كاتب الموضوع :
سميتكم غلآي
المنتدى :
القصص المكتمله من وحي قلم الاعضاء
رد: خطوات على الجمر
انصهار
الخمول كل ما شعرت به بعد تلك الصدمة، وانقطعت ذكرياتي
عند ذلك الحد، وحل الهدوء والسواد على عينيّ
جاءني من بعيد صوت طنين منخفض، صوت مزعج، غريب عني
حاولتُ فتح عينيّ بتثاقل، الضباب يغشى رؤيتي، الصوت يقترب
أكثر وأكثر
تنفست بسرعة تحت جهاز غريب احتل النصف الأسفل من وجهي
وعلى فمي استقر
حاولت فتح عينيّ للمرة الثانية، وعندما فتحتهما الضوء الأبيض بهرهما، عندما اتضحت رؤيتي رأيت الستائر البيضاء تحيط بي من كل الجوانب!
تحجب رؤية ما وراءها عني
أنبوب طويل متصل بكفي، وصوت الطنين لا يزال يختفي ويعود
أخذت نفساً آخر، وأنا أغمض عينيّ في كسل والنوم يتسرب إلى أجفاني
ثوانٍ فقط حتى جاءت الممرضة قائلة: «الحمد لله على السلامة يا
ياسمين »
حاولت النطق ولكن لم أستطع، بسبب الجهاز الموضوع على فمي، وتعب جسدي الذي لم استطع تحريك عضلة منه...
بعد مدة من الزمن استوعبت أنني في المستشفى، وأرقد على هذا السرير
والممرضات يدخلن إليّ ويخرجن عني وقد نزعن جهاز الاكسجين عني بعد انتظام تنفسي..
أتى وقت الزيارة، وتوافد أهلي إليّ، يتحمدون لي على سلامتي،
يجلسون حولي في دائرة، تكسو وجوههم الفرحة والابتسامات
المتبادلة، يتناولون الأطعمة ويمدونها إليّ، فأرفض وآخذ القليل منها
مجبرة.
والبعض يتناقشون على ما حل بي من دون استحياء
سمعت زوجة خالي تقول بلهجتها المعتادة، وأسلوبها المملوء بالسخرية: «انهيار عصبي، إنها تتدلل علينا »
لهجتها المازحة لم أحتملها وأنا في حالتي هذه، فزوجة خالي لم تكن لطيفة معي، كانت شخصاً عادياً ذا لسان سليط يلقي نكاتاً ويسخر من غيره دون مراعاة للحالة النفسية أو علاقته بالشخص!
يا ليتني لم أعط كلماتها الحجم الكبير وتجاوزتها، ولكن كرهت أن يسخر مني أحد وأنا مريضة، فشعرت بالتعب وبنفستي تتدهور ، أغمضت عيناي لعل النوم يسلبني تعبي...تذكرت ما مر بي من حلم، ففتحت عيناي مرة أخرى أدور ببصري في المكان، يوسف ليس هنا، لن يحضر، مالي أضع الآمال والأحلام على علاقة هشة كعلاقتنا! للحظة فكرت بمرضي، شعرت بالمبالغة بذهابي إلى المستشفى! كل شيء مبالغ فيه! شعرت بالدوار فعدت إلى الاسترخاء... يبدو حقا أنني اعاني من خطب ما في جسدي!
بعد لحظات سمعت صوت أحفظه عن ظهر قلب:
«عزيزتي أتشعرين بالتعب! هل أنادي الممرضة »
في تلك اللحظة، وفي ذلك الوقت من الزمان، انسابت المشاعر إلى
قلبي كالفيضان، طوقني إحساسي بالذنب والشوق والفرحة لاهتمام
أمي بي، أحسست بالخجل، ورغبة شديدة في البكاء،، لأعبر عما بداخلي
من إحساس، فأنا أحب حالتي هذه التي تجعلني محط اهتمام الكل بلا
شكوى مسموعة، فأنا قد تركتُ وأهملت حالات مرضي لنفسي، ومنذ
سنوات لم أشتكِ من مرض عانيت منه وكان مزمناً، لقد علمت عدم
الاشتكاء، فالشكوى ليست حل للأمور من وجهة نظري للحياة.
وجاء أبي في تلك اللحظات، أبي الذي لا أراهُ إلا نادراً، والذي تغير
وجهه عما مضى
جاء ليجعل الصمت رفيقه، لتسكن الأصوات ويتفرق الشمل ويُفْسَحَ الطريق له!
تذكرت تلك اللحظات، اللحظات التي لم تمضِ عليها إلا دقائق أو
ساعات قليلة، مظهره الذي لم يغطِّه الشيب كما الآن
نظراته الغاضبة، ووجهه المسود المعبر عن شدة غضبه
كل ذلك لم يكن موجوداً الآن!
الآن لحيته تحتسي البياض، تمحو السواد، تعطيه وقار الشيب
وجهه الآن مختلف عما كان عليه قبل هذه الساعة، هو الآن أكثر رحمة
وعطفاً
وأكثر أبوية!!
كان غير ذلك الذي ضربني، ولكنه يشبهه إلى حد ما
وحل الألم على صدري كنفخة من الحرارة عبرت مجرى تنفسي،
وانكمشت ملامحي في شعور نفسي مؤلم
منظر أبي كان يحزن الناظر إليه، يشنج الغصات في أبدان الأبناء
كان مشعث الشكل يرتدي ثوباً أبيض فضفاضاً
متجعد الوجه، متعب الملامح، مرهق الجسد
كان وكأنه يحمل كل أثقال العالم على كتفيه
ابتسم ابتسامته النادرة، وعيناه تنظران إليّ في ألم
كانت صورة مناقضة لأبي القديم، صورة نزعت مني كل مشاعري
السلبية المتصلة به
نظراته جعلت كُل شيءٍ فيّ يقفز مقشعرّاً
أقترب مني وجهه وقبلتني شفتاه على جبهتي
وقال: «الحمد لله على سلامتكِ »
بقوة لا تضاهيها قوة حاولت ابتلاع الدموع قبل أن تفر من عينيّ،
حاولت الاحتمال وعدم البكاء وأمسكت يديّ في قبضة شديدة
ولكن داخلي بكاء بعنف وغزارة رهيبة، لا أدري لمَ، لمَ تأثرت وشعرت بالحزن!
بعد تلك الزيارة القصيرة والابتسامة الذابلة، ذهب أبي وترك كل
الحضور في صمت مهيب
وتركني بينهم، أعض شهقاتي وأصد دموعي، أستنشق رائحته التي
بقيت في الأجواء وخنقتني.
***
بعد الانهيار العصبي الذي ألمّ بي، والذي لم أعرف كيف أصابني وما
حدث بعده!
صحيحٌ أنني عانيت قبله من إرهاق شديد وأرق، وتفكير مستمر،
وزاد عليّ ألم صدري
وآخره الأحداث التي حصلت مع أمي، والتي صدمتني بالكامل
ولكن اختفت الصدمة بعد ذلك الحدث الذي يشبه الحلم، والذي
رأيتُ فيه يوسف الصغير!
بعد خروجي من المستشفى الذي لم أجلس فيه إلا نصف يوم
كانت أمي وخولة تقومان بالاهتمام بي
أمي لم تكن تكلمني إلَّا لَمِاماً، ولم تكن تنظر إلى عينيّ اللتين تتبعانها أينما
ذهبت، وتنشدانها الصفح
كُنت نادمة حد النخاع، متعبة من صدودها، حزينة على آخر موقف
حدث لنا
لم يكن لقلبي أن يحتمل صدودها ولو قليلاً، صحيح أنني باردة،
وغاضبة دوماً ومثيرة للمشكلات
وأنزعج منها، أكره عدم حبها لي، ولكنني أحبها لأنها أمي، وأريد
منها أن تشعر أنني ابنتها بالمقابل!
أريد أن أشعر ككل الأبناء، أن لي أمّاً تحبني وتهتم بأمري!
خرجت من غرفتي ذات مساء بعد أيام من الحادثة، ووقفت في
صمت بجانب باب غرفة أمي أرفع يدي فأتراجع قليلاً، أقترب مرة
أخرى حتى ألمس أكرة الباب، أتوقف أتردد وأتيه، أسحب أنفاسي
وأخرجها بقوة حتى أستطيع المواصلة.
في الحقيقة أنا لا أمتلك تلك الشجاعة التي تجعلني أواجهها، وأعتذر
إليها
محاولة الاعتذار إلى أمي أو الحديث معها بأريحية هي من أصعب
الأشياء التي أواجهها، والتي لا أعرف كيفية تخطيها!
ففي حياتي كاملة لم أخض مع أمي حواراً دافئاً رقيقاً أخرج فيه كل ما
بنفسي، وكل ما أشعر به حيال نفسي والعالم والحياة التي نعشيها، فأمي
كانت بعيدة وما زالت بعيدة أميالاً كثيرة عني.
دخلت بعد تردد كبير، وصراع نفسي طويل
رأيتها جالسة على سريرها، يداها تحتضنان القرآن، كانت تقرأ بصوت
منخفض لا يُسمع إلا نفسُه
كدتُ أتراجع وأنا أراها ترتل آيات الذكر الحكيم، وتقرأ بخشوع
وكأن لا أحد دخل إلى الغرفة وأنهى خلوتها
كما تعودت، وكما كنت أفعل دائماً وقفت في صمت منتظرة انتهاءها
وقوفي طال، أفكاري حارت وتعبت من الانتظار
فبدأت أتصبب عرقاً من التوتر، فأنا لا أعرف كيف أبدأ، أو كيف
أستجمع شجاعتي لقول ما أريده!
لأنه ومنذ زمن بعيد لم أخض مع أمي معارك شديدة التأثير كهذه،
ومنذ أن تركت المراهقة فضلت الانعزال عن أمي وعدم المبالاة بما بيننا
من شروخ وفراغات ومسافات، وكم كنتُ أتوق وما زلت أتوق لو
أننا كنا أقرب وليس أبعد!
انتهت أمي بعد زمن طويل ظننت فيه أنها لن تنتهي
وضعت المصحف على منضدة سريرها، ارتفعت نظرات عينيها ببطء
إلى أن وصلت إليّ
حدقت بي بنظراتها الحادة التي قلبت حالي إلى أقصى مراحل القلق
والتوتر
وضاعت الكلمات من منبر صوتي، وجف حلقي وبلغ حد الاختناق
لم أعرف سبيلاً للحديث عما كنت أريده!
ولم أعرف الشجاعة قط معها في أموري أنا!
يا ليتني أمتلك الشجاعة لأخبرها عما أشعر به حيال كل الأمور، لا
عن الاعتذار إليها
ولكنني أصمت داخلي الهش والذي يريد البوح بما يختلجه من أسرار
تظهرني بمظهر الضعيفة أمامها
أخذت نفساً طويلاً قبل أن أقول وعيناي لا تفارقان عينيها: «أمي
».... وبترتُ كلماتي قبل أن تخرج
اقتربت منها وقد أخذتني مشاعري، ورق قلبي ولاَنَ وكيف لا يلين
أمام أمي!
قلت بحزن وندم شديد عبر عنه صوتي: «أمي أنا آسفة عما حدث »
لم تكن أمي لتكون مثلي، أو لتسقط أمام اعتذاري هذا مشفقة عليّ،
ولم تكن لتأخذني إلى أحضانها مطبطبة عليّ، وتقول: «لا بأس لقد
سامحتكِ » أو أنها قد تبتسم لي وتبادر إلى الحديث معي وكأن شيئاً لم
يحدث.
لم تكن لتفعل كل هذا!!
إنما صدتني وأبعدت نظراتها عني وانشغلت بكل شيء كان موجوداً
في غرفتها عداي، وكأن لساني لم ينبس بتلك الكلمات الباكية والمتوسلة
وكأن لا وجود لي في تلك اللحظة التي أعرفها تماماً، والتي لا تزال
تتكررُ مراراً!
فهذا هو أسلوب أمي معي فقط، وليس مع أحدٍ غيري
أخواتي الواحدة منهن تلو الأخرى كنَّ يختلفن عني اختلافاً شاسعاً،
كاختلاف الشمس عن القمر
كنَّ يحظين بالدفاع قبل الهجوم، وبالاهتمام قبل الإهمال
كانت لا تعاتبهن على أخطائهن
كانت تدافع عنهن بشراسة
حتى لو كُن مخطئات، حتى لو بدأن هن بالمشكلات
ولكن أنا ويا لبؤسي أنا... كنت آخر شخص قد تفكر في احتوائه، أو
الدفاع عنه أو الصفح!
***
بعد موقفي الأخير مع أمي، ووقوفي الطويل أمامها، وقوفي الذي
دام دقائق طويلة ينتظر ردة فعل مفرحة، ينتظر تجاوباً يريحني، ينتظر
أملاً زائفاً وضعته في مقدمة آمالي، وبعد اعتذاري الذي لم يثمر عن أي
نتيجة مرضية، خرجت من عندها أجر ورائي أذيال الخيبة والمرارة،
وقوفي الذي كان بلا فائدة ترجى، والذي أخجلني وجعلني أشعر
أن لا فائدة أبداً، فلن تصفح أمي عني بهذه السهولة قبل أيام طويلة،
أنسيت أيامي معها أم نسيت من أنا ... وما أنا بالنسبة لها.
الحزن يمسكني من كل الجوانب، ويستأصل بذور الأمل مني وأنا
أسير إلى غرفتي
أفكاري تتبعني، وقلبي يعتصر تحت أضلعي وكل شيء ينكمش في
صدري
دخلت إلى غرفتي، وسرت إلى أن وصلت إلى زاوية سريري قرب
الحائط
رفعت لحافي واستلقيت منطوية فيه، شددت كفيّ في قبضة ورفعتُ
ركبتيّ إليّ، وخنقت كل غصاتي
بدل أن أبكي، صدرت مني ضحكة قصيرة، ضحكة أطلقتها تعبيراً
عن وضعي المزري
وهل البكاء يفيد في حالتي هذه؟
لقد بكيتُ سابقاً، ولم يغير من الأمر شيئاً!
وجه أمي الجاف والذي يرفض كل شيءٍ مني، ومعاملتها وكأن لا
وجود لي، يجعلانني أشعر وكأنني مجرد شخص ضعيف جدّاً
شخص عديم الفائدة، ولن يصعد خطوة واحدة إلى الأمام.
بعد مدة من الزمن، وبعد الانطواء الحزين، والألم الشديد في صدري،
رفعتُ لحافي عني ومددت يديّ إلى الأدوية التي بعثرتها على منضدتي،
وأخذت بعض الأقراص منها وشربت جرعة من دواء الحموضة، ولم
أشرب فوقه الماء لعله يطفئ نار صدري.
ودخلت خولة إلى الغرفة، دخلت تمشي إلى ناحية سريرها فيما ألقت
عيناها اللتان تشبهان عيني أمي نظرة خاطفة عليّ
احتلت سريرها وفتحت يداها كتاباً اختطفته في طريقها، بدأت تقرؤهُ
في سكون
كان الصمت أسير تلك اللحظات
الصمت الذي أظنه أفضل من الكلام مع خولة
ولكن لم يدم ذلك الصمت طويلاً إذ إن خولة قطعته فلم يكن الصمت
حل يريحها، رفعت نظرها عن الكتاب وأغلقته ولكنه بقي في أحضانها
وقالت: «هل تعانين من خطب ما؟ »
تلاقت نظراتي بنظراتها الحائرة، أبعدتُ عينيّ عنها وهززت رأسي ب
«لا » وأنا أعرف أن وجهي يعكس غير ذلك!
بدى وجهها قلقاً حائراً، اقتربت مني، جلست قبالتي وهي تكمل وقد
اكتسب صوتها الفضول: «إذاً لمَ أصابك الانهيار العصبي؟ ياسمين
أتعانين من خطب ما! »
تاهت الأفكار في رأسي وحارت، وما أدراني ما الانهيار العصبي هذا
وما بي، وما الذي يحدث لي، لأنني لا أذكر شيئاً!
يا إلهي... أحسست بالتعب في كافة أنحاء جسمي وفي صدري،
وبفقداني للسيطرة على نفسي وبالضعف والهوان فقلت وأنا أعود إلى
الاضطجاع على سريري: «أرجوكِ يا خولة لا تبدئي أقسم إنني متعبة،
ولست أعاني من شيء كما تتخيلين »
أمسكت بيدي قبل أن أستلقي وقد بدأ الغضب يصعد إلى وجهها
الأبيض الذي احمر سريعاً، وهي تقول: «ياسمين إن الانهيار العصبي
يحدث لشخص أصيب بصدمة أو مريض نفسي، إن الانهيار العصبي
يجب علاجه فإن أهمل فإنه يؤدي إلى أمراض عصبية خطيرة »
أبعدتُ يدها عني، جلستُ على السرير بقفزة، صرخت عليها:
«أنتِ أكثر شخص يعرف ما بي فرجاءً كفي عن هذا »
أكملت بهستيرية وقد أخذني الجنون وأنا أقف وأسير إلى وسط
الغرفة: «حقّاً إن الأطباء مجانين، لستُ أعاني من خطب ما، كيف
أكون مريضة نفسية أرجوكِ، أنا وحدي لا أعلم ما الذي يحصل لي،
حقّاً إني لا أذكر ما الذي حدث بالتحديد، أيفهمني أحد »
قفزت دموعي إلى عينيّ، وكادت تتساقط وتفر وتكشف ما بي من
هموم
فكتمت غصاتي، وخنقت دموعي وطويتها بداخل عينيّ وشددت
عليها الأسر
خولة أرجوكِ لا تجعليني أبكي أمامكِ! أرجوكِ ارحمي حالي!
عينا خولة كانتا معلقتين بعينيّ، كانتا تعبران بؤرتيّ، تعرفان مشاعري
وتسبران أغواري
حاجباها الخفيفان اللذان كادا يلتصقان انفرجا عن بعضهما، لمعت
عيناها الواسعتان وهي تقول: «أحقّاً لا تذكرين ما الذي فعلته بأمي،
وما الذي فعلته بنا! »
تطايرت علامات الدهشة من وجهي، وعقدت حاجبيّ في تعجب!
توقفت مكاني، انصبت نظراتي على خولة الجالسة مكانها وعلى يديها
اللتين امسكتا ببعضهما، وعيناها تتابعان تحركاتي
ما الذي فعلته بهم، أم ما الذي فعلوه هم بي!
فقط الجميع يتذكرون فعلي لهم، ولا يتذكرون ما يفعلونه بي!
كادت تفر من حنجرتي صيحة غضب، ولكن تلك الصيحة فرت
كشكل ضحكة حزينة وأنا أقول وذراعايَ تحتضنان صدري: «ما الذي
فعلته هيا أخبريني ؟ أهو موقفي الاخير مع أمي، لقد حدث ما حدث
ولا أريد تذكره رجاءً »
انكمشت ملامح خولة في استغراب عميق وهي تقوم من جلستها،
وتقترب مني قلقة: «ياسمين ما بكِ، أبعد كل تلك الهستيرية التي
قلبتِ المنزل بها، والانهيار الذي ألمّ بكِ، كدتِ تفقدين عقلك في تلك
اللحظات بصراخكِ وبكائكِ، ظننتُ أن بكِ مرضاً يجعلك تتلوين ألماً
منه، لقد فجعتِ قلبي وقلب أمي »
تقوست شفتاها في ألم، وترقرق الدمع في عينيها وهي تكمل: «نقلتِ
إلى المستشفى وأنتِ على شفا حفرة من الموت، أعطوك منوماً لكي
تهدئي، ولقد شخصوا حالتك على أنها انهيار عصبي حاد، صدمنا في
بادئ الأمر وكنا نظن أنه أسوأ من هذا بسبب ما أصابكِ، لم أصدق أنه
انهيار وإلى الآن لا أصدق ذلك، لا يمكن أن تصلي إلى هذه الدرجة »
كتلك المرة أصابتني الدهشة إلى جانب الخوف، لأنني لا أذكر شيئاً من
هذا!
بعد انقطاع حديثنا، ورؤية خولة لعلامات الاندهاش والتيه على
وجهي، وعدم ردي عليها، إنما تركتها في مكانها ومشيت وكل التبلد
والبرود يعتريني، كل شيءٍ أصبح بارداً جافّاً من حولي، حتى أنفاسي
وإحساسي، خطوت بخطوات بطيئة حتى وصلت إلى السرير ورميت
نفسي عليه وتدثرتُ بلحافي، وعضضت على أسناني تحته وحاولت بلع
ريقي وبلع كل الهواء الذي حولي.
حتى الآن بدى كل شيء غير واضحٍ في حياتي، إنما كان الغموض يحيط
بي!
غموض موحش يجعلني أصاب بالرعب منه!
كُل الأحداث وكُل الفقرات، كانت تفتقر للحقيقة، فكل ما مررت به
كان حوله الضباب، وكانت العتمة صديقة ملازمة لي
فكل شيءٍ كان حبيس الأسرار
لم أكن أفهم تلك الأمور التي تحيط بي بل حرت فيها، فهي تلطمني
وتسقطني إلى عالم غريب.
حبست نفسي وانتابتني المرارة، وبدأ الحزن يتسرب إلى داخلي، ذلك
الحزن الذي يرافقني أينما حللت، ليشكل فجوة سوداء في عقلي فتتسع
وتتسع
بدأت أشعر بالهواء يعبرني، والراحة تسكنني، وكل شيءٍ ينكمش فيّ
ذلك الإحساس الذي أشعر به كلما عدتٌ إلى هناك
شعور تخلت عنه نفسي منذ زمن طويل
أبعدت اللحاف عني، نظرت حولي، إلى لون غرفتي الوردي وإلى
الرسومات الملصقة على جدرانها و الدولاب الخشبي الذي يحتل
مساحة كبيرة من الغرفة، سرير خولة الخشبي الذي بجانبي،
سرير يوسف الصغير في الزاوية.
كان سريري قرب الحائط تحت النافذة التي رفعت جسمي إليها،
وأبعدت الستارة البيضاء ليطل ضوء الشمس منها، وتصلني زغردة
العصافير، وصوت خشخشة أغصان شجرة السدر التي تحركها الرياح
نظرت إلى مطبخنا القديم ذي الباب المفتوح الذي اختفى لونه البني،
إلى سلمه الإسمنتي القصير الذي تكسر قليلاً، ذلك العالم الكبير
والجميل الذي أحلم به مراراً وتكراراً يتجسد الآن أمامي، منزلي
الحبيب وحياتي القديمة..
تركت نافذتي، قمت من على سريري واتجهت إلى كل ركن
من غرفتي، إلى الجدران المرسوم عليها برسومات طفولية، أسمائنا
المكتوبة بشكل كبير، الملصقات الملصقة على دولابي، ملابسي
وأحذيتي، رسائلي وكتابتي، كل أوراقي القديمة التي ضاعت
قفزت ابتسامتي وأنا أرى ثوبي المفضل الذي كان بلون الزيتون، كان
ثوباً ذا قصة فرنسية أهدتهُ عمتي لي، وكنت أحب ارتداءه في ذلك
الوقت.
في تلك اللحظة دخلت خولة إلى الغرفة
خولة التي انبهرت من رؤيتها في حلمي هذا !
اتسعت ابتسامتي فرحة، فأختي الحبيبة والصغيرة هنا معي، كان
وجهها الأبيض محمرّاً، عيناها البنيتان الواسعتان غاضبتين، شعرها
البني الفاتح مرفوعاً كذيل الحصان، كانت تزم شفتيها، وبقامتها التي تكبرني
قليلاً اقتربت مني لتضربني على كتفي وتصرخ: «لمَ أخرجتِ أحمر
الشفاه الخاص بي وتركته خارجاً، لمَ تأخذين أشيائي بلا استئذان، تبّاً
لكِ »
تشكلت على وجهي كُل علامات الاستغراب، لم أفهم من حديثها
شيئاً، ولم أستوعبه إنما وقفت مدهوشة!
لم أكن أدرك شيئاً غير ذلك الإحساس الغريب، والحلم الذي أعيش
فيه
وما لبث أن هجرني ذلك الإحساس ونسيته، وتذكرت كل ما تتحدث
عنه خولة
نعم ... فأنا دائماً ما أعبث بأشياءها، فهي لعبتي المسلية، فخولة مع أنها
تكبرني بعامين فقط ولكنها أنضج مني جسديّاً، تستطيع اقتناء ما لا
أستطيع أنا اقتناءه!
لديها أحمر شفاه واحد، وكحل، وكِريم للوجه وكنت أعبث بهن في كل
مرة تسول لي نفسي فيها.
كانت عينا خولة تنذران بهطول موجة من الدموع الغزيرة، وهي
تكمل: «لقد لعب خالد ابن عمتي بأحمر شفاهي عندما كنا في المدرسة،
لقد أخبرتني الخادمة بذلك »
بلا مبالاة وكعادتي في إخفاء خوفي وكذبي المتكرر عليها: «وما دخلي
أنا! ومن قال إنني أخرجته! »
كلماتي هذه أثارت غضبها، فهي تعرف أسلوبي هذا، تعرف كذبي
أيضاً، هجمت عليّ وهي تصيح بشدة وأنا بدأتُ هجومي عليها
بالمقابل، لم أكن لأفوت فرصة للانتقام منها بأي وسيلة.
كنا نخدش وجوهنا وأيدينا، نتصارع في غرفتنا المشتركة بكل عنف،
نمزق خصلات شعرنا، ونتبادل الشتائم
أسقطها وتسقطني مراراً على الأرض، فأنقض على شعرها وهي تغرز
أظافرها في يديّ حتى تصل إلى اللحم
لم يكن شيءٌ ليقف أمام صراعنا هذا غير أبي! ولكن إن كان هو غير
موجود فأمي هي الموجودة.
بصراخ وقبضات تحاول تفرقت بعضنا عن بعض، تقوم أمي بنزعنا
من هذا النزاع وتهدد: «أقسم بالله إنني سأخبر والدكما إن لم تكفا عن
ذلك »
وعند ذكر أبي ترتجف الأبدان، ويسكن الخوف أفئدتنا، خف صراعنا
إلى أن بقيت الشتائم تتقاذف فيما بيننا.
ابتعدت عنها إلى أن وصلت إلى جهة الباب المفتوح، وعندما هممت
بالخروج منه سمعت كلمات أمي المؤنبة لي على اللعب بأغراض خولة
التي تشتكي عليّ وعلى استفزازي لها، وكعادتي صرخت، ضربت
الباب، خرجت إلى الخارج دون ندم.
قدماي الحافيتان تمشيان على التراب فتبعثرانه، نظراتي عليهما وعلى
الحجر الرمادي المصفوف على طريقي، أتتبع خطواتي الذاهبة إلى
الخارج من بين الأشجار التي تسكن منزلنا بكثرة، فتحت باب
الحديد الخارجي، وخرجتُ إلى الشارع، كانت الشمس في كبد السماء
وكان الطقس خريفيّاً، نسائمه معتدلة، الشارع الإسمنتي الذي بين
البيوت هو نفسه، البيوت القديمة كما هي، كانت متلاصقة وجدرانها
البيضاء تلتصق بعضها ببعض، وألوانها المتراوحة بين الأبيض والبني، تظهر على بعض البيوت قبب من القرميد الأحمر...
كانت براقة، رائحتها كما هي، كذلك نفسي التي أحست بالغربة،
والاختلاف الشاسع بين العالمين.
فجأة ظهر يوسف من تحت ذراعي التي كانت ممدودة إلى مزلاج الباب،
ظهر ليجعلني أستعيد ذكرياتي الغربية تلك وأفهم ذلك الاختلاف،
وأعرف من أنا ومن هو!
قال لي وهو يقفز وشعره البني الفاتح يتناثر حول وجهه القمحي:
«ياسمينة »
أمسكت القشعريرة بكل جزء من جسمي، طوتني بالكامل وأنا
أحدق إليه وأبتعد عنهُ قليلاً لأفسح المجال لبصري لينظر إليه.
أخرجت موجة من الهواء الحار من رئتيّ لأبتسم، وأشعر بالفرحة
العارمة تطويني وتحتضن قلبي، خفضت جسمي الصغير والذي لا
يكبره كثيراً إلى أن وصلت إلى مستواه
مددت يدي وأمسكت بأصابعه الصغيرة، رفعت يدي الأخرى إلى
وجهه أتلمسه، لأشعر بحرارته، وبحقيقة ملمسه
وهو ينظر إليّ بعينين متسعتين، وكُل علامات الاستغراب في وجهه
كنتُ أحاول الإقرار بحقيقة وجوده أمامي
ذلك الطفل الذي أحب
صديقي الذي أتمنى عودته دوماً!
بشعوري الدائم له، وشوقي الملازم له
تدفقت دموعي وأنا أحتضنه بكل قوتي، أحشره بداخلي، أدخله إلى
أحشاء صدري
تشبثت به، وقلت من بين شهقاتي: «يوسف أنا آسفة، آسفة جدّاً،
سامحني أرجوك »
حاول يوسف الخلاص من أحضاني ولكنني شددت الأسر عليه،
وأخذت أقبله، أستنشق رائحته التي لا أنساها، فكم كانت هي
رفيقتي في الطفولة، فرائحة الأطفال عرفتها من يوسف! ولكن رائحته لم تكن نفسها كانت مزعجة نوعا ما، فتركته ضاحكة
وأنا ياسمين الغريبة عن ذلك العالم، ياسمين التي لا تعرف أين هو
مُستقرها!
لم أصدق أنني قد أرى يوسف، يوسف المبصر الذي ينظر إلى وجهي
كما أنظر إليه
وكأنني أخفته بذلك الهجوم والقبلات المفاجئة، فأنا لم أكن أقبله في
ذلك الزمن البعيد!
كانت عيناه العسليتان متسعتين وهما تنظران إليّ بتعجب شديد، لم
يتحدث إنما أبعد خطواته عني إلى الوراء
كان حافيَ القدمين مثلي، ويلبس ثوباً أبيض تنفتح أزراره من
الأعلى، وشعره البني غير مرتب
أظن أنه في السابعة أو الثامنة، ولم يكن يقصرني إلا قليلاً!
طال تأملي الحزين لهُ، وطال وقوفه المتعجب أمامي
قفز طرف شفتيه الرفيعتين ولم تقفز ابتسامته المعتادة معه، إنما حل على
وجهه الانزعاج والحزن وهو يقول: «هل أنتِ مريضة يا ياسمينة ؟ »
كان تفكيري منحصراً في تلك اللحظة على عالمي ذلك، والجاذبية
تجذبني بشدة إليه، تحاصرني بين أحضان ذلك الزمان
تربطني به، في ذلك القلب الصغير والجسد الهزيل، والعيون الصافية
كصفاء السماء والتي لا يعكرها الغبار.
تأوهت بتصنع، وضربت بجسمي على التراب، جلست أمام الباب
وتحت ظلاله، وقدماي تفترشان الأرض: «نعم وكثيراً! »
جلس يوسف بجانبي وعلى التراب، في ذلك المكان الذي اعتدنا
الجلوس فيه أمام الباب الأصفر الذي بدأ يهترئ لونه، في تلك
الساعات من النهار، وتحت الشمس طال تأملنا ولعبنا بالرمل
والأحجار الصغيرة، نبعثرها بأيدينا الصغيرة، ونرمي بها بعيداً لعلها
تصل إلى منزل الجيران المقابل لنا بشكله الصغير الشعبي الذي يشابه
منزلنا
اتسعت ابتسامتي لتذكري أننا كنا نبحث عن الدراهم في التراب،
وكنا نجد الكثير منها مبعثراً وكأنها كنز عظيم، نطقت بصوت أقرب
للهمس: «دعنا نبحث عن الدراهم! »
حرك يوسف رأسه إيجاباً، وهو يبعثر في التراب، بدأت جولتنا من
مكان إلى آخر، ننبش هنا وهناك، تدخل بين أظافرنا حبيبات الرمل
ويضربنا الحصى ويا للاستمتاع الذي نشعر به ونحن نبحث، وأخيراً
وجد يوسف درهماً قديماً قد غطاه الصدأ صرخ صرخته الضاحكة
وأتى إلي ليريني إياهُ، بأصابعه الممدودة والمتفرقة عن بعضها احتل
الدرهم وسط يده.
وطبعاً وكعادتي الأزلية، وشخصيتي المعتادة، أخذته منه وحجتي أنني
سأحفظه له! ولكن الحقيقة كانت غير ذلك!
وأمرته بالبحث ثانية لعلنا نجد المزيد
ويا لفرحة يوسف وحبه لي، لم يمانع إنما قام بالانطلاق ثانية إلى البحث
لا أدري إن كان ذلك خوفاً مني أو رهبة أم أنه الحب!
بين الأتربة والحصى، ومع قطرات العرق المتساقطة من على جبيني،
كان الشارع أمامنا لا يخلو من المارة، ولا يخلو من أشخاص نعرفهم
ويعرفوننا
كنتُ أجلس على التراب، أحفر حفرة في التراب ثم أضع قدماي فيها فأدفنهما ويوسف يفعل نفس الفعل!
تسلق الخوف إلى حنجرتي، امتص متعتي، سلب مني حاستي،
ارتعشت قدماي ونحن نرمي كل شيء من أيدينا، ونحبس أنفاسنا
نهرول ولا نرى سوى طريق الهروب والألوان التي اختلطت
ببعضها، اختبأنا وراء الباب الذي أمسكت
بمقبضه وأمسك يوسف بيدي عليه
نهش الرعب داخلي، قتل كل ذرة من الأمان فيّ، وحطمني الخوف،
يجب أن لا يرانا!
ويجب أن لا نكتشف!
إن عرف بوجودنا فقد يقتلنا!
أصابعي تكتم على فمي وأنا أرى من رأيته في تلك الليلة، يمشي وجثته
الضخمة تتمايل معه وظله يتبعه، ولون بشرته يكاد يميل إلى الرمادي
وعيونه الصغيرة يحيطها السواد ويسكنها الاحمرار وفمه عبوس، كان
يمشي بين الأحياء السكنية من دون خوف، ينظر إلى داخل البيوت
وكأنه يبحث عن ضالته، دقائق ظننتها طويلة واختفى فيها أخيراً.
جلست وراء الباب في داخل المنزل وأوراق شجرة السدر تتراقص
فوقنا وتظلنا، أفكاري تتساقط كما يتساقط الورق أمامي، وصوت
زقزقة العصافير ينحشر داخل رأسي، والخوف يتضاءل في داخلي إلى
أن ينحسر تماماً.
يوسف الجالس بجانبي يتحدث: «ياسمينة إنه مخيف فكل الأطفال
يتحدثون عنه، يقولون إنه رجل سيئ، كثيراً ما يهدد بالقتل، أو «صمت
قليلاً وبصوت هامس أكمل: «إنه يتحرش بالأطفال لقد أخبرني أحد
أصدقائي بذلك، الكل يقولون إنه يجب أن لا نقترب منه، أو نجيبه إذا
نادانا »
عند هذه النقطة توقف كل شيء، وكأن ذكرياتي التي نسيتها قد
استعدتها ثانية، أخذتني الرهبة عندما مرت أطياف ذكريات حفل
الزواج وذلك الرجل الذي رأيته للتو كان نفسه المجرم، وذكرياتي مع
يوسف وأمي قفزت وتناثرت حولي، حتى لم يبقَ أي فراغ للاستيعاب،
بعينين متسعتين مندهشتين نظرت حولي، إلى ظل الشجرة المغطي
لمساحة واسعة أمامي، لصوت الهواء الذي يعبث بأغصانها وأوراقها،
ولحرارة الجو ورطوبته التي لامست بشرتي وذابت في حناياها، وإلى
الممر الحجري الذي يحيط التراب جوانبه ويسير بشكل طولي إلى داخل
المنزل من بين الأشجار الصغيرة والكبيرة، إلى كل تلك الضوضاء
والمشاهد الواضحة
كنت أحاول الاستيقاظ من هذا الحلم
حدقت بيوسف الجالس بجواري، تأملت وجهه الصغير البيضوي،
كان نسخة مصغرة عن يوسف الكبير، يوسف الذي أعاد كل مشاعري
إلي، وجعلني أستشعر عمق اللحظة وانسيابها، قلت له بصوت مخنوق: «يوسف أهذا حلم، إن
كان حلماً فلماذا يراودني كثيراً، ولمَ يكون بهذا الوضوح والحقيقة، ولماذا
أشعر بهذا الألم، ولم ألم صدري لا يختفي في الحلم! .»
يحدق يوسف بي، عيناه العسليتان تلمعان وتعبران عن استغراب كبير،
وكأنهما تحاولان فهم ما أقوله، وقفت من جواره وسرت خطوة واحدة
تبعتها ثانية وثالثة، ووقفت وكأنني أعيد نفسي إلي، أستيقظ من الذي
أنا فيه، درت حول نفسي إلى أن توقفت مقابل يوسف وقلت له في
فرحة قفزت عالياً: «يوسف أنا لا أصدق أنني أراك، ولا أصدق أنني
معك في هذه اللحظة، فكم كنت أود أن تعاد كل ذكرياتي معك مراراً
وتكراراً، لكي أخبرك أنني اشتقت إليك »
سكن الاستغراب وجه يوسف في حيرة وصدمة، صدمة من حديثي
غير المتوقع، وحيرة من أسلوبي المناقض لما كنت عليه سابقاً، يعبث
الهواء بخصلات شعري الطويلة فتتبعثر، فأستنشق رائحة الأزهار
والأوراق المحيطة بي، كلها تعيد لي رائحة ذلك الزمن، بسعادة لا
تضاهيها سعادة ، تركت يوسف وانطلقت أجري إلى داخل المنزل،
أقفز بقدمين حافيتين تحت ظل شجرة الغاف، وأدور حول نفسي،
وكأن الحياة قد دبت فيّ واختفى فزعي عني، في تلك اللحظة وددت
بشوق عيش حياتي كما أريد، وعيش كل لحظة فيها هناك مع أخواتي
وأمي وحتى أبي، ولكن كان هناك حياة أخرى تناديني، نادتني للعودة
إليها
واختفى كل شيءٍ فجأة، واستيقظتً وكأنني أهوي من أعلى جبل.
كُنت في مكاني متشنجة، تحت لحافي أضم جسمي إليّ
اُبعدت اللحاف عني من شدة الحرارة، ووصلني صوت خولة القريب
مني: «لقد كنتِ تتحدثين كثيراً أثناء نومك »
جلست على حافة سريري، عدلتُ من جلستي وجمعتُ الخصلات
الساقطة من شعري عن وجهي وقلت لاهثة دون وعي: «ما
الذي قلته! »
رفعت خولة وجهها عن كتاب كانت تقرؤهُ، وابتسمت حتى وصلت
إلى مرحلة الضحك: «لغة مريخية لم أفهم منها شيئاً »
مع أنني كنت متعكرة المزاج، وضائعة الأفكار إلا أنني ضحكت
بسببها
أحب خولة
خولة لم تكن شخصاً بعيداً عني ولا قريباً، كانت في المنتصف تقف
بل إنها الآن هي المقربة مني من بين كل المحيطين بي
ربما لأنها قاست مثلي من جهة أبي وليس أمي
فلقد كانت تعامل مثلي وأسوأ، فهي كانت تثير غضب أبي وحنقه بأي
تصرف تفعله
تجربتها مع أبي ولدت لديها إحساساً مشتركاً بمعاناتي بخلاف أختيّ
الكبيرتين سارة ولطيفة اللتين تكبراننا كثيراً وتختلفان عنا جذريّاً.
عندما كنا في المراهقة كانت خولة الأحب إلى قلب أمي من بيننا، وكان
هذا واضحاً جدّاً
فلقد قالت لي مرة وبعد أن لاحظت تصرفات أمي معي: «لمَ أمي
تعاملك بهذه الطريقة! »
خولة كانت تشعر حيال أمي كما أشعر أنا!
وأن ليس هنالك إنصاف في المعاملة فيما بيننا
كنتُ لا أطيق خولة في فترة المراهقة، وأفتعل معها الشجار بأي وسيلة
كانت
فعندما كانت خولة تستفزني، كنت أهم بالعراك معها
فتسمعنا أمي وتقف في المنتصف تنزع بعضنا عن بعض
فكل شيء أفعله لا يرى، ولكن ولو لم تفعل خولة شيئاً يقال إنها
فعلت، وفعلت!
***
|