضيتين!
كسر يوسف ذلك الصمت من دون أن يتحرك، أو تتزحزح
نظراتهُ عني: «كانا عامين حافلين بالإنجازات، أنهيت دراستي فيهما،
استعدت فيهما شيئاً ثميناً، كنت فيهما أموت شوقاً للعودة إلى أهلي،
وأفتقدهم كثيراً، أريد عيش أفراحي معهم، وكنتِ أنتِ أكثر
شخصٍ مميز لديّ، محور معظم أفكاري وأشواقي، كُنت متشوقاً
لمعرفة ردكِ، ولسماع صوتكِ، ولرؤية وجهكِ الذي تمنيت رؤيته منذ
أن التقيتكِ»
بعد كلماته هذه، التي جعلتني مشوشة الفكر غير قادرة على ترتيب
مشاعري التي سيطرت على قلبي، وأذابت كل جزء منه، قال مودعاً
وهو يمشي عائداً من حيث أتى: «تصبحين على خير»
ومشى بخطوات ثابتة بطيئة، دخل إلى قسمه البعيد، الذي سطعت
فيه الأنوار في جهة حوت باباً بنيّاً واحداً فقط،
واختفى طيفه الذي ظلت مشاعره طافية على السطح.
كانت كلماته تتردد بين أفكاري، تحاصر مشاعري وأنا أمشي متجهة
إلى السلم بعد أن وقفت طويلاً أستوعب ما قاله وما الذي فعله بي بعد
حديثه.
أرتفع إلى الأعلى مع كل درجة من السلم، ابتسامتي تتسع، فرحتي
تزداد، أشعر بأنني أطير وأحلق عالياً، فأضع يديّ على وجهي أطفئ
تلك الحرارة التي تنبعث منه.
أشعر بالحب يسكن كل جزء مني، حب عميق أعترف أني أُكنه ليوسف
حب لا أعرف كيف هو!
ولكنه عبارة عن إحساس عميق ينبعث من داخلي عندما أراه، وعند
كل نظرة أو ابتسامة ينبض قلبي بشدة، هو إحساس أن هذا الشخص
لا أكن له أبداً أي مشاعر سلبية.
قضيت ليلتي تلك في أرق، أرق من أجمل ما يكون، فأفكاري كلها
كانت محصورة بيوسف، وبالسعادة التي أعطاني إياها!
***
عند الظهيرة وفي وقت متأخر من يوم إجازة، قررت الاستيقاظ من
سريري بعد نوم متقطع بسبب الضوضاء المنبعثة من
الخارج.
نزلت من على السلم، اتجهت نحو الصالة، رأيتهم هناك، يدخلون
ويخرجون منها، تحمل الخادمات وبنات العائلة الصحون، عقدت حاجباي في تفكير هل هناك مناسبة؟ لمَ لم يخبرني أحدٌ بها!
تنتشر رائحة بخور العود الكمبودي في الأجواء، مختلطة برائحة مخلطات العطور الزيتية العربية، منها العنبر والمخمرية، دخلت فرأيت الطاولة الأرضية الرخامية، مملوءة بشتى أنواع الأطعمة، وكل أفراد العائلة جلوس في حديث وضحكات عالية، نقلت نظراتي بينهم في حيرة، استغربت وجود أخواتي، أخيراً نظرت إلى ملابسي البيتية التي لا تناسب ذوق جلستهم، ووجهي الذي لم أضع عليه أي زينة، بعكس وجوه الحضور،
لم يكن لدي خيار سوى التقدم وإلقاء التحية
على كل فرد، وفي النهاية وصلت إلى خولة بعدما انتهيت من تقبيل النساء على الخدود، كان الإرهاق واضحاً على
وجهها بسبب الحمل، قبلتها بشوق، جلست بقربها،
في البداية صمت أستمع إلى أحاديثهم التي تتسم بالألغاز بالنسبة
لي، وأرى نظرات خولة الغريبة لي كلما التفت إليها، وفي المقابل كنت
أبحث عن يوسف في كل ركن يقع بصري عليه، وعند كل صوت
يصل إلي، وعند كل باب يفتح.
سمعت صوت خالتي بالقرب مني تقول: «لمَ لم يخبرنا بذلك قبل
أن يفعل العملية، حتى لو كانت بسيطة، كان يجب عليه ألا يخوضها
وحده»
رد خالي عليها بصوت عميق: «لم يرد إخافتكم، المهم النتيجة التي
غيرت كل شيء وجعلته يسترجع ما فقده»
بصري الذي انتقل إلى خالي وخالتي في فضول لمعرفة ما يتكلمان عنه
سرعان ما أبعدته عنهما قبل أن ينتبها لي، ونقلته إلى خولة التي كانت
تنظر وتسمع مثلي، حدقت بها في استفسار وخوف فقابلني عمق عينيها
البنيتين اللتين كشفتا مشاعر أحسستها تخصني أنا، اضطربت مقتربة منها، همست بخفوت مخفية توتري:
«ما الذي يحدث هل هناك مناسبة
خاصة لهذا التجمع؟ ومن الذي يتكلمون عنه، ومن الذي خاض
العملية!»
أمسكت خولة بيدي وشدتها، وبنظرة من عينيها فهمت مقصدها،
وقفت معها وسرنا باتجاه المطبخ، دخلت معها إليه، أمسكت بالمقبض خلفي مغلقة الباب.
كان المطبخ خالياً، ومليئاً بالفوضى، أسندتُ ظهري إلى الباب وخولة
تقابلني، عقدت خولة حاجبيها، وأخذت نفساً عميقاً وهي تسحب
كرسيّاً قريباً منها ثم تجلس عليه، مرت فترة من الصمت كانت فيها
خولة تتأمل تعابير وجهي الذي ينتظر منها حديثاً مطمئناً، مللت منها
لأقول وأنا أشد على أكرة الباب التي في يدي: «ما بكِ لمّ لا تتحدثين،
إنكِ تخيفينني أهناك أحدٌ أصيب بمكروه، أو»
صمت قليلاً وأنا أفتح عينيّ لفكرة أنه قد حصل ليوسف شيء أو
لأمي التي لم أرَها حتى الآن أو أي أحد قريب مثل أبي، وضعت يدي
في شعري الذي أزحت طرف حجابي عنه، وشددت على كلماتي:
«خولة أرجوكِ إنكِ تجعلينني أفكر بأفكار سيئة » ابتسمت خولة بما
يشبه نصف ابتسامة وهي تقول بوجه حمل ملامح متعبة: «لم يحدث
أي مكروه اطمئني إنما هو كل خير» زادت ابتسامتها وهي ترفع كتفيها
وتكمل: «يبدو أنكِ لا تعلمين شيئاً»
وقبل أن أحلل كلماتها أو أفكّر بها، أو أتخلص من الاستغراب الذي
حبس أنفاسي، قالت وهي تضع يدها على جبينها حائرة: «لا أعلم إن
كنتما التقيتما ببعضكما وعرف من أنتِ! على الأكيد أنه عرفكِ من تلك
المرة» صمتت تأخذ أنفاسها للحظة وعيناها تلمعان، أكملت بينما كلماتها هوت بقلبي عميقاً في صدري،
: «ياسمين، إن يوسف قد استعاد بصره، إنه
يرى، إنه يرانا الآن»
قالتها ودموعها تتجمع في عينيها.
تجمدت للحظة، تجمد كل ما فيّ، لم أفكر إلا فيما أسمعه، أعيده
مرات ومرات في عقلي، أنظر إلى خولة في دهشة، أفلت اكرة الباب، اقتربت منها خطوة لأفرج عن الكلمات دفعة واحدة: «خولة أقسمي على ما تقولينه وأنه حقيقة!»
واستعدت كل الكلمات التي قيلت أمامي والتي لم أفهم رموزها،
وأخيراً وضحت معانيها!
دموع خولة ويداها اللتان أمسكتا بيديّ وشدتا عليهما كانت تأكيد على صدق حديثها، وكأنها
تطمئنني،
تريح قلبي الذي تألم طويلاً
تخبرني أن كل شيءٍ انتهى ولا داعي لاستعادة الماضي، فالماضي ماضٍ
مستقبله متغير!
بكيت عند خولة دموعاً حارة،
لم تكن دموع حزن إنما دموع فرحٍ وسعادة لا توصف، فلا يمكنني
وصف شعوري إلا عن طريق الدموع فشعوري لا يقال.
لم تكن هنالك كلمات إضافية من خولة التي ذهبت وتركتني وحيدة،
أمسح دموعي، أنظر عبر النافذة إلى الخارج إلى السماء الزرقاء الصافية
الآن فهمت معاني كلماته، وأنه على علم بمن أنا من ذلك الموقف
لست ألومه على تصرفاته أبداً، فله كل الحق، فأنا من خدعهُ وخذلهُ
ويحق له كرهي مع أنني لا أطيق كرهه لي!
لا شيء يهم الآن حتى لو جُرحت أو كرهت، سأدفن الألم داخل قلبي
وأتخلص منه بالتأكيد
أهم الأشياء عندي الآن هو أن أرى من أحب في أفضل حالاته وفي
أتم صحته
وفي هذه الحالة أكون أنا في أتم الرضا، والراحة النفسية التي تجعل كل
خلية فيّ تتنفس.
***__
|