كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: خطوات على الجمر
تساقط الأوراق
بعد ذلك الموقف تحاشيت الحديث مع خولة التي اختارت الصمت
على البوح ليوسف.
علاقتي بخولة أصبحت جافة، كنا فيها نتحاشى النظر إلى بعضنا،
وكانت كلماتنا مقتضبة عندما نضطر إلى الحديث.
كنت أكره تلك اللحظات التي يصبح القريب فيها بعيداً، وتصبح
العلاقات المتينة مهترئة لمجرد أسباب تافهة!
وكان يوسف في أهبة الاستعداد الكامل للسفر، فقد حاول
تعويض أمي وخالتي عن الأيام القادمة، يمضي الكثير من
الوقت مع العائلة، يحاول المساعدة بقدر استطاعته!
لقد تجنبتهُ من آخر موقف معه ومع خولة، حاولت الابتعاد وإنهاء
الأمر مع نفسي قبلهُ، إجبار نفسي على وضع مسافة بيني وبينه فأنا لا
أريد الخوض في العمق، ولا إغراق نفسي في وهم الحلم، وفي المقابل
فعلت الأمر مع يوسف في تجنبه لعله يفهم بهذا رفضي له بطريقة غير
مباشرة.
قطعت كل اللحظات التي جمعتني بيوسف لأهرب منها بعيداً،
حتى أنني ظللت أراقبه من أبعد نقطة قبل الأقرب، أركز على لون عينيه
العسليتين اللتين لم يتغير فيهما شيء منذ الطفولة، تلك العينان اللتان
ألتقي بهما كلما عدت إلى الماضي.
استمر تهربي منه إلى أن سافر من دون وداع مني، ومن دون رد يجيب
على أسئلته، وأسفر ذلك عن ندم عميق انغرس في أعماقي، ندم أحاول
اقتلاعه، عندما أبدأ في إيهام نفسي أن هذا هو الحل الصحيح لمَا بيني
وبين يوسف!
باتت علاقتي بأمي علاقة عملية تطغى فيها الأوامر، إلى جانب أنها
باتت فاترة باهتة في الآونة الأخيرة، وخالية من أي مشاعر فلقد كنا
مجرد أشخاص نتعامل مع بعضنا لإثبات الروابط غير المنقطعة!
في أحد الأيام، كان الوقت عصراً عندما قررنا الخروج أنا وأمي وخولة في رحلة إلى السوق، من أجل أمي وبأمر منها فلم نكن نخرج إلا مع
بعضنا وفي مرات قليلة، وكانت خولة هي السائق، في بادئ الأمر حل
الصمت كردة فعل للأجواء الهادئة السائدة فيما بيننا، خولة مركزة على طريقها، أمي ينعكس وجهها على نافذة المقعد الأمامي وهي تحدق إلى خارجها، بينما عيناي تنتقلان إليهما وإلى القلادة التي تحمل شكل قطة زرقاء اللون معلقة تحت المرآة الأمامية.
خولة هي من كسر ذلك الصمت، بسؤال سألته لأمي، توالت بعدها
الكثير من الأسئلة والمواقف والضحكات التي شاركت فيها من
دون تردد، فالعلاقة بيننا كانت انسيابية لا تحتاج إلى أسباب للعودة
إليها، بمجرد أن تفتح قلبك وتخرج الكلمات فهي تصل إلى الطرف
الآخر من دون قيود.
منذ فترة طويلة، لم أعش مع أمي وخولة مثل هذا الإحساس، ولم
أتعمق في هذا الصفاء العاطفي، والتقارب الروحي، في العلاقة المتينة
التي تربطنا وتشد بعضنا إلى بعض، فمهما كانت المواقف والمشاعر في
كثير من الأوقات إلا أنني في مثل هذه اللحظات أشعر بأن هذا الحب
يأسرني، ضحكة أمي الناعمة التي تظهر صف أسنانها الذي لا يرى
دائماً مدهشةً، تقاسيم وجهها الصغير وتجاعيده الواضحة تظل
مطبوعة في داخلي، تشعرني بغلاء ثمن هذه اللحظة، حتى
المواقف التي تذكرها كنت أحاول الإنصات إليها من مقعدي
الخلفي، أحاول ألا أترك أي كلمة تهرب مني!.
جلست في المنتصف، حشرت قدمي في تلك الزاوية الصغيرة التي
تفصلهما عن بعضهما، مستمتعة بتلك الأجواء التي لا تتكرر، أنقل
نظراتي من خولة التي تضع فوق عينيها النظارة الشمسية وإلى أمي
التي ترتب حجابها الأسود في كل مرة تضحك فيها.
ضحكاتنا تتصاعد في غمرة من الفرح
كانت أمي أكثر استرخاءً مما سبق
وكنت أنا أعبر ذلك الظلام المتلألئ في أعينهما، وأدخل إلى أعماقه.
أرى الاستقرار فيه، وأشعر بالإحساس المنبعث منه
هي لحظات خاطفة مرت على حين غرة منا
اختفت الألوان واختلطت ببعضها، واختفت اللحظات،
وأصبح الصراخ اللاواعي هو الحدث الأساسي
فقدت خولة السيطرة على السيارة في لحظة لم نعرف ما جرى فيها، ضرب شيئٌ عنيف جهة أمي، تطايرت شظايا الزجاج من جانبي، لم أستطع حماية وجهي ولا جسمي لأنني اصطدمت بالجهة الأخرى، تعلقت يدي بالمقبض الأعلى، انكمشت على نفسي لكي أحمي نفسي، ولكن جسمي ظل يرتجُ مع الاصطدام، يضرب رأسي السقف ضربات متتالية، يصطدم كتفي بمقعد خولة، عيناي تكادان تخرجان من محجرهما بينما أحاول إغماضهما كلما فتحتا رغماً عني، بدى الصراخ الذي يخرج منا مكتوماً مخنوقاً بالكاد يسمع، انتهى كل شيء عندما ظننت انه لن ينتهي حتى يكسر كل عظم مني، لقد هدئ كل شيء بينما أنا مقلوبة رأساً على عقب، حررت أصابعي الممسكة بالمقبض بعد أن شعرت بخلع في المرفق، بكيت متألمة لأنه وكما يبدو أن عظامي قد خلعت كلها، وصلني انين خولة الخافت، فحاولت التحرك، مددت يدي الأخرى إلى أبعد مكان تصل إليه، لعلي أمسك طرف خيط، أبسط كفي ثم اقبضها، إلى أن استطعت أمساك يد، تلمست اليد، لمست عروقها الواضحة، أظافرها المقلمة، إنها يد أمي، شددت عليها، منادية:" أمي"
ترجيت أمي أن ترد عليّ، تخبرني بانها بخير وليس عكس ذلك، ولكن لم يصلني رد، حتى خولة التي صرختُ باسمها اختفى صوتها!
ظل صوتي يتردد في ذلك السكون الذي حل فجأة، ثم بدأ الضغط يسد مجرى سمعي، ثم رويداً رويداً بدأت الأصوات تعود إليّ، كنت أريد رؤية حالهما ولكنني لم أرَ سوى أطرافهما والمقعد المقابل لي، وصلتني الأصوات الخارجية، ضرب النافذة، المقبض الذي يحاولون فتحه، الباب الذي يرتج خلفي، رفعت ذراعي ثم ضربت النافذة لعل الباب يفتح ويخلصني من الألم والضيق اللذان أشعر بهما، قبل أن أختنق حية، ولكن لا صوتي يسمع ولا طرقي يرد!
بعد برهة من الزمن شعرت بأيادٍ تمسك بقدميّ ثم تجرني وتسقطني،
تخرجني من حفرتي التي كنت أختنق فيها، من الظلام إلى النور
خرجت، وعلى الأرض جلست وبين أيديهم واجسادهم التي حاوطت السيارة، وأمامي سيارتنا اللؤلئية التي كنت بداخلها، الدخان الرمادي
المتصاعد من أجزائها المقلوبة، كان يحجب رؤية ما بداخلها، فتم اقتيادي إلى أبعد مكان عنها، بينما الأصوات الصاخبة جعلت تركيزي يتشتت عن رؤية ما حل بأمي وأختي، أجلسوني على الرصيف، ثم وضع عليّ غطاء للرأس، للحظات حاولت فتح عيناي ورؤية الأحداث أمامي، يسقط ضوء الشمس الساطع على زجاج السيارة المتناثر على الأرض، يمتد الأسفلت على مرمى نظري قبل يصطدم بصري بأشجار النخيل والحاجز الحديدي الذي تحطم بفعل الاصطدام الذي حدث، وصوت الإسعاف بدأ يقترب بسرعة رهيبة صم أذناي، رأيتهم يخرجون خولة، لقد عرفتها، من اللون الأبيض في عباءتها، لم أقدر على تبين ما حدث لها، فوقفت متشنجة، كانت خطوة واحدة لأشعر بعدها أنني أُعاني من خطب ما في جسدي، ولكنني قاومت، الخطوة الأخرى كانت أسوء، أما الأخيرة، جعلتني أرجع بشكل عكسي وأرى الأرض مقلوبة، وهويت على الأسفلت الساخن دائخة، لم أستطع فتح عيناي أو الرجوع إلى وعيّ، فقط ما شعرت به هو أن أحداً ما يفتح عيناي، يقيس نبضي وتنفسي، يلمس وجهي، يفتح فمي بعنف، ثم حل الظلام وبزغ منه ضوء كما ومضات الشهب الفارة من السماء، ثم تصطدم بوعي بشدة ورجة، إني اذوب واذوي ويختفي ألمي!.
***
أفتح عينيّ بهدوء وسكينة تسكن أعماقي، أنظر إلى الأسفل فأرى
حذاء لؤلؤي اللون، يرتفع بصري من الحذاء إلى فستاني الزهري الذي
انتفخ أسفله وضاق أعلاه، ترتفع كفاي الصغيرتان أمام وجهي
فأنفخ عليهما لأدفئهما.
ترتفع نظراتي أمامي، كانت الأضواء الصاخبة تشق ظلام الليل،
تنبعث منها مختلف الألوان، يتجاور الأحمر والأخضر والأصفر في
أعلى أحد المنازل واللون الأصفر كان أكثرها إشراقاً ونوراً
خطواتي تنطلق وحذائي يركل التراب تحتهُ، أخرج من باب منزلنا
الأصفر الصغير، أمشي في ممر طويل رملي، تنتقل نظراتي بين الحجرات
المتجاورة التي علق على أعلى كل منها مصباح، أكمل
خطواتي فأرى غرفة عماتي ذات الباب البني العملاق، وغرفة جدي
وجدتي التي كانت في الأعلى يحيطها حاجز حجري أحمر مدبب جميل
الصنع
أركض في ممر حجري صغير يفصل جدارين عن بعضهما، أسمع صوت أنفاسي العالي والهواء يخرج من فمي ليشكل ضبابة خفيفة، يتطاير شعري المتموج كلما قفزت إلى الأعلى، أقف عند باب منزل الجيران
من باب منزلهم الداخلي يخرج الصغار منه، أطفال الجيران الذين لم أرَهم
منذ زمن طويل، ينطلقون ركضاً وقفزاً إلى المساحة الكبيرة الأمامية
المليئة بالأحجار الصغيرة، يلعبون بها ويضربون الأرض ركضاً إلى
الخارج إلى تلك الأضواء المنبعثة من ذلك المنزل الذي يشير إلى وجود
مناسبة زواج، أركض وراءهم، والأرض تهتز من تحتي والهواء يقفز
بي إلى الأعلى، عند بوابتهم الرمادية الضخمة، أمسكت طرف بابها
الصغير والمفتوح، ارتفع جسمي لتحط قدماي على الأرض خارجاً،
لتنطمس الصور وتتشكل الذكريات
وكأني عدت إلى ذلك المكان، إلى تلك اللحظة التي اختبأت بين
أرفُف ذاكرتي
أقبض على مقبض الباب البارد، أرى الأضواء خفيفة في أماكن وعالية
في أخرى
وعند ظل الجدار الضخم، وتحته تماماً فوق التراب، كان هو كما تركته
ذاكرتي، ذلك الكيس والرجل
اختناق شنيع أمسك صدري، صدمة عنيفة هزت جسمي
تراجعت خطواتي المرتجفة إلى الوراء لكي أختبئ، ولهثت أنفاسي بشدة،
نظرت كما نظرت سابقاً رأيت كل شيء بوضوح أكثر، بدقة أشعلت نار
صدري، وأوصلتني إلى أقصى مراحل الرعب.
كيس يتحرك، ثوب أبيض يخرج مرة تلو الأخرى كاشفاً عن حقيقة
صاحبه
هي دقائق صامتة قضيتها في تبلد، بإحساس منبعث من الأعماق،
واستعداد طويل لهذه اللحظة، التفتُّ إلى الوراء، ومن البعيد من بين
الأضواء المنبعثة من أقصى الجنوب كان هناك ظل قادم
كان يوسف يتقدم إليّ بخطوات راكضة، خطوات سبقت أي ردة فعل
مني إلا يدي التي امتدت إليه في الظلام وأمسكت بيده، وبسرعة
سحبته إليّ، طوقت فمه قبل أن ينطق
ولكن وخارجاً عن توقعاتي، عضني يوسف وصرخ، وللمرة الثانية
يكشفني يوسف
يكشفني لتلك العيون التي لم تفارقني يوماً، بانهيار مني ونظرة منه
فقدت إحساسي
ورأى يوسف ما رأيته، وتمسك بي لعلي أفعل مثل تلك المرة، ولكن
هذه المرة كانت مختلفة، أن تعاد الأحداث بمعرفة سابقة تكون أشد
وطئاً، وأكثر سقماً، ولكن حتى لو حدث هذا فأنا الآن أكثر نضجاً
وجراءة
أمسكت بكف يوسف وشددت عليها استعداداً للحظات
الهروب
وبدل الهروب كان الصراخ بصوت عالٍ الحل الأمثل، عند صراخي
أصبحت الضوضاء أشد قوة والأصوات أكثر صخباً والظلمة أشد
قتامة
ولم يكن هناك شيء يخفى إنما هو التغافل والبيئة المساعدة التي جعلت
من أمر فعلته سهلاً
أتراجع إلى الداخل مع يوسف ونظراتي تراقبه، السكين في يده والكيس
في اليد الأخرى، ينظر حوله، يتراجع في رعب شديد في موقف لم
يتوقعه
يخرج من بيت الجيران بعضٌ من أهله وأهلي، يتقدمون نحونا على عجل وخوف، أمسك يد يوسف فيضغط على يدي ثم يتعلق بي ممسكاً خصري
، أخبرتهم بطلاقة ما حدث وأنا أشير إلى الذي هرب عند رؤيتهم
كنت لا أشعر بالدموع التي تشق سيلاً على خديّ، ولا بالبرودة التي
أعدمها الانصهار الذي أنا فيه!
أرى تسابق النساء إلى الخارج، صراخهن وعويلهن، وسقوط
إحداهن مغمى عليها وتعثر أخرى
انهار على الأرض مع يوسف بعد ان تخدرت قدماي وأصبح من الصعب الحفاظ على شجاعتي، انخرطُ بالبكاء
بكاء أعاد كل ذكرياتي إلي، أعاد المرة الأولى والثانية، أعاد كل
اللحظات المفزعة، والنظرات السامة، اتهاماتهم وتكذبيهم لي، كل
تلك النظرات والإشارات المتهمةِ لي اختفت، وبقي بينها الضباب،
وبقيت مع يوسف على الأرض ونحن في حالة رعب
أسمع شهيق يوسف في أذنيّ، أشد على يده المحتضنة ليدي مخففة من
هول الموقف عليه وأمد نفسي بالأمان لعل ارتجافي يخف..
أنظر إلى حال الذين أخبرتهم وتحت الأنوار العالية والخافتة كانوا
متجمعين ومتفرقين على وسع المنزل المفروش بالحصى، بعض النساء يخبرن الناس أنهن رأين الكيس والرجل، أما البعض الآخر ينفين الأمر وبعضهن يقمن بمساعدة التي أغمي عليها بجعلها تستنشق رائحة البصل والعطور.
يأتي بعض الرجال فأسمع أصواتهم العالية وصوت أحدهم يقول: «لا
أثر له لقد اختفى ولكن وجدنا كيساً أسود ممزقاً فيه فردة حذاء لفتاة
صغيرة، ولكن لا أثر لهما»
لازال أجلس على التراب مع يوسف نقبض أيدي بعض، أشعر بالعرق يتزحلق من بين أصابعنا، أرى الإشارات تُصوب إليّ من بعض الرجال وأراهم قادمين نحوي بقاماتهم الطويلة الضخمة
أسمع خطواتهم المقتربة منا، بعيون لم تجف دموعها، وبيد متشنجة تركت يد يوسف وانتقلت إلى ملابسه، أمسكت طرفها من الخوف، ثم شددته إليّ حتى لاصقني..
انخفض واحدٌ منهم إلى الأسفل ووصل إلى مستوانا، انكشف وجهه لي من خلال النور الساطع، كان شاب في متوسط العمر، لديه لحية سوداء داكنة وعيون بنية، ابتسم فجأة فابتسمت عيناه مع وجهه، قال بصوت منخفض حنون النبرة:
«ياسمين أخبريني ما الذي
رأيته؟ لا تخافي نحن من الشرطة ونريد القليل من التفاصيل»
أشار بأصابعه إلى ما وراء الجدران إلى مكان بعيد عنا وهو
يكمل: «أنا ابن جاركم البعيد، أظن أنكِ تعرفينني فلقد رأيتك عدة
مرات قليلة» لم أعرفه إنما تذكرت أنني رأيته بضع مرات قليلة، حركت
رأسي تقبلاً لكلامه، سردت عليه ما رأيته بحماس، كل التفاصيل
تجمعت منثورة أمامي فنبشتها حتى لم يبقَ منها شيءٌ، بالابتسامة
نفسها وبربتة على رأسي أثنى عليّ وشجعني على أن الأمر منتهٍ، وأنهم
سيمسكون بالمجرم من أجلي أنا ويوسف.
بعد أن تركنا الشاب، تركت قميص يوسف، تحررت قبضتي فبسطها، تحركت من مكاني بضع خطوات تعبيراً عن الفضول، بجانب شعور
مريح وثقة بالنفس، ثقة منحني إياها من حولي جعلتني أرى نفسي
بأجمل حلة، وأنني قد فعلت شيئاً، أنقذت حياة كانت على وشك
الزوال.
غيرت مكاني، وتحت المصباح على الدرجة الأولى من الدرج قرب
الباب العملاق، كان حجمي ضئيلاً مع يوسف أمام أحجام
الأشخاص الغادين والآتين، جلسنا ننتظر أخباراً، ننتظر منهم
أملاً بقول إن كل شيء قد انتهى!
كانت دقائق قليلة التي مرت، من بين الأشخاص القادمين وأصواتهم
الصاخبة وأحاديثهم المتواصلة
كان صوت أمي الصوت المميز الذي ظهر علناً على مسامعي، وغطى
على جميع الأصوات
كان بعيداً ومنخفضاً بينما بالنسبة لي واضحاً ومحفوظ النبرة، وكلما
اقتربت زاد وضوحه
نادت باسمي واسم يوسف بشكل متواصل وبنبرة خائفة حزينة،
وقفت ووقف يوسف معي وبخطا بطيئة مشيت أبحث عنها بين
الظلال المنتشرة على وسع ذلك المنزل، أنقل بصري من عند الباب
المتصل لمنزل جدي إلى الممر الطويل الذي يصل إلى الباب الرئيس
لمنزل الجيران
فأراها راكضة وقد رأتنا، أقف في مكاني، تندفع أمي إلينا، تصل قرب
المصباح الذي أنار الساحة أمامي، أمي التي انكمش غطاء
رأسها، وشحب وجهها وانتفخ في يوم واحد، أخذتني في دفعة واحدة
بين يديها وضمتني ضمة لم أحصل عليها طوال حياتي!.
ضغطت عليّ حتى أحسست أن عظامي ذابت داخل صدرها، قبلتني
وكأنها تحفظ كل شبرٍ مني وتتمنى عدم اختفائه، يتحرك صدرها في
زفير وشهيق سريع، تبتعد عني، ومن بين دموع قد شقت سيولاً على
خديها، وما زالت تطفو على عينيها الحمراوين: «أتتمنين موتي، كيف
لكِ أن تذهبي بمفردكِ، لو حصل لكِ مكروه كنت سأموت»
كانت تتلمس وجهي من أسفله إلى أعلاه، تمسح دموعي التي جفت،
تمسح على شعري، تعيد كلماتها، تكتم موجات
بكاءها، تمسك بيوسف الواقف بجانبي، تأخذه إليها تضمه، تقبله،
أقف في مكاني فأنا لا أريد الذهاب عن حضن أمي، ولا أريد اختفاءه،
فهذه المشاعر التي أشعر بها كانت تغوص في أعماقي، تسبح بين
جزيئاتي، تُسكر إحساسي الذي افتقد مثل هذه المشاعر، أن تكون
محبوباً وأن يرى هذا الشخص أن موته في عدم وجودك، لهُو أعظم
شيءٍ حصل لي!
.
.
بيد أمسكتني وباليد الأخرى أمسكت يوسف وبهدوء تحفهُ السكينة
مشينا معها، وتحت لحاف البرد تحركنا على التراب مرة وأخرى
على الأرضية الحجرية، أتعثر مرة وأتأخر أخرى، أعقد حاجبيّ في
النور وأفتح عينيّ في الظلام، وصلنا إلى المنزل، أعطتنا أمي طعاماً
وصمتت بعدها ولم تفتح معنا حديثاً، وكأنها بهذا تكتم موجة
من الغضب الشديد!
جلست في الصالة على الأرضية المفروشة، وبجواري يوسف
يقضم قطعة من الخبز كما أقضم ويشرب فوقها جرعة من الحليب
الدافئ، بابتسامة واسعة خرجت من قوة نبض قلبي المتسارع، ومن
إحساس مليء بالسعادة: «يوسف لقد صدقنا الكل ولم يكذبنا
كما في المرة السابقة، لقد فعلنا شيئاً رائعاً، فأمي لم تزجرني ولم تضربني،
إنما كانت سعيدة أنني بخير، إنني أحبها كثيراً وأحب هذا الإحساس»
نظرت إليه للمرة الأولى وتحت الضوء الساطع، كانت بشرته
القمحية منتفخة من كثرة البكاء، واحمر بياض عينيه العسليتين
وازداد اتساعهما، ابتسم عندما تلاقت عيناي بعينيه وهو يقول: «لقد
كنتِ رائعة يا ياسمينة، أرأيتِ كيف تحبكِ أمي» إحساس بالمرارة ارتفع
إلى صدري، لم أعرف ما هو سببه ولكن أظنهُ بسبب نبرة يوسف،
حركت ركبتيّ إلى أن ضممتهما إلى صدري وألصقتهما به
أرفع نظري إلى يوسف الذي يكمل طعامه ومن ثم أخفضه في توتر،
للمرة الأولى تكون ذكرياتي بهذا الوضوح وأكون أنا هي ياسمين
الكبيرة، غريب ما يحدث لي ولكنه كالحقيقة، حتى لو كان حلماً فأنا
أريد التغير، تغيراً بسيطاً يزيح ذرة من الندم عن صدري.
تجرأت ورميت كل كبريائي بعيداً عني، كنت أريد التعويض فقط،
ورمي تلك الشخصية البغيضة بعيداً عني، التعويض عن أفعالي التي
لا تغتفر، فلقد كنت شخصاً لا يطاق بالنسبة لنفسي
امتدت يداي إلى وجهه وأمسكت جوانبه
مسحت على مكان دموعه التي جفت، مسحتها مراراً وتكراراً
ثبت نظراتي عليه، ابتسمت من أعماقي أبث إليه امتناني، وحبي لكل
تلك الذكريات الجميلة التي أعطاني إياها
قلت ومشاعري تنجرف إلى داخل صدري، تعطيه ذلك الدفء
الحنون: «يوسف أريدك أن تسمعني، أن تحفظ كلماتي ولا تنساها»
ابتسمت أحدق إلى وجهه الذي أظهر انفعالاته المستغربة مني، أكملت
وعيناي تحبسان دموعاً حارة: «في الحقيقة أنا لم أكرهك يوماً، لقد كنت
أغار منك فقط، يوسف أنتَ أفضل صديق لي، بل أنت الأقرب إلي
من كل البشر، أنت شخص مميز بالنسبة إلي، يوسف أرجوك لا تنسَ
هذا، احفظه في ذاكرتك، ومهما حدث بيننا تذكر أن ياسمينة تحبك ولا
تكرهك، وتحبك كثيراً»
وبعد هذه اللحظة، تلاشت صورة يوسف من أمامي، واختفى وجهه
قبل أن أجد ردّاً منه، أو أتفحص ردة فعله!
فتحت عينيّ على مهل، كنت أرقد على جانبي الأيمن، حدقت عيناي إلى المشجب والمغذي المعلق عليه، ثم انتقلت إلى الستارة البيضاء التي حاوطت كل الجهات وعزلتني عن كل شيء، دقائق قضيتها في مكاني بهدوء، انظر إلى يدي الدامية من ابرة المغذي، أتنفس بعمق لعلي أدفئ نفسي من برودة الجو، أتذكر كل تلك الأحداث التي حصلت لي وانتهت، فرأيت أن بعضها فارغ وغير مملوء، وقد طواه النسيان، فأصبح بلا ذكرى!
في لحظة خاطفة، مرت ذكرى الحادث وكأنه كالحلم الذي عشته
بعده، ما أن يأتي غيره حتى ينسى، قمت من على السرير أشد جسمي
شدّاً لكي أجلس، حسرت عن ساعدي بعد ان رأيت تمزقاً في كم عباءتي، وشاشاً على المرفق، رأيت بعض الرضوض وجرحاً يبدو كبير ولكنه محجوب تحت لاصق كبير وشاش، والالم لا يزال يطوي جسدي كاملاً، شعرت بالتقزز من شكل الابرة ثم نقلت بصري إلى المغذي الذي التصق ببعضه معبراً عن انتهائه، رفعت يدي الأخرى لأكشف ما وراء الستارة، فقابلتني المعدات والادراج، ناديت:
-هل من أحدٍ هنا؟
لم يصلني أي جواب... وظل الهدوء مخيماً على ذلك الجو البارد.
رفعت يدي إلى الأخرى في تردد، سأنزعه، لا يمكنني تحمله وانتظار من يأتي، عليّ حالاً أن انهض وأسأل عن خولة وأمي..
نزعت اللاصق أولاً ثم الإبرة متأوهة من الألم الذي في مرفقي، نهضت مقاومة، وضعت الشال الذي وضع وقت الحادثة على رأسي، ثم تلمست طريقي ذاهبة، خرجت بخطا ثقيلة من الباب،
غرف متجاورة وممرات كثيرة تؤدي إلى عدة اتجاهات، تتبعت
اللوحات التي كتب عليها كلمة مخرج، خرجت إلى قاعة كبيرة بيضاء،
مليئة بالأشخاص الواقفين والسائرين، الذين يمرون بسرعة من
أمامي، غير آبهين بالذين حولهم، وفي آخر القاعة كان هنالك مصعد.
قاومت موجة من الدوار وأنا أمشي إلى المصعد الذي توقف وخرج منه
عدة أشخاص ليدخل آخرون ويزدحم، أدخل معهم، أنحشر بينهم،
أتنفس بسرعة وأنا بين الزحام، أضغط على صدري الذي بدأ يؤلمني،
أستند على الطرف الأيمن منه والذي ولجت إليه أولاً، انعكست صورتي على المرآة، رأيت وجهي، هناك بعض الخدوش، وكدمة فوق حاجبي الأيمن، وعيناي إنهما غائرتين، أبدو متعبة، بل أن وعيّ يكاد ينفلتُ مني!
يخف الزحام شيئاً فشيئاً في كل مرة يقف فيها المصعد بين الطوابق
لم أضغط على أي زر إنما انتظرت إلى أن توقف عند أسفل المبنى
خرجت وقدماي تشعران ببرودة الأرضية، في تلك اللحظة
استوعبت أنني لا أنتعل حذائي، ولم يكن هنالك متسع
للعودة لأنني لا أذكر من أين جئت!
مشيت إلى غرفة الطوارئ
ووقفت عند الاستقبال
كنت مترددة حائرة عندما تقدمت نحو الرجل الجالس هناك،
حاولت اخفاء قدميّ خجلاً من رؤية أحد ما لهما
وضعت يديّ على طاولة الاستقبال استند عليها بعد أن شعرت بالتعب،
، تحدثت إليه بعدما شعرت بانتباه ضئيل منه: «إذا
سمحت هل يمكنني طلب خدمة منك؟»
ترك أوراقه جانباً وحدثني بهدوء: «تفضلي أختي!»
بارتجاف شديد شعرت به في جسدي المتعب، قلت وأنا أمسك
صوتي عن الاهتزاز: «أمي وأختي هنا، قد حصل لهما حادث سير
وأريد معرفة أخبارهما؟»
سألني عن الاسم وعن كل البيانات المطلوبة، أعطيته كل ما أعرفه، أسمائهما، وصفت له الحادث، ولكنه قال بسهولة لي:" لا أستطيع اخبارك، لأنه ليس لديك اثبات هوية!"
نظرت إلى نفسي بعد أن رفض اخباري، إلا يمكنه تبين وضعي من مظهري! لماذا يتجاهلني؟ إنني في حال يرثى له، لقد خرجت من الحادث بكدمات وجروح! لم أتزعزع من مكاني، فقال باختصار بعد ان بان الازعاج عليه بسببي: «واحدة منهن في العناية
المركزة والأخرى حالتها مستقرة والثالثة في حالة فقدان للوعي،
وطبعاً لا أستطيع إخبارك بأي معلومات أخرى.»
حالة من الذهول أصابتني عند سماعي للخبر، بصدمة أمسكت
رأسي وأنا أقول بصوت عالٍ: «أرجوك أوصلني إليهما،
أرجوك فأنا ليس لدي هاتف»
ترجيته مرة بصوت منخفض وآخر عالٍ، فلم يعطني بالاً، كان منشغلاً
عني ومتذمراً مني!
تركته ومشيت على البلاط، قدماي تمتصان برودتها،
تنقلانها إلى كل خلية في جسمي، دموعي تنحبس داخل أجفاني،
أشهق في كل ثانية من أجل منعها من السقوط أمام الناس وكشف
انهياري الشديد.
الأجسام تمر من أمامي ومن خلفي ومن بين ضباب دموعي كنت لا
أرى إلا الألوان التي تبهت في كل لحظة وتشوش طريقي.
مشيت متنقلة بين اليمين واليسار أذهب إلى عدة أبواب وأدخلها
وأخرج منها عائدة إلى حيث أتيت، أسرق نظرات خاطفة إلى الناس
الذين تختلف ملامحهم عندما يحدقون بي.
شعرت بالضياع، وأن لا ملجأ لي، وأنني فقدت
أمي وخولة ولن أجدهما أبداً، ولن يجدني أحدٌ، وسأعيش هكذا!
بعد فترة طويلة جدّاً، أوصلتني إلى أقصى مراحل الانهيار النفسي
والإحباط، رأيتُ شخصاً أعرفه جيداً، شخصاً انطلقت إليه جرياً من
دون وعيٍ مني وناديته، شخصاً لو كنت في غير هذا الموقف لخجلت
من الذهاب إليه، ومناداته بكل هذا الأمل والشجن، والصراخ أمام
العالم بأسره باسمه، لقد كان هذا الشخص «أبي» أبي الذي انطلقت إليه
ناسية علاقتنا المشوشة، إنما اعتبرته مُنقذي ومنفذي إلى الحياة!
كان يمشي بخطا ثقيلة ظهرت على مشيته، كان رأسه الأشيب عارياً،
ووجهه الذي تغطى بالشيب والتجاعيد جامداً، لقد قدم من بوابة
المستشفى بين العديد من الناس، لم يكن منتبهاً لي، ولم يرَني عندما
رأيته، في البداية سمع صوتي العالي، صوتي الذي أخرجته من كل خلية
مني، وملأته بمشاعري.
عقد حاجبيه استغراباً وصدمة عندما رآني أركض نحوه، وقفت أمامه
وأنا ألهث بصوت عالٍ بجانب شلال من الدموع المنهمرة، وبكاء
عميق خرج من دون وعيٍ مني
مسحت خديّ بكفيّ لعل دموعي تختفي وتجف ولا تنهمر أكثر،
ولكن محال فرؤية أبي كانت بصيص نور انتظرته طويلاً.
كان اللقاء بيننا لقاءً رسميّاً، طمأنني فيه بعد أن رأى انهياري التام
أن كل شيء على ما يرام، وأن أمي خرجت من غرفة العناية المركزة،
كانت الكلمات هي ما تشاركنا به والخطوات المتقدمة إلى الأمام، لم
يكن هنالك شيءٌ آخر، إلا أنني عانيت من إعياء شديد
وتوتر عميق يهز مشاعري، كنت أحتاج إلى الكثير من المساندة الجسدية
والعاطفية، كنت أريد خولة في ذلك الوقت وأريدها بشدة وأشتاق
إليها.
فخولة الوحيدة التي تظهر حقيقتي أمامها، هي شخص يفهمني من
نظرة.
ندمت أشد الندم على مخاصمتها، والابتعاد عنها بذلك الشكل وحتى
في ابتعادي عنها شعرت بالذنب ناحيتها، كنت طوال ذلك الوقت
أفتقد أحاديثها، وضحكاتها، وحتى مشاجرتها.
مشيت مع أبي، صعدت المصعد معه فأخذنا إلى الأعلى ووقف عند
الطابق الثالث، ينزل أبي فأتبعه، نمشي طويلاً عبر الأبواب والممرات،
نصل إلى ممر شبه مظلم وإلى غرف كثيرة فندخل إحداها، يدخل
فأدخل وراءه، ويحجب الرؤية عني فلا أرى إلا طرف السرير الأبيض
الذي احتل مساحة واسعة من المكان، بعد ثوانٍ تقدم ليظهر
السرير شيئاً فشيئاً، وتظهر أمي النائمة على السرير والمتنفسة على جهاز
الأكسجين وجسدها متصل بعدة أجهزة، وخولة الجالسة في زاوية
قريبة منها مضمدة الذراع مجروحة الوجه.
خطواتي انطلقت أولاً إلى خولة، ارتميت في أحضانها، ضممتها بشدة
إليّ وأنا أبكي، بينما هي مسحت على ظهري من أوله إلى آخره
متسائلة بصوت متعب: «أين كنتِ لقد بحثت الممرضات عنكِ كثيراً،
ولم يجدنكِ؟»
أهز رأسي غير قادرة على إجابتها، وغير قادرة على إخبارها عن تلك
اللحظات السيئة، التي كانت عبارة عن موت بطيء ويأس شديد.
أجلس وكرسيّي ملاصق لسرير أمي، ألمس يدها الشاحبة المملوءة
بالعروق، والمتصلة بإبرة المغذي، أتذكر كلماتها الأخيرة، نظراتها
وخوفها عليّ، أحضانها التي ما زلت أحتفظ بدفئها إلى الآن، ومن
غير أن ينتبه لي أحد أقبل أصابعها سريعاً.
واستيقظت أمي بعد مدة بعد زوال تأثير المخدر، الذي كان بسبب
عملية خضعت لها بسبب الحادث الذي أصيبت فيه بنزيف داخلي في
البطن.
كنا أنا وخولة من يلازم أمي في المستشفى، ونتبادل الأدوار في كل ليلة
وفي النهار نظل معها ونستقبل الزوار، فقط هي مرة واحدة التي
أتى بها أبي للمستشفى وكانت معي واختفى بعدها وكأننا لم نكن نعني
له شيئاً، فلم يكن إهمال أبي جديداً ولكنه كالجرح الجديد ينزف كلما
نبش!.
في آخر ليلة قضيتها مع أمي في المستشفى، ظلت خولة فيها معي
إلى قبل موعد منع الزوار، بعدما غطت أمي في النوم، وبقيت أنا
بجوار خولة المتدثرة بغطاء من المخمل، نجلس على أرضية فرشت
بسجادة زرقاء مزخرفة، احتضنت يدي كوباً من القهوة المرة
تنشد دفئاً لجسمي غير الوشاح الذي يغطيني، جلسنا نستمع ونشاهد البرنامج الثقافي الصادر من التلفاز، ولكن لم يكن تركيزي عليه لقد كنت أفكر بعيداً وبعيداً جداً.... هناك خواطر وخيالات كنت أحتضنها في مخيلتي لم أستطع البوح بها حتى لنفسي، إنها محظورة، يجب عليّ حظر التفكير فيها لكيلا أدخل في متاهة جديدة! متاهة توصلني في النهاية إلى تصديق كل شيء حتى لو كان خارجاً عن الواقع!
تحدثت خولة كاسرة ذلك الصمت: «يوسف يسأل عنكِ، ويسلم عليكِ»
عند نطقها لاسمه، التفت إليها سريعاً، فالتقت نظراتي بنظراتها الثاقبة
التي عبرت عينيّ باحثة عن ردة فعل تدينني بها، بصوت منخفض
وعيناي تحدقان إلى الأمام باتجاه التلفاز هاربة من نظراتها الموترة لي:
«يستحق السلام أرجعيه إليه إذا حدثته. »
قالت خولة التي ما زالت تحدق بي: «لا تقلقي فهو لا يعرف من أنتِ
فأنا لم أخبره، لأنه في النهاية أيقنت أن هذا شيءٌ خاص بكِ وليس لي
دخل فيه والذي سيتحمل العواقب هو أنتِ وليس أنا»
كنت مُوقنة أن لا جدوى من التبرير أو إطالة الحديث في هذا الشأن،
لأن لا شيء سيتغير، لا مشاعري ولا تفكيري إنما سيدخلنا إلى نزاعات
لا تنتهي، وسيجعل الحديث ساحة معركة يبرز فيها الأقوى والأحق.
أبعدتُ نظراتي عن التلفاز وأرسلتها إلى أمي النائمة، إلى وجهها الذي
هزل، وعينيها اللتين ذبلتا وازدادت هالاتهما عمقاً، إلى شعرها الذي
نمت جذوره وأخرجت لوناً أبيضَ ناقض صبغة اللون البنية التي تحته.
وتذكرت تلك الذكرى التي حدثت لي، والحلم الجميل الذي عشته
نعم...فلقد كان جميلاً فأنا فعلت فيه شيئاً لم أستطع فعله سابقاً، عشت
أجمل لحظاتي مع أمي، وأيضاً أثبت للناس صدق ما أقوله!
ولكنه يظل حلماً، حلماً لا يستطيع واقعي البائس تحقيقه!
حتى لو نبض قلبي بعنف، ورأيت ألون ذلك المكان، تلمست جدرانه وطلاءه، شممت هواءه ورائحة أصحابه، إلا أنها ظلت ذكرى مشوشة شيء لا يمكن أن يمت للواقع بصلة، مجرد ذكريات تعاد وتطوى!
.
***
مرت أيام على عودتنا إلى المنزل، استعادت أمي صحتها فيها، ملأت
البهجة المنزل باجتماع كل أفراد أسرتي فيه وخاصة عودة أختي
الكبرى سارة من سفر طويل مع زوجها، لاحظت تغيراً ملحوظاً
على أمي، كانت الابتسامة رفيقة جلستها، والاسترخاء ملاذ خلوتها.
في يوم خاص أخبرتنا أمي أن هناك زواراً قادمين، وحضر الزوار وكن
ثلاث نساء تتفاوت أعمارهن بين الثلاثين إلى الخمسين، ولكن أمي
لم تخبرنا بحقيقة حضورهن، فنظراتهن المتفحصة هي من كشفتهن،
وعند معرفتهن أن خولة هي الأكبر سنّاً اتجهت النظرات إليها في
تفحص شديد، حتى أقدامها لم تسلم منهن، وانسحبت أنا لكيلا أكون
فريسة أخرى!
كنّ من أقرباء أمي ويعشن بالقرب منا، ويردن خولة التي لم تبدِ أي
رفض أو اعتراض كما في المرات السابقة، إنما قبلت بالرؤية الشرعية،
وتمت الرؤية الشرعية بقبول من ناحية الطرفين، وكم فرحت أمي
وازدادت حيوية لأن خولة لن تبتعد عنها وستكون قريبة منها وليس
كأختيّ اللتين رحلتا إلى مناطق بعيدة.
بعد الرؤية الشرعية وبموافقة من الطرفين تم تحديد موعد الخطوبة.
مع كل ما حدث لم يكن أبي حاضراً، فخالي هو من أتم كل شيء نيابة
عنه، فأبي وعند إخباره بالموضوع في البداية لم يوافق، ولم يعجبه أهل
الخاطب، فرفض ولم يعطِ الموضوع أية أهمية إلا عندما سمع من خالي
أن الخطبة سوف تتم وأن خولة قد وافقت.
جاء أبي إلينا، وعند الباب المؤدي لقسمنا وقسم خالتي وقف يطرق
الباب الذي كان مقفلاً، فالوقت ظهر وليس وقتاً للزيارة، فتحت
الباب على عجل عند سماعي لصوته المتردد عالياً، دخل أبي غير آبهٍ بي
وبحرمة المكان عليه، وقال بصوت خشن عالٍ: «أين والدتكِ وتلك
التي توافق من غير إذن مني.»
كان أبي يضع عمامته على كتفه، يضغط عليها
يمشي بخطا سريعة إلى الداخل ويزيد من تعقيد حاجبيه، يقف لحظة
لينقل نظراته الغاضبة إلى كل ركن من الصالة وعيناه تصعدان
إلى أعلى السلم وتعودان ثانية إلى الغرفة.
ينادي بصوت عالٍ باسم «جميلة» التي هي أمي، يعقد ذراعيه وهو
واقف، ينتظر صوتاً يجيب عليه
لم يحصل على جواب سريع، فأخذ ينادي مرة أخرى متوعداً، مزمجراً
من غضبه.
بعد فترة قصيرة، نزلت خولة المستغربة تتبعها أمي المصدومة من هذه
الضوضاء المفاجئة، فتحت عينيها دهشة وشحب وجهها واحمر وهي
تقول: «ما الذي يحصل! وما الذي أحضرك إلى هنا! المنزل ليس ملكاً
لنا وحدنا لكي تدخل إليه متى شئت، ومن دون استئذان! »
تقدمت خطوات أبي باتجاه أمي، يشد على عمامته التي على كتفه، ينزلها
عنه، يضرب بها الأرض غضباً، وأمي تقف بلا حراك، نظراتها
لا تتزحزح عنهُ، يقول وهو يشد على كلماته وينقل نظراته بين أمي
وخولة: «لم أعطِ موافقتي لإتمام الخطوبة، ومن سمح لكما بالموافقة!»
تقدمت أمي إليه وفي منتصفنا وقفت، وعيناها تلمعان، تعبران عن
القهر والاستغراب، نطقت وهي تضيق عينيها: «ألهذا جئت؟»
صمتت قليلاً وهي تهز رأسها في استهزاء وتكمل: «أين كنتَ عندما
تقدم الخاطب، أخبرني أين كان هذا الوالد الذي يجب علينا أن نأخذ
موافقته، للأسف الشديد كان غير حاضر مع معرفته بالأمر وغير آبه
به، فنحن بالنسبة إليه ومنذُ زمن طويل شيءٌ غير مهم ومركونٌ في
الزاوية»
تطاير الغضب من عيني أبي، وازدادت التجاعيد حول عينيه وحاجبيه،
عض على أسنانه باحثاً عن الكلمات، كاتماً قوة غضبه، مكوراً كفيه في
عصيبة، قال وصوته انخفض عن سابقه: «من البداية لم يكن هنالك
رأي لي!»
بعدم مبالاة وصوت جامد بارد صدر من أمي التي لم تتحرك من
مكانها: «أنت من ألغى دوره وليس نحن، أرجوك عند هذا الحد دعنا
نتوقف، إلا ابنتي لن أدعك تهدم حياتها واختياراتها فأنا سأقف في
وجهك من أجلها»
قلبي ينبض بسرعة، إحساس بالألم يشق صدري، كان نقاشاً حادّاً،
يبعثر مشاعر أبي الواضحة في وجهه لتظهر متخبطة، تضعف قوته
وتزيده إحساساً، ينقل نظراته فيما بيننا يرفع عينيه وينزلهما بسرعة ولا
ينظر مباشرة إنما يختطف النظرة، وكأنه يرسل أسفه الشديد وندمه
وكأنه يشعر الآن وأمامنا بأنه أخطأ، لأنها المرة الأولى التي يكون فيها
حديث أمي إليه أمامنا مباشراً وبعيداً عن الرموز!
وانفجرت أمي، وكأنها تتخلص من كل مشاعرها السلبية ومن
كل تلك الضغوطات التي استمرت بالضغط عليها وإخضاعها على
الانصياع، قالت دون تردد، ووجهها المحمر يظهر مشاعرها
وألمها: «منذ أيام أو شهور أيقنت أن لا جدوى من الإهدار أكثر، فلقد
استيقظت من الصدمة أخيراً، واستوعبت أنني أهدر صحتي وحياتي
بلا معنى، فنحن ليس بيننا شيءٌ، فلقد وقع الطلاق منذ زمن طويل،
وظل مخفياً، وبسبب ماذا ومن أجل من أنت أعلم بذلك أكثر مني، أما
الآن فليس لديّ ما أخسره»
أخذت نفساً عميقاً قبل أن تكمل بوجه هادئ: «مهما حاولت فأنا لن
أعود إليك ولو وضعت كل كنوز الدنيا تحت يديّ وفعلت المستحيل،
فلقد انتهى كل ما بيننا منذ زمن طويل وبعد طلقتك الثانية، وكبر
الأولاد وكُلٌّ لهُ طريقه الآن»
عند هذا الحد توقفت أمي وسارت بهدوء، خطواتها لا تسمع، فقط
جسمها الضئيل يتحرك ويحتك بالهواء، تصعد على السلم من دون أن
تلتفت وينحسر لون ثوبها الأصفر شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي.
لم نتحرك بعدها، نظراتنا كانت باتجاهها إلى أن اختفت
وانسحبت خطوات أبي على مسمع منا، تحركت نظراتي إليه وهو مدبر،
رأيته يعيد عمامته على كتفه، وكتفاه منحنيان إلى الأمام، يمشي بخطا
ثقيلة قد أثقلها الشيب والهموم، يصل الباب فيفتحه بقوة، يخرج منه
وكأنه استنزف كل طاقته فيه ويرحل أبي تاركاً المجال لي لاستيعاب
الحقيقة التي كشفت للتو!
بعد رحيل أبي بقيت أمي في عزلة عنا، حبست نفسها في غرفتها لباقي
اليوم، فلم نزعج خلوتها وإنما تركناها وحدها، وبالمقابل كانت نفسيتي
في الحضيض، كل أفكاري تعيد الذكريات وتحللها وتبعثرها.
فلم أكن أتخيل أن يكونا منفصلين، فأمي لم تجعل للشك مكاناً في
علاقتهما، فهما كما كانا لم يتغير بينهما شيء، فمنذ أن وعيت على
هذه الدنيا، لم أرَ إلا شجارهما، وحياتنا المليئة بالمشاعر السلبية لكل
الأطراف.
في الماضي كان أبي كثير الحضور ولكن ليس دائماً، وكان حضوره شديد
التأثير، قويّاً كفاية ليجعلنا خائفين صامتين، ننسحب بسهولة
متى حضر، خوفاً من غضب أو تعنيف يصدر منه لأشياء لا تذكر،
ومنذ سنوات افترقنا عنه إلا أنه كان يتردد علينا نادراً، ولكن لم أكن أظن أنه
فراق أبدي بينهما!
في الغرفة مع خولة، كانت كل واحدة منا تجلس في زاوية خاصة بها،
خولة تعبث بهاتفها المحمول، أما أنا فأقلب صفحات كتاب من
دون أن أفقه منه شيئاً، فكل أفكاري محصورة بأمي وأبي، وكيف حصل
هذا! وإلى أين وصل الوضع! فالتفكير وحده مرهق يستنزف
الطاقة، مللت من التفكير وأرهقت، لا أعلم إن كنت غاضبة أو
مشوشة، ولكن احتجت للحديث والفضفضة، من مكاني تحدثت إلى
خولة: «لست أصدق هذا، ولست أستطيع منع نفسي من التفكير، لقد
تعبت» وضعت خولة الهاتف المحمول من يدها، ووقفت متجهةً إلى
سريرها بالقرب مني، تحدثت وهي تتنفس بعمق: «لقد عانت أمي
الكثير، ولقد آن لها الأوان أن تستريح»
جلست خولة بالقرب مني، لا تفصلنا إلا خطوة واحدة، عيناها اللتان
تنظران إلي لمعتا بالدموع، تحدثت فخرجت كلماتها متبوعة بغصة: «أمي
أخبرتني ذات مرة وفي لحظة يأس كانت تمر بها، أن أبي قد ظلمها كثيراً
وهددها بنا، وفعلها ذات مرة عندما كنتِ رضيعة إذ إنه
تزوج على أمي وأخذنا إلى زوجته أسبوعاً عدنا بعده في حالة يرثى لها،
ولم يقف أحدٌ من أهلها معها عندما طلبت الطلاق منه، إنما وقف الكل
ضدها واتهموها بالإهمال وأنها سبب كل شيء»
بعد كلماتها لم يكن هناك المزيد، ولم يكن هناك إلا الألم، ألم ينغرس
بداخل صدري، يشقه ليصل إلى قلبي ويمزقه.
***
بعد هذا اليوم المليء بالمشاعر المتناقضة، والأحداث المؤلمة والشاقة على
نفسي.
استلقيت على سريري، انطويت تحت لحافي، وأنا أرتعش من البرد،
وكل جسمي يعاني من خمول شديد ومرض
في تلك اللحظات أحسست بالحمى، وبتلك الفقاقيع التي تنتشر أمام
عينيّ المغمضتين.
هي لحظات قليلة حتى تدفقت الذكريات إلى داخلي، عبرت روحي،
حملتني إلى ماضيّ إلى بُعد آخر أعرفه جيداً، إلى صوت أمي الذي
اقترب لينقذني ويدفئني ويجعلني أستيقظ باكية وأناديها: «أمي إنها
الشياطين، إنها تلاحقني»
جاءني صوت أمي: «باسم الله، ليس هنالك شياطين» وتحت ضوء
المصباح الخفيف هدأ بكائي وأنا أرى خيال أمي الجالس أمامي
وملامحها واضحة تحت ضوء المصباح، وجهها الشاحب أحاطه
حجاب أبيض، اتصل لابسها به، لقد كان جلباب صلاة،
لم تكن عابسة أبداً إنما مسترخية تتنفس بهدوء، وعيناها
الواسعتان ناعستين ناعمتين.
أسمع صوت أنفاسها، أشعر بلمسة يديها التي تمسد قدميّ مرة ومرة
أخرى ذراعيّ، كانت تمسدني دون عناء واستمرت لفترة طويلة
حتى غلبني النوم.
استيقظت على ضوء الشمس الذي سقط على نافذتي المقابلة لسريري،
واستيقظت مرة أخرى في ذلك المكان، تأملت السقف الأبيض لفترة
طويلة قبل أن أجلس وأمشي إلى خارج الغرفة، أخطو على الأرضية
المفروشة المؤدية إلى غرفة أمي، أمسك أكرة الباب وأفتحها،
الغرفة منارة يتوسط منتصفها سرير خشبي كبير يقابله دولاب بنفس
الحجم واللون.
أحب رؤية هذه الغرفة التي لا تزال في ذاكرتي ولا تختفي تفاصيلها،
نافذتها الكبيرة التي تطل على زرع أمي، لونها الأصفر الذي يضفي
بهجة وراحة، اللوحة الكبيرة التي علقت في منتصف الجدار وفوق
السرير، حملت صورنا أنا وأخواتي ويوسف، كانت لوحة بارزة ألوانها
براقة، كُلٌّ فيها مبتسم.
بعد وقت طويل من المشي بين النباتات والأشجار والأماكن المحفوظة
في ذاكرتي، دخل أبي من الباب، أبي المختلف كليّاً عن أبي الذي
رأيته منذ ساعات، صدمت من رؤية ابتسامته التي وجهها إليّ، ووجهه
الشاب لم يكن يمتلك تلك التكشيرة التي لا أنساها والتي رافقته
منذ زمن طويل ظننت فيه أنه لا يبتسم!!
تقدم أبي ناحيتي بهندامه المتألق الناصع البياض، حاملاً بين يديه كيساً
أزرقَ ثقيلاً، بطوله الفارع وضخامة جسمه ربت على رأسي من دون
أن ينخفض إلى مستواي، وأنزل ما بيده في يدي التي امتدت إليه عندما
قال: «هذا لكِ ولأخواتك» وأكمل طريقه إلى الداخل وعيناي تتبعانه
وتختطفان نظرة سريعة إلى الكيس.
اختفى أبي على ناظري كما في المرة السابقة ولكن هذه المرة كانت
العكس، فشعوري مختلف، وإحساسي ملتهب يعبر عن سعادة مطلقة،
وأيقنت أنني لست مخطئة فأنا في ذلك الزمان والمكان الذي أحبه....
|